
لم يهتم الكثير من الناس بآرثر شوبنهاور في حياته، بيدَ أن أفكاره حول الطبيعة البشرية قد أثرت بعمق في قائمة طويلة من الكُتاب والفلاسفة اللاحقين. لقد كان من أوائل المفكرين الغربيين الذين دمجوا جوانب من الفلسفة الشرقية في أعمالهم، إلا أن الكثير من استنتاجاته كانت عمومًا أكثر تشاؤمًا.
كان يرى بأن الواقع مدفوعٌ بإرادةٍ عمياء تتمظهر في البشر في صورة رغبات عديمة المنطق والجدوى. وحسبما يظن، فإن السبيل الوحيد للنجاة من تلك الإرادة المندفعة يكون بالتقشف والتخلي عن الكثير من الملذات المادية لمواجهة هذه الإرادة غير المنطقية.
إن أكبر الانتقادات التي يتلقاها شوبنهاور موجهة في الواقع إلى هذه النظرة الانهزامية التي لم تسعَ إلى تحقيق التوازن. ومع ذلك، يبدو جليًّا أنه تدبَّر في هذه المسائل، وحتى إذا كانت استنتاجاته غير مرضية فلا تزال تحمل درجة من الصحة.
في مقالته The Wisdom of Life ظهر شوبنهاور على غير سجيته حيث عدَلَ عن تشاؤمه وحاول تحديد مُتطلب الحياة السعيدة في هذا العالم كما هو. فأشار ببصيرة إلى أحد الصراعات الوجودية الرئيسية:
“تُبين لنا التجربة الأكثر عمومية أن خصمَيّ السعادة البشرية هما الألم والضجر. قد نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونقول إننا نقترب من أحدهما بالدرجة التي نكون فيها محظوظين بالابتعاد عن الآخر. إن الحياة في الواقع تُأرجحنا بعنف بين الاثنين.
والسبب في ذلك هو أن كلًا من هذين القطبين يتناقض تناقضًا مزدوجًا مع الآخر؛ خارجي أو موضوعي، وداخلي أو ذاتي. فالفقر ومحيط المحتاجين يولِّدان الألم، في حين أن محيط الأغنياء والموسرين يُولّد الضجر. وتبعًا لذلك، إذا كانت الطبقات الدنيا منخرطة في صراعٍ مستمرٍّ مع الحاجة، أي الألم، فإن الطبقات العليا تخوض معركةً مستمرةً ويائسةً في كثيرٍ من الأحيان مع الضجر.”
عالقون بين قطبيْ اللذة والألم
افترضَ علم النفس وعلم الأعصاب التقليديان أن لدى البشر مسارات بيولوجية فطرية متأصلة فينا بفعل عملية التطور ويُعبَّر عنها في صورة مشاعر كالغضب والفرح. يرى هذا المنطق أن العواطف عمومية ومعلومة وأن بإمكاننا تحديدها عند دراسة جسم الإنسان بتفاصيل دقيقة عبر مجموعة متنوعة من الثقافات والبيئات.
هذه الفكرة متأصلة بعمق في الثقافة الرائجة لدرجة أن غالبيتنا أيضًا يُجادل بأن هناك شيئًا معلومًا كالغضب والفرح يمكننا تمييزه في الآخرين في أوقات مختلفة.
ومع ذلك فإن نظرية العواطف المركبة تنُمُّ عن خِلاف ذلك. فبالرغم من إحساسنا بالغضب الذي نُميزه عمومًا، إلا أنه لا يوجد بالطريقة الملموسة والمحددة التي نعتقد أنها كذلك. إنه تركيبة مُعقدة ومُجملة من كل شيء يجري في أجسادنا في وقت معين (لتوجيهنا)، وهو يختلف من حالة إلى أخرى.
ووفقًا لها الرأي، فإن الشيئين الوحيدين الموجودين هما قطبا اللذة والألم اللذان يجلبان المعلومات من أجسادنا ومحيطنا لإعطائنا فكرة تقريبية عمَّا نحتاج إليه. فنعيش الانفعال ضمن هذين القطبين؛ واقعٌ واعٍ دائم التغيير. وكلُّ الأمور الأخرى توجد لمجرد أننا ننشئ فروقًا لغوية بينها، لا سيَّما الشعور والإدراك. فالغضب هو الغضب لأننا اتفقنا على تسميته كذلك.
المثير للاهتمام هو أن شوبنهاور يخطو خطوة إلى الأمام بتفريقه بين الألم والضجر. فبالرغم من أن الألم يمكن أن يكون مستمرًا ودائمَ الوجود (لأنه يحث على الفعل، وعدم الاستجابة له يجعله يدوم)، فإن شعور اللذة (أو أي شعور جيد مماثل) لا يمكن أن يكون كذلك ويتحول إلى ضجر إذا امتلكنا كل ما نحتاج إليه (إن لم يتحول إلى ضجر فإن النجاة ستكون غير واردة).
كما يُشير شوبنهاور، فإننا بطريقةٍ ما عالقون بشكلٍ أساسي في هذا التأرجح. فلو نجونا من أحدهما تحوَّلنا للآخر، وكلاهما لا يفضيان إلى أي إشباعٍ دائم.
من السهل الآن أن نرى كيف أن الألم شعور غير مرغوب فيه، غير أن الضجر الوجودي العميق يمكن أن يكون مبرحًا على نحوٍ مماثل وربما أكثر تبريحًا في بعض الحالات لأنه يؤدي إلى الشعور بالعدمية والاكتئاب.
ما تزال هناك أمور كثيرة غير مؤكدة بشأن كيفية إحساسنا بواقعنا الواعي، لكن حقيقة أننا نعيش ضمن قطبي اللذة والألم تبدو قريبة من الثبوت.
إنشاء رابطة بين الجسد والعقل
لحل هذه المشكلة، يقترح شوبنهاور أن نترك ورائنا انشغالاتنا بالعالم من حولنا وننزوي بدلًا من ذلك إلى عالم الفكر ونخلق لأنفسنا ثراءً باطنيًّا.
إنه لا يُلمح بالضرورة إلى إمكانية الإفلات من الألم الجسدي من خلال التفكير، لكنه يُبرهن على أنه يمكننا على الأقل كسر قيود الملل بالتفكر والاستبصار. فعن طريق تجاهل العالم الخارجي وكل ما يربطنا فيه باللذة والألم يمكننا بطريقةٍ ما أن نترك قطبي اللذة والألم كليةً داخل العقل. وربما يكون هذا هو الموضع الذي يبدو فيه شوبنهاور أفضل على الورق منه في الحياة الواقعية.
لو كانت نظرية العواطف المركبة صحيحة، فلا يوجد فرق شديد حيث يوجد العقل بطريقة أو بأخرى خارج قطبي اللذة والألم. إنه جانب واحد من العملة ذاتها.
في الواقع، لا يفعل التفكر شيئًا في حالات الضجر والألم سوى زيادة دواعي الاستياء. ففي كثير من الأحيان، ليس من السهل التفكير في شيءٍ ما للإفلات مما لا نريد مواجهته لأننا لا نملك دائمًا السيطرة على ذلك.
ربما يكون الحل الأفضل هو تكوين ثراء باطني من خلال إنشاء نوع من الرابطة الشمولية بين العقل والجسد، حيث يُنتبَه إلى الجسد بقدر الانتباه إلى الأفكار.
في حالات كثيرة من الألم والضجر، عندما يكون التفكير هو ما يزيد من الاستياء، يمكن ملاحظة الطبيعة المتغيرة للانفعال الذي نشعر به من خلال مراقبة الجسد والأحاسيس الناشئة منه دون الارتباط بها كما يفعل التفكير.
قلة من الناس يقضون وقتًا في أجسادهم على نحوٍ واعٍ ويشعرون بالتحركات والمشاعر الناشئة، لكن حينما تتم هذه الممارسة عن قصد فيمكن أن تكون علاجية مثلها مثل الهروب العقلي.
تنبهنا هذه الممارسة إلى وجود أمور أخرى يمكن تجريبها يوميًّا أكثر مما يظهر على السطح. بشكلٍ افتراضي، نحن لا نفكر في التواجد داخل أجسادنا لأننا برمجنا أجزاءً من إدراكنا للتنبه إليها على نحوٍ واعٍ، ولهذا السبب بالتحديد يمكن للتواصل مع ذلك الوعي أن يقودنا إلى اتجاه جديد.
لا يمكن لمشكلة الألم والضجر أن تُحل بالانزواء إلى العقل دون الجسد أو العكس، إما العقل (ذاتي داخلي) أو الجسد (موضوعي خارجي)، ولكن ينبغي أن يعملا معًا.
الخلاصة
بصرف النظر عمَّا إذا كان شوبنهاور محقًّا في كل شيء، من الصعب عدم احترام شجاعته في محاولة رؤية العالم كما هو عليه عوضًا عن الاكتفاء بمثالية لا أساس لها.
تعمل فلسفته كلها بطريقة متماسكة إلى حدٍّ ما، ومعظمها مفهومٌ بما يكفي لتطبيقه على حياتنا اليومية بطريقة توضح بعض المسائل المُبهمة.
الصراع الرئيسي الذي عانته الحالة البشرية، كما حدده شوبنهاور، ينم عن شيءٍ كانت البيولوجيا الحديثة قد عرفته منذ داروين وتَقدَّم به خطوةً إلى الأمام: نحن نعيش ضمن قطبي اللذة والألم، غير أن اللذة المستمرة تقودنا غالبًا إلى الضجر.
يُنبئُنا الألم عن وجود خطأ ما ويحثنا على إصلاحه، ويميل شكلٌ من أشكاله إلى الاستمرار حتى تُحلُّ المشكلة. أما اللذة فإنها مكافأة، ولكن إذا استمر وجودها فإنها لا تَعُد كذلك لأن استمراريتها تقود إلى نوعٍ من الضجر.
رغم وجود وسائل للهروب من هذا الضجر من خلال النكوص إلى العقل والتفكر، إلا أنه لا يمكننا قطع الصلة تمامًا بين التجربة وقطبي اللذة والألم.
لموازنة الانفعال المتغير الذي نعيش وفقه موازنةً سليمة نحتاج إلى تكوين رابطة بين العقل والجسد تدمجهما معًا دمجًا كليًّا لتوجيه التغيير.
من خلال مراقبة أجسادنا والانتباه لها خارج حدود العقل، يمكننا أن نبرز المشاعر والأحاسيس التي يخفيها العقل الغافل.
من الواضح أن العقل والجسد يعملان معًا، وأن بينهما عملية تبادل معلومات تربطهما معًا، لكننا في الواقع نتجاهل ذلك مما يلحق الضرر بنا.
الاستياء موجود بغض النظر عن رغبتنا بوجوده من عدمه، لكن طريقة تعاملنا معه هي ما تصنع الفرق.