
من سماتِ العمارة الحديثة حضورُ البساطةِ في التصميم، وغياب الديكور، والابتعاد عن الفوضى، والأهم من كل هذه السمات؛ الفعالية، والتي تُغلّف بعبارة «قليل منه كثير». وعلى الرغم من أنها أُخذت في الأصل من قصيدة روبرت براونينغ عنوانها «أندريا ديل سارتو» إلا أن عبارة «القليل كثير» رُبطت غالبًا بالمهندس المعماري الحديث لودفيغ مايس فان دير روه، الذي اُشتهر بالأبراج السكنية المصممة ببساطة من الفولاذ والزجاج، والتي تقع في مدينة شيكاغو ونيويورك. لكن هناك مهندس معماري آخر بدأ هذا الهوس بالبساطة، يدعى أدولف لوس. ففي عام 1908 قام بنشر مقال غريب عنوانه «زخرفة وجريمة» تحدى فيه الآراء السائدة حينها، وأكّد على أن الهوس بالزخرفة أبعد ما يكون عن التحضّر، وأقرب ما يكون إلى مرحلة بدائية في التطور الثقافي؛ إذ رأى أن الزخرفة تناسب من يحملون في نفوسهم همجية وانحطاطًا؛ وعليه، فهي لا تناسب الإنسانية الحديثة. انطلق هذا الموقف من مخيلته، مستندًا على تعميمات زائفة حول الأنثروبولوجيا والثقافة، بيد أنه وجد صداه عند الشاب لو كوربوزييه الذي قام بإعادة طباعة هذا المقال في مجلته L’Esprit Nouveau ليعيد النظر فيما خلُص إليه لوس عندما كتب: «كلما ازداد الناس تهذيبًا، تقلصت مبالغتهم في الديكور».
اكتسب لوس سمعة سيئة في فيينا على عمله المعماري الذي اَطلق عليه اسم «منزل بلا حاجبين»؛ حيث رفض لوس زخرفة نوافذ المبنى بأي حال. يواجه المبنى قصر هوفبورغ، ويُزعم بأنه أغضب الإمبراطور فرانز جوزيف، لدرجة أنه كان يغادر من باب القصر الخلفي لتجنب النظر إليه.
وعندما ابتعد لودفيغ فتغنشتاين عن الفلسفة، وذلك للعمل على تصميم منزل لأخته الثرية مارغريت في شارع Kundmanngasse في فيينا، كان مُلهمه الأول نقاء جمالية لوس الحديثة. ظهر منزل فتغنشتاين الذي بُني بين عامي 1926 و1929 غاية في البساطة. حيث عمل عليه إلى جانب بول إنجلمان، وهو تلميذ من تلامذة لوس. استبدّ فتغنشتاين في إزالة الزخارف- مثل العليّة، والمتارس، والقوالب الرخامية، وإزار الحوائط، والعتبات، وأي حلية معمارية لم يكن لها توظيف دقيق- وقد رافق ذلك هوس بالتحمل والدقة والذي صعّده إلى درجة سخيفة. كان مخولًا لطلب أعلى دقة في البناء -نظرًا لدعم العائلة الثرية للمشروع- دقةً تزيد عما يمكن أن يكون عمليًا في بناء اعتيادي. حتى أنه صمم مقابض الباب بنفسه بدلًا من استخدام تصميم مسبق. وفي اللحظة الأخيرة، وبينما كان يغادر البناؤون، اشتهر عنه أنه طلب منهم رفع السقف في الغرفة الرئيسة بمقدار 3 سم. كان لزامًا أن يكون كل شيء مثاليًا؛ فلا يمكن تدمير رؤيته النقية بعدم إتقان الدقة في البناء. كما لم يسمح باستخدام أي ظلال ضوئية لمصابيح 200 وات المعلقة بشكل حر، ولم يكن هناك أي شيء زائد أو يشمّ حتى رائحة الزخرفة في شكل المبنى النهائي؛ وليس هناك شيء تنقصه الدقة. لقد صمم المبنى ليؤدي وظيفته، وخلال هذه العملية أصبح البناء تعبيرا جماليًا عن النقاء، والدقة الهندسية، والتوازن والتناسب.
إن التقشف المُشاهد في منزل فتغنشتاين كان مماثلًا للتقشف في أسلوب حياته. وقد اشتهر هذا الفيلسوف باستغنائه عن ميراثه الهائل، ليكتفي بمقعد وسخان داخل غرفته في كلية الثالوث بجامعة كامبردج، مستغنيًا عن الكثير من الفوضى في حياته، قدر ما أمكن. وقد قضى عدة أشهر في كوخ معزول بُني له خصيصًا فوق مضيق في النرويج، وذلك للعمل على الأفكار الفلسفية التي نتج عنها كتابه «رسالة منطقية-فلسفية» Tractatus Logico-Philosophicus))، حتى البشر بدورهم كانوا بالنسبة له نوع من الفوضى، ويُزعم أن شخصًا بادره التحية متمنيًا له يومًا سعيدًا؛ فرد فتغنشتاين قائلًا: «اغرب عني! سيستغرق الأمر أسبوعين لأعود للنقطة التي وقفت عندها قبل أن تقاطعني».
إن ميل فتغنشتاين للمبالغة في البساطة بأماكن المعيشة، ليس مجرّد إلهام من جماليّة لوس الحديثة؛ بل هو أقرب إلى الرؤية التي أعربت عنها أستاذة الحدّ من الفوضى المعيشية ماري كوندو، التي تقول بأننا حينما نزيل كل الأشياء غير الضرورية التي تملأ غرفنا، وندع الأشياء التي «تثير البهجة» فقط، سنحصل على ما يشبه ضريح شنتو؛ مكان نقي تتجلى فيه الأفكار.
مع ذلك، لستُ مقتنعًا بهذه الفكرة تمامًا. على الأقل هذه الفكرة لا تسري على الجميع. رغم أنني من مؤيدي البساطة في العمارة الحديثة والأثاث، ومعجب إعجابًا شديدًا بالتصاميم التقنية المصقولة والأنيقة، إلا أنني غير مقتنع بأن مساحة العمل الفكرية المثالية يجب أن تكون فضاءً فارغًا. إلا إذا كنت تودّ التأمل؛ فعندها ستوفر لك هذه المساحة عزلة بصرية تحدّ من التشوش. لكن بالنسبة لمكتب شخص في حالة فوضى دائمة، ويعمل على أفضل وجه وهو محاط بأكوام غير مرتبة من الكتب والأوراق، بودّي أن أحاجج بأن الفوضى تحفز للكتابة وليست عدوة لها.
إن فكرة مكتب نظيف بشكل تام وبيئة كتابة نقية للغاية، فكرةٌ بغيضة بالنسبة لي. ولو أن أحدًا فرض عليّ فكرة المكتب النظيف فلن يكون ذلك إلا لإغضابي، وسأقاومها. وذلك لأن إنتاجيتي تزيد وأنا محاط بالكتب والأوراق في مكتبي المنزلي، أو في مقهى يعج بالضوضاء، ونصف كوب قهوة فلات وايت، والناس يتحركون من حولي. وأعلم بأنني لست الوحيد الذي تزيد إنتاجيته في هذه الحالة.
مما لا شك فيه أن كوندو ستخبرني بأنني واقعٌ في «مغالطة القيمة التي لا تُسترد»؛ إذ إنني استثمرت بالفعل في شراء هذه الكتب وأشياء أخرى يعجّ بها مكتبي، لذلك أنا متردد في التخلص منها، رغم أن العديد منها ربما تكون عديمة النفع. إما هذا، أو أنني ضحية «الانحياز للوضع الراهن»؛ أي الميل القوي لعدم التغيير، لذلك لا أستطيع أن أبث الحماس في نفسي لأغيّر وأقلب مساحة العمل الخاصة بي. ولعل ذلك حقيقي، لما تتضمنه هذه العملية من جهد عاطفي وجسدي، لعلّي أخادع نفسي بمدى جودة عملي إذا تخلصت من الأشياء الفائضة. لكني أجد عزاءً في دراسات لهذه الحالة في كتاب تيم هارفورد (الفوضى: كيف تكون مبدعًا ومرنًا في عالم مرتب ذهنيًا-Messy: How to be Creative and Resilient in a Tidy-Minded World.). إنّ أكثر دراسة علقت في ذهني تلك التي تناولت مبنى 20 في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وهو مبنى مؤقت من ثلاثة طوابق مصمم من الخشب الرقيق، والقرميد المفرّغ، والأسبستوس ليستضيف مجموعة متنوعة من المشاريع البحثية، وبحسب هارفورد، يعدّ المبنى رديئًا في تصميمه و «متاهة مربكة، أسست بصورة سيئة»، لكن بصرف النظر عن كل ذلك، أثبت أنه مكان خصب للعديد ممن عملوا فيه. على سبيل المثال لا الحصر: هناك تسعة فيزيائيين قاموا بتجاربهم في ذلك المبنى وفازوا بجائزة نوبل؛ وقد صُممت أول ساعة ذرية هناك؛ كما استخدم هارولد إجيرتون التصوير الفوتوغرافي بتقنية ستروب لتصوير رصاصة تنطلق من تفاحة؛ وهناك طوّر تشومسكي أفكاره التي حوّلت علم اللغويات.
كان المبنى عبارة عن فوضى، ولكن كما قال أحد ساكنيه، «كان المبنى يملك روحًا تُلهم الإبداع وتطوير الأفكار الجديدة». يعود سبب ذلك، جزئيًا، إلى اجتماع مجموعة من ذوي الذكاء العالي، فقد كانوا يعملون على مشاريع مختلفة ويصادفون بعضهم في الممرات، لكن ما يهمنا هو أن المبنى كان قابلًا لإعادة التشكيل؛ إذ لم يضطر الباحثون إلى الخوض في تطبيقات معقدة لتثبيت شيء على الحائط، أو حتى لهدم جدار. يحتوي مكتب الكاتب الفوضوي على هذه السمات أيضًا، فهناك إمكانية العثور على كتاب أو ورقة منسية منذ مدة، وليس هناك هوس بنظام الحفظ ليكون كل شيء في مكانه «الصحيح». ومثلما أشار إليه هارفورد: «المكتب الفوضوي ليس فوضويًا كما يبدو للوهلة الأولى. فهناك ميل طبيعي نحو نظام ترتيب نفعي للغاية، يقوم على حقيقة أنك ستواصل اقتناء الأشياء المفيدة، وتراكمها».
إن المكاتب النظيفة والأوراق المرتبة تبدو رائعة في مجلات الأنماط المعيشية، وتتناسب مع نمط التخفف الجمالي، ومن المؤكد أنها تلائم البعض من الناس، لكن المكاتب الفوضوية والكتب مناسبة لآخرين أيضًا. إن وجود الأشياء من حولك لا يعدّ جريمة: بل هي مصدر إبداع للكثير من الناس.
New Philosopher: Issue #18: stuff