زان بواغ: هل توصلتَ لتعريفك الخاص للسُّلطَة؟
كيث داودنج: حقيقةً، لا أملك تعريفًا للسُّلطة، ولا أعتقد في الواقع أن التوصّل للتعريف هو الطريقة الصحيحة لاكتساب العلوم. وأعني أنّه يبدو لي أن العلماء لا يعرِّفون الطاقة، مثلًا، ثم يذهبون للبحث عنها، بل إنّهم يختبرون ظواهر معينة، ويرون خصائصها ثم يتوصلون للتعريف الحقيقي للطاقة؛ فهم يعرّفونها بعد التحليل وليس قبله.
أعتقد أنّه لا بأس في التعبير عن تعريفي الشخصي للسُّلطَة ومنظوري الخاص تجاهها بعد إجراء تحليل معيّن لها، ولكنّي لا أدّعي أنّ مفهومي هو المفهوم المُطلق للسُّلطَة الذي يجب أن يُعرَّف لكل زمان ومكان.
أرى بالفعل أن السُّلطَة نَزْعَة؛ يمكنك أن تملكها دون استخدامها ودون تنفيذها طوال الوقت. وهذا ما يقودني للتفكير أنه يمكن وصف السُّلطَة على أنها القدرة؛ لذا إن أردتَ النظر في سُلطَة شيء ما، عليك أن تنظر إلى قدراته أو موارده. وبعض الناس يعتقدون أن السُّلطَة تعني القدرة لفعل الأمور، وأما البعض الآخر يرون أنه من الواجب النظر في السُّلطَة الاجتماعية أو السُّلطَة عمومًا على أنها قدرة فئة من البشر في السيطرة على الآخرين. وأنا أُطلق على الأخيرة “سُلطَة اجتماعية”، وأعتقد أنها فرع من فروع السُّلطَة؛ إذ أنها تمثّل إحدى الطرق التي يمكنني بها أن أحقق بعض الأمور من خلال دفع الآخرين لتنفيذها نيابةً عنّي، وهذا له علاقة بالسُّلطَة نوعًا ما. وعلى أيّة حال، هنالك نوع آخر من الجدل هو الاختلاف بين أولئك الذين يرون السُّلطَة على أنها إحدى خواص البُنى الاجتماعية، وأولئك الذين يرونها خاصية من خواص الفاعلين (agents)؛ وأما أنا فأراها خاصية من خواص الفاعلين بالنظر للمصادر التي يملكونها.
زان بواغ: هل بالإمكان فصل السُّلطَة عن اللامساواة؟ أم إنهما مرتبطتان على نحوٍ وَثيق؟
كيث داودنج: يمكن أن تكون اللامساواة موجودة في كل الأحوال. فإذا رأينا السُّلطَة من ناحية الموارد؛ أي إذا كان للناس موارد متباينة، عندها سيحصلون على سُلطَة متباينة، مما يعني أنهم سيحصلون على قدرات متفاوتة. وقد يكون الحال أن البعض يختار ألا يستخدم إمكانياته، ومن هذا المُنطلق، ربما لن يراهم المجتمع على أنهم أصحاب نفوذ لأنهم لم يستغلوا مواردهم ولم يحاولوا ذلك.
وهذا ما أنا مهتم به أكثر قليلًا. فأنا أرى الموارد من أربع زوايا مختلفة، أما أول زاويتين مباشرتين تمامًا. فإحداهما المعلومات؛ إذ يمكن أن يكون لدي سُلطَة عليك بمجرد أنني أعرف أمور لا تعرفها وأستطيع الاختيار بين إخبارك بها من عدمه. ويمكن أن أكذب عليك، ويمكن أيضًا أن أخدعك.
وأما الأخرى هي النفوذ؛ أي أنه يمكن أن تفعل ما أقوله لك باعتباري صاحب نفوذ وشخصًا مسؤولًا، لهذا أنا صاحب سُلطَة. أو يمكن أن تراني خبيرًا، فتثق بي. لذلك، أنا صاحب النُفوذ وهذا ما يمنحني السُّلطات.
وبعدها، هنالك دوافع مَشروطة تجعل الناس ينفّذون الأفعال، والتي قد تشمل التهديدات أو العروض. كأن أقول، إذا نفذتَ الأمر سأمنحك المكافأة، وإذا لم تنفذه سأعاقبك. وبإمكانك أيضًا أن تخترع دوافع غير مشروطة تجعل الناس ينفّذون أفعالًا مختلفة. وهذه، بالطبع، إحدى الأمور التي تفعلها الحكومات كثيرًا؛ إذ تنظّم الشعب من خلال تشريع القوانين المحددة وتمنحهم الدوافع ليتصرفوا بطريقة معينة أو بأخرى. فعلى سبيل المثال، إذا فرضتَ ضريبة على الملح، فقد تجبر الشركات المصنِّعة على وضع القليل من الملح في الطعام، وبهذا قد يشتري الناس غذاءً بديلًا، وقس على ذلك. يمكنك تغيير سلوك الناس من خلال منحهم دوافع التغيير.
إنّ هذه المصادر الأربعة جميعها موجودة في نظرية الألعاب لجون هارساني. وأضفتُ واحدةً أخرى، هي السُّمعة والتي تعدُّ مثيرةً للجدل بالنسبة للبعض؛ إذ إن نظرية الألعاب الحديثة تُقرُّ أنه يمكن أحيانًا أن يبدو الأشخاص أكثر نفوذًا مما تُظهره مواردهم الماديّة، ويرجع السبب في امتلاكهم السُّمعة.
ويمكن أن ترى أن الناس قد يمتلكون السُّلطَة من خلال هذه السُّمعات، حتى وإن كنت ضعيفًا تستطيع أن تحظى بالسمعة. مثلًا، لو فكرتَ بمتنمر في المدرسة وبدأ يتنمر على أحدهم ويضربه، والمتنمرون لا يتراجعون أبدًا، بل يبقون على تَعنُّتِهم. وقد يتوقف المتنمر بعد مدّة لأن التنمر لم يعد ممتعًا بالنسبة له أو لأن الدماء أصبحت تملأ ملابسه أو أيًّا كان السبب، ففي الواقع يمكن لهذا الشخص أن يوقف التنمر من خلال عناده فحسب. وهذا يعدُّ نوعًا من أنواع موارد السُلطَة.
ومن خلال تحليلي، أُميّز بين أولئك الذين يملكون السُّلطَة ولكنهم ليسوا بالضرورة يمارسونها ومن يملكون السلطة ويمارسونها. وإحدى النواحي التي قد يرى فيها فئة من الناس أو الجماعات السُّلطَة على نحو مختلف عمّا أراه، أنّهم قد يقولون إن فلان وفلان أقوياء لأنهم يحصلون على كافة رغباتهم، بينما أقول إنهم في الواقع ليسوا كذلك لأن لديهم موارد ضئيلة جدًا، ولكنهم في نظري مجرد محظوظين.
زان بواغ: أودُّ أن أتحدث قليلًا عن أفكارك حول السُّلطَة والحظ، كما هو الحال في مسألة الحصول على ما تريد بدون المحاولة في السعي إليه. أنت تزعم أن بعض الجماعات أو الناس محظوظين بصورةٍ منهجية لتمتعهم بامتيازات حسب بنية المجتمع، بينما البعض الآخر غير محظوظين في حيازة السُّلطَة. فهل يمكنك أن تشرح فكرة العلاقة بين الحظ والسُّلطَة؟
كيث داودنج: إن العلاقة بين الحظ والسُّلطَة أتت من اتجاهين، أحدهما كان يُسمّى “مؤشرات السُّلطَة” وهو مفهوم قياس السُّلطَة في نظرية القرار (decision theory) والنظر في قوة تصويت الشعب. وقد تفوز بعض الجماعات دائمًا في ألعاب التصويت، ولكن هذا لا يعني أن كل ناخب يتمتع بقوة فردانية؛ إذ إن لكل فرد الحق في التصويت لمرة واحدة فقط، ولكنهم دائمًا ما يُشكّلون الأغلبية. وهنالك مجموعة من البشر كلهم لديهم ذات الامتيازات، وقد تعتقد أن تلك المجموعة قوية لمجرد أنها جماعة واحدة، ولكن كل فرد فيها لا يملك قوة التصويت سوى لمرة واحدة مقارنةً بأولئك الذين يخسرون دائمًا. وإن كنت فردًا ضمن مجموعة الأغلبية الغالبة، فأنت محظوظ إلى حدٍّ ما؛ إذ إنك محظوظ أن ما تفضّله هو نفس ما يفضّله أناس آخرين.
وكانت مسألتي الثانية: النظر في السلطة التي يملكها المزارعون في المملكة المتحدّة بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم أنهم نسبة ضئيلة من الناخبين إذ تقدّر نسبتهم باثنين بالمائة فقط، ليسوا ضمن الدوائر الانتخابية الهامشية تحديدًا، إلّا أنّ الحكومات المحافظة والعمالية -على حدٍّ سواء- نفذتْ غالبًا ما يريده المزارعون على مرِّ السنين، حتى بدت الحكومات منقادة تمامًا تحت تصرفهم.
وكان السؤال: لماذا حصل ذلك؟ وإحدى الإجابات التي وردتْ في الأدبيات هي أن الزراعة كانت ذات أهمية استراتيجية للغاية في فترة ما بعد الحرب، وبالتأكيد أيضًا في عام 1973م عندما أصبحت الأوضاع أكثر تعقيدًا مع الاتحاد الأوروبي وما إلى ذلك. وعلى أي حال، كانت الزراعة ذات أهمية استراتيجية؛ لهذا كانت مصالح المزارعين هي مصالح الدولة أيضًا، وإن شئت مصالح الحكومة. ومن هذا المُنطلق، كانوا محظوظين نوعًا ما؛ حيث كانت مصالح المزارعين تتشارك مع الحكومة. وبهذه الطريقة توصلتُ إلى فكرة أن تكون محظوظًا بصورةٍ منهجية.
لم يدرك ستيفن لوكس هذا الرابط بين الحظ والسُّلطَة، ولكنه كتب عن الكيفية. وأقتبس هنا: ” كيف يمكن أن تتوافق مصالح المرء بشكل منهجي مع النتائج، حتى وإنْ لم يكن بالإمكان بديهيًا نسب مصالحهم المشتركة مع الآخرين إلى الصدفة فقط. إنّ الإنتاج المستمر للسلطات غير المتكافئة هو الذي يسمح باستمرار مثل هذه الموافقات”. فهل يساهم إنتاج السلطات المتفاوتة في ذلك؟ أم أنه الحظ فحسب؟ أو كلاهما يساهمان في تحديد من يملك السُّلطَة ومن لا يملكها؟
أولًا، أريد أن أُسائل فكرة الجمع بين الحظ والصدفة. ولا أقول إن الصدفة لا علاقة لها بالحظ، ولكنّ الأمر لا يقتصر على الصدفة فقط. أعني إذا ربح شخص ألف دولار باحتمالية ربح من 10 مليون فرصة إلى فرصة واحدة، هل نظن أنه أقل أو أكثر حظًّا من شخص ربح مليون دولار باحتمالية ربح من ألف إلى فرصة واحدة؟ أعتقد أن أغلب الناس ستقول إن الشخص الذي فاز بالمال الأكثر هو المحظوظ أكثر على الرغم من أن احتمالية الربح كانت أعلى. لذلك، لا أرى أن الحظ هو مجرد صدفة، بل إنّه يعوّل أيضًا على مدى جودة أدائك التي تفوق توقعات الناس، إن جاز القول، وتتجاوز الاحتمالات.
إنّ الحظ ليس مباشرًا؛ إذ إن بعض الناس يمكن أن يكونوا محظوظين أكثر من غيرهم لأنهم يحصلون على مكافآت أكبر حتى لو زادت احتمالية ربحهم عن غيرهم. وبالتأكيد، أتحدث عن الحظ الممنهج. فكرتي حول الحظ الممنهج ببساطة أن الناس يتمتعون بالامتياز بسبب بنية الموارد وبنية الامتيازات التي تمكنهم من الحصول على الإمكانيات التي لا يستغلونها بالضرورة حتى مع وجود الموارد.
فعلى سبيل المثال، لا يتعيّن على رواد الرأسمالية المالية الاتصال بالناس من أجل الحصول على ما يريدون؛ لأنهم في غنى عن ذلك في غالب الوقت، فالمجتمع يدير رغبات الرأسماليين كيفما يشاءون دون الحاجة إلى تدخلهم. رغم أن بإمكانهم التدخل، إلا أنهم لا يريدون ذلك. لهذا، أود القول إن هذا يغذّي امتيازه الخاص، ويأتي إنتاج الامتياز هذا، نتيجة الطريقة التي يعمل بها النظام. وبالفعل، هم لا يستخدمون موارد سلطتهم طيلة الوقت للحصول على ما يريدون.
أتفق تمامًا مع لوكس أن السُّلطَة تعيد إنتاج نفسها بالفعل. وأتفق كليًّا أن الامتياز يعيد إنتاج نفسه أيضًا. ومع هذا، أعتقد أنّه من المهم جدًا أن نميّز بين الأشخاص الذين يتصرفون لإعادة إنتاج الأمور، وبين حدوث الإنتاج [دون تدخلهم]، إنْ جاز القول، بيد غير مرئية من وراء ظهر الجميع؛ لأنه إذا أردنا التصرف حيال ذلك؛ أي إذا أردنا التدخل لمنعه، سيتطلب ذلك أنواعًا مختلفة من التدخلات.
زان بواغ: لدينا بنية إعلامية تعمل على مدار الساعة في الوقت الراهن، وذلك يعني أن آراء الناس تتأثر في الحاضر أكثر من أي وقتٍ مضى. فإلى أي مدى يمتلك الإعلام السُّلطَة على ما نفكر به؟
كيث داودنج: إنّ من الواضح أن الإعلام قويٌّ للغاية؛ إذ نحصل من خلاله على معظم معلوماتنا حول العالم. وأغلب الناس، في الواقع، لا يدركون أننا نكتسب معظم معتقداتنا بالشهادة [نقلًا عن أناس آخرين]. فلا نملك أي معرفة مباشرة بشأن أغلب الأمور التي نعلمها؛ إذ إننا عرفناها من خلال ما سمعناه من الناس. ويميل الناس إلى تصديق ما يسمعونه، وإذا سمعوه مرارًا وتكرارًا سيصدقونه أكثر. حتى وإن كنتَ شكاكًّا مثلي، فقد أصبح الإعلام مهمًّا للغاية. وإذا عدنا إلى 60 أو 70 عامًا، ستجد أن تلك الفترة كانت أقل احتكارًا بكثير مما كان عليه قبل 15 أو 20 عامًا.
أمّا الآن، أصبح احتكار المعلومات أشد من خلال وسائل الإعلام، وهذا السيء في الأمر، في حين أننا نريد أن نسمع المزيد من الأصوات المختلفة عبر إعلامنا.
ومن وجهة نظري، التي هي نوعًا ما وجهة نظر جون ستيوارت ميل، أنني أعتقد أنه عندما يتحدث الناس عن حرية التعبير، يظنونها تتمثل في حق القول. حسنًا، أنا لا أظن أن حرية التعبير تتعلق بحقّي في القول، بل إنها تتعلق بحقّ الناس في سماع هذا القول. وما تريده من حرية التعبير أن تسمع الكثير من الأصوات المختلفة، وتسمع المزيد من الآراء المتعددة، ولا يمكنك أن تحظى بهذا الشيء بوجود صحافة احتكارية وتلفاز احتكاري.
ما حدث بوجود الإنترنت أن ظهرتْ الكثير من الأصوات المختلفة، وربما قبل 15 سنة ماضية، كان الناس يقولون إن هذا الأمر عظيم، وأنّه سيُضفي الطابع الديموقراطي لتدفق المعلومات، وأنّه سيبدد السُلطَة. وقد تتجلى بعض هذه الأمور في حركات الاحتجاج، إذ يستغل الناس وسائل التواصل الاجتماعي لتمكنهم من تعزيز الفعل الجماعي. كما رأيناه في الربيع العربي وما شابه ذلك، عندما تمكّن الأشخاص من استغلال وسائل التواصل الاجتماعي للتأكد من إمكانية حصولهم على عددٍ كافٍ من المظاهرات، بالتالي تتحقق مطالبهم.
لكن ما يحدث بالطبع أن بمجرد ظهور قوة الأداة، ينتقل الناس لاستخدامها، حينها يسارع أصحاب السُّلطَة في الانتقال إليها حتى يتولوها ويسيطروا عليها. ونستطيع أن نرى حاليًا شواغل فردية تستعيد السيطرة حقًّا، على ما أعتقد من وسائل الإعلام الاجتماعية التي تستخدمها الحكومات والحكومات الأجنبية. وبطبيعة الحال، إحدى الأشياء التي يتيحها الإنترنت عامّةً ووسائل الإعلام الاجتماعية خاصّة هي استهداف المعلومات. وقبل 20 و30 عام مضت، كان لدينا في السياسة إجراءً بدائيًا للغاية؛ إذ اعتدنا أن نطرق أبواب الشعب لنطلب وجهات نظرهم ومن ثم نوجّه رسائل مختلفة من أي حزب سياسي إلى مختلف الناس. ليست رسائل كاذبة، بل إن عرفنا أن شخصًا ما مهتمًا بالبيئة مثلًا، كنّا نوجّه له رسالة عن البيئة. وإنْ كان أحدهم مهتمًا بمشاكل المرور، يحصل على رسالة تتضمن إجراءاتنا لحل هذه المشاكل، لذلك كنّا نستهدفهم باستمرار. وأمّا في الوقت الحاضر، أصبح الجميع يشاركون آرائهم للعامّة، ولا يدركون أن تلك المعلومات يتم حصادها. هنا تكمن الخطورة؛ إذ إن وسائل الإعلام تعدُّ مصدرَ سُلطَةٍ ضخمًا لأولئك الذين يرغبون في استغلالها، وهذا بحد ذاته مشكلة كبيرة.
زان بواغ: هل هي غريزة طبيعية في الإنسان أن يكون له سُلطَة على الآخرين؟ وهل صحيح أن أولئك الذين كانوا محظوظين بصورةٍ منهجية سيفعلون كل ما يلزم للتمسك بهذه السُّلطَة؟
كيث داودنج: بصراحة، أنا لا أعرف الإجابة. ومع هذا، يبدو لي أن هذا هو الحال، فإذا نظرنا لتاريخ المجتمعات، نجد أن بعض المجتمعات تتسم بالمساواة أكثر من غيرها. وبعض المجتمعات تمتلك تراتبيات هرمية أكثر من غيرها، ولكن كافة المجتمعات تميل أساسًا لوجود أنواع معينة من القادة، وهذا أمرٌ منطقي… إذ قد يكون الفعل الجماعي مشكلة يمكن حلها في حالة تولي شخص ما تنسيق أنشطة الآخرين، ليُصبح هذا الشخص قائدًا. بذلك، لا يلزم عليه أن يحظى بزخارف السُّلطَة والثروة العظيمة أو أيًّا كانت؛ أي قد تعيش في مجتمع يقوم على المساواة، إلا أن هنالك شخص يتصرف ربما في فترات قصيرة لتنسيق أنشطة الشعب. وقد تلاحظ هذا في المجتمعات التي نعرف أنها الأكثر مساواة مثل مجتمعات الصيد وجمع الثمار حيث نعلم جيدًا أنهم متساوين إلى حدٍّ كبير، ولكن لا يزال يوجد في هذه المجتمعات قادة وانقسامات جنسانية وما إلى ذلك.
أعتقد أن الناس يميلون إلى جمع الموارد لأنفسهم ويميلون إلى استخدامها، فعلى سبيل المثال، إذا كان لديك موارد في مجال معيّن، فإنك تميل أيضًا إلى جمع الموارد في مجال آخر. لذلك، إحدى طرق التفكير في وجود نوع أرقى من المجتمعات يقوم على المساواة، هو الإدراك أن الجميع ليسوا متشابهين؛ بعض الناس لديهم أموال أكثر من غيرهم، وبعضهم لديهم سُلطَة أكثر من الآخرين، وبعضهم لديهم إنجازات أكبر من الآخرين. ومع هذا لديك موارد مختلفة، وهذه الموارد المختلفة موزعة على فئات مختلفة حيث لكل فئة من الموارد من كل نوع مختلف)، إلّا أنّ هذا لا يحدث. فمن يجمع المال يجمع أيضًا النفوذ السياسي والأتباع وأشياء أخرى، لذلك تتكدس الموارد وتتجمع لتمنح بعض الناس سلطات أكثر بكثير من غيرهم.
ولكنّي أرى أيضًا في التاريخ أن عندما تصبح المجتمعات متفاوتة بدرجة عالية، فإنها تميل لتكون أكثر ثورية ويسود فيها السخط. وأعتقد بالفعل أن هنالك مرحلة ما حيث كلما ساد التباين في المجتمع، ظهرتْ الثورة حتمًا، وأظن أن هذا ما يحدث في الوقت الحالي. ويتحدث الناس عن صعود الشعبوية، على كل من أحزاب اليسار واليمين، ولكن أعتقد أن هذا قد يكون نتيجة الاستياء الشديد للشعب في الواقع بسبب وجود عدم مساواة هائلة لدينا. فاللامساواة ليست هي نفسها التي كنّا نشهدها قبل 30 عامًا، إنما نراها اليوم بشكل هائل، فأعتقد أن الناس يناضلون ضد هذا الوضع.
زان بواغ: هل هناك طريقة لنحرر أنفسنا من سُلطَة الأشخاص علينا؟
كيث داودنج: عندما بدأتُ بدراسة السُّلطَة من خلال المناهج الاقتصادية، أدركتُ أن علماء الاقتصاد لا يتحدثون عن السُّلطَة باستثناء السُّلطَة الاحتكارية؛ هذا هو النوع الوحيد من السُّلطَة الذي يتطرقون إليه. لذا، نعلم أن بإمكان الشركات أن تتحكم بنسبة قد تصل إلى 40% من السوق، مما يعني أنها تملك الكثير من السُّلطَة في الواقع؛ أي أن السوق لم تعد حرّةً. وهكذا تسير كل هذه الأمور، عندما يتحدثون حول مدى روعة الرأسمالية في السوق. لهذا يجب علينا أن نفصل (break up) المؤسسات وبلا شك نفصل المؤسسات الإعلامية إذا كانت تسيطر على ما يفوق النسبة الصغيرة من السوق. وعلينا أيضًا أن نفصل شركة ݠوݠل لأنها تسيطر على الكثير.
ومن جهة أخرى، يمكنني القول مجددًا إن إحدى الطرق لتحرير نفسك من سُلطَة الآخرين عليك، ألّا تسمح لهم بذلك؛ أي أن تصبح عنيدًا. وفي نهاية مسرحية إبسن: عدو الشعب، يقول الدكتور ستوكمان إنّه توصّل إلى اكتشاف عظيم أن “أقوى رجل في العالم هو الذي يقف غالبًا بمفرده”، ويقصد الرجل الذي لا ينجرف لآراء الآخرين، وبهذا لا أحد يسيطر عليه. فيمكنك أن تقول: حسنًا، لن أدع الناس يسيطرون علي وعلى أفكاري. ونستطيع جميعنا فعل هذا الأمر، ولكن من الصعب أن ندعو لحرية المجتمع من خلال جعل جميع الشعب عنيدين بهذه الطريقة، إلّا أنني أعتقد -على الصعيد الشخصي- أن بإمكانك تجاوز سيطرة الآخرين عليك بمجرد أن تصير عنيدًا أو تتجاهلهم أو تمضي قدمًا في حياتك. ولكن بالمعنى الاجتماعي الأكثر جدية، نستطيع أن نُنشئ وضعًا دستوريًا حيث نجعل المجتمع أكثر مساواة، مما يحقق اتزان السُّلطَة بقدرٍ كبير.
زان بواغ: استكمالًا لفكرتك حول فصل الشركات، تذكرتُ الكلمات المشهورة للورد أكتون؛ إذ يقول إن السُّلطَة تميل إلى الفساد، والسُّلطَة المُطْلقة هي فسادٌ مُطْلق”. فما رأيك في هذا؟ أتفسدنا السلطة؟
كيث داودنج: إنّ السُّلطَة مفهومٌ مثيرٌ للاهتمام لأن أغلب المفاهيم في الفلسفة السياسية لديها قوة معيارية خاصّة. لذلك الشعب عمومًا يعتقد أن المساواة شيء جيد. ورغم اختلافهم حول تطبيق المساواة، إلّا أنهم يعتقدون أن المساواة أمر جيد. ويرون أن الحريّة فكرة جيدة، ورفاهية الإنسان شيء جيّد. ولكن هل يمكن اعتبار السُلطَة أمرًا جيدًا أو سيئًا؟ فإذا امتلكتَ السُّلطَة لفعل الأشياء؛ أن تحظى بهذه السُّلطَة هو أمر جيد أليس كذلك؟ ولكن أن يتسلط عليك الآخرون هو أمر سيء.
نستنتج أن السُّلطَة نوعًا ما مُحايدة، فالسُّلطَة لفعل الخير هي أيضًا السُّلطَة لفعل الشر. وأفترض أن أحد أسباب فساد السُلطَة، تحديدًا السُّلطَة السياسية، أن الناس يظنّون أن بإمكانهم فعل الأمور الجيّدة؛ إذ إن أغلب الأشخاص يفكرون أنهم على حقٍّ وصواب، وربما ينطلق أصحاب النفوذ لفعل الخير، ولكن قد لاحظتُ غالبًا كيف أن الناس يخطئون في تمييزهم بين تفضيلاتهم الشخصية وما هو خير. فعلى سبيل التوضيح، أنا أحب الورود، وأعمل بُسْتانيًّا؛ لذلك أتحدث عن الورود، ولكنّي لا أحب ورد التوليب. وأستطيع إخبارك لماذا لا أحب التوليب؛ لأنه يتفتّح بسرعة أكثر من اللازم. لذا لنفترض أنني قلت لأحدهم إنني أحب الورود ما عدا التوليب. فسيرد عليّ متعجبًا: ولكن زهرة التوليب لطيفة! فأرد: حسنًا لم أقل إنها ليست لطيفة، بل قلت إنني لا أحبها.
ومثال آخر، لنفترض أن شخص ما يسألني: ما انطباعك عن هذا الفيلم؟ وأجاوب: لم يعجبني كثيرًا. فيقول: ولكنّ هذا الفيلم عظيم، أنت مخطئ. فسأرد عليه: حسنًا، انتظر لحظة، قلت إنّه لم يعجبني الفيلم، ولم أقل إنّه لم يعجبك، أو لم أقل إنّ الفيلم لم يكن جيدًا، بل قلتُ فقط إنّه لم يعجبني. وأعتقد أن هذا النوع من تحويل تفضيلاتك الشخصية إلى ما تظنه الحقّ والباطل هو إحدى الطرق التي تُفسد بها السُلطَة؛ لأن الأشخاص يبدؤون بعد ذلك في تقديم تفضيلاتهم وأذواقهم في طريقة حكمهم وإدارتهم، عوضًا عن التفكير بمطالب الشعب فحسب. والخلاصة، أن هذه طريقة من الطرق التي تُفسِد السُلطَة بها الناس.
From the Power edition of New Philosopher magazine.