الألم الإنساني: رؤية مغايرة (1) – د.حسني إبراهيم عبد العظيم
لم يعد الألم أسيراً للتحليل والتعليل الطبي والنفسي، فدخول علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في دراسته كشف عن عمق تجذره في البنية الاجتماعية والثقافية، وساهم في ترقية نمط المعرفة المتاحة حوله وتحسينها.
مقدمة:
يعد علم الاجتماع معرفة علمية (تحريرية) بامتياز، بمعنى أنه ومنذ تم تأسيسُه في النصف الأول من القرن التاسع عشر، يعمل على تحرير فهم الموضوعات والظواهر الاجتماعية من أسر الحتمية النوعية الضيقة، سواء أكانت هذه الحتمية عضوية أو نفسية أو جغرافية أو غير ذلك، وقد حاز دوركايم قصب السبق في ذلك حينما حرر ظاهرة الانتحار Suicide من أغلال الفهم السيكولوجي الضيق، وقام بربطها بمجمل الظروف الاجتماعية والثقافية في المجتمع. وما يقال عن علم الاجتماع ينطبق بطبيعة الحال على الأنثروبولوجيا، وإن اختلف العِلمان في بعض القضايا المنهجية.
ويعد علم الاجتماع الطبي أحد التجليات البارزة لرحابة الفهم السوسيولوجي للظواهر الاجتماعية، حيث أخرج مفهوم المرض Disease من كهف الحتمية العضوية البيولوجية إلى آفاق الفضاء الاجتماعي – الثقافي، بعد أن لبث في كهفها سنين عددا.
وكذلك فإن موضوع الألم Pain الذي ظل لسنوات طوال أسير التحليل و(التعليل) الفسيولوجي والسيكولوجي، حتى كشف الدرس السوسيولوجي والأنثروبولوجي عن عمق تجذره في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع. فلقد ساهمت المقاربات السوسيولوجية والأنثروبولوجية والفينومينولوجية للألم في ترقية نمط المعرفة المتاحة حول الألم وتحسينها، وعملت على استعادة reclaim ظاهرة الألم من هيمنة النموذج الطبي، ووكالته الحصرية للتعامل مع الألم. (Bendelow and Williams 1995a:139 and Johansson, et al., 1999:1792 )
والألم ظاهرة عامة يكابدها الفرد من المهد إلى اللحد، وتتفاوت في حدتها من الصورة البسيطة الخفيفة Mild إلى ذلك النمط الذي لايطاق Intolerable ويستلزم تدخلًا علاجيًا ناجعًا، مثل ذلك النمط من الألم المستمر المصاحب للأمراض المزمنة، وقد كشفت الدراسات العلمية أن ذلك الألم الذي يجعل حياة المريض لا تحتمل unbearable هو السبب الذي يدفع أكثر من 80% من الناس للبحث عن الرعاية الطبية. Da Silva 2014: 1))
ونحاول في هذا المقال تقديم تحليل سوسيو أنثروبولوجي للألم باعتباره ظاهرة اجتماعية ثقافية معقدة، بجانب كونه ظاهرة عضوية فسيولوجية ونفسية، واستنادًا إلى ذلك ننطلق من فرضية أساسية وهي أن اختزال الألم في بعديه العضوي والنفسي يمثل فهمًا قاصرًا للظاهرة، وإهدارًا للحقيقة العلمية المتكاملة حولها.
- في معنى الألم
جاء في المعجم الوسيط ألِم ألما: وجع، فهو ألم. ويقال ألِم بطنُه، ووجع بطنًا (على التمييز). وآلمه إيلامًا أوجعه، فهو مؤلم وأليم. وتألمَ: توجّعَ. (المعجم الوسيط 25:2004)
ويشير معجم لسان العرب إلى أن الألم يعني الوجع، والجمع آلام. وقد ألِم الرجل يألم ألمًا، فهو ألِم. ويُجمع الألم آلامًا، والأليم: المؤلم والموجع، مثل السميع بمعنى المسمع. والعذاب الأليم: الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ، وإذا قلت: عذابٌ أليم فهو بمعنى مؤلم ; قال: ومثله رجل وجِع. وضرب وجِــع أي موجــع. وتألـم فلان من فلان إذا تشـكى وتوجع منه. والتألم: التوجع. والإيلام: الإيجاع. (ابن منظور:22)
- الألم ظاهرة اجتماعية وثقافية:
هيمنت النظريات البيولوجية والطبية التقليدية على تفسير ظاهرة الألم الإنساني، وركزت على الأبعاد العصبية والفســيولوجية في تشخيصه وعلاجه، وحصر الطب العلمي خبرة الألم في بعدها العضوي باعتبارها نظامًا معقدًا من الإشارات العصبية، بدلًا من النظر إلى هذه الخبرة كظاهرة اجتماعية تتشكل وفق سياق اجتماعي – ثقافي محدد. (Bendelow and Williams 1995a:139)
واستنادًا لما سبق فلقد بدا من الأهمية بمكان ضرورة حضور التحليل السوسيولوجي – الأنثروبولوجي للألم، الذي يستوعب العوامل العضـوية الفســيولوجية ويتجاوزها إلى آفاق أرحب وأعمق، ويطرح تفسـيرات علمية للأبعاد الاجتماعية والثقافية المرتبطــة بالألم، والتي يعجز النموذج الطبي عن تفسيرها واستيعابها.
يؤسس “موريس” Morris ابتداءً للرؤية السوسيولوجية والأنثروبولوجية للألم في كتابــه ثقافـــــة الألم The culture of pain الصادر في عام 1991 بقوله إن الألم ليس مجرد ظاهرة فسيولوجية وتشريحية فقط، وإنما هو نتيجة التفاعل بين العقل والجسد والثقافة. ويؤكد أن النظرية الطبية أهملت جوانب مؤثرة في تحليل الألـــم تتعلق بأن الألم يتم تشكيله وتقييمه وفق عناصـــــر ثقافيــــة محــــددة. (Bendelow and Williams 1995a:139-140)
ويؤكد “موريس” المعنى السابق في موضع آخر إذ يقول: (إن الألم – وبخاصة النمط المزمن منه – لا يعد ظاهرة عضوية وعصبية عبر جلدية Transdermal فقط، وإنما هو ظاهرة وثيقة الصــلة بالبيئة الاجتماعية والثقافية، إن مفاهيمنا عن الألم، والضعف والعجز، تتضمن عوامل اجتماعية لا تقل في أهميتها عن العوامل العضوية. (Morris 2010:133)
واستنادًا لرؤية “موريس” يرى الباحثون في سوسيولوجيا الألم أن الاختلاف بين النظرة الطبية للألم والنظرة السـوسيو – أنثروبولوجيــة له تكمن في الاختلاف بين رؤية الألم (كـإحساس) pain as sensation ورؤيته (كعاطفة) pain as emotion وهو مفهوم أكثر ديناميكية من الإحساس، فالنمـوذج الطبي – وهو النموذج المهيمن في تفسـير الألم، والذي يتم تدريسـه لطلاب الطب – ينظر للألم على أنه إحســاس ينتقل عبر مستقبلات الألمpain receptors في الجلد إلى مركز الألم في المخ. أما الرؤية السوسيو- أنثروبولوجية للألم فقد لخصـها “ميلزاك” و “وول” Melzack & Wall بقولهما: إن كلمة ألم تمثل طائفة من الخبرات المختلفة والفريدة التي تتأثر بقوة بالبيئة الاجتماعية الثقافية التي تتضمن مجمل العوامـل الاجتماعية والسلوكية والثقافية. (Bendelow and Williams 1995a:142)
والواقع أن البيئة الاجتماعية – الثقافيــة لا تعني فقط وفق التحليل الأنثروبولوجي الأماكـن أو المواقـع الماديــة التي توجــد خارج نطــاق الذات، ولكنها تتضمن أيضا تلك الوقائـع والعمليات المحيطة بنا في عالم الحياة، والتي تم استدماجها Internalized داخل الذات، وتتجلى في حالة الجســد والعقل والعاطــفة. هذه الحالات تبقى حيــة في الذاكـــرة حتى عندما يغير الناس أماكــنهم. إن الألم باعتباره حالة عقلية جسدية لا ينفصم inextricable أبداً عن السياق الاجتماعي الثقافي الذي يسهم في تشكيله. (Morris 2010:135)
والسياق الثقافي بدوره لا يسهم فقط في تشكيل التفسيرات والمعاني التي نعـــزوها للألــم، وإنما يعمل كذلك على صياغة الاستجابة له على نحو معين، فعلى الرغم من أن الأفراد يختلفون فيما بينهم في طرق استجابتهم للألم، إلا أن الوقائع تؤكد أن تلك الاستجابة أمر يمكن التنبؤ به استناداً لعضوية الأفراد في الجماعة الاجتماعية، واستناداً أيضاً للمعاني الاجتماعيـة التي تُعزي للألم والتي يقوم أعضاء الجماعة بمشاركتها فيما بينهم. (Bendelow and Williams 1995a:156-157)
إن الثقافة كما يفهمها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ليست مجرد عنصر (براني) مفارق للذات الإنسانية، كعناصر الطقس والمناخ مثلاً، وإنما هي عنصـر (جواني) متغلغل في عمق الذات الإنسانية، وتتجلى تأثيراتها في كل المواقف الإنسانية التي يعيشها الفرد، إن الثقافة بهذا المعنى ليست مجرد فضاء يعيش فيه الإنسان، بقدر ما هي حقيقة تعيش في الإنسان وتوجه سلوكه حيثما وُجد.
- العوامل الاجتماعية والثقافية المؤثرة في الاستجابة للألم:
ثمة عوامل اجتماعية أخرى مؤثرة في الاستجابة للألم، بيد أن تأثيرها لا ينفصل عن السياق الثقافي وتشابكاته، بمعني أن هذه العوامل لا تشتغل إلا في ظل المناخ الثقافي العام في المجتمع، وقد كان النوع Gender من تلك العوامل التي نالت قسطًا وافرًا من الاهتمام، والنوع أو (الجندر) هو مفهوم ثقافي بالأساس يستوعب مفهوم النوع بالمعني العضوي Sex ويتعالى عليه بأبعادة الثقافية العميقة والمعقدة.
فالنوع بجانبيه العضوي Sex والثقافي Gender يثير تعقيدات إضافية في تقدير دور المؤثرات الاجتماعية – الثقافية في الألم، فمن الناحية الفسيولوجية تشير الدراسات إلى أنه رغم أن الفروق بين الذكور والإناث في إفراز الهرمونات المـُسَكِّنة تميل لصالح الإناث بنسبة 1: 3، إلا أن العوامل الاجتماعية الثقافية تعمل على تعديل السلوكيات المرتبطة بالألم، فالأبعاد الاجتماعية الثقافية (الإيجابية) المرتبطة بالحمل والولادة على سبيل المثال (تخلق) دعماً اجتماعياً قوياً لمجابهة الألم. (Morris 2010:136)
ويمثل التمييز النوعي – الذي يعني في مجتمعنا بالطبع تفضـيل الذكـر على الأنثى- دورا مهما في تحمل الألم ومجابهته، ويتجلى ذلك بوضوح في آلام المخاض، والحقيقة أن الاختلاف في درجـة آلام المخاض يلعب فيه الخيـال الشعبي دوراً بالغ الأهمية، حيث تتحدث النساء عن اختلافات في آلام الولادة حسـب نوع الجنين، وهي اختلافـات لا يؤكدها الطب، وإنما توجد فقط في الخيال الاجتماعي، ويلعب الجانب النفسي دوره فيها، فالحقيقــة أن ولادة الأنثى ليست صعبة، وإنما تأكُد الأم من جنس وليدها أنه أنثى جعل قدرتها على تحمل الألم أضعف، ومن ثم زاد إحساسها بالألم، في حين أن الأم بعد تأكدها أن وليدها ذكر ، وما يتضمنه ذلك من ترقية اجتماعية في وضعها فكأنها «نسيت» آلام الولادة وتحملتها بجسارة.(زينب المعادي 2004: 62)
إن لحظة الولادة، هي لحظة فارقة في مسيرة الجسد الأنثوي، حيث أن الولادة هي الخطوة الأساسية للزوجة لكي تعزز مكانتها الاجتماعية، إنها تشكل الخط الفاصل بين مرحلتين في حياتها، بل خطاً فاصلاً بين مكانتين، كأننا أمام عملية تبادلية تمنح فيه المرأة جسدها وقدرتها الإنجابية لصالح الجماعة، لكي تتلقى منها اعترافـًا اجتماعيًا، كأن المرأة ذاتها تعيش ولادة جديدة، ولادة اجتماعية تمنحها مكانة جديدة، خاصة إذا كان المولود ذكراً. (زينب المعادي 63- 64)
ومن العوامل الاجتماعية الأخرى التي رصدها الباحثون حديثاً دور الحياة المهنية في التعامل مع الألم وإدارته، وفي هذا السياق درس (كوتاربا) Kotarba جماعتين مهنيتين، تمثل اللياقة البدنية فيهما دورًا مؤثرًا، كما يشكل الألم تهديدا خطيرًا لهما، وهما: الرياضيون المحترفون والعمال اليدويون. وكما لاحظ (كوتاربا) فإن مستوىً متوسطاً من الألم يمكن قبوله في الألعاب الرياضية، ونادراً ما يتم الإفصاح عنه، فالشخص الذي يعاني من الألم قد يقرر إخفاء الألم عن الجماهير الهادرة إذا كانت التكاليف الاجتماعية والعاطفية الناتجة عن الإظهار تفوق الفوائد المتوقعة، وتتضمن فوائد إظهار الألم الاستفادة من الرعاية الصحية، التعاطف مع اللاعب المصاب، والمساعدة في التكيف مع الألم، بيد أن تكاليف الإظهار، قد تكون ساحقة، كردود فعل الجماهير الحرجة التي تخلق شعوراً بالخجل أو الذنب، ويوضح الكاتب في هذا السياق أن اللجوء للثقافة الفرعية الرياضية athletic sub- culture يمثل إطاراً مهماً ونقطة مرجعية للفرد في معرفة ما إذا كان سيُظهِر الألم، ولمن سيُظهِره، أو إخفائه (وفي هذه الحالة كيف يمكنه اخفائه هل من خلال عقاقير طبية أو وسائل أخرى؟). (Bendelow and Williams 1995a:158)
وتؤكد دراسة عالم التخدير الأمريكي “بيكر ” Beecher قضية الارتباط بين المهنة (وبمعنى أدق الخبرة المهنية) والألم، حيث كشف أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الشدة الموضوعية (الفعلية) للمرض أو الإصابة والخبرة الذاتية للفرد بالألم أو عدم الراحة، فقد أجرى دراسته على عينة من الجنود الجرحى، وعينة أخرى من المرضى المدنيين يستعدون لإجراء عمليات جراحية، وكشفت الدراسة أن ثلث عينة الجنود فقط أرادوا إجراءً علاجيًا لتخفيف الألم، في حين طلب 80% من المدنيين نفس الإجراء لتخفيف الألم، رغم أن معاناتهم أقل كثيرًا من معاناة الجنود. وقد فســر “بيكر” ذلك التباين انطلاقًا من فكرة الاختلاف في تعريف الألم في كلا المجموعتين. فالجندي الجريح جاء من ميدان القتال وربما كان بين القتلى، ولذا فإنه يستخف بألم الجراحة، أما المدني فيرى الجراحة حدثًا خطيرًا، ولذا فإنه يبالغ في توقـع الألم. (Mechanic 1978: 265)
والواقع أن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيــا رصدوا العديد من العــوامل الأخــرى المؤثــرة في الألم، كالتعليم والسن، والأشخاص المحيطين به في البيئة الاجتماعية، وهي كما ذكرنا عوامل يرتبط تأثيرها بالمناخ الثقافي العام للمجتمع، فقد اتضح مثلاً أن المرضى الأرقى تعليما يكونون أكثر معرفة بأعراض المرض وبالتالي أكثر توقعًا للألم، والمرضى الأقل تعليمًا يكونون أكثر قلقًا وبالتالي تزداد نسبة استجابتهم للألم، وأن استجابة الفرد للألم تتأثر إلى حدٍ بعيد بالأفراد الذين يقابلهم الفرد في حياته وخاصة في مراحل الطفولة سواء من والديه أو المدرسة أو الأصدقاء، وكشـف “ميكانيك” Mechanic أن اتجاهات الأم وأفكارها تلعب دورًا أساسيا في استجابة الطفل للمرض والألم، وأن الأطفال الذكور لا يبالغون في شعورهم بالمرض مثل الإناث. (عمر192:1993-193)
وقد أجرى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا دراسات متعددة للكشف عن البعد الاجتماعي الثقافي للألم، وسوف نتناول تلك الجهود العلمية في الجزء الثاني من المقال.
المراجع :
- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (د.ت) لسان العرب، دار صادر، بيروت.
- المعادي، زينب (2004) الجسد الأنثوي وحلم التنمية: قراءة في التصـــورات عن الجسـد بمنطقة الشـاوية، غير مبين دار النشر.
- عمر، نادية السيد (1993) العلاقات بين الأطباء والمرضى: دراسة في علم الاجتماع الطبي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.
- مجمع اللغة العربية بالقاهرة(2004) المعجم الوسيط، الطبعة الرابعة، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة.
- Bendelow, G. (1993) Pain perceptions, emotions and gender, Sociology of Health & Illness Vol. 15 No. 3.
- Bendelow and Williams (1995a) Transcending the dualisms: towards a sociology of pain, Sociology of Health and Illness Vol. 17 No. 2.
- Bendelow and Williams (1995b) Pain and the Mind-Body Dualism: A Sociological Approach, Body & Society, Vol. 1, No. 2.
- Johansson, et al.,(1999) The meanings of pain: an exploration of Women’s descriptions of symptoms, Social Science & Medicine, No,48.
- Mechanic, D.,(1978) Medical Sociology, The Free Press, New York.
- Morris, D.,(2010) Sociocultural Dimensions of Pain Management, In Bonica’s Management of Pain, 4th edition, Lippincott Williams & Wilkins, New York.