
تُعد القدرة على توجيه انتباهنا والتحكم فيه والمحافظة عليه أحد أهم القدرات العقلية التي نمتلكها. ذهب «دانيال غولمان» إلى حدّ وصفها «المحرِّك الخفي للنجاح» في كتابه (Focus)، فيما كتبت «وينفريد غالاغر» في كتابها (Rapt: Attention and the Focused Life):
«…. إن حياتك –من تكون وما تفكر فيه وتشعر به وما تفعله وما تُحبُّه– هو مجموع ما تُركز عليه، فلو تمكنت من التركيز على الأمور الصحيحة فقط، لن تشعر بأن حياتك مجرد رد فعلٍ تجاه ما يحصل لك بل ستصبح حياتك من صُنعك أنت، أي، لن تكون حياتك سلسلةً من الأحداث، بل عملًا فنيًّا.»
يُعد التركيز على الأمور الصحيحة، بدءًا من التغلب على اضطرابات القلق والاكتئاب وصولًا إلى تعلم مهارات جديدة أو تحقيق الأهداف الحياتية، أمرًا مهمًّا، وقدرتنا على التركيز هي بمثابة عضلة؛ تمرينها على نحوٍ سليم يزيدها قوة، وإساءة استخدامها يُضعفها.
أحد أهم أسباب إضعاف قدرتنا على التركيز هو الاستخدام المفرط للتقنية الحديثة، لا سيما الهواتف الذكية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذه المقالة سننظر في تأثير هذه التقنيات على قدرتنا على التركيز والنتائج السلبية المترتبة عليه.
حينما نقرر تحقيقَ هدفٍ يتطلب حضورَ الذهن، إن كان تأليف كتاب أو عمل برمجة أو إنهاء المعاملات الضريبية وما إلى ذلك، فإن نجاحنا يكونُ قائمًا على طريقة تعاملنا مع ما يُسمَّى (التشويش على الأهداف) كما يُفسر عالم الأعصاب «آدم غازلي» وعالم النفس «لاري روزن» في كتابيهما (The Distracted Mind):
«يحدث التشويش على الأهداف عندما تتوصل إلى قرار إنجاز هدف معين، لكن ثمة شيء يحدث ويُعيق إتمام ذلك الهدف بنجاح. قد يتولد هذا التشويش إما داخليًّا متمثلًا في الأفكار أو خارجيًّا من خلال المحفزات الحسية؛ كأحاديث الناس في المطعم أو الإشارات الصوتية أو الاهتزازات أو العروض البصرية الوامضة.»
يتخذ التشويش على الأهداف شكلين اثنين: إن كان التشويش عبارة عن شيء يشتت تركيزنا لكنه لا يؤدي إلى تغيير السلوك فإنه يُسمى تشتيتًا. بينما الانقطاعات، على الجانب الآخر، هي أشكالٌ من التشويش تؤدي إلى تغير في السلوك؛ لأنها تغوينا للتحول من المهمّة الأصلية التي كنا نركز عليها إلى مهمَّة أخرى، مثل الرد على الهاتف أثناء كتابة ورقةٍ ما. وعلى الرغم من أن التشويش على الأهداف كان دائمًا أمرًا اضطر البشر للتعامل معه، إلا أن ظهور التقنيات الحديثة أوجد حالة أصبحنا فيها غارقين بمشتتات وملهيات أكثر بكثير من ذي قبل.
يُدرك معظمنا جيدًا أن المشتتات والانقطاعات تطيل الوقت الذي يستغرقه إتمام مهمَّةٍ ما، ومع ذلك فهذا لا يُعد التأثير الأكثر ضررًا للتشويش التقني، إذ يؤثر -أيضًا- تيار التشويش غير المنقطع الصادر من التقنيات الحديثة على جودة أدائنا، بينما في الوقت ذاته يُضعف قدراتنا العقلية اللازمة للمحافظة على التركيز.
إنّ هذا التراجع الهائل في الأداء الناشئ من المستويات المتزايدة من التشويش ناتجٌ عن عجز الدماغ عن أداء عدة مهام في الوقت ذاته. فعلى عكس الاعتقاد السائد، لا يُمكن للبشر معالجة البيانات بالتزامن عند أداء مهام متعددة تستلزم ضبطًا إدراكيًا ذهنيًا من أعلى إلى أسفلtop-down) cognitive control)، بينما يُمكننا مضغ العلكة وكتابة رسالة إلكترونية في الآن ذاته، أو الاستماع إلى أنواع معينة من الموسيقى أثناء القراءة؛ لأن مضغ العلكة والاستماع لا يستلزمان ضبطًا إدراكيًا ذهنيًا من أعلى إلى أسفل. في حين لا يُمكننا كتابة رسالة إلكترونية والتحدث على الهاتف في ذات الوقت؛ لأن كلا الفعلين يتطلبان ضبطًا إدراكيًا ذهنيًا. ولو حاول أحدهم القيام بتلك الأمور في الوقت ذاته فإن ما يحدث هو تحول سريع في الانتباه بين كتابة الرسالة الإلكترونية والحديث على الهاتف. وهذا التحول السريع بين المهمتين الإدراكيتين يظهر في الدماغ في شكل إبدال يقع بين مختلف الشبكات العصبية التي تتحكم بتلك الأفعال المختلفة، وهذه عملية تُسمى (تبدُّل الشبكة العصبية- neural network shifting)
والتبديل المتكرر للشبكة العصبية كالذي يحدث عندما يكون الفرد محاطًا بتشويش التقنية الحديثة يُكلفنا كثيرًا، كما يوضحان «غازلي» و«روزن»:
«إنّ إخفاق دماغنا في إنجاز مهام متعددة على المستوى العصبي يُشكِّل قصورًا كبيرًا في قدرتنا على إدارة أهدافنا. ترتبط عملية تبدل الشبكة العصبية عادةً بانخفاض الدقة في كلتا المهمَّتين وتأخير زمني مقارنة بأداء كل مهمة على حِدة. يمكننا النظر إلى تلك التكاليف كثمنٍ ندفعه مقابل محاولة القيام بأكثر من شيء في ذات الوقت.» (Adam Gazzley and Larry Rosen, The Distracted Mind)
من المهم التأكيد على أن المشتتات والانقطاعات تؤدي إلى تبدّلات في الشبكة العصبية التي بدورها تؤثر على أدائنا. فلو سمعت إشعارًا يُنبئك بوصول رسالة إلكترونية أثناء كتابة ورقةٍ ما وتقرر أن تقرأ وترد على البريد، فإن تحولًا شبكيًّا سيقع، الأمر الذي يؤدي إلى تقليل جودة الأداء. ومع ذلك، مجرد سماع الإشعارات يُضعف الأداء حتى لو لم يتم التجاوب معها؛ لأنه يتسبب في تبدل شبكي عصبي قصير ولكنه مؤثر.
ما يجعل العديد من تلك التقنيات الحديثة ضارة بشكلٍ خاص فيما يتعلق بإضعاف قدرتنا على التركيز والتقليل من جودة أدائنا هو أنها مصممةٌ لإغواء الناس لكي تتفقدها باستمرار. بمعنى آخر، صُممت تلك التقنيات لزيادة التشويش من خلال استغلال ما يسميه «بي إف سكينر»، عالم النفس السلوكي المعروف، «التعزيز المتقطع». إذ كشفت أبحاث «سكينر» أنه «عندما يُعزَّز سلوك شخص ما لبعض الوقت فقط، وخاصة عندما يحدث ذلك وفق جدولٍ زمنيّ متغير، ولا يمكن التنبؤ به، يصبح السلوك ذاته مقاومًا للاندثار.» (Adam Gazzley and Larry Rosen, The Distracted Mind)
يمكننا أن نرى التعزيز المتقطع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المصممة لاستغلال هذا السلوك المُشكِّل للعادة. شبكة فيسبوك مثلًا صُممت موجزاتها بطريقة ديناميكية؛ بحيث تتغير المشاركات باستمرار. وعادةً يكون القليل من تلك المشاركات جاذبًا للاهتمام بينما الكثير منها لا يكون كذلك. هذه الطبيعة الديناميكية لمنشورات فيسبوك تجعل المستخدمين في حالة انجذاب دائم لتفقد المشاركات مع علمهم بأن قلةً منها جديرة بالاطلاع، ومن خلال هذا التعزيز المتقطع، تنشأ العادة غالبًا.
أحد الآثار السلبية الأخرى للتقنية الحديثة على التركيز ينشأ من الكمية الهائلة للمعلومات الظاهرة أمامنا. وبالرغم من أن هذا الوصول اللامحدود للمعلومات يُثمر عن فوائد جمة اعتمادًا على كيفية استخدامنا لها، إلا أنه أيضًا يكلفنا كثيرًا، كما كتب «هيربرت سيمون»:
«إن ما تستهلكه المعلومات واضحٌ للغاية: إنها تستهلك انتباه متلقيها، وعليه، فإن ثورةَ المعلومات تُنشئ قصورًا شديدًا في الانتباه، وحاجةً إلى تخصيص ذلك الانتباه بكفاءة في خضم وفرة مصادر المعلومات التي قد تستنزفه.» (Herbert Simon, Designing Organizations for an Information-Rich World)
مع ذلك لا يمكننا إنكار أن الكثيرَ من تلك التقنيات الحديثة ممتعٌ ويتيح لنا القيام بأمورٍ لم نكن نحلم بها حتى قبل عقود قليلة، ولكن ليست كل مظاهر تقنيات المعلومات الحديثة تنتج منافعًا تَفوق مساوئها؛ وتحديدًا المساوئ التي تؤثر على قدرتنا على التركيز. ولأولئك الراغبين في تحسين مَلَكة الانتباه لديهم ويريدون استعمال تركيزهم بطرق تحسن حياتهم، سنختم بنص من كتاب «كال نيوبورت» الجدير بالمطالعة Deep Work: Rules for Focused Success in a Distracted World:
«إنّ خدمات وسائل التواصل الاجتماعي تلك ليست بالضرورة قوام الحياة في عالمنا المتصل الحديث كما يُسوّق له. إنها مجرد منتجات طوّرتها شركات خاصة وتُموَّل ببذخ، ويُسوَّق لها بعناية وتُصمَّم في الأصل للحصول على معلوماتنا والاستحواذ على انتباهنا وبيع ذلك للمعلنين. قد تكون ممتعة، ولكنها نزوة سريعة في مخطط حياتنا وتشتيت واحد غير مهم وسط كثير من المشتتات التي تهدّد بإبعادنا عن شيء أعمق. أو لعلّ وسائل التواصل الاجتماعي أدوات باتت في صميم وجودك. لن نعرف مدى صحة أيٍّ من الاحتمالين حتى نجرب الحياة بدونها.»