وجود الإنسان نسيج من الواقع والإمكان، يُحاك على نول الزمان[1].
مقدمة:
إذا نظرنا إلى الزمان على أنه ليس سوى دوران عقارب الساعات ودوران الكواكب والأفلاك؛ فإننا لن نجد من المشكلات ما يحدونا إلى التأمل أو التوقف، وكنّا خليقين أن نُمضي العمر دون انتباه لمعنى الزمان ومدى ارتباطه بالوجود. أما إذا حاولنا التوقف للحظة متسائلين عن ماهية الزمان، ما عساه أن يكون؟ كنّا نُحدّق في عيْن شبح الزمان! ذلك الذي قال عنه القديس “أوغسطين”: “ما دام لم يُطرح السؤال فإن الزمان معروف جيدًا، أما إذا طُرح السؤال فلن تعرف ما الزمان، ويستحيل صياغة إجابة”([2]).
تعد مشكلة الزمان واحدة من أُمَّهَات المشكلات الفلسفية التي بدأت مع وعي الإنسان بالكون وصيرورته، وامتدت في الفلسفة والعلم منذ حضارات الشرق القديم مرورًا باليونان ووصولًا إلى المراحل التطورية للعلم من مفهوم الزمان المطلق لنيوتن وحتى الزمكان لآينشتين. وها هي الآن نظرية من آخر صيحات العلم تحاول أن تُزيح نظرية آينشتين التي انطلقت من مبدأ قُصْيَوِيّة سرعة الضوء؛ فكثير من الدراسات المعاصرة غدت تبحث في إمكانية وجود سرعات أكبر من الضوء، وأخرى ترى أن سرعة الضوء ليست كما حددها آينشتين… ومن هنا جاز لنا القول مع هيدجر – دون مبالغة – إن مشكلة الزمان تُعادل مشكلة الوجود، فكلاهما متصلان.
وما دامت إشكالية الوجود نابضة بالحياة ولم تُحسم بعد، فكذلك الزمان سوف يستمر لغزًا عصيًّا على التحديد بشكل قاطع ودقيق لأجَلٍ غير معلوم، ولكن ماذا بعد؟ فما لم يجبنا عنه العلم نابَتْ عنه الفلسفةُ، فلطالما سبقت النظريات العلميةَ المخيلةُ الفلسفيةُ الخصبةُ، كيف يمكن للعقل الفلسفي أن يوضح إشكالية الزمان في الفترة المعاصرة؟ هل الزمان موجود، أم أنه مجرد تصور إنساني لأجل إصباغ معقولية على الواقع والحياة؟ متى بدأ الزمان ومتى ينتهي؟ وما مدى مشروعية طرحنا لهذا السؤال من الأساس؟ وإذا كان الزمان والوجود كلاهما خيطين متضافرين في نسيج واحد كما يذهب هيدجر؛ ألا يمكننا القول: إذا كان الوجود الإنساني ينتهي بموت الإنسان الفرد، أليس من الممكن أن نقول – قياسًا على ذلك – أن الزمان فردي ينتهي بموت الوجود الذي يكتنفه، بحيث يصبح الزمان خبرة فردية مختلفة لكل ذات؟ ولماذا السؤال عن الزمان من الأساس؟ هل يمكن أن يكون ثمة وجود بلا زمان أو زمان بلا وجود؟ وهذا رائد الفضاء الذي يخرج من كوكبنا ويسبح في الفضاء وتتغير لديه معايير المكان والزمان الأرضيَّين، هل يختلف وجوده في الفضاء عن وجوده على الأرض؟ وفي التصور الإسلامي للمكان: “فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”، والذي يعني أنه بموت الإنسان تنزاح عن بصره حُجُب ثقال ليمتد كيفما شاء دون تقيُّد بالمنظور المحدود للرؤية البشرية؛ وبالتالي ينطبق هذا أيضًا على الزمان، هل يوجد وجود خارج المكان وخارج الزمان؟ في ممارسات التأمل الهندية، يكون الهدف هو الخروج بالوعي من أطر الزمان والمكان، حتى إنهم يسمونه التأمل الواعي؛ لأنك تنطلق كوعي مطلق لا يحيّزه مكان “الجسم”، ولا يتقيّد بزمان لأنك غير موجود بالبدن؛ فقد تحررت، ولا تنطبق عليك قاعدة الوجود في زمان. ومعنى هذا أن الوجود يكون أولًا ثم يأتي الزمان الذي يتحكم بشكل هذا الوجود، وبتعبير هيدجر: الوجود يتزمن في الزمان؛ ولذلك نجد في تجارب الصوفية ما يعدونه خروجًا عن الزمان والوجود الجسدي إلى وجود الوعي أو الروح أو النفس؛ فالوجود البشري أولًا، ثم تأتي تحكمات الزمان، وإلا فيما سوف يمارِس الزمان سلطته؟!
هل يمكن للإنسان التمرد على الزمن وتحكماته به؟ ربما تكون هناك إمكانية لذلك عن طريق تعديل طريقة الوجود.. ولكن كيف؟ في العلم المعاصر هناك تجارب تحاول أن تفعل ذلك، وتطيل من عمر الوجود البشري أو تعمل على إيقاف عامل الزمن فيه، فنجد على سبيل المثال محاولات وتجارب عديدة على نقل مخ الإنسان بعدِّه الوعي الذاتي، وبرمجته على آلة يحيا فيها دون الجسد الإنساني المجبر على تحكمات الزمان؛ ومن ثم فهو صورة من صور الخلود بتغيير طريقة الوجود؛ لأن الزمان هو الذي يستطيع إنهاء وجودك. أما التملص من حلبة الزمان فيضمن لك الوجود الدائم (الخلود)؛ ولكن ليس الوجود الإنساني العام، فيمكنك الاستعانة بالتكنولوجيا لتتمكن من تغيير وجودك، كما يمكنك اللجوء إلى تمارين التأمل أو تجارب الصوفية لتصفو بنفسك قليلًا بعيدًا عن تحكمات الزمن وتحيا في خبرات غير محكومة بالزمان، ولكنها محدودة ما لم تستطع أن تبقى بعيدًا عن الجسد الإنساني؛ فحتمًا أن تعود.
يتضح مما سبق أن إشكالية الزمان هي إشكالية للعصور كلها، متجددة ما تجددت الفلسفة والعلم، وما تجدد الوجود الإنساني؛ فهي إشكالية غير قابلة للحسم؛ ولكن يمكننا فقط التقريب بين التصورات والرؤى لاستخلاص أحكمها وأقواها، والتصالح مع وجودنا الإنساني المحدود بالزمان أو الانفلات منه إلى اللازمان إن صح التعبير، أو الأبدية والسرمدية بلغة الصوفية.
هيدجر والزمان: إعادة تشكيل الوعي:
أيمكن أن يكون لزمانية هيدجر ما يفيدنا في عصرنا الحالي؟ ما أسرع وتيرة الزمان الذي نحياه! حتى لتنتابنا أخلاط من المشاعر السلبية دومًا تجاه عدْوِه السريع، وكأنه عدوٌّ لنا يلهث وراء أيامنا باستمرار نحو حتفها. لقد أمسى الزمان عبئًا على الوجود المعاصر، وحشًا من الخوف يبتلع الإنسان، وقلقًا قويًّا يقض مضجعه. ولكن مع طرح هيدجر الفريد لمفهوم الزمانية، سنرى أن الزمان هو نحن، ونحن الزمان، وأننا من نُلقي بأنفسنا في شباك القلق والهم حين نُسيء الفَهم. وللتغلب على إحساسنا بتسارع الزمان علينا أن ننتبه إلى أن ذلك لا يعني أن نحاربه أو ننظر إليه كعدو، وإنما يعني أن نُحسن فهمه ونعيد تشكيل وعينا به لنحيا في وئام ورضًا.
في فكر هيدجر المتأخر يعرض للزمان على أنه من مكَوِّنات الكينونة لا سابق عليها ولا لاحق لها، وإنما هما يوجدان معًا في نسيج واحد، وعلينا الوعي بذلك لنحسن إدارته ونتخلص من مخاوفنا بسرعة انقضائه، التي تجعله فعلًا ينقضي سريعًا فيرتعب الجميع. ولنضرب لذلك مثلًا غاية في البساطة: إن حبات الزيتون إذا تذوقتها طازجة كما هي فسوف يكون طعمها شديد المرارة، ولن يكون هناك متعة في تناولها على الإطلاق؛ ولكن حينما فهِمنا طبيعتها بحثنا عن طريق للتعامل مع الزيتون فوجدنا عملية “تخليل الزيتون” فتحول المذاق المر إلى مذاق رائع نحبه. كذلك هو الزمان، علينا أن نفهمه لنعرف الطريقة المثلى لجلبه في صالحنا لأنه هو بالفعل كذلك.
طبيعة الزمان:
الزمان معروف الآنية – ظهور الوجود دون اتضاح الماهية – على الرغم من عدم معرفتنا بالماهية “ثمة من الأشياء ما هو معروف الآنية وإن كان غير معروف الماهية، والوجود والزمان تصوران من هذا النوع، بل هما نموذجه الأعلى”([3]).
فالناس جميعًا يَعُون الوقت ويتابعون الأحداث، ويعون من اليوم صباحه ومساءه، ومن الأيام أمسها وغدها، يعرفون من الزمان ماضيه وحاضره ومستقبله؛ ولكنهم لا يعرفون جوهره ولا ماهيته الحقيقية؛ ومع ذلك فهو مشترك بين الذوات، فالإنسان يعي جيدًا أنه جاء بالميلاد ليستمر لبعض الوقت ثم يرحل، وأن ذهابه هذا لن يغير شيئًا ولن يتوقف عليه الوجود أو الزمان، وكل ما هنالك أنه سوف يخرج من نسيج الزمان إلى نسيج آخر، ربما الأبدية المطلقة التي قال بها أفلاطون، وربما مجرد سكون، وربما لا وجود بالشكل المتعارف عليه – الكينونة – ويكون اللاوجود نوع من أنواع الوجود في عالم مختلف كما جاهد “هيدجر” في أن يُجلي، وربما هو الجزء الذي يتحرر من الجسد الإنساني ويتحد مرة أخرى بالكل… منبعه الأصلي كما ترى الصوفية.
الزمان المتعارف عليه بين الناس هو المرتبط بدوران الأرض وتعاقب الليل والنهار وفصول السنة، وقد ارتبط الزمان على مر التاريخ بحاجات الإنسان، مثل: الشروق والغروب والعمل المنجز بينهما ومواسم الزراعة والحصاد والجفاف وغيرها؛ ولذلك “تتحدد معاني الزمان أساسًا حسب حاجات الإنسان”([4]).
والزمان نسبي؛ لأنه منسوب إلى الموضع الذي نقيسه منه على الأرض من ناحية، ولأنه منسوب إلى موقعنا في الكون ككل من ناحية أخرى. ولكن المعروف أن الإنسان بالميلاد لا يعي الزمان أو يدركه كما أوضح جان بياجيه: “الوعي بالتزامن والتعاقب هو استجابات يتعلمها الطفل في طفولته”([5]). وربما أوضح لنا هذا أن وجودنا الحالي هو الذي يتزمن في الزمان الحالي أيضًا، وحينما تنهي الكينونة بالموت فسوف تخرج من هذه الزمانية لتلتقي بـ”لا وجود” لا نعلم عنه شيئًا؛ ولكن هيدجر يؤكد أنه لا وجود بلا زمان، ولكل وجودٍ زمانُه.
الخلاصة: الزمان المتعارف عليه بالوقت والأيام والسنين هو المتعلق بدوران الأرض وسائر الأجرام في تتابع وانتظام، أما ما بعد الموت فهو المشكلة الحقيقية التي لم ولن تحسم للأبد؛ لأننا ببساطة لا “نعلم” شيئًا عما ينتظرنا هناك، وما من أحد عاد من هناك – ولن يكون – كيما يأتينا بخبر يقين عما هنالك.
موجز لإشكالية الزمان في الفلسفة:
هناك من المقاربات لمفهوم الزمان في تاريخ الفلسفة توجهات ثلاثة رئيسة، وهي: المذهب الطبيعي، والممثل الأكبر له “أرسطو” وفلاسفة اليونان على اختلاف توجهاتهم. ثم المذهب النقدي، أو المتصل بنظرية المعرفة، وممثله الأكبر “كانط”. ثم المذهب الحيوي مع برجسون([6]).
ففي المذهب الطبيعي، كان التفكير في الزمان ينبني على الخبرة المعيشة في تعاملاتهم اليومية، والتي تقوم بدورها على التكرار والتواتر. وكما أوضح أرسطو: “الزمان نفسه نفكر فيه على أنه دائرة”([7])؛ حيث يأتي النهار يتبعه الليل في تعاقب دوري، وكذلك فصول السنة من الصيف للشتاء في دائرة مكررة ومتعاقبة. ويضعه أرسطو في المقولات العشر التي فسر من خلالها الجوهر، “ونظرًا لأن الجوهر الأرسطي انزاح تمامًا، فيمكننا أن نجعل مقولتَي الزمان والمكان هما المقولة الأولى أو ما يتصدر أعم أجناس الوجود”([8]).
ويتضمن معظم الزمان عند الفلاسفة السابقين على أرسطو، ما جاءت به الفيثاغورية بكونه: “دورة معينة تقوم بها النفس الكلية حول العقل، وبعض آخر يربطه بالحركات الدورية للنفس (الكلية) وعقلها الخاص، ونفر ثالث يربطه بالدورات الدائرية للكواكب. والصيغة الفيثاغورية تضم معًا هذه التعريفات كلها”([9]). فالزمان لديهم عمومًا مرتبط بالحركة، وهو يمثل مقدار هذه الحركة ويقاس بها، وتمثل هذه الحركةُ الحركةَ العامة للكون؛ وبالتالي فهو ليس مرتبطًا بالموجود الإنساني أو متوقفًا عليه؛ بل مرتبط بالنفس الكلية.
أما عند أفلاطون، فمقاربته الفلسفية للزمان لا تختلف عن سائر فلسفته؛ فالزمان عنده مجرد صورة لمثال موجود في عالم المثل، وهو – أي الزمان – متناهٍ في صوره مثل الموجود الإنساني… محاكاة للنموذج السرمدي الموجود في عالم المثل؛ فالزمان ليس أكثر من “الصورة المتحركة للأبدية”([10]).
أما كانط، فلم ينكر موضوعية الزمان، ولكنه لم يعدّه مُعطًى حسيًّا مأخوذًا من أي تجربة؛ بل هو صورة قبلية في العقل ضرورية لأي خبرة معرفية؛ إذ يرى كانط أن “المكان والزمان هما صورتان أوليتان تخلعهما الحساسية على شتى المعطيات الحسية التي ترد إليها من الخارج، دون أن يكون لهما أدنى وجود واقعي في العالم الخارجي، باعتبارهما موضوعين قائمين بذاتهما”([11]).
أما الزمان عند برجسون فهو الديمومة، وهي الزمان الحقيقي، الزمان النفسي الداخلي، أما العالم الخارجي فليس له علاقة، إنما هو فقط المكان الذي يشمل الموضوعات الممتدة فيه.
وعند هيجل، الزمان مساوٍ للمكان، على اعتبار المكان يعبر عن وجود نقطة في الآن، وحينما تخرج النقطة من الآن تأتي نقطة أخرى في آنٍ آخر هو اللحظة التي لا نستطيع أن نمسك بها حتى تفر هاربةً إلى الماضي، أو ما كان، فتأتي أخرى… وهكذا، فهو يرى أن “الزمان مكون من آنات يرفع كل آنٍ منها الآخر… وجود الزمان هو الآن بحسبان أن كل آن ليس بعد الآن، أو أن كل آن كان قبل غير حاضر بعد، أي كان لا وجودًا”([12]).
لماذا هيدجر؟
على مر تاريخ الفلسفة، كانت الأنطولوجيا أو علم الوجود تتعامل مع موضوعات الوجود ومشكلاته من منطلق أن الإنسان موجود، وتعدها مسلمةً أساسية. وجاء هيدجر ورأى رأيًا آخر؛ فالعجيب عنده ليس في الموجودات أو الموجود البشري بقدر ما هو في الوجود نفسه أو الكينونة، الوجود كفعل (أن توجد) وليس كاسم… وكانت هذه سابقة ابتدرها هيدجر، هذه واحدة. والأخرى كانت في عناية الفلاسفة بالوجود الخارجي أو الوجود في العالم، ومحاولاتهم العديدة لإثبات حقيقية الوجود الخارجي وواقعيته، أي الوجود في العالم؛ ولكن هيدجر عصف بهذه القاعدة، بل وقلل من شأنها ما دام وجود الكينونة يوجب وجود محيط توجد فيه، مع اختلاف طرحه عن المحيط. فالكائن موجود هناك، وهذا “الهُناك” يستلزم مكانًا وزمانًا كيما يكون (يوجد) رغم اختلاف تصوراته عنهما. كما كان هم الفلاسفة وشغلهم الشاغل هو الموجود الإنساني، في حين عدّه هيدجر مجرد عتبة لفهم الوجود العام، فما يهمه هو فهم الوجود العام من خلال الوجود الإنساني، والذي لن يحدث إلا من خلال أفق الزمان.
وهكذا، فمنذ بداية الفلسفة وهي تتناول الزمان بصفته حركةً أو آناتٍ، وانبثقاته الثلاثة هي الماضي والحاضر والمستقبل، مع عناية واهتمام كل فيلسوف أو مذهب بانبثاق معين دون الآخر، كالحاضر مثل الحاضرية، أو الديمومة عند برجسون، أو المستقبل باعتبارنا سائرين نحوه. كما تمت المقابلة دومًا بين الزمان من ناحية والسرمدية من ناحية أخرى، بعدِّ هذه الأخيرة تمثل المثال الأعلى من الزمان الإنساني المتعارف عليه. وعلى العكس تمامًا، يأتي هيدجر ويرفض اعتبار زمانية الموجود الإنساني هي الوقت الذي يتحدد في الماضي (ما كان)، والحاضر (ما هو كائن)، والمستقبل (ما سيكون)، وأوضح أن هذا ابتذال للزمانية، وأرجع ذلك إلى الفهم المخطئ لمعنى الكينونة عبر التاريخ الفلسفي، وأن الزمانية هي التحام آنات الزمان الثلاثة معًا مع وضع أهمية كبرى للمستقبل بعدّه أفق الإمكانات التي يشرع الموجود الإنساني (الدازاين) في تحقيقها؛ ذلك أن هيدجر يرى الزمانية طابعًا في الكينونة، داخليًّا فيها وليس خارجيًّا عنها؛ لذلك ألغى فكرة انقسامات الزمن الثلاثة وأرجعها إلى الفهم المخطئ للكينونة عبر التاريخ الفلسفي، كما وحّد آنات الزمن الثلاثة في اللحظة، والتي تعني ما كان سيكون. زد على ذلك رفضه أن يُعَدَّ الزمان الإنساني حدًّا مقابلًا للأبدية أو السرمدية كما ساد التاريخ الفلسفي؛ فليس هناك أبدية أو سرمدية، ولكن المعيار هو لا وجود بلا زمان أيًّا ما كان نوع هذا الوجود.
الزمانية وهيدجر.. طرح جديد:
مما سبق لا يمكننا اختزال الزمان عند هيدجر في التجربة المعيشة مع الزمن الإنساني بساعاته ودقائقه وثوانيه، كما لا يمكننا تحديده أيضًا من خلال التمييز بينه وبين الأبدية؛ ولكن يجب أن ندرك الزمان في حد ذاته بصفته وحدةَ الأبعاد الثلاثة التي يلتحم فيها الماضي مع الحاضر والمستقبل، وهذا هو زمانية الموجود الإنساني المتجه نحو موته، وهو متناهٍ لأنه ببساطة ينتهي بموت هذا الإنسان. وباختصار شديد: الزمانية هي عملية تتوحد فيها انبثاقات الزمان الثلاثة لوصف حركة التناهي البشري وسيره صوب الموت.
جاءت أفكار هيدجر غريبةً لأنها لم تُطرح من قبل، ومداخله للمعالجة غريبة أيضًا؛ فلم يسلكها أحد من قبل، وتحليلاته مربكة لأنها تعصف بالقوالب كلها التي يركن إليها العقل الإنساني في الفهم، ونتائجه مفزعة لأنها تهد أركان اطمئنانه نحو الأبدية؛ فهو لم يعتد – أي العقل – أن تُنتزع منه محدداته ويقف عاريًا ليبحث من جديد.. وهذا عين ما أراده هيدجر، أن يقف عاريًا ويبحث من جديد في الأنطولوجيا بدءًا من تحديد معنى الكينونة لنفهم الوجود، ولن نفهم الكينونة إلا في الأفق الشرعي الوحيد للفهم وهو الزمان؛ لأنها منذ الميلاد وهي متناهية متجهة نحو الموت؛ فالزمانية مبتداها ومنتهاها، واللحظة حيويتها وموضع عملها، والموت تخلي الزمان عنها؛ فلا وجود بلا زمان.
معنى الكينونة:
لفهم الزمانية علينا أولًا فهم معنى الكينونة؛ لأنها هي التي تتزمن في الزمانية. يعيب هيدجر على الفلاسفة نسيانهم لسؤال الكينونة، وانطلاقهم من أن الوجود ليس سوى ما هو موجود، وتجاهل معنى الوجود في الأساس: “إن السؤال المذكور قد ذهب اليوم في النسيان”([13]). على الرغم من محاولة فهمه المرهق من قبل أفلاطون وأرسطو، وعلى الرغم من الابتذال في عرض مسألة الكينونة؛ إلا أن الأمر كما يوضح هيدجر تطور أكثر واستفحل حتى بدا وكأن سائله يقع في خطأ منهجي، فالمبادئ اليونانية لتأويل الكينونة تعد “الكينونة هي التصور الأعم والأفرغ. وبما هو كذلك هو يستعصي على كل محاولة للتعريف. إن هذا التصور الأعم، وعلى ذلك غير قابل للتعريف، ليس به حاجة أيضًا لأن يُعرف”([14]).
فقد عُدَّت الكينونة بأنها “التصور الأكثر كلية”، كما أوضحها أرسطو في المقولات بأنها الجوهر؛ ولكنها فقط وحدها إزاء تعدد المقولات. والتصور الكلي للكينونة، أو عدّها الأعم كليةً، والتي لا تخضع للحد أو التصنيف أو الجنس، لا يعني أنها واضحة، وإنما يعني أن دلالةَ ذلك ربما تكون أن الكينونة هي السؤال الأهم في العرض والإجابة؛ ذلك أن “تصور (الكينونة) لهو على الأرجح التصور الأشد إبهاما”([15])، على الرغم مما يبدو عليه من وضوح، و”عدم قابلية تعريف الكينونة لا تعفي من السؤال عن معناها، بل إنها لتستدعيه استدعاءً”([16]).
لا يريد هيدجر وضع إجابة واضحة عن سؤال: ما الكينونة؟ ولكنه يستغرب استغراب الفيلسوف، كيف تداولها التاريخ الفلسفي على أنها الأكثر كليةً وليس لها تعريف؟ وإنما هو يرى أنه وعلى الرغم مما يبدو للوهلة الأولى من أنه سؤال بلا معنى؛ إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنه غير مهم؛ ولكنه يؤكد بالضرورة أهميته، ولا تقتصر هذه الأهمية على تقديم إجابة أكثر من قدرتنا على نسج السؤال من الأساس: “ليس فقط أن الإجابة على السؤال عن الكينونة مفقودة، بل حتى السؤال نفسه إنما هو غامض وبلا وجهة، وأن تُعاد مسألة الكينونة فذلك يعني: أن يُشتغل على طرح السؤال أولًا ومرة واحدة طرحًا كيفيًّا”([17]).
يوضح هيدجر أن “الكائن” الذي “يكون” هو من يمكننا أن نستجوبه عن معنى الكينونة، كيف أنه يكون؟ وهذا الكائن اصطلح عليه بأنه “الدازاين” أو (الكينونة هناك) فبدلًا عن العرض الفلسفي التقليدي في الأنطولوجيا الذي كان يعد الإنسان في فئة أنه موجود، وهي بالألمانية sien، رفض هيدجر هذا التصنيف وقال إن الإنسان Da-sien، وأضاف (Da) والتي تعد ظرفًا مكانيًّا، فهو ليس موجودًا في المطلق، وإنما هو موجود هناك، كينونة في العالم، في مكان محدد وزمان محدد. فحينما يولد شخص ما، لا يتدخل فيما سوف يحيط بوجوده، مثل: من أبويه وأين سيعيش ولأي بلد سينتمي؟ وإنما يُقْحَمُ في نظام كامل لم يختره. ومعرفتنا بأننا نوجد فجأة في مكان وزمان محددين، وأننا حتمًا متجهون نحو الموت، هو شعور يثير القلق والهم لدينا، فهو على حد تعبير هيدجر: رُمِيَ هناك في العالم. ويقصد هيدجر ذلك الإلقاء بشكل عشوائي في العالم بلا هدف ولا سبب معروف، فقط يشعر الإنسان أنه أُلقِي في العالم وفي الزمان بلا حول له ولا قوة، لا يمكنه الرجوع – إذا كان ثمة مبتدأ أصلًا –، ولا يعرف إلى أين يمضي ولماذا؟ هو فقط يقف في موقع وزمن معيَّنيْن، مرتبط بثقافة وهوية وعائلة، ومعلق هكذا في هذا المحيط، وتكون المشاعر المصاحبة له بطبيعة الحال هي الحيرة والقلق الشديدين والانفعالات العارمة المقلقة بالإحساس بالذنب، وذلك على الرغم من تأكيده، أي هيدجر، بعد ذلك بأن الوجود يحتاج إلى الإنسان لكي يتجلى من خلاله ويفصح عن نفسه.
إنّ “للكائن الذي له طابع الموجود الإنساني صلة – ربما تكون مخصوص – بمسألة الكينونة”([18])، والغريب في الأمر أن الموجود الإنساني هنا أو الكائن المسؤول عن كينونته، والذي يجب أن يتأمل كيف يكون لفهم معنى الكينونة لا ينعته هيدجر بالإنسان، وإنما هو “الكائن” عمومًا، أي كائن يحقق كينونة هناك، وهذا ما يؤكده “فتحي المسكيني” من كون الدازاين هنا ليس له أي دلالة أنثروبولوجية؛ فهو “إشارة صورية إلى بنية كينونة محض”([19])؛ ولكن في النهاية، من ذا الذي يوجد وله كينونة مخصوص، ويعي نهايته، ويوجد في العالم، ومع الآخرين؟ إنه بالطبع الموجود الإنساني؛ ولكن يبدو أن هيدجر يحاول أن يبتعد عن أى منحى أنثربولوجي، وذلك في سبيل تحقيق مسعاه العام في الأنطولوجيا. وربما يكون من الشائع أن الباحث في الأنطولوجيا ينزاح دون إرادته في بعض الأحيان إلى الأنثروبولوجيا، وهذا ما يحاول التأكيد عليه بأنها أنطولوجيا أساسية؛ ولكن لربما تأكيده لنا هو تذكير لنفسه حتى لا ينجرف ولو قليلًا في اتجاه الأنثروبولوجيا، والتي علق عليها أستاذه “هوسرل” بغضبه من تلميذه هيدجر، واتهمه بأن دراسته حولت الفينومينولوجيا إلى مجرد أنثروبولوجيا.
الوجود في العالم:
الوجود في العالم هو الهيئة التي تتخذها الكينونة، والتي تُعد نوعًا من الوجود، وهو الوجود المتعين في شكل كائن: “إن (ماهية) الموجود الإنساني تكمن في وجوده”([20])، والماهية التي يريدها هيدجر هنا هي التي توضح لنا لا “ماذا” يكون، وإنما “كيف” يكون؟ وكيف يكون من خلال وجود في شكل الوجود المتعين هناك: “لا تعبر لفظة دازاين التي نشير بها إلى هذا الكائن عن ماذا هو، مثل المائدة والدار والشجرة، بل عن الكينونة”([21]). يوضح هيدجر أن نمط كينونة الدازاين يتميز بأولوية الوجود على الماهية، مع الوضع في الاعتبار أن الأمر هنا مختلف تمامًا عما هو شائع في الفلسفة الوجودية عن فكرتي الوجود والماهية وأسبقية الوجود على الماهية، فماهية الدازاين تكمن في وجوده، ويوضح “المسكيني” أن نمط كينونة الموجود الإنساني يتميز بأولية الوجود على الماهية.
ومن طباع الكينونة أن الموجود الإنساني يسلك مسالك مختلفة حسب كينونته، فالموجود الإنساني كما يقول هيدجر: “يوجد”، وأن يوجد هنا تشمل كلا النمطين من الوجود: الوجود الأصيل، المهموم بالسعي إلى معرفة معنى الوجود. أو الوجود غير الأصيل، والمنغمس في الحياة اليومية الهارب من معرفة حقيقته ومبتعدًا عن فكرة أنه كائن متجهه نحو موته. فطباع الكينونة هي من حيث الأصالة وعدم الأصالة وهيئة الكينونة هي الوجود في العالم، “وإن المنطق السديد لتحليلية الموجود الإنساني إنما يكمن في تفسير هذه الهيئة”([22]).
لذلك يمكِّننا فَهمُ هيئة الكينونة المتمثل في الوجود في العالم من فَهمِ مقوماتها وحقيقتها، والذي سوف يتأتى لنا من تحليل الحياة اليومية للدازاين: “إن رفع البعد المتبصر عن يومية الموجود الإنساني إنما يكشف عن الكينونة في ذاتها الخاصة “بالعالم الحقيقي” الخاص بالكائن، الذي عنده يكون الموجود الإنساني بعد، من حيث هو يوجد، في كل مرة”.([23]) ويوضح لنا تحليل فهم الكينونة أن التصور التقليدي للزمان بآناته المعروفة الماضي والحاضر والمستقبل ينجم عن نمط الكينونة الزائف والذي يرسخ المفهوم الزائف عن الزمان كونه آنات متتالية، في حين أن هيدجر جعل الكينونة وحدة كلية من مكوناتها الزمان، وهي لا توجد في الزمان ولا قبله ولا بعده، وإنما هي تتزمن في الزمانية؛ فهي جزء من بناء الكينونة الداخلي وليست شيئًا خارجًا عنها قابلًا للقياس.
ولكن كما أوضحنا سابقًا؛ فإن هذا فحسب في حالة نمط الكينونة الأصيل، أما أن تبقى الكينونة في نمط الوجود الزائف فهذا يعني البقاء في ربقة الزمان بالمفهوم التقليدي الذي يحصر الكينونة في وضع مَنْ ليس بيده حيلة. فماضيها لا يمكن العودة إليه، والحاضر يتسرب من بين يديها إلى الماضي، والمستقبل مجهول ولا تعلم إن كان سيكون أصلًا. وللخروج من ربقة الزمان ومن هذا التيه، أوضح هيدجر أن على الكينونة أولًا أن تسلك مسلك الوجود الأصيل، والذي سوف يمكّنها من إدراك حقيقة الزمانية وحقيقة وجودها ورسم مستقبلها بالشكل الذي تريد وتحقيق إمكانياتها. وبشكل موجز، سوف يتعلم الإنسان من فَهم حقيقة وجوده كيفية إدارة هذا الوجود والتحكم به ليصل إلى الهدف الأوحد بالنسبة لهيدجر: فَهم الوجود العام من خلال فهم التجلي الذي يظهر منه في الموجود الإنساني، وإذا كان الموجود الإنساني لا يمكن فهمه إلا من خلال أفق الزمان، فكذلك الوجود العام له زمانيته، وهذا ما لم يكمله هيدجر على الرغم من تصريح ويليام باريت في لقاء تلفزيوني له بأن هيدجر أتم الجزء الثاني من كتابه “الكينونة والزمان”؛ ولكن هناك أسباب حالت دون طبعه([24]).
الوجود في أفق الزمان:
عدَّ هيدجر أن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود، فلو كان الإنسان أو الموجود البشري أو الدازاين هو المرآة التي تنعكس عليها صورة الوجود، فالزمان هو العدسة التي ترفع عنا ضبابية الرؤية، وتسهل لنا النظر في المرآة، ولذلك كان لزامًا علينا عرض معنى الكينونة وهيئتها المتمثل في وجودها في العالم من قبل أن ندلف إلى صُلب الموضوع، وهو الزمانية عند هيدجر؛ لأنه ببساطة علينا أن نجلوَ المرآة جيدًا قبل النظر فيها بعدسة الزمان.
طوال التاريخ الفلسفي، عُرِض الزمان على أنه قائد جبار يتحكم بالإنسان ويسير به إلى حتفه، وكانت الطروحات الفلسفية تتمثل في كيفية التحكم بالزمان أو تطويعه، أو على الأقل فهمه من أجل السيطرة عليه؛ لأنه العدو اللدود للإنسان. حتى الدراسات العلمية الحديثة تسعى إلى إطالة عمر الإنسان، والتحكم بالزمن باستخدام التكنولوجيا، حتى إن آلة الزمن المستوحاة من النظريات العلمية في الدراما، إنما يكون الهدف منها هو تحكم الإنسان بالزمن والسفر عبر آناته الثلاثة المعروفة كيفما يشاء.
لكن هيدجر قدم فلسفة جديدة للزمان؛ فليس هو بالوحش الذي يقضي على الكينونة ويسلبها قوّتها ووقتها، وإنما هو طبع من طباع الكينونة نفسها: يوجد معها، وهو متناه لأن وجود الكينونة متناه أيضًا. والفكرة لا تقف عند السيطرة، وإنما الفهم والإنصات. وعمل الكينونة يتوقف على اختيارها لنمط وجود أصيل يمكنها من فهم كنه الزمن الحقيقي أو الزمانية؛ فالتفهم والإنصات والتقبل والشروع نحو المستقبل لتحقيق الإمكانات التي تمكن الكينونة من الوصول إلى مرحلة تكشف الوجود لها؛ إنما يستلزم صبرًا وترويًا وبَسْطًا لشراع الكينونة لنسائم الوجود، لا السيطرة والتحكم، تلك الرغبة التي كان لها بالغ الأثر فيما آلت إليه أوضاعنا الراهنة بخصوص التقنية التي أصبحت تنكب على السيطرة والتحكم بالمطلق، وهذا ما يحذرنا منه فيلسوفنا؛ فقد أدت هذه الرغبة إلى تشيُّؤ الإنسان وفقده لمعنى وجوده الحقيقي.
ولكن كيف يدرك الإنسان حقيقة الزمان وهو الذي يهرب منه طوال الوقت، ويتعالى عليه بما بلغه من علم وتقدم؟ ولسوف ينبع الحل من الأزمة فيما يرى الفيلسوف؛ ولكن إذا تخلى الموجود الإنساني عن العناد وأصاخ السمع: “كلما زاد اقترابنا من الخطر تبدأ الطرق إلى المنقذ تلمع بجلاء أكبر ونصبح أكثر تساؤلًا؛ ذلك أن التساؤل هو قمة التفكير”([25]). وعلى الموجود الإنساني – من ثم – أن يعي أنه الابن الشرعي للوجود العام لا خصيمه، كما عليه أن يعي أيضًا أن الوجود في العالم مرحلة تليها مراحل، لا عدم وفناء ولا سرمد بالمفاهيم الفلسفية التقليدية، وإنما هي تجلٍّ جديد بشروط جديدة بزمانية مختلفة.
معنى الزمانية:
إن الموجود الإنساني يوجد كـ”كينونة نحو الموت”؛ فالحقيقة المؤكدة أنه كائن متناهٍ، يبدأ بالميلاد وينتهي بالموت، وهو طوال حياته متجهه نحو موته سواء أقريبًا كان أم بعيدًا، مع الوضع في الاعتبار بأنه لا يوجد للموت وإنما يتجهه في وجوده نحو الموت.. والبون شاسع. ويؤكد هيدجر على أن الوجود الإنساني يكتمل بالموت، وهو ليس ممكنًا إلا بوصفه مستقبليًّا؛ فالموجود الإنساني في طريقه إليه، فهو في اللحظة أو الآن الحاضر يشرع إلى تحقيق إمكاناته في المستقبل.
ينفي مصطلح الزمانية لدى هيدجر تصورات الزمان التقليدية باعتباره ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، بل إن هذا الفهم التقليدي إنما هو ناجم عن زمانية الوجود غير الأصيل. ذلك أن الوجود غير الأصيل هو الذي يتزمن هذا الزمان؛ فبقدر ما “يفهم الموجود الإنساني نفسه أول الأمر وأغلب الأمر على نحو غير أصيل، فإنه من الجائز أن يفترض المرء أن “زمان” الفهم العامي للزمان إنما يقدم لنا ظاهرة سليمة ولكن مشتقة. إنها تنبثق من الزمانية غير الأصيلة”([26])؛ ولذلك يرفض هيدجر الفهم الفلسفي للزمان بصفته ينجم عن انبثقات ثلاثة، بل يرجع ذلك – كما أوضحنا من قبل – لأن الأسس التي تُبنى عليها الأنطولوجيا ليست سليمة؛ فهي إنما تنطلق من مسلمات لم تكن بدهية من الأساس، ومنها الزمان، وهذا ما أكده هيدجر بأن مفاهيم “المستقبل” و”الماضي” و”الحاضر” هي في أول أمرها تنشأ عن الفهم غير الأصيل للزمان.
كيف رأى هيدجر الزمان؟ تقوم رؤيته على أن توحيد آنات الزمان الثلاثة في اللحظة والزمان إنما يبدأ من المستقبل لا من الماضي، وأن هذه الكينونة تمر عليها اللحظه تلو الأخرى في مستقبلية دائمة حتى تصل إلى الموت، فتنتهي هيئة الكينونة ككائن في العالم وتنتهي زمانيته. ووضع هيدجر تصورات مختلفة لآنات الزمان؛ فللمستقبل تصور جديد لدى هيدجر: “إنه فقط بقدر ما يكون الموجود الإنساني في عمومه باعتباره أنا أكون – ما – كنتُ”([27])، فالموجود الإنساني لا يستطيع أن يستشرف المستقبل بدون ما كانه، أو ما نقوله الماضي: “لا يستطيع الموجود الإنساني أن يكون ما – كان على نحو أصيل إلا بقدر ما يكون مستقبليًّا. ذلك بأن الكانية إنما تنبثق بوجه ما من المستقبل”([28]). الماضي ليس هو المعنى الفلسفي المعتاد بأنه (ما لم يعد كائنًا)، وإنما هو ما كان في الطريق إلينا في المستقبل. وعلى حد تحليل المسكيني: “وكانية ما كان ليست خاصية زمانية طبيعية، خاصية الآن الذي مر ولن يعود، بل هي طبع وجوداني في زمانية الموجود الإنساني من حيث هو كائن مستقبلي في ماهيته”. والحاضر ليس نقطة في خط الزمان الكيفي، بل هو استحضار لما كان في الكانية ومع ما سيكون في المستقبل، “ومن جهة ما يعود إلى نفسه على نحو مستقبلي، فإن الاعتزام، وهو يستحضر، إنما يضع نفسه في صُلب الموقف. فالكانية تنبثق من المستقبل، بحيث إن المستقبل الذي قد – كان (وبعبارة أفضل: الذي كان – يكون) قد سرح الحاضر انطلاقًا من ذاته”([29]).
وخلاصة الزمانية عند هيدجر أنها استحضار الماضي مع المستقبل في اللحظة، وهذا كله آنٌ واحدٌ وليس آنات ثلاثة، هي سمفونية داخلية متوشجة مع كينونة تتزمن في الزمان. فالزمان عند هيدجر ليس الإطار الذي تقع فيه الأحداث، وإنما هو البنية الداخلية لأنفسنا؛ فالزمانية هي التي تمد الموجود الإنساني بالمعنى الأنطولوجي، الموجود الإنساني يتزمن في الزمان من خلال الزمانية، فهي التي توفر له المعنى الأنطولوجي بوصفه موجودًا في العالم: “إن جملة كينونة الموجود الإنساني بما هي عناية إنما تعني: أن– يكون – بعدُ – متقدمًا – على – ذاته – (في عالم ما) بوصفه كينونة – لدى (الكائن الذي يصادفنا داخل العالم)”([30]).
ونظرًا لأن الكينونة هي أصلًا مستقبلية لأنها متجهة إلى الموت باستمرار؛ فإن “استشراف النفس، المتأسس في المستقبل، على ما هو “من أجل ذات النفس” إنما هو طابع جوهري في وجودانيتنا. فإن معناها الابتدائي هو المستقبل”([31])؛ ولذلك فالتعبير الوجوداني عن حاضر الموجود الإنساني يحدده هيدجر في “اللحظة”، والماضي “الكانية” والاستقبال عن المستقبل، وجمع بين الثلاثة في مركب واحد وموحد وهو الزمانية، وذلك على نحو ما يوضح المسكيني قول هيدجر: “إن الزمان يكون، بل: إن الموجود الإنساني يزمن كينونته بوصفها زمانًا”([32]).
ونخلص من ذلك إلى أن هيدجر وضع تصورات جديدة لانبثاقات الزمن الثلاثة المعروفة، وهي الماضي والحاضر والمستقبل؛ فقد نزع الطابع السلبي الذي يكتنف الماضي بوصفه أنه قد كان ومضى، ووضع له تصورًا آخر وهو “ما كان”. وأصبح للمستقبل أيضًا معنى إيجابيٌّ هو الإقبال من الكينونة نحو حقيقة إمكاناتها؛ وبالتالي أصبح الحاضر هو “ما كان يكون” وهكذا لا يندم الموجود الإنساني على ما مضى ولا يخشى زوال اللحظة الحاضرة ومرورها سريعًا، كما أنه يشرع للمستقبل ليحقق وجوده، وحين يكتمل بالموت يكون قد فعل كل ما كان ينبغي أن يفعله.
تعقيب:
تتسم زمانية هيدجر بطابع كينوني؛ فأينما يكون الكائن فالزمانية ملازمة لطابعه، وليس ثمة زمان موضوعي؛ بل هو داخلي، فالكينونة نفسها تتزمن في الزمان، الذي هو يحدد الكينونة. وكان للزمانية عند هيدجر دور كبير للغاية، بل لها الدور كله؛ فلم يعطِ فيلسوف مثل هذا القدر من الاهتمام لفكرة الزمان، فقد جرت العادة على اعتبار الزمن أمرًا مهمًّا لفهم الموجود البشري وفهم وجوده؛ إلا أن هيدجر عكس الآية، فالزمانية كونها متناهية؛ فالموجود البشري متناهٍ، فأي وجود يجب أن يخضع للزمانية.
وقد أصبح الزمان مع هيدجر هو المعيار حتى للوجود العام الذي يبغيه، وليس الوجود البشري فحسب، وما نظن أن فيلسوفًا قدر الزمان مثل هذا القدر حتى جعله الفيصل والحكم لأي وجود وأي كينونة، وأنت لا تملك الزمان ولا الزمان يملكك كما أنك لا تتحكم به ولا هو يتحكم بك، وإنما تعمل معه الكينونة في تواشج داخلي متوازن، وكون الزمان متناهيًا فالكينونة متناهية، وكل منهما يلزم عن الآخر ويلزم عنه الآخر. وهذه سابقة السوابق لأنها متناهية، وبما أنها متناهية فقد استنتج هيدجر أن الوجود البشري أيضًا متناهٍ، والوجود العام متناهٍ أيضًا؛ وبالتالي فلا وجود بدون زمانية، فلم يعترف بفكرة الأبدية مثل أفلاطون وغيره من القائلين بالوجود اللا متناهي في الأبدية؛ فعند هيدجر لا توجد أبدية، وإنما وجود مختلف عن الوجود في العالم، وحتمًا سيسهم في تشكيله ما حققته الكينونة من إمكانيات في أثناء وجودها في العالم.
وهذه مشكلة كبرى! فلطالما تعزَّى الإنسان عن بؤسه الواقعي وعذابات وجوده باعتبار أن هناك أبديةً تنتظره، ولسوف تنتصر فيها الروح وتنعم، وربما كان هذا أمل الكثيرين لكي يحتملوا ما يمر بهم في حياتهم ويجعلهم يستمرون في الوجود، وهو الأمل غير المؤكد. وهذا ما استخدمه “ديكارت” ليبرهن على انفصال النفس عن الجسد وتمايزهما، وأن الجسد يفنى بينما النفس تظل وتبقى لتحقيق العدالة؛ وإلا فلن يكون هناك مبرر للقيم والأخلاق إن كنا نصير عدمًا.
ولم يعترف هيدجر بأبدية مطلقة وإنما قدم تصورًا جديدًا للعدم؛ ولكن ورغم مفهومه الجديد للعدم بأنه يعني اللا وجود بالشكل المتعارف عليه للكينونة، أي الوجود في العالم؛ ولذلك يؤكد هيدجر أنه باكتشاف الذات الحقيقية وتكشف المعنى الحقيقي للوجود سوف يصل بنا إلى الفهم الحقيقي للوجود.
وفي النهاية كيف يمكن الخروج من ربقة الزمان كما رأى هيدجر؟ الموجود الإنساني في العالم/ الموجود الإنساني، والذي يحيا النمط الأصيل للحياة ويحيا بالانفتاح وتحدث له الإنارة والتكشف، هو من يمكنه الخروج من ربقة الزمان؛ فالإنارة والانفتاح هما الموقع الذي يجمع الزمانية بانبثاقاتها الثلاثة والإمكانية اللامحدودة، ففي الانفتاح تزول الحدود والروابط والقيود، ويكون كل شيء كما تريد الكينونة لأنها سوف تدرك زمانية الوجود.
[1]عبد الرحمن بدوي، (1973)، الزمان الوجودي، بيروت: دار الثقافة، الطبعة الثالثة، صـ3.
[2] يمنى طريف الخولي، (2014)، الزمان في الفلسفة والعلم، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، صـ52.
[3] عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، مرجع سابق، صـ4.
[4] كولن ولسون وجون جرانيت، (1992) فكرة الزمان عبر التاريخ، ترجمة: فؤاد كامل، مراجعة: شوقي جلال، الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد159، صـ9.
[5] المرجع السابق، صـ8.
[6] انظر: عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، مرجع سابق، صـ48.
[7] كولن ولسون وجون جرانيت، فكرة الزمان عبر التاريخ، مرجع سابق، صـ16.
[8] يمنى طريف الخولي، مرجع سابق، صـ13.
[9] عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، صـ51.
[10] كولن ولسون وجون جرانيت، فكرة الزمان عبر التاريخ، مرجع سابق، صـ 17.
[11] زكريا إبراهيم، (1972)، كانت أو الفلسفة النقدية، سلسلة عبقريات فلسفية (1)، القاهرة: مكتبة مصر، طبعة ثانية، صـ71.
[12] عبد الرحمن بدوي، مرجع سابق، صـ20.
[13] مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، (2012)، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولي، صـ2.
[14] المرجع السابق، صـ50.
[15] المرجع السابق، صـ51.
[16] السابق ،صـ52.
[17] السابق، صـ53.
[18] السابق، صـ58.
[19] السابق، هامش صـ57.
[20] السابق، صـ112.
[21] السابق.
[22] السابق، صـ129.
[23]السابق، صـ218.
[24] ويليام باريت: أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك، في لقاء تلفازي تحت: عنوان الفلسفة الحديثة، هيدغر والوجودية الحديثة.
[25] مارتن هيدجر، (2003)، كتابات أساسية، السؤال عن التقنية (4)، ترجمة وتحرير: إسماعيل مصدق، القاهرة: المجلس القومي للترجمة، الجزء الثاني، العدد 505، صـ197.
[26] السابق، صـ 569.
[27] السابق، صـ 567.
[28] السابق، صـ 568.
[29] السابق، صـ569.
[30] السابق، صـ 570.
[31] السابق، صـ 571.
[32] نقلًا عن المسكيني، المرجع السابق، صـ 572.
المصادر والمراجع:
- مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، (2012)، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى.
- مارتن هيدجر، (2003)، كتابات أساسية، ترجمة وتحرير: إسماعيل مصدق، القاهرة: المجلس القومي للترجمة، الجزء الثاني، العدد
- مارتن هيدجر، (2016)، نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، ترجمة: وعد علي الرحية، تقديم ومراجعة: علي محمد اسبر، سوريا: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط
- مارتن هيدجر(1964)، ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا؟ هيلدرين وماهية الشعر، ترجمة: فؤاد كامل عبد العزيز ومحمود رجب السيد، مراجعة: عبد الرحمن بدوي، القاهرة: دار النهضة العربية.
- عبد الرحمن بدوي، (1973)، الزمان الوجودي، بيروت: دار الثقافة، الطبعة الثالثة.
- كولن ولسون وجون جرانيت، (1992) فكرة الزمان عبر التاريخ، ترجمة: فؤاد كامل، مراجعة: شوقي جلال، الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 159.
- يمنى طريف الخولي، (2014)، الزمان في الفلسفة والعلم، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
- زكريا إبراهيم، (1972)، كانت أو الفلسفة النقدية، سلسلة عبقريات فلسفية (1)، القاهرة: مكتبة مصر، ط2.
- زكريا إبراهيم، (1968)، دراسات في الفلسفة المعاصرة، القاهرة: مكتبة مصر، دار مصر للطباعة.
- فتحي المسكيني، (2011)، التفكير بعد هيدجر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟، لبنان: جداول للنشر والتوزيع، ط1.
المراجع والمصادر الإنجليزية:
- John Macquarrie, Edward Robinson (translator),(2019) Martin Heidegger (author) ,Being and time, Martino Fine books.
- Crowell, S. Galt, (2001), Husserl, Heidegger, and the Space of Meaning: Paths Toward Transcendental Phenomenology, Evanston: Northwestern University Press.
- Edwards, P, (1975), “Heidegger and Death as a ‘Possibility’ ”, Mind 84(1):( 546–66).
- Kisiel, T., 1993, The Genesis of Heidegger’s Being and Time, Berkeley: University of California Press.
- Bret W. Davis,(2014), Martin Heidegger: Key Concepts, Routledge.
- Michael Inwood, (2000), A Heidegger Dictionary, Series: The Blackwell philosopher, Blackwell Publishers.
- Michael Wheeler, (2011), Martin Heidegger, The Stanford Encyclopedia of Philosophy, First published Wed Oct 12, 2011.