«البدايةُ هي أهمّ جزء من أجزاء العمل». – أفلاطون
«لكنّ الشبح لا يموت، بل يبقى ويعود». – جاك دريدا
إنّ إشكالية مفهوم البداية، من أين تبدأ أو كيف تبدأ وماذا يعني أن تبدأ؟ هي إشكالية تركت أثرًا واضحًا في الفكر الفلسفي الغربي؛ لأنّه بمجرّد أن يقرّ المرء بوجود بداية، يجب أن يعترف تلقائيًّا بتكاثر المفاهيم التي تولد من هذه الفرضية مثل الولادة والموت والأصل والاختلاف والعودة والتكرار والتذكّر، إلخ. من كلّ هذه المفاهيم تتفرّع سردية تحاول فهم البداية واستيعاب أزمنتها المضطربة. وفيما أنتم تقرأون هذه السطور اربطوا أحزمتكم جيّدًا استعدادًا لرحلةٍ إلى الدوائر الكبرى في تاريخ الفلسفة.
الدائرة الأولى: الإنسان البدائي والمجتمعات الدينية الأولى
ليس من الصعب تخيّل كيف أدّى التكرار دورًا مهمًّا في تصوّرنا لمفهوم المدّة. تأثّر الإنسان البدائي بلا شكّ بالأنماط الحلقية المتعلّقة بأنشطة الحياة. كانت أيامه تتخلّلها طقوس متنوّعة: شروقُ الشمس وغُروبها، والطعام والعمل والنوم والنهوض من جديد. لقد انبثقت عن الحاجة إلى معرفة متى تهاجر الحيوانات، ومتى تُبذَر المحاصيل ومتى يحين حصادها، وأين يجدر بناء المأوى المناسب، إلى تعجيل استيعاب مفهوم مرور الفصول السنوية. وكان النزوع إلى تعقّب هذه الأحداث، الشرارة التي أطلقت أجهزة حفظ الوقت وآليّاته مثل التقويمات وساعة الرمل والساعات الحديثة. وغنيّ عن القول، أنّ أقدم التقويمات كانت تستند إلى مثل هذه الدورات أو الحلقات.
كان التكرار أيضًا جزءًا حيويًّا في بعض المجتمعات الدينية الأولى. ففي المجتمعات الغربية، سمحت طقوس العلاج أو التطهير بأن يتخلّص المرء من الخطايا أو الشوائب ليعود إلى حالته الأولى، أيّ حالته الأنقى. يمكن العثور على تمثيلات مفهوم التكرار في المفاهيم الدينية الشائعة مثل: التناسخ أو التقمّص (Metempsychosis)، أو الولادة الجديدة للذات، وبخاصّة في المجتمعات الوثنية بدءًا من الفراعنة ووصولًا إلى اليونان والهندوس.
الدائرة الثانية: ليس تَحت الشمس جديدٌ؛ العودة الأبدية في الفكر اليوناني القديم
تجلّت المفاهيم الحلقية التي سادت الحياة اليومية والممارسات الدينية لدى الإنسان البدائي في الفكر الفلسفي اليوناني المبكر، لا سيّما الاعتقاد بالطبيعة الدائرية للزمن والتاريخ. في القرن السادس قبل الميلاد، اقترح الفيلسوف أناكسيماندر أنّ كلّ شيء في الكون يُشتقّ على الدوام من المادة اللامحدودة «الأبيرون» ويعود إليها مرّةً أخرى. كما قدّم فيثاغورس نظرية عن التاريخ يكون فيها الزمن لانهائيًّا. في كل هذه التصوّرات الخاصة بالعودة الأبدية، يعود الشيء إلى حالته الأوّلية غير المتمايزة، ليبدأ مرّةً أخرى. باختصار، يعود الأصل إلى حالته الأولى ويتكرّر إلى ما لا نهاية.
إلّا التصوّر الخطّي للزمن الذي تجلّى في نصوص اللاهوتيين العبرانيين والفرس، والإسلام انتصر على مفاهيم العودة الأبدية. إذ لم يعد التاريخ يُنظر إليه على أنّه حلقة متكرّرة لا بداية لها أو نهاية، بل بات يصوّر بخطٍّ متدفّق يرسم بدقة الماضي والحاضر والمستقبل. في هذا التقدّم المتجه نحو المستقبل، كان المرء دائمًا في طور التحرّك نحو نتيجة نهائية محدّدة، لعلَّ أهمها مجيء المسيح وما بعده من أنبياء.
تبنّى اللاهوتيون المسيحيون الأوائل التفسير الخطّي للتاريخ وقاموا بتكييفه مع المعتقدات الأخروية أو الإسكاتولوجيّة. ومع ذلك، لم تكن قضية العودة الأبدية أو الزمن الحلقي قضية نقاش صارم في العقائد المسيحية حتى القرن الرابع مع القديس أوغسطينوس، الذي رأى أنّ التاريخ طريق مستقيم يبدأ من سفر التكوين وينتهي في يوم الدينونة. على طول هذا الطريق، يواجه المرء الأحداث الرئيسة التي ترد في الكتاب المقدس: الخلق من العدم (Ex nihilo)، وسقوط الإنسان، وولادة المسيح، والصلب، والقيامة، والدينونة.
خلال القرون الأربعة التي تلت هذه المحطة، سيطر التصوّر الخطي للزمن على الفكر الفلسفي والديني. ومع ذلك، استعادت المفاهيم الحلقية شيئًا فشيئًا من أهمّيتها وأصبحت تتعايش مع نظيرتها الخطية. التاريخ – وما يتفرّع منه من مفاهيم كالزمن والمدة والوقت – تراجع إلى الوراء في محاولة دائمة لإعادة إنتاج الشيء نفسه أو الحدث ذاته، أيّ إنتاج التطابق. وكانت النتيجة منح امتياز للماضي – بالعودة إلى حالة أصيلة بدائية – مع القليل من الاعتبار لحالة الصيرورة.
استراحةٌ قليلة ودليلٌ إلى الدوائر التالية
لم يصبح التكرار موضوعًا لذاته إلّا بعد ظهور أعمال كركيجارد، ومن بعده نيتشه ومن تأثّر بمطرقته، أعني جاك دريدا وجيل دولوز وميشال فوكو وغيرهم من روّاد ما بعد الحداثة. أوّلًا، وضع كلّ فيلسوف أنساق فلسفية متعددة ومتنافسة تتمحور حول مفهوم «التكرار»، الأمر الذي عقّد قدرة المفهوم الخالص على أن يكون الباعث في استنباط حقيقة قاطعة. ثانيًا، أصبح لكلّ نسخة من نسخ التكرار نماذج خطّية وحلقية تقاربت حتى تلاقت، وفي حين تمخّض عن هذا التقارب حالة هجينة، كان هناك حالة أخرى جديدة تتشكّل. لم يعد التكرار يميّز الماضي من خلال تكريم عودة الذات لأصالتها أو العودة إلى البداية، بل أصبح يتطلّع إلى الماضي والمستقبل معًا وإلى إنتاج الاختلاف أو الأصول.
الدائرة الثالثة: تكرارات سورين كيركيغارد
ما لا شكّ فيه أنّ أحد أكثر النصوص تأثيرًا في المفهوم الحداثي للتكرار كانت ولا تزال نصوص كيركيغارد. يقول والتر لوري، إنّه لا يمكن للمرء أن يجد مصطلحًا أكثر أهمية، وفي الوقت نفسه أكثر إرباكًا في كتابات كيركيغارد من مصطلح التكرار.
يتناول كتاب «التكرار» بشكلٍ أساسي ثيمة «المؤقّت»، وكيفية تدفّق الوقت إلى الأمام بدون توقّف، منتزعًا منّا كل لحظة ثمينة مثل قوة المدّ التي لا تقاوم. إنّنا نسبح بشراسة نحو المستقبل في محاولة لإنقاذ أنفسنا، بيد أنّ الجهد يرهقنا حتى تبتلعنا الأمواج أخيرًا. لكن الهدف من التكرار هنا ليس النظر إلى هذا المصير كما لو أنّه قدر محتوم؛ النقطة المهمة هي أنّنا يجب أن نتعلّم كيف نتحقّق من تدفّق الوقت حتى نتمكّن من استغلاله لصالحنا!
في النصف الأوّل من الكتاب، يقدّم كيركيغارد شخصية قسطنطين قسطنطيوس شارحًا المفارقة بين «التكرار» (gentagelsen)، والمفهوم الأفلاطوني القديم «للتذكّر» (Recollection)؛ إنّ «التكرار والتذكّر لهما الحركة نفسها، ولكنّهما يتدفّقان في اتجاهين معاكسين، لأنّ ما تمّ تذكّره حدث سابقًا، وتاليًا يتكرّر في حركة تقهقرية. في حين يتذكّر المرء ما تكرّر في حركةٍ متدفّقة إلى الأمام».
وإذا كان أفلاطون يدّعي بأنّنا نمتلك أساسيات كل المعرفة التي نحتاجها – وهذا جزء من التركيب الموروث في عقولنا، بحيث يكون الطريق الملكي للمعرفة يبدأ من خلال الحثّ على التذكير أو التذكّر – فإنّ قسطنطين يقول: إنّ العصر الحديث يحتاج مفهومًا جديدًا – وهو البديل عن هذا الطريق – يسمّيه بصيرة التكرار.
إنها لحقيقة غريبة في علم النفس البشري: نسعى دائمًا وراء الجديد، تحت رحمة الزمن وقبضة التدفّق المستمر، غير قادرين على التعلّم أو الاستفادة من التجربة، وغير قادرين على تسخيرها لأغراض تحقيق الذات، أو كما يقول يونغ لتحقيق «التفرّد». أعتقد أن هذا الجانب من علم النفس البشري، هو محور هذا الكتاب وعنوانه الفرعي: «مقالٌ في علم النفس التجريبي».
الدائرة الرابعة: فريديريك نيتشه والعودة الأبدية
يُعدّ مفهوم العودة الأبديّة عند نيتشه أكثر المفاهيم تعقيدًا وأكثرها جدلًا. إنّ عودة الشيء ذاته أو التكرار الأبدي يشبه في الصيغة النيتشوية «الصحوة الفجائيّة» التي نختبرها حين نكون في موقف ما. في البدء تكون مجرد مزاج، ثم تتحوّل تدريجًا إلى فكرة، ولكنها تحتفظ بطبيعتها الرؤيوية – أعني الطبيعة التي توقظ في الذات شعورًا أو حركةً ما.
ماذا لو سرق شيطان بعدك يومًا أو ليلةً في وحدتك الشديدة، وقال لك: هذه الحياة كما تعيشها الآن وعشتها، عليك أن تعيشها مرّةً أخرى لا بل مرّات لا حصر لها؛ ولن يكون فيها شيء جديد، كلّ ألم وكلّ فرحة وكلّ فكرة وتنهّد وكلّ شيء عسير الوصف في حياتك صغيرًا كان أو عظيمًا يجب أن يعود إليك، كلّ ذلك في التعاقب نفسه والتسلسل نفسه ]…[. تنقلب الساعة الرملية الأبدية للوجود رأسًا على عقب مرارًا وتكرارًا، وأنت معها، لست سوى ذرة من الغبار! ألا ترمي نفسك وتصرّ أسنانك وتلعن الشيطان الذي قال لك هذا؟” (The Gay Science, Aphorism 341).
هذه التجربة الفكرية أو التمرين الأخلاقي الذي يقدّمه نيتشه في كتابه «العلم المرح»، تحثّنا على اختبار علاقتنا بالحياة. هل تحتفل بأنّك لا تزال تتنفّس وتتنهّد؟ هل تستمتع بكل لحظة حتى أكثرها ألمًا وتحدّيًا؟ هل تلعن وجودك بمجرّد أن تتعثّر؟ يبدو من خلال مفهوم العودة الأبدية الذي يرتكز على ثنائيّة (الرضى / الرفض)، من الواضح أنّ نيتشه يوصي قرّاءه بالرضى…بتقبّل الحياة، بكل تناقضاتها، بحبّ القدر (Amor Fati).
يكتب نيتشه على حافّة الموت – تلك اللّحظة الأصدق والأكثر حقيقةً – عن تلك العلاقة الشفافة التي تجمع المرح بالأبدية، مرح الطفل الذي يرغب بتكرار اللعبة بعطش لا يرتوي حتى وإن تعثّر وسقط. في العودة الأبدية، فقدان شيء ما ينطوي على ايجاده مرّة أخرى. يجب الاعتراف أنّنا نعيش في مأزق اختيار بين طريقين: الاستسلام ورفض الحياة أو تقبّل التناقضات الثقيلة بفرح مهما تكرّرت. في فكرة العودة الأبدية يمنحنا نيتشه سببًا مقنعًا لكي نجعل من حياتنا رحلةً تستحقّ العيش والحُبّ!
الدائرة الخامسة: جاك دريدا – الطيفية واللاّمتوقّع
إذا كان نيتشه قد ربط التكرار بمفهوم «العودة الأبدية»، بوصفه «قوّة البداية والبدء من جديد»، كما يفسر دولوز المصطلح، فإنّ التكرار في البحث الدريدي يشير إلى منطق آخر، منطق يكتنفه مدلولان (الحضور / الغياب). تكشف قراءة المعمّقة لأعمال دريدا عن أنّ «منطق الحضور» لن يتمكن من الهروب من قبضة الصيرورة أو ما يسميه دريدا: «الاختلاف المرجئ» (Différance). هذا المنطق ليس غريبًا عن التقييم الفلسفي الكلاسيكي، بل قد شاع في النظر إلى مفهوم «الكتابة» – التي ستكون مرشدكم في هذه الدائرة الأخيرة.
في التفسير الكلاسيكي الذي ترتكز عليه أعمال دريدا، تعدّ الكتابة أداة فنية تنشأ من الحاجة أو الرغبة لتوسيع مجال الاتصال للمخاطبين الحاضرين، لا بل أيضًا إلى من هم خارج مجال الرؤية بأكمله وما وراء السمع. وفق هذا التصور، كي تكون الكتابة ظاهرة ممكنة ينبغي أن تكون قادرة على حمل ذاتها إلى نوع من «الغياب المطلق». هل هذا الغياب هو بعد المسافة الزمكانية بين المُرسِل والمُرسَل إليه أم ينبغي توسيع نطاق مفهوم «الغياب» ليشمل، احتمال الغياب المطلق للمُرسِل والمُرسَل إليه – وتحديدًا موته أحدهما أو موت كلاهما؟ هل هذا الموت هو الموت بوصفه ظاهرة تجريبية أم إنّ المقصود موت من نوعٍ آخر؟
من المعروف أنّ اهتمام دريدا ينصبّ على الاحتمال المنطقي وليس فقط على الاحتمال المادي لنصٍّ مكتوب أن يبقى قابلًا للقراءة عندما يكون غياب المُرسِل أو المُرسَل إليه لم يعد نمطًا من الوجود الأنطولوجي، أو غيابًا جذريًّا، أو غيابًا مطلقًا. زعم دريدا أنّ النصّ يعمل في حيّزٍ خارجي، أيّ في منطق غياب «الحاضر الحيّ» لسياق إنتاجه أو وجهته المحددة تجريبيًا. وهذا الادعاء هو جزء مما يعنيه الحضور الشفاف أو شبه-الوجود (quasi-ontological)، وبشكل أكثر عضويةً «أن تكون الكتابة-أثرًا» (Writing as trace).
تقوم هذه الاستعارة المفهومية (الكتابة بوصفها أثرًا) على فكرة أنّ الكتابة لا تتشكّل من وحدات ذات هوية زمكانية محددة، وإنّما هي طبقات من الآثار يكون فيها كل أثر حاملًا لآثار أثر سابق أو لاحق. هذا التكرار يحدث شرخًا في الكتابة حيث يدخل الزمان والمكان في تحديدها، لا لحصرها أو تجميدها، وإنّما لجعلها معلقةً في نشاط إرجاء دائم يختلط فيه الكمون والظهور. في هذا النشاط الهجين، إذا صحّ التعبير، يكون حضور الكتابة حضورًا طيفيًّا كحضور الأشباح. فالأشباح لا هي غائبة (مائتة) ولا هي حاضرة حضورًا أنطولوجيًّا. من هذه الفكرة ينبثق لا متوقّع دريدا، أعني هذا الحيز الذي يسميه الهونتولوجيا (Hauntology) التي تطاردنا كياناتها ونطاردها نحن أيضًا.
وفق هذا المنطق الفانتازي، لا يمكن أن يكون التكرار ما ينبثق من التاريخ ليصعقنا في الحاضر ولا هو عودة المطابق. لأنّ كل مطابقة بدءٌ، ومفاهيم البداية (الولادة الجديدة، التذكر، التناسخ، التقمص) – وإن كانت ذات أشكال دائرية توحي مباشرةً بمفهوم التكرار – إنما هي قاتلة للاختلاف وقامعة للخيال وناحرة للتجدّد والإبداع. التكرار بحسب المنطق الدريدي أوسع من مفهوم العودة، ولن يكون هنا سوى السم والترياق (Pharmakon) مثله مثل الكتابة أيضًا. إنّه كالبقع العمياء أو كسلسة من الفجوات التي تولد الشظايا ثمّ الأثار، والتي يمكن من خلالها أن ينبثق كل ما يقبع تحت الشطب والنسيان والخفاء وكل ما لم يلد بعد.
نصيحةٌ (تفكيكية)
لن يكون لرحلتكم سكون مطلق ولن يبقى محرك القطار يعمل بنشاط دائم، لأنّ جزءًا من معركة الوجود استراحة وهدنة استعدادًا للإقلاع، ومع مرور الوقت ستنسون متى أقلعتم، ربما تكون لحظة الإقلاع هي اللحظة التي توقفتم فيها؛ فهل هي لحظة الإقلاع أم لحظة التوقف؟ منطق عدم التطابق سيطرأ عليه خلل! وستصابون أنتم بالهذيان، ونصيحتي لكم ألاّ تدعوا أشباحكم تختفي، دعوها تطاردكم لأنّ النسيان والكسل والكفّ عن البحث موت، وربما أصعب من الموت نفسه!
المراجع: