للتّحميل بصيغة PDF: الرمزيةُ القرآنيةُ للماءِ – منصة معنى
مُقَدّمة
كتَبَ الشيخُ الأكبر في فُتُوحاتِه أن الرموزَ “ليستْ مُرادَةً لأنفُسِها، وإنما هي مرادَةٌ لما رُمِزَتْ له، ولما أُلْغِزَ فيها، ومَوَاضِعُها من القرآن: آياتُ الاعتبار كُلُّها، والتنبيهُ على ذلك قوله تعالى: (وتلك الأمثالُ نضربها للناس)؛ فالأمثالُ ما جاءتْ مطلوبةً لأنفسها، وإنما جاءت لِيُعْلمَ منها ما ضُربَتْ له، وما نُصِبتْ من أجله مثلا.”[1] وفي الفصوص، يقول الشيخ إن “سِرَّ الحياةِ سَرَى في الماء، فهو أصلُ العناصرِ والأركانِ، ولذلك جعل اللهُ (مِن الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حيّ)، وما ثَمّ شيءٌ إلا وهو حيٌّ، فإنه مَا مِنْ شَيْءٍ إلا وهُوَ يُسَبّحُ بِحَمْد الله ولكن لا نَفْقَهُ تسبيحَهُ إلا بِكَشْفٍ إلهيّ، ولا يُسَبّحُ إلا حَيّ، فكل شيء حي، فكلُ شيءٍ الماءُ أصلُه.”[2]
القطعةُ التي بين أيدينا—الرمزية القرآنية للماء—تشمل الجانبين؛ أولا: مفهوم الرمزية، وثانيا: ما يرمز له الماءُ من معاني في النصّ المقدس، القرآن العظيم. وهي عبارةٌ عن فصل—منشور قبل ذلك كمقال مستقل—من كتاب الأستاذ مارتن لِنجز “الرمز والأنموذج: دراسةٌ في معنى الوجود”،[3] والذي جاء في مقدمته أن الإجابةَ عن سؤال: “ما هي الرمزية؟”—إذا فُهِمَتْ بِعُمْقٍ—تُغَيّر من حياة الإنسان كُلِّيًا، وأنه من الممكن أن يقال إن أغلبَ مشاكلِ العالمِ المعاصرِ نابعةٌ عن الجهل بهذه الإجابة:
The answer to the question ‘What is Symbolism?’, if deeply understood, has been known to change altogether a man’s life; and it could indeed be said that most of the problems of the modern world result from ignorance of that answer.[4]
وقبل الشروع، لابد من كلمات يسيرة عن المصنف رحمه الله. وُلدَ الدكتور مارتن لنجز—الشيخ أبو بكر سراج الدين—في برنج (Burnage) في المملكة المتحدة عام ١٩٠٩، وأمضى طفولتَه في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد إلى المملكة المتحدة، فأكمل الثانوية العامة، ومِنْ ثَمَّ الدراسةَ الجامعية في جامعة أكسفورد، كلية مريم المجدلية (Magdalen College)، والتي تَعَرَّفَ فيها على الكاتب اللاهوتي الشهير لويس (C. S. Lewis). في عام ١٩٣٥ سافر المُصَنِّف إلى ليثوانيا لتدريس الإنجليزية، وبعدها إلى القاهرة، عام ١٩٤٠، حيث عُيّن أستاذا في جامعة فؤاد الأول—جامعة القاهرة الآن—لتدريس الأدب الإنجليزي، إذ كان متخصصا في شكسبير، ويُحبه كثيرا. ولكنه عاد—مع أحداث ثورة يوليو في مصر—إلى بريطانيا عام ١٩٥٢، حيث دَرَسَ البكالوريوس—الثانية—في الدراسات العربية، إضافةً إلى حصوله على درجة الدكتوراه عن أطروحة كتبها حول الشيخ أحمد العلوي، وذلك من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن (SOAS). ثم انضم إلى المتحف البريطاني وعمل أمينا مساعدا، ثم أمينا، على قسم المطبوعات والمخطوطات الشرقية، في الفترة ما بين ١٩٥٥-١٩٧٣. ألّفَ الشيخُ رحمه الله ١٢ كتابا، من أشهرها كتابه عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (Muhammad: His Life Based On The Earliest Sources)، الذي انتشرَ انتِشارا واسِعا، وانتَقلَ إلى جوار ربه سنة ٢٠٠٥، عن ٩٦ عاما.[5] ومن الجدير بالذكر أن المصنف تأثر كثيرا بالفيلسوف فغِتْيوف شوون (Frithjof Schuon)، وكذلك بالفيلسوف الفرنسي جونو (René Guénon)، الذي التقاه أول مرة في القاهرة، ثم لازمه وتوثقت علاقتهما، وقد لخَّصَ الأستاذ مارتن لنجز دورَ مُعَلّمه جونو في هذا العالم بهذه الكلمات التي أنقُلُها بِتَمامها؛ لأنها تعطي تصورا عن فكر المصنف أيضا:
To sum up what his function was, one might say that it was his function, in a world increasingly rife with heresy and pseudo religion, to remind twentieth century man of the need for orthodoxy which itself presupposes firstly a divine intervention, and secondly a tradition which hands down with fidelity from generation to generation what Heaven has revealed. In this connection we are deeply indebted to him for having restored to the world the word orthodoxy in the full rigor of its original meaning, that is, rectitude of opinion, a rectitude which compels the intelligent man not merely to reject heresy, but also to recognize the validity of all those faiths which conform to those criteria on which his own faith depends for its orthodoxy.[6]
وأُحِب أن أشير هنا إلى مركزية القرآن في فكر المصنف مارتن لنجز؛ فَكُتُبُه مليئة بالاستشهاد بالقرآن العظيم—ككتابه اليقين، على سبيل المثال—، ويَذْكُرُ عنه بعضُ من جالَسَهُ كثرةُ دوران القرآن على لسانه، كما أن تأملاته القرآنيةَ عميقة وذات طابع فلسفي، وأزعمُ، والله أعلم، أن كثيرا منها لن تجدها عند غيره، ولكن ذلك لا يعني أنني أتبنّى جميعَ نظراتِه القرآنية، وفي هذا السياقِ يقول الشيخ حمزة يوسف، (واصِفًا لقاءَهُما):
Dr. Lings substantiated his arguments with verses from the Quran. It was evident to me that the outward and apparent meaning of the verses he cited affirmed what he said but his interpretation was certainly not the classical view of the verses as understood by the accepted exegetes of the Quran throughout Islam’s history.[7]
وأختمُ بالأبيات الأخيرة لقصيدة رائعة للمصنف—ضمن مجموعته الشعرية— اسمها “مكانُ اللقاء” (The Meeting Place)، من أجمل ما أنت قارئ:
For man’s first nature is a meeting place
Where two worlds intermingle, yet are not joined:
Towards the Infinite is turned his face,
And winged ones from the soul fly out beyond,
Nor come they back save yet again to go,
Drawn by the inward Deep. The Heavens respond:
Tides of the Spirit flow and ebb and flow.[8]
طارق – كيمبردج
[highlight color=”blue”]الرمزيّةُ القرآنية للماء[/highlight]
إنّ فِكرتَيْ الرحمةِ والماءِ—المَطَر بالتحديد—مُترابِطتان في القُرآنِ مِنْ وَجهٍ. ولابُدّ من إدماجِ فِكْرةِ الوَحي معهُما، والذي يعني حَرفِيّا “الإنزال”. إن الوحيَ والمطرَ كلاهما “مُنَزّلان” من قِبَلِ الرحمنِ، وكلاهما موصوفان في القرآن “بالرحمة“، كما يُقال عنهما إِنّهُما “يَهَبانِ الحياةَ”. هذه الأفكارُ متقاربةٌ بشكل كبير، إلى الحدّ الذي يمكنُ أَنْ يُقال إنَّ المطرَ يُشَكّلُ جزءا أساسيا من الوحي الذي يَمُدُّه،[9] بشكل ما، كي تَصِلَ الرحمةُ الإلهيةُ إلى أقصى حُدودِ الكون من خلال اختراقها عالَمَ المادّة؛ وأداءُ شعيرة الوضوء يعني انتظامَ النفسِ، في العالم المحسوسِ، مع هذا الموجِ من الرحمة، والرجوعَ معه حين يعود إلى الخلف باتجاه الأصل؛ إذْ إنّ التطهيرَ هو عودةٌ إلى أصولنا. وليس الإسلامُ—الذي يعني حرفِيّا “التسليم”—شيئا سوى الاستسلام لجَذْبِ تَيَّارِ هذا الموجِ المُنْحسِرِ.
إن مبدأَ ونهايةَ هذا الموجِ في خزائن الماء، التي هي (عِنْدَنا) (الحِجر، ٢١). وخزائنُ الرحمة كذلك توصفُ بنفس الألفاظ؛ وإنه لَمِن الواضح أن هذه الخزائنَ ليست أقلَّ من المصدر الأعلى للرحمة نفسِه، الرحمنِ، ذي الخير المطلق. والقرآنُ يَتَحَدّثُ كذلك عن النموذج الأصلي الخاصّ به، أمّ الكتاب، الذي هو العلمُ الإلهيُ المحيطُ، ولا يُمْكِنُ فَصْلُ هذهِ الخزينةِ عن خزائن الرحمة تلكَ؛ إذ إنها أيضا تَخْتَصُّ بالرحمن، الذي هو مصدر الكتاب: (الرحمن علم القرآن) (الرحمن، ١-٢). لقد رأينا، فيما تَقَدّمَ، العلاقةَ بين الرحمةِ وبين الفهمِ؛[10] وخزائنُ الماءِ تَتَضَمَّنُ كلا هذين الوجهين للرحمن، لأن الماءَ رمزٌ للعلم كما أنه رمزٌ للرحمة. وقد عَلَّقَ الغزالي على هذه الآية: (أنزل من السماء ماء فسَالتْ أوديةٌ بقدرها) (الرعد، ١٧)، بقوله: “وَرَدَ في التفسير أن الماءَ هو: المعرفةُ والقرآنُ، والأوديةَ: القلوبُ.”[11]
إن التّمايزَ هنا إنما هو في تفاوتِ الأوديةِ من حيثُ سَعَتُها، لا في تفاوت الماءِ نفسِه، الماءِ الذي هَبط مباشرةً من الأعلى ولَمّا يَخْضَعْ بَعْدُ إلى تأثيرات التراب، والحجر، والمعدن. وأما الماءُ الذي يَصْعَد من الأرض فهو، في واقع الأمر، متفاضلٌ، لِكَيْ يَرْمِزَ إلى الأوجه المختلفة للمعرفة، كما في الآية التالية: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) (البقرة، ٦٠). إنّ التفريقَ في هذه الآيةِ ليسَ فَقَطْ تفريقا بين الشّارِبينَ، ولكنّهُ أيضا تفريقٌ فِيما يَشْرَبُون؛ والكلماتُ الخمسُ الأخيرة تُقتَبَسُ بشكل واسع في الأدبيات الإسلامية للدلالة—فيما وراء معناها الحرفي—على حقيقةِ أن كلَ من “يَشْرَبُ” من القرآن يُدركُ المنطلقَ المُحَدّد الذي مَنَحَتْهُ له العنايةُ الإلهيةُ، سواءً كان ذلك فقهَ العبادات، على سبيل المثال، أو اللاهوت العقائدي، أو التصوف. وليس هذا التأويلُ للآيةِ بخارجٍ كذلك عن إطارِ المعنى الحرفيّ، [لاسيما] إذا أَخَذَ الواحدُ بالاعتبارِ أنّ كلَ قبيلةٍ من القبائل الاثني عشر، في إسرائيل القديمة، كانتْ لها وظيفَتُها المحَدّدةُ.
يُؤَكّدُ القرآنُ ضِمْنِيّا—حينما يُخْبِرُنا أنه، عند بدء الخلق، (كانَ عرشه على الماء) (هود، ٧)—وُجُودَ ماءَيْن؛ أحدهما فوقَ العرش، والثاني تحتَه؛ لأن صاحبَ العرش هو الرحمنُ الذي بِيَدِهِ خزائنُ الماءِ، أو بالأحرى، الذي يُشَكّلُ بنَفْسِه هذهِ الخزائنَ. هذه الثنائيةُ؛ مياه الباطن ومياه التّجلي،[12] هي النموذج الأوليّ، ضمن إطار الخلق، للبحرين الّذَيْنِ يَكْثُرُ ذكرُهُما في القرآنِ.[13] إن هذين البحرين، (هذا عذبٌ فراتٌ وهذا ملح أجاج) (الفرقان، ٥٣)، هما، على التوالي، السماءُ والأرضُ اللتان كانتا في الأصل (رَتْقا) (الأنبياء، ٣٠). الرمزُ الصوفيُّ للثلج موازٍ لهذه [الثنائية]، وبِشَكْلٍ ما، مَبْنِيٌ عليها؛ فالماءُ المالحُ والثلج—وهما يُمَثِّلان اللاّ مُتعالي—كلاهما “كَدِرانِ”، وإنْ كان ذلك بطرق مختلفة، مقارنةً بالماءِ العَذْبِ. إنه لمن الصواب أنّ المحيطَ—باعتباره أوسعَ موجودٍ في الكرة الأرضية كلها—له أهميةٌ متعالية تامة. فَحِينَ يَقُولُ القرآنُ: (لو كان الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) (الكهف، ١٠٩)، هو يُخبر [بذلك] أنّ الرمز ينبغي ألا يُقارَن بِمَرْمُوزِهِ، أمّ الكتاب، البحر الذي هو، في حقيقة الأمر، واسعٌ بشكل كاف ليَحويَ كلماتِ الله. بالرغم من ذلك؛ يُؤَكّدُ القرآنُ—من خلال اختياره للبحار الطبيعية، عوضا عن أي شيء أَرْضِيّ، لإقامة هذا المثال—على أنَّ هذهِ البحارَ هي رَمْزُ الرُّمُوزِ لِلَا نِهائية الحكمة الإلهية؛ ولكنها تنالُ هذه الرمزية بموجب حجمها، بِقَطْع النظرِ عن—وبشكلٍ ما، رغما عن—ملوحتها؛ لأن الماءَ العذبَ دوما مُتَجاوِزٌ للماءِ المالحِ في حَدّ ذاتِهِ.
إنّ أهَمّيةَ الرمزِ تَخْتَلِفُ بحسب اعتباره كينونةً مُسْتقِلَّةً أم اعتباره بالنسبةِ إلى رمزٍ آخر. بالنسبة إلى الخَمْرِ، قَدْ يُمَثِّلُ الماءُ—حتى الماء العذب—اللاّ مُتَعالي، أو الأقلّ تَعالِيّا، كَما، عَلى سَبِيلِ المثالِ، حينَ يَذْكُرُ القرآنُ أنّ الصفوةَ يُعْطَوْنَ الخمرَ في الجَنّةِ شَرابا لهُم، في حينَ يَشْربُ عمومُ المؤمنين من عُيونِ الماءِ. هذه العلاقة بين الخمر وبين الماء مشابهةٌ للعلاقة ما بين الشمس وبين القمر، لأن الخمر هو، من وجه، “النار السائلة”، أو “النور السائل”: ولكنّ النارَ والماء—بقدر ما أنهما عناصر—على درجة واحدة، ومن الممكن اعتبارهما مُكَمّلَيْن متساويَيْن. وبناءً على ذلِكَ، يذكر القرآنُ، في وصف آخر للجنة، أنهارا من ماء وأنهارا من خمر من غير تحديد أيّ اختلافٍ في الدّرَجَة. من الممكن القول هنا أن الخمرَ، بكونه “دافئا”، له الأهمية “الموضوعية” للعرفان، إذا ما قُورِنَ بالموضوعية الباردة للماء الذي يمثل الحقيقةَ، موضوعَ العرفانِ. أما حينَ يُنْظَرُ إليهِ في حَدِّ ذاتِه [أي: بمعزل عن أي شيء آخر]؛ فإنّ للماءِ أهميةً كاملةً تتجاوزُ التفريقَ بَيْنَ الذاتِ وبين الموضوع، أو تَتَضَمَّنُ الذاتَ والموضوعَ كليهما؛ لأن الماءَ—بقدر إمكانِ شُربِهِ—رَمْزٌ للحقيقةِ التي “تُجْعَلُ ذاتيّة”، وذاك هو العرفانُ؛ ومن الممكن للماء أن يزعم بالفعل أنه “شرابُ الأشربة”. في كل الأحوال، وأيّا ما كان الشرابُ، فالماءُ دائما أَسَاسُه.
إنّ الآيةَ التاليةَ—التي قد اقْتُبِسَ الجزءُ الأولُ منها فيما يتعلقُ بالعرفان—مُهِمَّةٌ على وجهِ الخصوصِ؛ لتَصْويرِها الفَرْقَ بَين الحقّ وبينَ الباطلِ، أو بين الحقيقة وبين الوَهم: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا […] كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). في ضوءِ هذا التّصْويرِ للزَّبَدِ الذي يَبْقَى ظاهِرا في حين يختفي الماء، من الممكن أن نفهمَ هذه الآيةَ: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الروم، ٧). الظاهرُ هو “زَبَدُ الوهمِ”، بينما ذاك الذي يَفِرُّ مِنّا في هذه الحياة هو “ماء الحقيقة” المَخْفِيّ. إِنّنا نَرى هُنا أَهَمّيةَ النّبعِ الذي يأخذ مكانا مهما في الرمزية القرآنية. إن انفجار عينٍ مائيةٍ—الذي هو إعادةُ ظهورِ ماءٍ مُخْتَفٍ مرسلٍ مِن السماءِ—يشيرُ إلى الانكشافِ المفاجئِ للحقيقةِ الّتِي تَتَجاوَزُ “الظواهرَ”، وإلى الشُّربِ الذي منهُ العرفانُ. ولكنْ إضافةً إلى هذا الترميز الموضوعي-الذاتي، للنَّبْعِ أيضا الأهميةُ الذاتية الخالصة للانفتاح المباشر للعين الباصرة، المُضَمَّنَةُ في كَلِمَةِ عينٍ، التي تعني “النّبْع” و”العين الباصرة” كليهما. هذه الرمزيةُ الذاتيةُ هِيَ، من وَجْهٍ، الأكثرُ أهمية؛ لأنّ السببَ الذي يَجْعَلُ الناسَ يرونَ “زَبَدَ الوهمِ” فقط، هو أنّ قلوبَهم قَسَتْ، أو بِتَعْبير آخر، لأنّ “عينَ القلبِ” مغلقةٌ (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج، ٤٦). وفي آيةٍ مُوحِيَةٍ بِشَكْلٍ كبيرٍ؛ يَدْعُونَا القُرْآنُ إلى أن نَتَصَوّرَ إمكانيةَ وجودِ عينٍ تَنْبعُ من القَلْبِ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) (البقرة، ٧٤).
وُجُودُ بَرزخٍ بَيْن البَحْرينِ، لا يمكن أن يتجاوزاه، يعني أنّ مِياهَ هذا العالمِ لا تستطيعُ أن تفيضَ إلى العالَمِ الآخرِ، وأنَّ المياهَ العلويةَ تَمْتَنعُ عنْ إغراقِ المياهِ السُّفلية بشكل كامل، وتسمح لها بأن تبقى—فيما يبدو—نطاقا مُنْفَصِلا، من غَيْرِ تَدَخُّل مُفْرِط من فوق؛ على كل حال، إلى حين—إعمالا للمصطلح القرآني الذي يكثر تكراره إشارةً إلى فناء هذا العالم وكلِ ما فيه. الاحترازُ [في الجملة السابقة] “مفرطٌ” ضروريٌ؛ لأن المياهَ العلويةَ بطبيعتها لا يمكن مَنْعُها بشكل كُلّي، مِثْلَمَا أنه—عودا إلى الرمزية الصوفية—لا يمكنُ فَصْلُ الماءِ عَن الثَّلْجِ. إِنَّ المياهَ العلويةَ—بما أنها المادةُ الأصليةُ لِكُلّ الخليقَةِ—لا تُحيطُ بهذا العالمِ فقط، ولكنْ تَخْتَرِقُه أيضا، بِصِفَتِها سِرّهُ الكامن الذي سوف يعودُ إليهِ العالمُ في آخر الأمر. ولذلك؛ بالرغم من أنّ المطرَ—وهُوَ يَرمزُ لهذا الاختراقِ—إنما يُنَزّلُ (بِقَدَرٍ معلوم)، إلا أنّهُ مَعَ ذلكَ علامةٌ أو دَليلٌ على السّاعة،[14] أي اليوم الآخر، حينَ يُزالُ الحاجزُ وتُغْرِق المياهُ العليا هذا العالمَ، مُحْدِثةً تغييرا في طبيعته، ومُتَسبّبَةً في إحياء الموتى؛ إذْ إنها مياهُ الحياةِ.
إلى ذلك الحين؛ فَأيُّ وجودٍ للحياةِ في هذا العالمِ يعني أن قطرةً من هذه المياهِ تجاوزت الحاجزَ، ولكنها احتماليةُ محدودةٌ: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) (يونس، ٢٤). إن الحياةَ بأسرها متعاليةٌ بالنسبة لهذا العالم الذي تتواجد فيه، كَدَيْنٍ مُؤَقَّتٍ فَحَسْب، وهي مُسْتَعِدَّةٌ “للتّبَخّرِ” إلى حيث جاءت، كما يعود الماء متبخرا إلى السماء. الحياة هي انتهاكٌ طارئٌ لهذه الأرض من قِبَلِ الما وَرَاء، اختراقٌ سريعٌ لِلنَّفْسِ والبَدَنَ من قِبَلِ الروحِ؛[15] ولكنْ الروحُ ليس “منزلَها” هذا العالمُ—ومِنْ ثمَّ فالحياةُ غيرُ مُسْتَقِرّة للغاية[16]—في حين أنها [أي: الروح] تجد مستقرَّها فعليا في الما وراء: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت، ٦٤).
إذا طُرِحَ السؤالُ: كيف يُمكن الجمعُ بين هذه الرمزيةِ وبين الطوفانِ الذي أخلى الأرض من ساكنيها؛ لا بُد من تَذَكّرِ أَنَّهُ بالرغم من أنّ الذي دفع بالطوفان للحركة هو المطر، إلا أن الكارثة الفعلية مصورة في القرآن كبحر هائج. يقال إن أحد أبناء نوح—الذي غرق—انجرفَ بعيدا بِمَوْجٍ، والماءُ الهائج رمز للباطل والغرور، على اعتبار أن الأمواجَ صورٌ للحدوث والتقلب “غير الحقيقيّين”[17] بالنسبة للماء نفسه الذي يعجزان عن التأثير على طبيعته الحقيقية. من المهم، أنه في آية الظلام (النور، ٤٠)—التي تلي الآيةَ المعروفةَ بشكل أكبر، آية النور، وتقع على مقربة منها—تُشَبّهُ أعمالُ غيرِ المؤمنين—مباشرة بعد أن تمَّ تشبيهُهَا، في بطلانها، (كسراب بقيعة يحسبه الظمآنُ ماءً)—بما هو فعليا ماءٌ، ولكنه أصبح “بشكل حادث” بعيدا جدا عن طبيعته الحقيقية، بحيث يمكن مقارنتُه بالسّراب؛ هو، بالتحديد، بحر مظلمٌ تُحيطُ به العواصف من كل مكان. من الممكن حتى فهم هذه الآية على أنها وصفٌ غيرُ مباشر للطوفان. على أية حال؛ لا شك أن أمواج هذا الطوفان، وأمواج البحر الأحمر التي اصطدمت بالذين لاحقوا بني إسرائيل؛ هي فقط “جزاءٌ بالمثل” للضلال الكبير لمعاصري نوح، ولفرعون وَوُزَرائِهِ. من ناحية أخرى؛ بالنسبة للذي دفَعَ الطوفان للحركة؛ فإن رمزيةَ المطر هنا مُخَفَّفَةٌ ومشروطة بالعدد أربعين الذي يعني الموتَ،[18] أو تَغَيّرًا في الحال. وبناءً عليه، من الممكن أن يُقال إنّ الصفةَ التطهيريةَ للماء لها أولويةٌ، هنا، على صفتِه الإحْيائِيّة. كان تطهيرُ الأرض [استعدادا] لحالةٍ جديدة، مثلما أن بني إسرائيل كان تطهيرُهم بأربعين سنةً يَتِيهُونَ في الأرض. من الممكن لنا أيضا أن نقارنَ هذا مع تطهير الصوم الكبير. كانت مياهُ الفيضان جزءا لا ينفصلُ عن الوحي الذي أوحي إلى نوح [من خلاله] بدين جديد، المرموز له بالفُلْك، وهي بذلك مياهُ الرحمة. ولكنّ أي تَجَلّ للرحمة لابد وأن يكون فَظيعا على أولئك الذين يرفضونه؛ لأنه يؤدي إلى إدراك غايةِ ما في قلوبهم من قسوة، في حين أن المتعالي—بالنسبة لأولئك الذين لم تَقْسُ قلوبُهم—دائما ما يَبْعَثُ على الإجلال، وهذه الخاصيةُ للرحمة يُعَبّرُ عنها بالرعد الذي كثيرا ما يسبقُ المطرَ: (هو الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) (الرعد، ١٢-١٣).
إن التعالي الغامضَ للمياه العلوية، والباعثَ على الإجلال، وكذلك خاصيتها [أي: المياه العلوية] الإحيائية؛ مؤكدٌ في قصة موسى والخضر الغريبة والمختزلة (الكهف، ٦٠-٨٢). يقول موسى ليوشع: (لا أبرحُ حتى أبلغ مجمعَ البحرين). ينطلقان على أنها رحلةٌ طويلةٌ، ولكن يتوقفان للراحة فوق صخرةٍ—غير معلومة لهما—هي الحاجزُ الذي يفصلُ البحرين. لِلَحظة، يضعُ يوشع المؤنَ التي أتى بها، والتي تتكونُ من سَمَكة مُجَفّفَةٍ؛ وفجأةً—إما بسبب القرب الشديد لمياه الحياة، أو لأنّ قطرةً من هذه المياهِ تَقَعُ بالفعل على السمكة—تَنْبَعِثُ فيها الحياةُ، تَنْزَلِقُ من الصّخْرة، وتسبح بعيدا في البحر. لا يلحظ موسى هذا الأمرَ؛ ويُشَتِّت الشيطانُ مباشرة انتباهَ يُوشع—الذي يلحظ ما حصل—لئلا يَذْكُرَ ذلك لموسى، وينطلقان مرة أخرى. بعد مضي وقت طويل، يقترح موسى—المنهك من المسير—أن يَقِفا لِتَناوُل الطعام. يتذكر يوشع أن طعامهما قد ذهب، ويُخْبِرُ موسى عن معجزة السمكة، فيفهم موسى أن الصخرة لابد أنها كانت مجمع البحرين، ويرتدان على آثارهما قصصا. لما عادا إلى الصخرة وجدا هناك (عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما). هذا الشخص غيرُ مُسمى، ولكن التفاسير تخبرنا أنه الخضر، أميرُ الأفراد الخالد.[19] رمزيةُ هذا اللقاء مع موسى مشابهةٌ لرمزية التِقاءِ البحرينِ. يُمَثّلُ الماءُ المالحُ لهذا العالم، كموسى، العلمَ الظاهرَ،[20] في حين أن مياه الحياة مُجَسّدةٌ في الخضر. (قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا؟ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا).
ينطلقان معا، ويقومُ الخضرُ بثلاثة أفعالٍ باطنها فيها الرحمةُ، ولكنَّ موسى—وهو ينظر فقط إلى الظاهر “المَشين” لهذه الأفعال—غاضبٌ جدا، بحيث لا يستطيع أن يمتنعَ عن الاحتجاج بشدة في كل مرة، وفي المرة الثالثة يمتنعُ الخضرُ عن السَّماحِ له بِمُصاحَبَتِهِ مُجَدَّدا؛ ولكنه يشرحُ له—قبل أن يفترقا—حقيقةَ أفعالِه. دراسةُ هذه الآية بالتفصيل ستكونُ خارجةً عن نِطاق موضوعنا؛ ولكنها، على الأقل، مَنَحَتْنا لمحةً عن خداع المسلك الظاهريّ، وعن القرب الشديد لمياه الحياةِ. إذْ إننا أصلا، لو أننا فقط كنا نعلم ذلك، في مجمع البحرين—انظرْ إلى معجزةِ الحياةِ التي هي دَوْما معنا، فِينَا وحَوْلَنا، ولكنّ قوى الوهم تُقْنِعُنا بأن نعتبرَها، في كُلِّيَتها، من المُسَلّمات [أي: ألا نُقَدّرَهَا حقّ قدرها].
في ضَرْبِهِ لنا هذا المثالَ الغريب للغفلة والنسيان—فيما يخصّ واقعةَ السمكةِ المدهشةَ—يكشف لنا القرآنُ تَبَلّدَ السلوكِ الإنسانيِ، بشكل عام، تجاه الحياة. هنالك فقط حياةٌ واحدة، حياةُ الأحياء، بدرجات متفاوتة من الإشعاع، مع اختلاف طفيف في الكثافة بين الإكسير القوي الذي يكفي لإيقاظ سمكة جافة، وبين الإكسير الأقل القوة، الذي يكفي لجعل الأحياء يستمرون في عَيْشِ وجودهم الأرضي المؤقت (إلى حِينٍ). بالتالي؛ فإنه من القصور الكبير أن نَتَعَجّبَ من أحدهما، في حين لا يُحَرّكُ دهشتَنا الآخرُ. لا يمكن أن تُوجد حكمةٌ حقيقيةٌ لا تتضمنُ الاستبصارَ الحاصلَ من رؤية الحياة على أنها المعجزةُ التي هي عليها؛ تدخلٌ فوق طبيعي لا يمكنُ أن تزعمَ الطبيعةُ أنه ظاهرةٌ طبيعية خالصةٌ. يخبرنا السيد العلوي أن السرَّ الإلهي، معجزةَ الحياة؛ يُفْلِتُ منا بسببِ تعاليه المتناهي. إنه معنا ولكنه في نفس الوقت بعيدٌ عنا كليا.[21] إن الطريق الروحي، من أحد الأوجه، ليس رحلةً بقدر ما هو انسجامٌ تدريجيٌ للنَّفْسِ مع حضور الروح، تواءمٌ تدريجيٌ بين الطبيعي وبين فوق الطبيعي، بين المياه السفلية وبين المياه العلوية، بين العقل وبين الإدراك، بين موسى وبين الخضر.
في الختام، لننظرَ في قطعةٍ أخرى ذات صلة، من قصة سليمان وملكة سبأ (النمل، ٢٠-٤٤). يرسلُ سليمانُ إلى الملكة [رسالةً] مِنْ أجل أن يَنْقُلها إلى الدينِ الحقِّ، وبينما هي وحاشيتها في طريقهم، يقولُ سليمان للجمع المحيط به من الإنس والجن: (أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟). يوضع العرش مباشرة أمامه، ويعطي تعليماتِه بأن يُنَكّر العرشُ: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ. وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ. قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فحوى ما تقوله لنا هذه الروايةُ، المقتضبةُ جدا، هو أن سليمانَ وضع بلقيس—إذ إن هذا هو اسم الملكة—في اختبارين. لم تنجحْ فيهما، ولكن إخفاقَها أَذْهَبَ مقاومَتَها للحقّ كليا. هذا، في نفسه، لا يحتاج إلى تعليق. إنه من الصحيح أن الأخطاء المذكورة هي، في ظاهر الأمر، أخطاء بريئة تماما. بالإضافة لذلك، وفيما يتعلق بالعرش، تبدو أنها تستطيع أن تنظر—على الأقل بشكل جزئي—من خلال التمويه، وإلا لكانت إجابتُها لا، بكل بساطة. ومع ذلك؛ من السهلِ تَصَوّرُ أنّ الوعيَ بالخطأِ قد يكون له أثرٌ عميقٌ على النفسِ، بشكل لا يتناسب إطلاقا مع طبيعة الخطأ. ولكن البساطةَ الظاهرية لأحداث القصة، لا تُمثّلُها التعليقات القرآنية الجادة عليها، ولا عمق الدروس المستفادة. إننا ملزمون بأن نظن أنّ القضيةَ هنا ليست قضيةَ خطأٍ بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما القضيةُ هنا هي أن الطبيعة الخاصة للخطأ لها أهمية كبرى. في الحالتين؛ كان الشأنُ هو الإخفاقُ في اختراقِ التّمويه. ما قاله سليمانُ عن غرضه من تنكير العرش يمكن صياغتُه كالتالي: سننظر إن كانتْ تخترقُ إلى حقيقة الأشياء، أم كانت مِن الذين يَقِفُون عند “زَبَد” الوَهم. من الممكن تطبيقُ هذا التأويلِ كذلك على التمويه الثاني المتعلق بالصَّرْحِ. إن “الزبد” في هذه الحالةِ هو توَهُّمُ وجودِ الماءِ في حين أنه فعليا غيرُ موجود. ولكنْ، ما هو العلمُ الذي أوتِيَهُ سليمان مِنْ قَبْلها، والذي كان شرطُهُ إسلامَها لله؟ لا يمكن أن يكون [هذا] العلمُ، بكل بساطة، ما تقوله الكلمات حرفيا؛ أي علمه بأن العرش هو في حقيقة الأمر عرشُ سبأ، وبأن الصرح كان بِالْفِعْل صرحا مُمَرَّدا من قوارير. هذا العلمُ لا يعطي مزيةً لسليمان، مثلما أن عدمَهُ ليس مثلبةً لبلقيس. ولكننا أُعطينا مفتاحا [للإجابة عن هذا السؤال]، وذلك في السبب الذي به صُدَّتْ عَنْ عبادة الله، وهو عبادتها لِلْآلهة الباطلة. إنه بِسَبَب اتخاذها الوهمَ حقيقةَ؛ اعتقدت الحقيقةَ وَهْما، بمعنى أنها ظنت أن التطابق هو مجردُ تشابهٍ مخادعٍ. بَعْدَ بَيَانِهِ هذا الخطأَ الأخيرَ—لأنه بالرغم من أن القرآن لا يخبرنا ذلك، إلا أنه لابد أن نفترض أن سليمانَ يُخبر بلقيس أن العرش، في حقيقة الأمر، ليس عرشها، وأن ما اعتقدت بأنه ليس أكثرَ من مشابهة مُبْهَمَةٍ هو في واقع الأمر مطابقةٌ—يَنْطَلِقُ سليمانُ لِيُبَرْهِنَ عَلَى الخطأ المقابل الذي هو سبب الخطأ الأول. وذاك عبادتُها الآلهةَ الباطلةَ، وتَخَيّلُها وجودَ الإله في حين أنه في حقيقة الأمر غيرُ موجود. هنا يكمن ما يمكن تسميتُهُ المعنى المجازيَ للآيات المذكورة فوق. لابد أن نتذكرَ أنه حين أُنْزِلَتْ هذه الآياتُ؛ كان النبيُ صلى الله عليه وسلم يمر بصعوبات عظيمة لأن كبراء مكة كانوا مَعْمِيِّينَ عن أن الحق كامنٌ في رسالته، بسبب إيمانهم المغلوط بوجود الحق في مكان آخر، [وذلك] في عبادتهم الخاصة للآلهة الباطلة. في القرآن آياتٌ أخرى كثيرة تروي، بنفس الطريقة، حادثةً تاريخيةً مشابهة، بشكل أو بآخر، للوضع القائم في الجزيرة العربية بدايات القرن السابع. يُمَثّلُ سليمان هنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وتمثلُ بلقيس في نَفْسِهَا مَجموعَ الرؤساءِ الآثمينَ لعشائرِ قريشٍ، [الرؤساء] الذين لم يستسلموا للإله الواحد الحق، بِسَبَبِ تَوَرّطِهم مَعَ جمع من الآلهة الباطلة. ولكن هذا التوبيخَ المجازي لكبراء مكة، ومثال التوبة الذي يقدمه لهم [أي: من خلال بلقيس]؛ يُبْقِي مجالا لتفسيرٍ أعمق، تفسيرٍ يُلقي الضَّوءَ على بعض التفاصيل التي لمْ يَسْتَطِعْ المجازُ أن يأخذها بعين الاعتبار.
إن العرشَ الأعلى يَقَعُ تحتَ ساكنِهِ، ولكنْ من الممكن أن يُقالَ—من خلال قياس العكس—أنّ كلّ عرشٍ أرضيٍ مُتَجَاوزٌ للملك الذي يجلس عليه، كما يُمكنُ مُشاهدة ذلك مُصَوَّرا فِي خاتَم سليمان، إذا اعتبرنا أعلى المثلث ساكنَ العرشِ، واعتبرنا قاعدَةَ المثلثِ العرشَ. وِحدةُ العرش، وديمومتُه من الأهمية بمكان بالنسبة لتعاليه: فالملوك يأتون ويرحلون، ولكنَّ عرشَهُم يبقى—في وضع مثالي—ثابتا إلى الأبد. مسألةُ عرش سبأ ليست هي ذاك الجزء من [هذه] القصة القرآنية المتصل بشكل مباشر بموضوعنا، ولكن لا يمكن تنحيتها جانبا، [إذ إنها] تُبرِزُ نقطةً ذات أهمية بشكل عام، وهي أن رمزا يمثل المتعالي، من الممكن أن يُقَال إنه يَنْفَتحُ اعتباريا على المتعالي المطلق.[22] إن أعلى البحرين ليس إلا الجزء العلوي من الكون بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ولكنّ مياهَ الحياةِ هذهِ—عند النظر إليها من أسفل—ممتزجةٌ بخزائن الماء، النعيم غير المتناهي. من الممكن أن يقال الآن—بما أن هناك تشابها معينا بين ثنائية السماء-الأرض (البحرين)، وبين ثنائية العرش-الملك—إن العرشَ يشيرُ، ليس فقط إلى سلطة السماء، ولكن أيضا إلى مصدر تلك السلطة، المَلِك المُقَدَّس، وبالتالي، وأخيرا، الذات العليا.
عندَ النّظرِ في الاختبارِ الأولِ الذي عَقَدَهُ سليمانُ، لابُدّ ألا يُنْسى أنّ بِلقيس مَلكةٌ. وبناء على ذلك لابد من اعتبار زَلَّتِها الأولى، بكل دقة، على أنها زَلَّةُ مَلِكَةٍ أَخْفَقَتْ فِي التَّعَرّف على عرشِها؛ النظرُ إليها من هذا المنظور يعطيها بُعدا أكثر أهمية. بالإضافة لذلك—مثل زلات موسى ويوشع بخصوص معجزة إحياء السمكة المُتَيَبّسة—فَلِلْحادثة المتعلقةِ بالعرش تَطْبِيقٌ أَعَمّ، إذ إنّ كلَّ إنسانٍ هو بطبيعة الحال مَلك الأرض، وبالتالي ذو عرش يُمَثِّلُ سُلْطَتَهُ مِن السَّمَاءِ. حتى في الأزمنة المتأخرة، مازال الناسُ واعين بكونهم ملوكا، بقدر امتلاكهم قوى الإدراك والإرادة التي تتجاوز، بما لا يقبل المقارنة، نظائرَها عند المخلوقات الأخرى؛ ولكن الأغلبيةَ، تقريبا، في حالة من الحيرة والشك بخصوص عَرْشِهِمْ، وغافلون، تقريبا، عن أنه بالرغم من كون السلطة دائما محجوبة عنهم أو “منكرة”، إلا أنها دائما هي نفسها [أي: لا تتغير]. بعبارة أخرى، لم يعودوا ملوكا إلا اعتباريا؛ هُم غاصبونَ في الحقيقة، لأنّ الملكيةَ الصحيحة تقتضي، إن صح التعبير، اتصالا حيويا بين المَلِك وبين العرش. بالنسبة لِلْمَلِكِ الكاملِ، تُمَثّل تلك السلطةُ—لا ذاتِيّتُه الإنسانية—أناه الحقيقيةَ، التي هي بِمَعِيّة النفس القُدسية. إن الفشل في التعرف على العرش هو، إذن، خرقٌ للمبدأ العرفاني اعرف نفسَك، في حين أنّ تحقيقَ هذا المبدأ هو العلمُ الذي أُوتيَهُ سليمان، والذي شرطُه الإسلامُ في أعلى معانيه، وهو انطماس الأنا الإنسانية أمام الذات العليا.
إن الكلماتِ المُحَدَّدةَ التي أجابَتْ بِها بلقيس عن السُّؤال المُوَجّه لها، مهمةٌ بشكل دقيق في هذا السياق—دقيقةٌ لأن فيها تمويها مُشابِها، من أحد الأوجه، للتمويه الذي حصل للعرش. إنه من الجائز أن يُقالَ، على سَبيلِ المثالِ، إنه في جُمْلَةٍ مِن نحو “لما سُئِل الرجل الأعمى عن لون الثلج، أجاب بأنه أسود” = الكلمةُ “أبيض” حاضرة بشكل خفيّ، لأن العقلَ مُجْبَرٌ على تَصَوُّرِهَا. وعليه؛ حين سُئِلت الملكةُ: (أهكذا عرشك؟) وأجابت خطأ: (كأنه هو)؛ فإن الجواب الصحيحَ هو كذلك مدفوعٌ إلى عقولنا، وذلك “إنه هو”؛ وهذه الكلمات هُوَ هُوَ (والتي هي حرفيا مُذَكّرَةٌ، لأن العرشَ مُذَكّرٌ) هي الصيغةُ العربيةُ للتعبير عن المطابقةِ، وفوق كل شيء، ومن الناحية الطقوسية،[23] [للتعبير عن] المطابقةِ العليا.
بالنسبة لاختبار سليمان الثاني، والذي يُبَيّنُ لماذا لم تستطع التعرفَ على عرشها؛ يبقى المعنى عموما هو نفسُ التفسير المجازي [السابق]. غير أنه هناك [أي: في الحالة الأولى]، الحق باعتباره موضوعا هو الذي يبدو حاضرا ولكنه في حقيقة الأمر غائبٌ، بينما القضية هنا [أي: في الاختبار الثاني] هي الحق بمعنى الحقيقة الذاتية. كلا الحالتين تُذَكِّرانِنَا بالآية المذكورة سابقا، والتي تُشَبّه أعمالَ غير المؤمنين بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؛ وسَيُفْهَمُ من هذه الآيةِ، ومن الأمثلة الأخرى المتعلقة برمزية الماء، لماذا كانت استراتيجيةُ سليمان ناجحةً بشكل كبير [وذلك على النحو الآتي]: حين ترفعُ أَرْدِيَتَها كيلا تَتَبَلّلَ، وتَخطو فوقَ البلاط الزجاجي للصرح؛ فإنّ الاحتكاكَ المباشر لقدمها بِضِدّ ما تَوَقَّعَتْ، يُمَثّلُ تجربةً—محسوسةً بشكل مباشر—للوقوع في الخطأ، تجربةً كافية في نفسها لإحداث أثر “سيميائي” كبيرٍ على النفس؛ ولكنّ وعيَها بأنّ الخطأَ متعلقٌ، تحديدا، بالماء يفاقمُ من هذا التأثير بشكل هائل. وبالتالي فإنّ رؤيتها الكليةَ—والتي قد اهتَزَّتْ أصلا بخطئها الأول—تَتَحَوّلُ، في لحظةٍ، من الضلال إلى الاستقامة، بِسَبَبِ صدمةِ اكتشافِ غيابِ “الماءِ” في المكان الذي كانت تعتقدُ وجودَه فيه. وفي الكلمتين الأخيرتين من قولها أسلمتُ مع سليمان؛ إشارةٌ إلى أنه لابد مِنْ فَهْمِ استسلامِها كما يُفْهَمُ استسلامُ سليمان في أعلى معانيه، وذاك فناءُ النفسِ أمامَ النفس، وهو شَرطُ العرفانِ.
[1] محمد بن علي ابن عربي، الفتوحات المكية، بتحقيق عبد العزيز سلطان المنصوب (الجمهورية اليمنية: وزارة الثقافة، ٢٠١٠)، المجلد ١، ص. ٥٥٣.
[2] محمد بن علي ابن عربي، فصوص الحكم، بتحقيق أبو العلا عفيفي (بيروت: دار الكتاب العربي)، المجلد ١، ص. ١٧٠.
[3] Martin Lings, “The Quranic Symbolism of Water” in Symbol and Archetype: A Study of the Meaning of Existence (Cambridge: Quinta Essentia, 1991), pp. 67-82.
[4] Martin Lings, “The Quranic Symbolism of Water” in Symbol and Archetype: A Study of the Meaning of Existence (Cambridge: Quinta Essentia, 1991), p. vii.
[5]Gai Eaton, “Martin Lings Islamic scholar concerned with spiritual crisis” in The Guardian, Fri 27 May 2005 (https://www.theguardian.com/news/2005/may/27/guardianobituaries.obituaries).
[6] Martin Lings, “Introduction” in The Essential René Guénon Metaphysics, Tradition, and the Crisis of Modernity, edited by John Herlihy (Bloomington: World Wisdom, Inc. and Sophia Perennis, 2009), pp. xvii- xxvii.
[7] Hamza Yusuf, “A Spiritual Giant In An Age of Dwarfed Terrestrial Aspirations”, Q News, no. 363, June 2005, pp. 53-58, 55.
[8] Martin Lings, Collected Poems Revised and Augmented (Cambridge: Archetype, 2002), p. 56.
[9] بعيدا مِنْ كونه صورةً “محسوسة” اختارها الإنسانُ اعتباطا لِيُصَوِّرَ فكرةً ما “مُجَرّدةً”؛ إن الرمزَ، كما رأينا، هو التمثّلُ، بصورة دُنيا، لِلحقيقة العليا التي يرمز لها؛ تمثلٌ وثيق الصلة بما يرمز إليه كما هي علاقةُ ورقة الشجرة بأصلها. وعليه فإن الماءَ هو الرحمةُ؛ وسيكون من الصحيح القول—حتى من غير أي فهم للرمزية، ومن غير الإيمان بالمتعالي—إنّ الانغماسَ في الماءِ له أثرُه الحتميُّ على الروح بالإضافة لتطهيره الجسدَ. قد يكون هذا الأثرُ كله— حين تغيبُ نيّةُ التّعبُد—لحظيا وسطحيا، إلا أنه بالرغم من ذلك واضح—تقريبا—على وَجْهِ أي مُغتسل يخرج من بحيرة أو نهر أو بحر، مهما كانت سرعةُ انطماسِ هذا الأثرِ عند استئناف “الحياة العاديّة.”
[10] انظر الصفحة ٤٤ [يحيل المصنف هنا إلى صفحة سابقة في الكتاب].
[11] أبوحامد، محمد الغزالي، مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار، شرح ودراسة وتحقيق الشيخ عبدالعزيز السيروان (بيروت: عالم الكتب، ١٤٠٧/١٩٨٦)، الصفحة ١٥٩ [أحال المصنف على اسم الكتاب فقط، و نَقَلْتُ من الكتابِ الأصل].
[12] في سِفر التكوين كذلك؛ الماءُ هو المادة النقية الأولية للكون: وروح الله تحوم فوق المياه.
[13] مثل ذلك أيضا في سِفر التكوين: وفَصَلَ المياه.
[14]( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (الحج، ٥-٧).
[15] الحديث عن الموت بأنه “التَّخلي عن الشبح” صحيحٌ تماما؛ لأن الحياةَ هي حضورُ الروح، وبالتالي هي متجاوزةٌ بشكل كلي، مما يجعلها تتحدى أيَّ تحليلٍ علميّ.
[16] الرمزُ العظيمُ للحياةِ، هو أيضا الأكثرُ اضطرابا في أغلبِ الأماكن على وجه الأرض، لاسيما في تلك المناطق التي نزل فيها الوحي القرآني أول مرة.
[17] الثلج والأمواج متشابهان كرموز، حيث إنهما يمثلان، على التوالي، الجمودَ (أو الصلابة مع قابلية الكسر)، واضطرابَ هذا العالم المنحصر في الظاهر.
[18] الحرف العربي ميم يمثل الموت، ويحمل القيمة الرقمية ٤٠. ولكنْ هذا الحرفُ، وهذا الرقمُ، فيهما أيضا معنى المواءمة والعودة للأصل. يقال إن شيث استطاع العودة إلى الفردوس الأرضي، وإنه بقي هناك مدةَ أربعين عاما. انظر:
René Guénon, The Lord of the World (Ellingstring, Yorkshire, 1983), chapter 5.
[19] هؤلاء هم الأفراد القلة الاستثنائيون، المُسْتقلّون عن أيّ دينٍ معينٍ، إلا أنهم يُمَثّلُون الدينَ في أعلى تجلّياته، هم بشكل ما—من غير جهد من طرفهم، ولكن من خلال طبيعتهم الذاتية—”ارتداداتٌ” إلى الحالة الأولية للإنسان، الغاية التي هي وظيفةُ الدينِ أن يَسْتَعيدَها.
[20] القرآن هنا، إن صح التعبير، يستخرج من موسى جانبا واحدا فقط ليوازي رمزيةَ المياهِ السفلية، متجاوزا جوانبَه الأعلى مقاما، التي هي محورُ آياتٍ أخر.
[21] انظر:
Martin Lings, A Sufi Saint of the Twentieth Century, p. 134, note 1.
[22] هذا، من كل الاعتبارات، مبدأٌ كونيٌ له أعلى أهمية عَمَلِيّة. في الهندوسية، على سبيل المثال، من الممكن النظر إلى شيفا وفيشنو على أنهما المطلق، بالرغم من أن مَحَطَّتهما في سُلّم التراتبية تقع في مستوى أعلى البحرين.
[23] انظر القصيدة المذكورة أعلى في الصفحة ٥٧ [يشير المصنف هنا لقصيدة مذكورة سابقا في الكتاب]، وكذلك:
A Sufi Saint of the Twentieth Century, p. 114, note 2.