«اكتمال القمر» – ايفان ايفازوفسكي
هل الحياة كتاب مفتوح، صفحاته لا تنتهي، وفصوله غير متكررة؟ أهي قطار لا يتوقف مع تغير المحطات والراكبين؟ أم هي فصل واحد، وعابرون مجبولون على تكرار التجربة؟
أهي ماضية فينا حتماً، ونحن وسيلة عبورها؟ أم هي تجربة قابلة للضبط؟
كم من حضارات عبرت، وكم من أفكار ومعارف وتراكمات لامحدودة من التجربة الإنسانية المتقدة بدأت بمحاولات الإنسان الأول أن يتحسس طريقه لمعرفة العالم من أجل الاتصال به، والانتفاع منه، واكتساب قوته، واتقاء خوفه! كان حينها بحاجة إلى غراب ليدله على طريقة الدفن، وإلى تجربة متواترة ليتعلم كيف يوقد النار، مع وعيه المتنامي بمحدودية الموارد النابع من محدودية تجربته.
وما إن أتقن مهمته الأولى -حسبما يظن- حتى تراءت له مهمة تدفعها الضرورة، بأن يدافع عن ما يملك من موارد محدودة، بل ويحاول أن يتمكن من موارد الآخرين، فكانت وسيلته نحو هذا القوة الجسدية والصلابة على المواجهة، فأصبحت هذه هي المزيّة الأهم للإنسان في ذلك العصر، وعليها نُقلت لنا العديد من الأساطير التي تقوم على فكرة بطولة الحرب والقوة والنصر والشجاعة، كحرب طروادة، التي جسدها هوميروس في أهم ملحمتين شعريتين إغريقيتين «الإلياذة» و«الأوديسة» ، وغيرها من الأساطير على غرار «هيركليس»، التي تقوم على الفكرة ذاتها حيث الإنسان الأفضل هو الأقوى جسدياً والأجدر بالمواجهة والقادر على المجابهة.
وبمرور السنين، قنع الإنسان أن في الأرض أكثر مما كان يظن من موارد، وأصبحت الوفرة هي الفكرة السائدة، فتكونت تجمعات إنسانية مستقلة ومستقرة حول مصادر القوت والمعيشة الوافرة، فأصبح للإنسان سمة مختلفة ينظّم من خلالها تفاعلاته، ويكتشف الحياة في نفسه وفي الآخرين، ويُكوّن منها نسيجاً اجتماعياً يرقى لمزيته على من يشارك معهم الوجود؛ عقله. فبدأ الإنسان يستكشف طُرق العيش برخاء.
هذا الاستقرار، وهذه الوفرة، أتاحت أمام الإنسان مساحة لإعمال عقله، فازدهرت الفلسفة، ونهضت الفنون، وتقدمت العلوم. وما ازدهار الفلسفة في اليونان إلا انعكاس لحياة الرخاء التي كان يعيشها الإنسان حين ذاك، كما الحضارات الراسخة في التاريخ، الحدائق المعلقة في بابل، ومساكن الأنباط، والمسرح الروماني في روما، وإن كان قد تم بناء مسرح روما بعد حالة من عدم الاتزان في حكم نيرون، إلا أن الإمبراطورية الرومانية ككل كانت في حالة من الرخاء والنفوذ.
فمن السهل ملاحظة أن أي حركة فكرية أو حضارية، خلّفت إرثاً إنسانياً خالداً في التاريخ، يكون وراءها حالةً من الرخاء والاستقرار.
ولم تعد القوة الجسمانية والصلابة هي وسيلة القوة والقبول والتأثير الوحيدة، بل زاحمها الفكر والمنطق والقدرة على الإقناع والإبداع، فظهرت لنا شخصيات خلدها التاريخ، مثل سقراط رث الثياب صغير الخِلقة بديع العقل واللسان في الفلسفة اليونانية، وابن رشد في العصر الاندلسي، ومايكل أنجلو في عصر النهضة، والمتنبي في العصر العباسي.

«مدرسة أثينا» – رافائيل، واحدة مِن أشهر لوحات عصر النهضة، وإحدى جداريات الفاتيكان، وهي تجسد التقاء شخصيات علمية وفلسفية عظيمة عاشت في حُقب زمنية متباعدة. يظهر فيها: سقراط، زينون الرواقي، فيثاغورس، أفلاطون، زرادشت، ابن رشد، وغيرهم.
ما هو مؤكد أن التجربة الإنسانية نضجت بمرور الزمن وزادت تعقيداً، ما كان يثير الإنسان ويشكل له تحدياً، أصبح في عِداد المتاح، ولم تعد التحديات العملية في الحياة كبيرة فعلاً، سهّلت التجربة كل هذا، ومن بعد ذلك سخّره العلم لخدمة الإنسان.
وهذا جيد بالطبع، ولكنه أدى بالإنسان المعاصر إلى حالة من الارتماء الوجودي، والانغماس في ماهيته وهويته وموقعه عن غير وعي على الأغلب! وقد أفضى ذلك إلى ما يمكن تسميته بالفجوة الوجودية، التي جعلت الإنسان العادي ينكشف أمام نفسه أكثر من اللازم، ويواجه الحياة بصورة جديدة لم يعهدها. ولعل عصرنا الحالي يمثل حالة متجلية من حالات الانكشاف الإنساني المتمثلة في التأرجح بين جوعه لإيجاد الغاية وانغماسه في الغفلة عنها.
وقد عبّر “سارتر” عن ذلك في حديثه عن مأساة الوجود الإنساني وكونه محاط بالغموض واللامعنى، وأن مأزقنا كبشر هو أننا محكوم علينا بالبحث عن معنى لحياتنا في عالم لا معنى له. قد نختلف مع هذا، ولكنه يحرك بوضوح بوصلة عقل الإنسان اللاواعي في عالم تجربته غير المنضبطة، وتناميه اللا محدود، وسكينته الموءودة، وإطاره الزماني غير الكافي لهضم أسئلته.
وفي ظل انغماس الإنسان في هذا، تُثقله تجربته وعدم وعيه بمحدداتها الطبيعية، فيعود بدائياً كما بدأ، ويكون الهرَب وسيلته لمجابهة كل هذا.
يصف “ميا كوتو” مأزق الإنسان في هذا عبر إحدى شخصيات روايته حينما يقول: ما أحوجني إلى النوم! ليست الراحة مطلبي، ولكني أود الغياب عن ذاتي، إني أنام حتى لا يكون لي وجود.
من شأن ذلك أن يقودنا لتأمل ممارسات الإنسان المعاصر، وسعيه لالتهام أكبر قدر ممكن من اللذات السريعة والعابرة، السفر والتسوق والإبهار البصري، وغيرها من الممارسات التي لا تنطوي في طابعها الأساسي على تجربة مُضافة إلى منظومة وعيه الذاتي. فهل هي وسيلته لهروبه منها؟

“عندما لا يوقظك أحد في الصباح، وعندما لا ينتظرك أحد في الليل، وعندما يمكنك فعل ما تريد، حينها ماذا تسمي هذا؟ حرية أم وحدة؟” بوكوفسكي.
تغيرت العديد من المفاهيم التي بدورها ساهمت في تغير ديناميكية الحياة، مع تساؤل حقيقي عن جوهر الإنسان فينا، هل هو متطور متغير؟ أم هو فطري ثابت؟ هل يميل للاتصال بتجربته الأساسية، في ظل زحام الحياة المعاصرة، فيتوق للقليل الكافي وللصبر الـمُكافَـئ والتكافل الضروري الجالب لسلامه الروحي؟ إم هو مُغرم بنسخته الأحدث، سريع، وبراق، ومنتشي، ووافِر؟
الوعي بهذا مهم، وما سيحدثه على عقلك فارِق! وما الإنسان؟ كائن تُنضجه التجارب، يغيره التأمل، ويحييه الفهم. حيث إن جزء من طور تطورك كإنسان، أن تفهم، وتتفاعل مع ما تفهم. وهي عملية تنتهي بك لتكون شخصاً آخر.
وما محاولة فهم السؤال الأكبر، ماهي الحياة؟ إلا حياة بذاتها! حيث إن وصف فهمها بـ “المحاولة” وسيلة تستهويني لحث عقلك على مزج خلاصته الخاصة، بلا قيد ولا توجيه.
على أمل أن نلتقي قبل الوداع، كهلان منتصبان، أنيقي الثياب، نتبادل أطراف التجربة كما يليق بِرَجُلين أديا واجبهما على الأرض ببراعة.
إن هذه الأرض أوسع مما نعتقد، وهذه الحياة معجزة غير مفهومة، وحدود التجارب المنتظرة فيها لا نهائية، وما سيفاجئك بمجرد أن ترفع عينيك عما ظللت تحصرها فيه عن غير وعي، يستحق! نعم يستحق أن تحظى بحياة غير مجتزأة، ولا ماضية مُضي الحيوات الباردة! حياة بطنها ممتلئ، ضحكتها مجلجلة، وقلبها “عابر”! حياة هدوئها سيطرة! مثلما يبدو جبل أشم، في فضاء واسع، تنازعه الطبيعة والبشر على حدٍ سواء. ويبقى ساكناً، رحيباً، ومضيافاً. بل خالداً، وبلا ضجيج.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.