مؤخرًا سعت العديد من الدراسات التاريخية والثقافية في حقل تاريخ الفن إلى تفسير لوحات الفن الأوروبي في القرن الذهبي من منظور مختلف؛ من جهة أولى، هناك تفسيرات تاريخية تسعى إلى إثبات ظهور العولمة منذ بدايات القرن السادس عشر في لوحات الفن الأوروبي، وتشمل تحليًلا مفصّلًا عن قوة الاقتصاد الأوروبي في ذلك القرن. ومن جهة أخرى، هناك تفسيرات سياسية تحمل بُعدًا نقديًّا ما بعد استعماري، والذي بدوره يدّعي وجود علاقة وثيقة بين الفن والاستعمار في العصر الذهبي. وأبرزت هذه الدراسات بلا شك بعض العوامل المهمة التي أسهمت في اتساع رؤية الفنانين الأوروبيين وتجربتهم الفنية. كما أضافت لها أيضًا سياقًا تاريخيًّا وسياسيًّا مهمًّا، وفوق ذلك، أكسبتها نمطًا خاصًا عزّز من قيمة الفنّ الواقعي وفنّ الحياة الساكنة (Still Life) في اللوحة الهولندية تحديدًا، والأوروبية عمومًا.
في محاولة لدراسة أعمال الفنان الهولندي يوهانس فيرمير[1] (١٦٣٢ -١٦٧٥) وتسليط الضوء عليها في المحتوى العربي، أعرض هذه الدراسة القصيرة عن الفنان الهولندي الذي كتبت مئات الدراسات التاريخية والثقافية والسياسية حول خمسة وثلاثين عملًا فنيًّا فقط خلّفها بعده، واكتُشِفت بعد قرن من وفاته، واحتوت تسعة من هذه الأعمال الفنية المهمة لجوهان فيرمير على منتجات شرقية صوّرها بغاية الدقة والجمال، مثل السجاد التركي والفارسي والدمشقي، والبورسلين الصيني، وثوب الحرير الياباني وغيرها.
أناقش في هذه المقالة السؤال المهم حول هذه التفسيرات المعاصرة للفن الأوروبي من خلال أعمال فيرمير: هل أسهمت في زيادة فَهمنا للوحات الفن الأوروبي من منظور فني؟ أم أنها بتوجهاتها الأيدلوجية من الممكن أن تصرف الانتباه عن جوانب مشروعه الفني، والذي بلا شك يُعد مهمًّا في تاريخ الفن؟
بينما أزعم أن الفنان الهولندي فيرمير قدّم هذه المنتجات الشرقية المختلفة في لوحاته بسبب قيمها الجمالية وذلك وفقًا للوثائق التاريخية التي كشفت ذلك، يبقى السؤال: هل يمكننا فصل القيم الجمالية في الأعمال الفنية عن عوامل القوة والاستعمار في ذلك القرن. في كتاب الحياة الساكنة والتجارة في العصر الذهبي الهولندي (٢٠٠٧)، للبروفيسور جولي هوشتراسر نجد عرضًا تحليليًّا مفصلًا وناقدًا لعناصر اللوحة الهولندية كلها، فتشرح هوشتراسر في مقاربتها أن اللوحات الفنية تتحدث عن المعاني الثقافية التي نشأت فيها. وبناءً على ذلك، وجّهت نقدًا ماركسيًّا مُركزًا للوحة الهولندية باعتبارها مثالًا جليًّا على نشوء الرأسمالية المبكرة وعصر الاستهلاك في المجتمع الهولندي. قامت في كتابها بتحليل دقيق للمنتجات والعناصر التي تكوّن تلك اللوحات، وذلك عبر استدعاء تاريخي للسياقات الاجتماعية كلها التي أظهرت هذه المنتجات في اللوحات الفنية، ومدى أهميتها للمشاهد الهولندي في الواقع وفي اللوحة الفنية. وتزعم هوشتراسر أن الرأسمالية الهولندية نشأت من خلال الاستحواذ والسيطرة الاقتصادية على العالم في ذلك الوقت. وكانت التجارة الهولندية في أوج عصرها الذهبي؛ لذلك يمكننا أن نعد وجود منتجات شرقيّة في اللوحة الهولندية تفسيرًا أوليًّا للمادية التي بدأت جذور ظهورها منذ ذلك الحين[2].
في تلك اللوحات على سبيل المثال ظهر وجود رمزي لرجال من ذوي البشرة السوداء في حالة طبقة عاملة تنتج تخدم طبقة بيضاء أعلى منها، وهذا دليل حسب الكاتبة على الحالة الاستعمارية التي استولت على روح ذلك العصر وظهرت في اللوحة الأوروبية (شكل ١). تصدر هوشتراسر أحكامًا أخلاقية على تلك اللوحات، مدعية أن هذه المنتجات المختلفة لم تُصوَّر بعفوية؛ بل على العكس صُوِّرت بفخر وتعمّد على الطاولة الهولندية؛ لأجل إبراز الهيمنة الاقتصادية الهولندية على العالم من خلال هذه اللوحات.
قد يضيف هذا التفسير معانيَ جديدةً إلى لوحات الفن الهولندي، كلوحات فيرمير وبقية الرسامين في تلك الفترة من التاريخ؛ ولكن حسب التتبع التاريخي لحياة الفنان نفسه والوثائق التي تنقل إلينا الكثير عن حياته وظروف إنتاج لوحاته الخمس وثلاثين، يبقى السؤال وجيهًا بلا إجابة مؤكدة، كيف يمكننا التأكد من أن غرض الفنان كان الفخر بامتلاكها أولًا في حال ثبت ذلك ثم رسمها ثانيًا، في الحين الذي لا توجد فيه أي أدلة تاريخية تثبت قطعًا أيًّا من ذلك.
تاريخيًّا لا يمكننا التحدث على وجه اليقين عن هدف الفنان من تصويره لهذه المنتجات الشرقية أو غيرها بلا أدلة، ويجعلنا تفسير أعمال فيرمير على سبيل المثال وفقًا للنظرية الماركسية نتردد كثيرًا قبل أن ننظر إلى الفن كما وأن له وظيفة سياسية. فمن خلال التتبع التاريخي لحياته الشخصية والاجتماعية التي رصدها ميشيل مونتياس ١٩٩٨ يمكننا أن نتأكد من أن تجربة الفن تاريخيًّا ليست سوى ظاهرة مؤقتة تعيش في الواقع الذي ظهرت فيه؛ لكنها في الوقت ذاته لا تقبل الاختزال إلى ذلك الواقع المادي فقط، ولا أي أيديولوجية أخرى لمحاولة تفسيره. وتبيّن أعمال فيرمير بالتحديد أنه لا يمكن للفنان إلا أن يتفاعل مع واقعه؛ ولكن لأجل أهداف جمالية بحتة، تحثّه على أن ينتهز هذه اللحظة والتجربة الداخلية وذلك للنظر إلى واقع إنساني أكثر اتساعًا.
قبعة فيرمير (2008) هو كتاب من تأليف تيموثي بروك، يقدّم منظورات تاريخية عالمية في القرن السابع عشر. قدم بروك التاريخ الاقتصادي الهولندي من خلال أعمال فيرمير الفنية، وربط ذلك بنشوء العولمة بوجهها الاقتصادي منذ بداية القرن السادس عشر. وعلى عكس هوشتراسر يحاول بروك في كتابه الدخول إلى عالم فيرمير لتفسيره في ذلك الاتجاه الذي يلفت الانتباه إلى وعي الفنان الهولندي منذ ذلك الوقت إلى أهمية النظر الجمالي فيما تنتجه الشعوب الأخرى حول العالم، عاكسًا من خلال تحليله التاريخي مدى اتساع رؤية واهتمامات فيرمير وثقافته، ومدى تحوّل المجتمع الهولندي نحو مفاهيم الانفتاح مع الآخر والتواصل الذي يعززه وجود التبادلات التجارية ونشوء الشركات متعددة الجنسيات[3].
حسب بروك علينا أن نتساءل: هل انعكاس التفاصيل الخارجية على الأسطح الكروية والزجاجية في بعض لوحات فيرمير رمزيةٌ فنيّة وتنبؤيةٌ باكرة لرؤيته بأن العالم صغير ويمكننا أن نحيطه من كل جانب يومًا ما؟ أم أن بروك فسَّر لوحات فيرمير بهذه الطريقة؛ لأنه أراد رؤية العالم في ذلك الوقت بهذه الطريقة، مبررًا هذا الادعاء بوجود تلك المنتجات الشرقيّة كلها التي تثبت وجود العلاقات الاقتصادية الحيوية والباكرة التي تربط الشرق بالغرب في لوحات فيرمير.
يؤكد مونتياس -أحد أهم من وثّق أعمال فيرمير الفنيّة وحللها من منظور تاريخي- على اهتمام فيرمير بالتكوين الجمالي لهذه العناصر أكثر من اهتمامه بالسياقات السياسية أو التجارية قائلًا: “كانت الاختيارات التي لعب بها فيرمير، مثل معظم معاصريه، على هذه العناصر الواقعية ضرورية لتعزيز جمال التكوين أو لتقديم مظهر أكبر للواقع”. (١٩٩٨، ص١٩٣).[4]
السجاد في اللوحة الأوروبية:
بناءً على بعض دراسات تاريخ الفن الأوروبي، دخل السّجاد الشرقيّ للوحة الأوروبية منذ منتصف القرن الرابع عشر، وبدأ تصويره من البوابة الدينية التي كانت تصوّر السّجاد تحت أقدام العذراء في اللوحة الدينية الإيطالية، كما في إحدى لوحات الرسّام الإيطالي جيوفاني (١٤٥٤م) والتي تحتوي على سجادة أناضولية ذات ألوان شرقية غنية برسوم هندسيّة تميّز بها السجاد التركي منذ ذلك الوقت (شكل ٢). وكانت العباءات الثمينة تُنشر حسب الأسطورة اليونانية تحت أقدام المسيح، وكان ذلك الفعل بالأصل تجديدًا دينيًّا لمفهوم ثقافي قديم، حينما وضع السيد وايت عباءته تحت أقدام الملكة إليزابيث لمساعدتها على تجاوز بركة من الوحل بأمان، واستبدل فيما بعد السجادُ بعد اكتشافه بالعباءة، فصار بديلًا ورمزًا للثروة والقوة والقداسة في اللوحة الإيطالية منذ القرن الرابع عشر.
في القرن الذهبي، وبعد أن حملت السفن الهولندية بضائع شرقيّة ثمينة بسبب الشركات متعددة الجنسيات التي عززت من قوة اقتصاد هولندا بعد انفصالها عن إسبانيا عام (1579)، وحين كان هناك اتجاهٌ عامٌ في الفن الهولندي يحذو نحو التركيز على تصوير مشاهد الداخل (Dutch interior scene) واللوحة الساكنة (Still Life) واللذين يميزان الفن الواقعي في القرن الذهبي، ويمثلان في الوقت نفسه تحديًا فنيًّا لمحاولة تصوير الواقع بأعلى دقة ممكنة؛ حافظ السجاد على قيمته الفنية والمادية والمعنوية لدى الهولنديين أيضًا، وكان رمزًا للقوة والثروة في اللوحة الهولندية كما في اللوحة الإيطالية؛ لكن كيفية استخدامه تغيّرت فأصبح على عكس ما كان يُصَوَّر في اللوحة الإيطالية (شكل ٣)، فأصبح السجاد في اللوحة الهولندية يوضع على الطاولة بدلًا عن الأرض أو تحت الأقدام، وكان ذلك يحمل دلالات وإشارات لمعانٍ مختلفة في اللوحة الهولندية، مثل: التطور والتعليم؛ لأن بعضه كان يحوي كتابات كوفية ورموزًا شرقية كان الدافع من رسمها أحيانًا إبراز مدى المعرفة بها. وبدا ذلك الحرص على تصوير منتجات البلدان الشرقية وكأنه بمثابة دليل على محاولات استقلال الهُوية الهولندية، والتي كانت تبحث في تلك اللحظة التاريخية عن مظاهر مختلفة تساعدها على تبنّي هُويّة ثقافية جديدة ومستقلة تناسب الإمبراطورية الهولندية العظمى.
السجاد المصوّر في اللوحة الأوروبية منذ القرن الرابع عشر وحتى التاسع عشر متنوعٌ ومختلفٌ باختلاف الثقافات التي جاء منها، ومن المهم الإشارة إلى أنه بعد تصويره في اللوحات الأوربية أصبح معروفًا باسم الرسّام الذي صوّره في لوحاته، مثل: سجاد لوتو الذي صوره الرسام الإيطالي لورينزو لوتو ١٥٤٠م، أو سجاد هولبن الذي صوره الرسّام الألماني هانس هولبن ١٤٩٧م وغيرهما.
بالعودة إلى يوهانس فيرمير أهم فناني القرن الذهبي، نجد أن في تسعٍ من لوحاته كان هناك تصوير لثلاثة أنواع مختلفة من السجاد الشرقي: الأول هو السجاد التركي الشهير بميداليات أوشاك، والثاني هو الفارسي الشهير بالزخارف النباتية والزهور المنتشرة على نحو عشوائي أو منظم، والثالث وهو السجاد الدمشقي الذي يصور أيضًا زخرفة نباتية مميزة بألوان شرقية أخاذة وأكثر ليونة من النوعين السابقين. ربما كان سجاد أوشاك التركي الأكثر حظًّا في لوحات الفن الأوروبي؛ حيث صورته أربع من لوحات فيرمير. فتاة تقرأ رسالة في نافذة مفتوحة (شكل ٤)، وفتاة نائمة (شكل ٥)، ودرس الموسيقى (شكل ٦). ووفقًا للدراسات، فقد رُسمت هذه السجادة المتكررة في اللوحات في الفترة نفسها التي أنتجت فيها، ولم تنجُ أي قطعة منه حتى يومنا هذا، باستثناء القطعة المعروضة في متحف MET في نيويورك (شكل ٧).
صوَّر فيرمير، مع فنانين آخرين -وهما جيرارد تير بورش (الشكل ٨) وجيرارد فان هونثورست- هذا النوع من سجادة الميدالية أوشاك في لوحاتهم. في الواقع، عُثر على هذه السجادة المنقوشة أيضًا بميدالية أوشاك في اللوحة The Procuress 1656 في أعمال فنانين آخرين بالتصميم والألوان أنفسهما؛ مما يؤكد أنها كانت سجادة حقيقية متداولة في ذلك العصر. ومن ناحية تاريخية، محاولة الإجابة عن سؤال حول سبب رسمها بالتحديد له إجابات متعددة، فمن ناحية جمالية، يعزز تصوير السجاد ذي التصميم الهندسي أو النباتي الدقيق من استخدام منظور فناني تلك الحقبة والذي كان معنيًّا باستخدام الوهم البصري بكثافة؛ من أجل تجسيد أدق للواقع، ونلحظ ذلك بوضوح في دقة تنظيم اللوحة الهولندية للعناصر والتكوينات التي توافق على تسمية هذا الاتجاه الفني لاحقًا بفن الحياة الساكنة (Still Life).
من ناحية أخرى، وصل السجاد الشرقي إلى هولندا من خلال حملات شركة الهند الشرقية الهولندية، وزاد الطلب عليها بشكل متسارع. ويمكننا القول إن هذه الوفرة في السوق الهولندية كانت أحد الأسباب التي دفعت هؤلاء الفنانين لرسم هذه السجادة، خصوصًا وأن وجوده في اللوحة الفنية يدفع أصحاب الثروات إلى شرائها.
من ناحية ثالثة، يذكر مونتياس 1989 أنه في الوقت الذي جُرد فيه منزل فيرمير بعد وفاته، وجدوا عباءتين تركيتين، إحداهما سوداء وكانت لفيرمير نفسه والأخرى كانت لوالده، وكان هناك إلى جانب هذه العباءات بنطالٌ تركي وكذلك لوحتان مرسومتان على الطراز التركي[5]. فكما نرى، هناك علاقة بين فيرمير وبعض المنتجات التركية التي قد تكون ناجمة عن تقدير فيرمير للأقمشة ذات الطراز التركي، وربما ساعده في ذلك أن والده كان تاجر أقمشة؛ مما جعله على اتصال وثيق بها. بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام الأنماط الهندسية المتكررة في السجاد الشرقي يتوافق مع منظور فيرمير في الرسم، إنه يعمق الشعور ثلاثي الأبعاد والوهم البصري للوحة الواقعية الهولندية.
علاوة على ما سبق، تتفق جميع الدراسات على أن فيرمير لم يمتلك أي سجاد ثمين، ولم يُعثَرْ على أي منها في منزله بعد وفاته، كان فيرمير فقيرًا، وتشير الوثائق إلى أنه لم يرسم من أجل الوصول إلى ثروة الطبقة العليا. في الواقع، كانت الأدلةُ التي توحي بأنها كانت لحظة اهتمام جمالي بينه وبين بعض الرسامين في ذلك القرن لتصوير جمالية السجاد الشرقي أكثرَ منطقية. وفي الوقت نفسه، لا تشير أي وثيقة تاريخية أن فيرمير قد رسمها لرعاة معينين في ذلك الوقت، ولا حتى لسوق الفن الذي كان نشطًا في تلك الفترة أيضًا.
ترفض النظريات الجمالية الحديثة التفسيرات كلها التي تربط بين الفن والمفهوم الوظيفي أو الرسالي أو التعليمي[6]، فلا يمكن للفنان التغيير حتى وإن تمكّن من التأثير. قد يكون العمل الفني مفارقة أو تجريدًا أو عملًا مستفزًّا أو سوداويًّا؛ لكنه لا يكون أبدًا تعليميًّا أو وظيفيًّا. إن تبني مبدأ الفن للفن قد يكون مسلكًا صعبًا للعقلية التاريخية حتى في السياق الغربي في هذه الفترة المعاصرة؛
ولذلك فهذه التفسيرات للفن في القرن الذهبي قد تزيد القناعة بأن ما كان يصوره الرسّام من سجاد أو أي عنصر شرقيّ في لوحته كان بالدرجة الأولى بدافع تصويرِ جمالياتِ ما كان غريبًا عنه، بغض النظر عن شرقيته أو غربيته. بلا أدنى شك تزيد التفسيرات الثقافية في حقل تاريخ الفن من فَهمنا لواقع الرسام وللسياقات التاريخية التي عاش فيها؛ لكنها لا يمكن أن تقطع بوجود أي مقاصد غير توليد أوسع للجماليات، وفي لوحتي فيرمير الفلكيّ والجغرافيّ شكل (٩ و١٠) يمكننا أن نرى كيف صوّر فيرمير دراما عقلية متكاملة في مشهد فني يتسق مع روح العالِم الذي يسعى إلى فَهم العالَم البعيد في القرن السابع عشر. وضمّن فيرمير هذه اللوحتين بسجادتين إحداهما فارسية منقوشة بزخارف نباتية وبألوان عشبية، موضوعة على طاولة تحوي كتابًا فلكيًّا وكرة أرضية يحركها بيده الفلكي الذي رُسم في اللوحة (أنتوني فان ليووينهوك) متفكّرًا فيها، ويمكن تأويل وجود السجاد على الطاولة ذاتها بجوار هذه العناصر التي كان يدرسها العالم بعدة تأويلات، من أكثرها وضوحًا الاهتمام والتقدير العلمي الذي كان يوليه هذا الرجل لهذه العناصر. والسجادة الأخرى في لوحة الجغرافيّ هي سجادة دمشقية، ومن المعروف أن السجاد الدمشقي كان نادرًا في أوروبا في ذلك القرن، وهي منقوشة بزخارف نباتية وسوار يحوي زخارف أدق، وذات ألوان تنتمي لروح الشرق. بالإضافة إلى ذلك كله، ضمّن فيرمير اللوحتين بخرائط جغرافيّة اكتشف المؤرخون فيما بعد أنها دقيقة ونادرة ورسمها في ذلك العصر مصممو خرائط مشهورون. فسّر آرثر ويلوك -أحد أهم الكتاب المهتمين بتاريخ الفن- لوحاتِ فيرمير عبر مشروع ضخم، ووصل إلى نتائج عدة منها أن إحدى هذه الخرائط فُقدت وأُعيد رسمها من خلال لوحات فيرمير[7].
ختامًا، تُعزز هذه التفاصيل كلها وأكثر عن لوحات فيرمير التوجهَ القائل: إن الجانب الجمالي الذي تكشف عنه عناصر اللوحة كلها في أعمال فيرمير يضعنا أمام فنان تنبؤي كان يرسم الواقع بعناصره ذات المفاهيم التعبيرية عن الجمال أو المعرفة ونحوهما، والتي كانت ملامحَ تميَّز بها القرن السابع عشر. وتؤكد أيضًا هذه التحليلات أن الفنان كان يصنع هُويّة اللوحة الهولندية فنيًّا، ويؤسس لفن الحياة الساكنة الذي سُمِّي بهذا الاسم فيما بعد في القرن التاسع عشر، وفي الحين ذاته كان يشارك معاصريه في رسم مشاهد الحياة الداخلية التي تميّز بها الفن الهولندي حتى الآن.
[1] مقدمة تعريفية بالفنان:
يوهانس فيرمير أحد أكثر الفنانين شهرة في العصور كلها؛ ولكنه أيضًا أحد الرسامين الأقل غزارة والأكثر غموضًا في هولندا في القرن السابع عشر. تستكشف هذه المقالة بعضًا من فن فيرمير واهتمامه بتصوير السجاد الشرقي من خلال وجهات نظر وطرق مختلفة لتاريخ الفن، وتحاول وضع إنتاجه الصغير والمذهل لحوالي 35 لوحة في العالمين الثقافي والاجتماعي اللذين أُنشئ من أجلهما.
[2] كتاب الحياة الساكنة والتجارة في العصر الذهبي للبروفيسور جولي هوشتراسر، جامعة ييل، الولايات المتحدة الأمريكية، ٢٠٠٧.
[3] قبعة فيرمير، تيموثي بروك، بلومزبيري برس، نيويورك، ٢٠٠٨.
[4] فيرمير، جون ميشيل مونتياس، جامعة برنيستون، ١٩٩٨.
[5] المصدر نفسه.
[6] النظرية الجمالية الحديثة، أدورنو، ١٩٧٠.
[7] آرثر ويلوك، جوهان فيرمير، واشنطن، ١٩٩٥.