العقل بوصفه مُخًّا – د. صلاح إسماعيل

سؤال يُلقيه الإنسان على نفسه، ويُلقيه الفلاسفة والعلماء بعضهم على بعض، وتختلف الإجابات عنه بإختلاف العصور وما يكتسبه الناس من المعرفة والعلم. ولست أدرى أكان القدماء يفكرون في جوانبه مثل ما نفكر فيه الآن أم لا. وأكبر الظنّ أن التقدم الذى حدث في دراسة المخ وتصويره أثر تأثير عظيمًا في فهم هذا السؤال: ما هو هذا الشيء الذى يسمى عقلًا؟ وإذا نحّينا جانبا الجواب العام الذى مؤداه أن العقل قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة، وأنه ملَكَة يدرك بها الإنسان حقائق الأشياء، وجدنا الفلاسفة والعلماء يختلفون حين يريدون تصوير طبيعة العقل. فبعضهم يقول إن العقل شيء غير فيزيائي مثل النفس ( أو هو النفس عند ديكارت)، وهو جوهر متميز عن الجسم، وهؤلاء هم أصحاب ثنائية الجوهر. وبعضهم يقول إن العقل ليس شيئًا، وإنما هو استعداد للسلوك، وهؤلاء هم أنصار السلوكية. وبعضهم يقول إن العقل شيء فيزيائي هو المخ، وهؤلاء هم أصحاب نظرية الهوية. وبعضهم يقول من الأفضل فهمه بوصفه مجموعة من الوظائف بدلًا من أن يكون شيئًا، وهؤلاء هم أتباع الوظيفية. وتدور هذه المقالة حول نظرية الهوية.
- مفهوم هوية العقل- المخ
نظرية هوية العقل- المخ the mind–brain identity theory ،التى تسمى ببساطة نظرية الهوية the identity theory، هي وجهة النظر القائلة إن العقل هو المخ، والحالات العقلية هي حالات فيزيائية في المخ، والعقل والمخ شيء واحد.
وفكرة أن الحالات العقلية هي حالات مخ ليس جديدة. تستطيع أن تجدها عند الفلاسفة القدماء مثل ديمقريطس، والفلاسفة المحدثين مثل هوبز ومعاصره الفرنسي بيير جاسندي. ونظرًا لأن نظرية الهوية تمثل نوعًا من النزعة الفيزيائية الردية، فإنها تجد صعوبة في تفسير الخبرة الواعية. (1)
وفي الوقت الذي كانت فيه السلوكية هي فلسفة العقل المسيطرة في الفترة المبكرة من القرن العشرين، كانت الأدبيات الفلسفية والنفسية تتضمن تعبيرات منعزلة لنوع مختلف من وجهة النظر الفيزيائية، وجهة النظر التي تطابق الحالات العقلية ليس بالاستعدادات السلوكية وإنما تطابقها بالحالات الفيزيائية للمخ.
ولكن هذه الفكرة لم تعرض عرضًا جيدًا إلا في أواخر خمسينيات القرن الماضي. وذلك عندما دافع عنها ثلاثة من الفلاسفة هم أولين بليس (2000-1924) في مقالة “هل الوعي عملية مخ؟”1956 ، وهربرت فايجل (1998- 1902) في مقالة “”العقلي” و”الفيزيائي”” 1958، وجون سمارت (2012-1920) في مقالة “الإحساسات وعمليات المخ” 1959. وإن شئت عبارة موجزة تلخّص لك نظرية الهوية، فها هي عبارة فايجل: “حالات الخبرة المباشرة التي تحيا بها الكائنات البشرية الواعية، والحالات التي ننسبها بثقة إلى بعض الحيوانات العليا، تكون متطابقة مع جوانب معينة من العمليات العصبية في هذه الكائنات”.(2)
واتفق هؤلاء الفلاسفة على النقاط الأربع التالية: (3)
- الخبرات والإحساسات الخاصة بالفرد تقبل الرد من دون بقية إلى حوادث أو عمليات في المخ ( دعوى الهوية).
- دعوى الهوية قضية ممكنة، أعني أنها ليست حقيقة ضرورية منطقيًا.
- صدق دعوى الهوية هو في جانب على الأقل مسألة تحديد تجريبي.
- لا تنطبق دعوى الهوية إلا على جوانب معينة من الحياة العقلية- الوعي consciousness (بليس)، والمشاعر الخام للخبرة (فيجل) the raw feels of experience، والإحساسات sensations (سمارت). أما الجوانب المعرفية والإرادية (القصدية) من الحياة العقلية فلا تقبل الرد إلى عمليات أو حالات مخ، وإنما تقبل الرد مفهوميًّا conceptually إلى نوع من المقدرة أو الميل الدلالي أو المنطقي أو اللفظي.
ولم يشنّ بليس وفايجل وسمارت هجومًا كاملًا على السلوكية، لأنها صحيحة في بعض الجوانب: “في حالة المفاهيم المعرفية مثل “يعرف” و”يعتقد” و”يفهم” و”يتذكر”، والمفاهيم الإرادية مثل “يريد” و”يقصد”، لا يمكن أن يوجد أدني شك، فيما أظن، في أن التحليل في حدود الاستعدادات للسلوك يكون صحيحًا بصورة أساسية”.(4)
وأجاب بليس عن السؤال الذي يطرحه عنوان مقالته “هل الوعي عملية مخ؟” في الجملة الافتتاحية من ملخص المقال، والذي حذف عند اعادة نشره في كتاب “تحديد هوية العقل: مقالات مختارة من بليس”، : “الدعوى القائلة إن الوعي عملية مخ تقدم بوصفها فرضًا علميًا، ولا يتعين رفضها على أسس منطقية فقط”.(5)
وتختلف نظرية الهوية عن الثنائية والسلوكية معًا. وهي تنكر ثنائية الجوهر وثنائية الخاصية على حد سواء. إذا كانت ثنائية الجوهر تؤكد أن العقل جوهر غير فيزيائي، فإن نظرية الهوية تنكر ثنائية الجوهر، وتؤكد أن العقل شيء ولكنه شيء فيزيائي، إنه المخ. وإذا كانت ثنائية الخاصية تقرر أن الحالات العقلية هي خواص غير فيزيائية للمخ، فإن نظرية الهوية تنكر ثنائية الخاصية أيضًا، وتؤكد أن الحالات العقلية هي خواص فيزيائية للمخ.
وتختلف نظرية الهوية عن السلوكية أيضًا. صحيح أن أصحاب نظرية الهوية لم يتخلوا عن الميول السلوكية تمامًا ، ولكن هناك اختلافًا مهمًا في فهم الحالات العقلية. تعرّف السلوكية الحالات العقلية في حدود السلوك الخارجي على حين تعرّف نظرية الهوية الحالات العقلية بوصفها شيئا داخليًا، أي أن الحالات العقلية الواعية هي أسباب داخلية للسلوك بدلًا من أن تكون استعدادات للسلوك.
صحيح أن نظرية الهوية يمكن تتبع أصولها عند فلاسفة قدماء ومحدثين، ولكن النظرية في صورتها المعاصرة تنفصل عن النظريات السابقة بطريقتين أساسيتين. فأما أولاهما فهي أن أصحاب نظرية الهوية عندما ركزوا على عمليات المخ اصطفوا في جانب علم الأعصاب. وإذا أخذنا بعين الاعتبار التقدم الهائل في البحث العلمي العصبي في القرن العشرين، فإن هذا الاصطفاف منح نظريتهم مصداقية. وأما الثانية، وربما الأكثر أهمية، فهي أن أصحاب نظرية الهوية يرون أن المطابقات النفسية الفيزيائية مماثلة مباشرة للاكتشافات العلمية الأخري. أي أن الحالات العقلية هي حالات للمخ بالطريقة التي يكون بها الماء هو يد2 أ، والبرق تفريغ كهربائي جوي. فمثلما اكتشف العلماء أن الحرارة في هوية مع حركة جزيئية، كذلك تظهر مطابقة الحالات العقلية المحددة بحالات مخ محددة بوصفها كشفًا علميًا، مثل القول (الذى لم يعد دقيقًا ومقبولًا) إن الألم في هوية مع إثارة الألياف-.C
وهذه التماثلات مهمة لأنها تظهر أن فروض نظرية الهوية في حاجة إلى بحث علمي جدير بالاعتبار لوضع عبارات الهوية. فالقول إن الماء هو يد2 أ لا يمكن إثباته عن طريق ملاحظة عرضية، ولا عن طريق التفكير في معاني الحدين “ماء” و “يد2 أ”. وكذلك الزعم بأن الحالات العقلية هي حالات مخ لا يفترض بحيث يكون حقيقة واضحة يمكن إثباتها عن طريق ملاحظة بسيطة أو عن طريق التأمل في معاني الكلمات الواردة في عبارة الهوية. والصواب هو أن الزعم بأن الحالات العقلية هي حالات مخ يكون معقولًا جزئيًا بسبب حالات التقدم في فهمنا للمخ البشري. وفكرة الهوية الملائمة هنا لنظرية هوية العقل- المخ هي الهوية العددية، أعني كون الشيء نفسه.
- كيف يعمل المخ؟
يدرس علم الأعصاب المخ وبقية الجهاز العصبي لدي الإنسان والحيوانات الأخري. وتقوم الأجهزة العصبية عند الحيوانات، بما في ذلك البشر، بنقل المعلومات ومعالجتها وتخزينها، وهناك دراسات حديثة تحاول إثبات أن أمخاخنا لا تعالج المعلومات فقط، وإنما تبتكرها أيضًا. (6)
ويتكون الجهاز العصبي من ثلاثة أقسام: الجهاز العصبي المركزي، والجهاز العصبي المحيطي، والجهاز العصبي الذاتي (اللاإرادي). ويتضمن الجهاز العصبي المركزي المخ والحبل الشوكي، ويستخدم في الإدراك والوعي. ويتضمن الجهاز العصبي المحيطي الأعصاب التي تتصل بالمخ والحبل الشوكي والتي تصل إلى كل أجزاء الجسم. ويقوم الجهاز العصبي المحيطي بنقل الرسائل إلى الجهاز العصبي المركزي وينقلها منه أيضًا. إذ تقوم بعض أعصاب الجهاز العصبي المحيطي بحمل رسائل من الأعضاء الحسية إلى المخ والحبل الشوكي، ويقوم بعضها الآخر بنقل إشارات من المخ والحبل الشوكي إلى عضلات الجسم فتؤدي عملها. ويتمركز المخ في الجمجمة.
تتكون الأجهزة العصبية من نوعين من الخلايا :
- الخلايا العصبية neurons التي تنقل الإشارات الكهربائية الكيميائية بعضها إلى بعض.
- الخلايا الدبقية (الصمغية) (glia) glial cells وهي “الخلايا المساعدة” التي تقوم بكثير من واجبات الدعم للخلايا العصبية بحيث تمكنها من العمل وتسمح للاتصالات أن تجري بسهولة.
وهناك ثلاثة أنواع من الخلايا العصبية :
- الخلايا العصبية الحسية: تستقبل المثيرات وترسل نبضات إلى المخ والحبل الشوكي.
- الخلايا العصبية الحركية: توصل النبضات من المخ أو الحبل الشوكي إلى العضلات أو الغدد في جميع أنحاء الجسم.
- الخلايا العصبية البينية: تقدم الاتصالات بين الخلايا العصبية الحسية والخلايا العصبية الحركية.
والناتئ من جسم كل خلية عصبية هو محور عصبي axon طويل وزوائد شجرية متشعبة.والعقدة العصبية أو نقطة التشابك العصبي هي مكان الربط بين خلية عصبية وأخري وتنقل عن طريقها الخلية العصبية إشارة إلى الخلية المستهدفة. وتتحرك الإشارات الكهربائية والكيميائية معًا داخل الخلايا العصبية وبينها عند نقاط التشابك العصبي. وتؤدي النبضات العصبية دورًا في النقل الإشاري العصبي. وعندما تصدر الخلية العصبية نبضات يقال إنها تشتعل.
والمخ البشري هو أكثر الأعضاء أو الأجهزة تعقيدًا، ولست مسرفًا في القول إن قلت: إنه أكثر عضو معقد على وجه الأرض. ويزِن مخ الإنسان البالغ نحو كيلو جرام ونصف تقريبًا، وهو أكبر من جميع أمخاخ الكائنات الأخري. ويتكون من أكثر من مليار خلية عصبية، ومليارات الوصلات العصبية. ويتألف المخ البشرى من ثلاثة أجزاء هي : جذع المخ، والمخيخ، والنصفان الكرويان. وأحد الأجزاء الأساسية في المخ هو القشرة المخية cerebral cortex، وهي معقدة وكبيرة في البشر مقارنة بالحيوانات الأخري، وخاصة الجزء الأمامي منها المعروف بالقشرة الجبهية. وتشكل القشرة السطح الخارجي من المخ، وهي متجعدة في البشر أكثر من الحيوانات الأخري حتي تكون محشوة في جزء صغير من الجمجمة. وتخترق المخ منخفضات عميقة ومختلفة العمق تسمي الأخاديد. وأكثر هذه الأخاديد عمقا تقسم المخ إلى عدة أجزاء تسمي الفصوص.
ويحاول العلماء تحديد وظائف إدراكية في مناطق من القشرة. النصف الأمامي من القشرة مخصص للمعالجة الحركية التي تنتهي في حركات عضلية ووظائف تنفيذية مثل العزم والتحكم في السلوك الإرادي، وتسمي هذه المنطقة المنطقة الحركية. والنصف الخلفي من القشرة مخصص للمعالجة الحسية، مع قسم كبير مخصص للرؤية، وتسمي مناطق هذا القسم المناطق الحسية.
ويشبه المخ شبكة هائلة، أو تجمعًا هائلًا من الشبكات المتداخلة، أكثر مما يشبه الكمبيوتر الشخصي الذي يعتمد على معالج مركزي، لأنه لا يوجد شيء مركزي في مخ الإنسان. هناك مناطق في المخ مسؤولة عن السمع والبصر وغير ذلك، ويرتبط بعضها ببعض. ولكن هذا لا يحدث عن طريق إرسال كل هذه الوظائف إلى معالج مركزي، وإنما يحدث عن طريق ملايين الوصلات المتداخلة في المخ.
وهناك خلاف في علم الأعصاب حول الدرجة التي ينجز بها جزء من المخ وظيفة معينة. ويدور هذا الخلاف بين نزعتين. فأما الأولي فهي نزعة التمركز وتقول إن الوظائف الإدراكية يمكن تحديد مركزها أو موضعها في مناطق من المخ مخصصة لأداء هذه الوظائف. هناك منطقة مخصصة للرؤية، وأخرى للذاكرة، وثالثة للغة، ونحو ذلك. وأما الثانية فهي نزعة الكلية وتقول إن المخ الكامل يساعد في كل وظيفة إدراكية، وإن أي جزء محدد يؤدي دورًا في كل وظيفة إدراكية. يغلب على أنصار التمركز، مثل جالينوس وجال، أن يكونوا من الواحديين الماديين، بينما يغلب على أنصار الكل، مثل جاكسون وفرويد، أن يكونوا من الثنائيين.
وعند بداية القرن العشرين اكتشف كوربنيان برودمان، العامل بالميكروسكوب على أمخاخ ميتة، في القشرة المخية 52 منطقة متميزة مؤلفة من خلايا من أنواع مختلفة. وبعد نصف قرن وجد وايلدر بنفيلد والمعاونون له أن المرضي الذين خضعت قشرات أمخاخهم إلى إثارة كهربائية ضعيفة تذكروا فجأة حوادث منسية منذ فترة طويلة، ووجدوا الروائح، ودندنوا أغنية، أو هلوسوا. واكتشفت بريندا ميلنر، إحدي مساعدات بنفيلد، أن الذكريات متمركزة: الذكريات البصرية في المنطقة البصرية، والذكريات اللفظية في الفص الصدغي الأيسر، والذكريات الحركية في المنطقة الحركية، وهلم جرا. وهكذا ظهرت نزعة التمركز المادية مؤيدة تشريحيًا ووظيفيًا. (7)
ووجدنا حديثًا جدًا أن العمل بتقنيات التصوير العصبي والتصوير بالرنين المغتاطيسي الوظيفي FMRI خاصة، قد منح ولادة لعلم الأعصاب الإدراكي، وظهر أنه يؤيد نزعة التمركز المادية. على سبيل المثال، الخوف وظيفة لدائرة تتضمن اللوزة، والاقصاء الاجتماعي ينشط الجزيرة بالإضافة إلى منطقة في قشرة الجبهة الأمامية، ومنطقة أخري في القشرة الحزامية. والضوء اللامع على خلايا عصبية خاصة في يرقات ذبابة الفاكهة يمكن أن ينشط فتحة الدوائر العصبية المتحكمة في سلوك فطري، مثل استجابة الفرار. وهذا النوع من العمل أحدث تعليقات ماكرة من جانب بعض أصحاب الخبرة الطويلة والسابقة بتقنيات مثمرة على نحو مثير، أعني دراسات الضرر والفسيولوجيا الكهربائية أحادية الوحدة: إذ اتهموا أصحاب التصوير العصبي بارتكاب فراسة الدماغ. وهذا الانطباع سرعان ما تم تصحيحه عن طريق زيادة الاكتشافات التي قدمها التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وهو منهج يجيز للمرء أن يصور المخ كله في وقت واحد. وكشف هذا العمل أننا نري في المقام الأول بالمنطقة البصرية الأمامية. وحتي القراءة الخاطفة لمجلة الهندسة العصبية تظهر أن تصميم الجراحات الترقيعية (أو زراعة الأعضاء) العصبية تفترض مسبقا تمركز الوظائف العقلية. وإذا صحت النزعة الكلية، فإن هذه الجراحات وزراعة الأعضاء العصبية لن تعمل أو يمكن زراعتها في أي مكان في المخ بدلًا من زراعتها في أماكن متمركزة ومحددة تمامًا إلى حد ما. ودعم العمل بالطريقة ذاتها الاختلاف بين الذكاء السائل (أو القدرة على حل المشكلة) والذكاء المتبلور (المهارات والمعرفة)، والذي أشار إليه في الأصل كاتيل. وتبين في نهاية الأمر أن الذكاء الأول متمركز في قشرة الجبهة الأمامية، على حين أن الثاني وظيفة للمناطق الخلفية والجدارية. (8)
ومع ذلك لم يؤيد شيئًا من هذا فكرة التجزئة في رأي جال، لأن البحث بالأداة نفسها كشف أيضًا أن المنطقة الواحدة من المخ ربما يكون لها وظائف مختلفة، وربما تشترك في دوائر عصبية عديدة متميزة. على سبيل المثال، نحن نري بالجهاز البصري، والقشرة البصرية الأولية خاصة. ولكن عندما ننظر إلى شيء ما عن قصد، فإن المناطق الجبهية والجدارية تصبح داخلة في المسألة. وبصورة مماثلة، يستلزم التنشق الفص الصدغي بالإضافة إلى البصلة الشمية. وهذا يفسر الاختلاف بين الرؤية والنظر– وبصورة مماثلة الاختلاف بين الشم والتنشق، بالإضافة إلى الاختلاف بين الاستماع والإنصات. وشبيه بذلك، عندما نتخذ قرارًا أو نتحكم في سلوك، فإن المناطق العاطفية تنضم إلى المناطق المعرفية. ورغم أن الوظيفة المحددة للحصين هي تذكر الأماكن وإرشاد إبحارنا بينها، فإنه يشترك أيضًا في تخيل المستقبل. ومعني هذا أن الحصين يساهم في النظام (أو الدائرة) الذي يتخيل حوادث مستقبلية. (9)
يوجد تمركز وظيفي بالإضافة إلى التكامل، وغالبًا ما يوجد تناسق أيضًا. ويجوز أن نسمي هذا الفرض نزعة التمركز المعتدلة التى يؤيدها في وقتنا الحالي ماريو بونجي، مثلًا. وهي مثال للأنطولوجيا النفسية أو (النظامية)، والتي وفقا لها يكون كل شيء نظامًا أو جزءًا من نظام. والنظير المنهجي لهذه الأنطولوجيا هو استراتيجية البحث التي يلخصها الشعار: ميّز ولكن لا تفصل.
ويجوز تلخيص نزعة التمركز المعتدلة على النحو التالي. كل نظام فرعي للمخ ينجز وظيفة محددة واحدة على الأقل، أعني وظيفة يمكن أن ينجزها بمفرده. فالقشرة البصرية فقط يمكن أن ترى، والجزيرة فقط يمكن أن تحس بالغثيان، واللوزة فقط يمكن أن تحس بالخوف، والحصين فقط يمكن أن “يخزّن” الأماكن والطرق، وهلم جرا. ولكن كل عضو متخصص هكذا يحتاج إلى تأييد الأجزاء الأخري من الجسم. وبصورة مماثلة نستطيع أن نمشي فقط بأرجلنا، ما دام القلب يتعاون وتتعاون الرئتان والمخ وأعضاء أخري كثيرة. وفي المخ، كما هو الحال في أي نظام آخر متغاير العناصر، يتطلب تقسيم العمل تناسقًا بالإضافة إلى التخصص. ولكي يكتشف المرء ما إذا كانت المنطقة م في المخ تؤدي مهمة أو وظيفة وعليه أن يجعل م خاملة إما مؤقتًا (عن طريق تبريدها لأقل من عشرين درجة مئوية مثلًا) وإما نهائيًا (عن طريق الاستئصال الجراحي). وإذا توقفت م عن أداء و، يستنتج المرء أن م ضرورية بالنسبة إلى و. ولكن المرء ربما يحصل على النتيجة ذاتها عن طريق إخمال جزء أساسي. عندما قام هوبيل وويسيل بخياطة مؤقتة لجفنين في العين اليسري لهرة، مثلًا، أدى ذلك إلى إخمال للنصف الأيسر من قشرتها البصرية، وأثبت أن التطور العادي في هذا الجزء من مخها تم إيقافه. فبعد فكّ الغرز، لم تستطع الهرة الرؤية بكلتا العينين، لأن نصف مجال الرؤية قد فسد بسبب الافتقار إلى إثارة حسية. (10)
- دليل في صالح نظرية الهوية
دليل من دراسات العجز
شهدت الأربعينيات من القرن التاسع عشر توسعًا كبيرًا في إقامة طرق السكك الحديدية في أمريكا. وبعض هذه الطرق كانت تشق في مناطق صخرية، وكانت فرق البناء في ذلك الحين تعتمد على البارود لتفجير الصخور. وكان العمال يحفرون حفرة في صخرة ويدخلون فيها فتيلا. ثم يملؤون الحفرة بالبارود ويغطونها بالرمال لتحجيم الانفجار، ويتم دكها، ويشعلون الفتيل، ثم ينطلقون بسرعة بعيدا قبل انفجار البارود. ويزيلون كسارة الصخر في نهاية المطاف.
وفي 13 سبتمبر من عام 1848 كان فينياس جيج ملاحظ العمال يؤدي مهمته المعتادة وهي وضع البارود قبل اشعال الفتيل، وهي عملية تسمى الدك. واصطنع فينياس لنفسه قضيبًا حديديًا طوله متر ويزن 6 كيلو جرام تقريبًا، ومسطح من الطرف الذي يدخل في الحفرة ليساعد على عملية الدك، وحاد من الطرف الآخر. وفي هذا اليوم وقعت حادثة رهيبة وهي أن المساعد الخاص به لم يبطن الحفرة جيدا بالرمال، فأطلق قضيب الدك فيما يبدو شرارة من جدار الحفرة، وإذا بالبارود ينفجر قبل الأوان، وإذا بالقضيب يندفع من الحفرة متجهًا إلى أعلى نحو الجانب الأيسر من وجه فينياس، مخترقًا الفك الأسفل والفك الأعلى واندفع وراء العين اليسرى والجزء الأمامي من المخ قبل أن يخرج من أعلى الجمجمة. وعثر عليه فيما بعد ملطخًا بالدماء على بعد أكثر من خمسة وعشرين مترًا من مكان الحادث جنوب مدينة كافنديش في ولاية فيرمونت. ولكن الشيء الذي لا يصدق أن فينياس ظل على قيد الحياة. صحيح أنه سقط على ظهره وانتابته بعض التشنجات في الذراعين والساقين، ولكنه تحدث في غضون دقائق قليلة وسار مع شيء من المساعدة، وجلس منتصبًا في عربة يجرها ثور لمسافة تزيد على كيلو متر.
تم استدعاء الطبيب المحلي للبلدة د. إدوارد هيجنسون وليمز الذى لاحظ الجرج في رأسه قبل أن يترجل من عربته، واستقبله فينياس بابتسامة مرعبة قائلا: “تعال أيها الطبيب، ينتظرك هنا الكثير من العمل”. وتم استدعاء جراح محلي آخر هو جون مارتن هارلو الذى وصل بعد ساعة وتمكن بالتعاون مع وليمز من وقف النزيف، وازالة الأنسجة الممزقة وشظايا العظام الصغيرة ورد بعض العظام إلى مكانها، واغلاق الجرح مع ابقاء منفذ لتصريف الصديد. وبعد عدة أيام ظهر فينياس خائر القوى مستسلمًا حتى ظن أصدقاؤه أنه سيفارق الحياة. ولكن هارلو تدخل لتطهير الجرح من التلوث وإزالة الصديد وكيّ الجرح لقتل الميكروبات. وبعد ثلاثة أسابيع أصبح فينياس قادرًا على المشي. وبعد ثلاثة أشهر، كان في مقدور فينياس أن يعود إلى مزرعة والديه.
لم يستطع فينياس استعادة وظيفته بوصفه ملاحظًا للعمال، وإنما مارس أعمالا مختلفة. وكان يختلف إلى كليات الطب في جامعات كثيرة مثل بوسطن وهارفارد ليكون موضوعًا للدراسة من الأطباء، وكان يتلقى على ذلك أجرًا. وبعد صراع مع نوبات الصرع، توفي في 21 مايو عام 1860 في سان فرانسيسكو عن ثمانية وثلاثين عامًا، بعد أن نجا من هذه الحادثة لمدة 11 عام ونصف.
وبعد أن عرف هارلو بوفاته، طلب من أسرته الحصول على جمجمته من أجل الدراسة. وحصل عليها مع القضيب المعدنى في أواخر عام 1867. ولا يزال متحف وارن التشريحي بهارفارد يحتفظ بهما إلى الآن.
وقدمت حالة فينياس جيج دليلًا على الارتباط بين العملية العقلية (المتمثلة في التحكم في الاندفاع والسيطرة على المشاعر) وجزء من المخ (قشور الجبهة الأمامية). وهذا يؤيد وجهة نظر أصحاب نظرية الهوية.
لم تترك هذه الحادثة على فينياس أضرارًا جسمية باستثاء فقدان عينه اليسرى، ولكن الضرر الخطير كان في شخصيته التى تغيرت تغيرًا كبيرًا إلى درجة أن أصدقاءه قالوا إن فينياس لم يعد كما كان. وقال الطبيب هارلو في بحث عام 1868 : يبدو أنه فقد التوازن بين ملكاته العقلية وميولة الحيوانية، بحيث أصبح متشنجًا، ومهينًا للغاية، ولم يكن ذلك معروفًا عنه من قبل. وفي الختام أستطيع أن أقول فقط مع الخبير الجيد أمبرواز باري : “ضمدت جرحه، وشفاه الله”. (11)
والشيء المحقق أن دماغ فينياس قد تحلل تمامًا، ولكن حالته أفسحت المجال لدراسة العلاقة بين السلوك والفص الجبهي من المخ، وهو أمر لم يكن معروفا بدقة حتى ذلك الحين. زد على ذلك أن حالته مهدت الطريق أمام عصر جديد للجراحة النفسية أو جراحة فصوص المخ وهي علوم تقوم على معالجة الاضطرابات العقلية عن طريق استئصال أجزاء من المخ تسبب هذه الاضطرابات، وذلك بعد أن أثبت فينياس جيج أن الإنسان يستطيع العيش بصورة طبيعية إلى حد ما بعد فقدان أجزاء من مخه. صحيح أن البحث العلمي أدى إلى ظهور كثير من الأدوية المضادة للاضطرابات العقلية والتي تجنب المرضى الجراحات الصعبة والخطيرة، ولكن حالة فينياس جيج طرحت كثيرًا من الأسئلة على علماء الأعصاب وأطباء الأمراض العصبية والنفسية وعلماء النفس حول قدرة المخ على الشفاء الذاتي واسترجاع القوى العقلية بعد تعرض المخ لاصابات شديدة.
الهوامش والمراجع
- صلاح إسماعيل، فلسفة العقل : دراسة في فلسفة جون سيرل، القاهرة : دار قباء الحديثة، 2007، الفصل الثالث .
- Herbert Feigl, “The ‘Mental’ and the ‘Physical’,” Minnesota Studies in the Philosophy of Science, 2, 1958, p. 446.
- Ullin Place, “Identity Theories,” in Marco Nani and Massimo Marraffa (eds.), A Field Guide to the Philosophy of Mind, full text available at http://uniroma3.it/progetti/kant/field/mbit.htm, (2002) accessed February 6, 2013.
- George Graham and Elizabeth R. Valentine,, Identifying the Mind:
Selected Papers of U. T. Place, Oxford: Oxford University Press, 2004, p. 45.
- , p. 14.
- György Buzsáki, The Brain from Inside Out, Oxford University Press, 2019.
- Mario Bunge, Matter and Mind: A Philosophical Inquiry, Boston Studies in the Philosophy of Science, vol. 287. Dodrecht: Springer, 2010, p. 168-169.
- , p. 169.
- , pp. 170-171.
- Ian Ravenscroft, Philosophy of Mind: A Beginner’s Guide, pp. 42-43.
- Harlow, J.M. (1848). Passage of an iron rod through the head. Boston Medical and Surgical Journal, 39, pp. 339-340. [Copy in Malcolm Macmillan, An Odd Kind of Fame: Stories of Phineas Gage, Cambridge, MA: MIT Press, 2000, pp. 414-415,421].