العلم .. التقدم.. الثورة – يُمنى طريف الخولي

أولا: العلم .. التقدم:
ليس العلم والتقدم لفظتين يرتبطان بواو العطف أو بسواها، بل إن العلم التجريبي – كمنظومة وكنشاط معرفي– هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حضارة البشر، يسير قدمًا في متوالية صاعدة دومًا تجعل يومه لابد أفضل من أمسه، وغده بالضرورة أفضل من يومه.
لذلك قيل إن العلم كيان حي، بمعنى أنه بناء صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر. هو منظومة/نسق system متتالي التوالد والتنامي والتغير، مما يعني أن منطقه منطق نظام ديناميكي. معيار العلم أو الخاصة المنطقية المميزة للنظرية العلمية – كما بين فيلسوف المنهج العلمي الأكبر كارل بوبر Karl Popper (1902- 1994) – هي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب. ذلك أن التجريبية التي يقترن بها العلم ليست معينا نغترف منه النظريات كما نغترف الطعام من الإناء، بل إن التجريبية في صلبها عملية اختبار مستمرة للفروض العلمية. وهنا تتجلى عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح “المختبر” مرادفا للمعمل ورمزه النمطي أنبوبة “الاختبار” الشهيرة.
هذه الاختبارات التي هي التجريبية العلمية ليست كانتخابات الدول المتراجعة نتائجها محسومة سلفاً، بل هي اختبار حقيقي قد لا تجتازه القضية العلمية، وقد تجتازه ثم تتطور أساليبه وتقنياته فيكشف عن مواطن قصور أو كذب فيها، فيكون تعديلها بفرض علمي جديد.. قابل بدوره للاختبار التحريبي الذي قد يكشف عن قصور فيه أو يكذبه فيكون تعديله.. وهكذا دواليك في متوالية صاعدة دومًا…. لا تتوقف أبدًا حتى قيام الساعة. وهذا يعني أن العلم يملك في صلب ذاته حيثيات تناميه وتطوره المتوالي، فلابد أن ننتظر من كل تقدم تقدمًا أبعد.
تجريبية العلم التي هي قابليته للاختبار والتكذيب، تجسد طبيعته التقدمية حين تجعله دائمًا يعين مواطن قصوره أو كذبه فيتجاوزها إلى ما هو أقدر وأجدر، ولا يرتكن أبدًا إلى نظرية ما بوصفها حقيقة مطلقة، مهما أحرزت من نجاح في مواجهة العلم المتنامية واللامتناهية للواقع، والتي تجعل إمكانية التكذيب خاصة منطقية قائمة في صلب النظرية العلمية، تميزها عن سواها من نظريات لا تضطلع بهذه المواجهة المسؤولة الملتزمة إزاء الواقع والوقائع.
هكذا يتضح كيف أن منطق العلم التجريبي منطق تقدمي من حيث هو منطق اختبار وتصحيح ذاتي، فينتهي جاستون باشلار Gaston Bchelard (1884-1962) إلى أن العلم يتنكر دائمًا لما ينجزه من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه وتقنينه وتنقيحه. العلم لا يخرج من الجهل لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق. هذا التصحيح الذاتي هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية وتوالي بحوثهم المنهجية.. يكفل لها التقدم المستمر، من حيث أنه يفتح أمامها آفاقًا أوسع؛ فيمثل البحث العلمي دائمًا التجاوز النشِط المسؤول للماضي، فالمبدع الخلّاق للحاضر.. للتقدم الذي يبلغ ذروته الإبستمولوجية في مفهوم “القطيعة المعرفية” التي سنعود إليها لاحقًا.
ومهما أنجز العلم من تقدم، فسوف يظلّ هذا الإنجاز يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. كل إجابة يطرحها العلم يطرح معها تساؤلات جديدة أبعد مرامًا، لتفتح آفاقًا لتقدم أعلى وأخطر. ومهما علَونا في مدارج التقدم لن تُغلق المختبرات أبوابها أبدًا ولن ينتهي البحث العلمي أبدًا، بل يزداد حمية ونشاطًا في سعيه المحموم دومًا نحو المزيد من التقدم.
من هنا كانت التقدمية، وليست العقلانية، هي صلب طبيعة العلم التجريبي. العقلانية تعرضت لتغيرات، وظل مفهومها يتبدل حتى كادت تفقد مدلولها المألوف، وينصرف همّ جمعٌ من فلاسفة العلم، أمثال بول فييرآبند Paul Feyerabend(1924-1994) إلى محاولة تحديد المفهوم الجديد المعاصر للعقلانية العلمية، ويؤكد إمري لاكاتوش I. Lakatos(1922-1974) أن العقلانية العلمية تنمو في إطار عوامل لاعقلانية، من حيث تأكيده على تكامل فلسفة العلم وتاريخ العلم، أو تكامل النظرة إلى العلم من الداخل والنظرة إليه من الخارج. وعبر مناقشات مقنعة وتحليلات دقيقة ينتهي لارّي لودان Larry Laudan(1941-؟) في فلسفته لتقاليد البحث العلمي “research traditions” إلى ضرورة أن نخطو خطوة ثورية، ونجعل العقلانية متعلقة بإمكانية التقدم بل ومتطفلة عليها! والاختيار العقلاني هو الاختيار التقدمي، فهذا ما تمليه طبيعة العلم التي رأيناها مفطورة على التقدم.
ثانياً: العلم.. الثورة:
ومادام العلم هو التقدم والتقدمية، فلا يدهشنا إذن أن “الثورة” في أصلها مفهوم علمي، وأنها الأقدر على تفسير طبيعة التقدم العلمي. ومن العلم تقتبس المجالات الأخرى في الحضارة الإنسانية مفهوم الثورة. وبشكل عام تعني الثورة نمطًا من التغيير الإيجابي، السريع المفاجئ، مغايرًا لمجرد النمو أو حتى التطور الذي هو تغير تدريجي بطيء.
ولئن كان نزول الوحي القرآني في المجتمع القبلي البدائي هو الثورة الكبرى في تاريخنا وفي الحضارة الإنسانية، فقد تبدو “الثورة” مغبونة في تراثنا. فأولاً، المصدر “ثار” لم يرد في القرآن الكريم. وثانياً، هو مصدر يعني في أصوله اللغوية: ثار الغبار بمعني ارتفع فجاة.. احتد وسطع. وفي المعاجم العربية [المصباح النير ومختار الصحاح ولسان العرب] نجد: أثاره غيره، وتثويرا هَيَّجه، وثورانا هاج. ومنه قيل: فتنة ثارت، وأثارها العدو، وثار الغضب:احتد، وثار إلى الشر: نهض. والخلاصة أن اللفظة العربية “ثورة” مردودة في النهاية إلى ثار بمعنى يفيد هاج وماج، فيأتي الرفض التغيير بفعل قوى انفعالية. وليس هذا المعنى مقصودًا ولا مطلوبًا الآن. وثالثاً، لم تظهر “الثورة” البتة في الأصولين الإسلاميين: علم أصول الفقه وعلم أصول الدين. غابت في علم أصول الفقه أي مناهجه وسبل الاستدلال على أحكامه، وعن أبواب الفقه وعن مدارسه. وكذلك لم تظهر”الثورة” في أصول الدين أي علم الكلام الذي هو علم التوحيد. وليست واردة في الحكمة أي الفلسفة، ولا في التصوف ومدارجه. باختصار لم ترد “الثورة” في تراثنا، لا في العلوم النقلية الدائرة حول النصوص الدينية ولا في العلوم العقلية الدائرة في العالم الماثل والواقع المعيش. على الرغم من أن ذلك العالم الواقعي قد شهد ثورات عينية فعلية أشهرها ثورة القرامطة وثورة الزنج. ورابعاً، ربما كان ثمة مفردات قريبة مستعملة مثل: هوجه وانتفاضة واعتصام وعصيان وتمرد…. وبالمثل قد نجد في الإنجليزية مفردات من قبيل: rebellion, insurgency, mutiny, insurrection ………..
على أن الثورة العلمية.. الثورة الحقة بعيدة عن هذه المقابلات العربية والإنجليزية معاً، ولم تظهر في أي تراث سابق على المرحلة الحديثة، لأننا نقصد تعيينًا وتحديدًا لفظة إنجليزية لم تظهر إلا في القرن السابع عشر هي revolution، التي تعني ثورة، مبتغانا ومقصدنا الآن، وقد أصبحت مصطلحًا شديد الدلالة والشيوع.
الأصول الإيتمولوجية، أي أصول البنية اللغوية الاشتقاقية لهذه اللفظة تأتي من المقطعين: دورة volution، والمقطع القبلي الذي يفيد إعادة أو تكرار: (re) ؛ وبالتالي تعني اللفظة إعادة دورة، إتمام دورة تطرف نية اللفظ تعني إتمام دورة كاملة، وبالتالي إعادة () الورةاقعلتبدأ دورة جديدة. وكان علماء الفلك في القرن السابع عشر أول من صاغ أو استحدث هذه اللفظة من المقطعين المذكورين، لتكون أصلًا مفهومًا علميًا بحتًا، فلكيًا رياضيًا، يختص بدورة الجرم السماوي في مداره. هكذا تعني Re-volution : ثورة / إنهاء دورة واستهلال دورة جديدة، وبالتالي تعني revolutionary: ثوري… جذري… متطرف وأيضًا دوّار.
على هذا النحو تشير اللفظة في أصولها إلى بدء الكوكب دورة جديدة في مداره، إلي زمان جديد. ولأنها تشير إلى عهد جديد وتغير ذي اعتبار، فقد انسحب استعمالها إلى مجال الأوضاع المدنية التي بدت هي الأخرى في حاجة إلى مثل هذه الاسقاطات والإشارة إلى انتقال جذري، إلى مرحلة أعلى آن أوانها، لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها، فيشيع ويذيع مفهوم الثورة السياسية.
على أن التطور والتغير في الثورة/الدورة revolution لا يعود هياجًا أو رفضًا مفاجئًا، بل هو تقدم مكثف شديد الفاعلية، انتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن آوانها؛ لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها. وهذا هو المقصود على وجه الدقة من القول بالطابع الثوري للتقدم العلمي، ليعود مفهوم الثورة بعد أن انسحب إلى الواقع السياسي المضطرم، يعود إلى عقر داره: إلى العلم كنشاط معرفي، ليكون الأقدر على تفسير طبيعة التقدم العلمي.
ولئن أبدى مفهوم “الثورة” فعالية في تفسير تحولات تاريخ المدنية، فسوف يبدي فعالية أكثر في موطنه الأصيل: أي في تفسير تاريخ العلم وطبيعة التقدم العلمي. إن الثورة والثورية نظرة يفرضها منطق العلم ذاته، منطق الكيان المطرد التقدم ذي الثورات الحقيقية في تاريخ البشر. والتاريخ المتقد للعلم لا تحيط به إلا الرؤية الباحثة عن ثوراته.
وفي العقود الأخيرة التي تسارع فيه التقدم العلمي تسارعًا مهيبًا، أصبح مفهوم “الثورة revolution” مُعتَمَداً في فلسفة العلم وكثير الشيوع كأداة قوية لتفسير نشأة العلم الحديث وطبيعة التقدم العلمي والخطوات الجذرية التي يقطعها، والتي يصعب أن نعتبرها مجرد تراكم كمي أو تطور عادي. التراكم – أو تراكمية التقدم العلمي – يعني نظرية تتلو نظرية، وكشف بجوار كشف، وكأن العلم مخزن بضائع يمتلئ باطراد، أو أن البحث العلمي يشكل لوحة فسيفساء تكتمل تدريجيًا؛ بل إن العلم بالأحرى حدوسات جريئة تمثل قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارًا.. سلسلة متوالية من الثورات، انتهاء دورة وبدء دورة جديدة. طريق العلم هو طريق التقدم المتوالي.. طريق الثورة/الدورة.
تكاتف فلاسفة العلم في القرن العشرين لإبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي. في الطليعة مؤرخ وفيلسوف تاريخ، هو هربرت بطرفيلد Herbert Butterfield (1900-1979). عمل نائبًا لرئيس جامعة كمبردج، واشتهر بقوله إن التاريخ لا يفيد إلا في تذكيرنا دائما بالنسبوية، وأي حكم أو تقويم يكون بالنسبة لزمانه ومكانه.
كان بطرفيلد مسيحيا متديناً، ومعنيًا بأصول العلم الحديث، حملت محاضراته عام 1948 رؤيته لمفهوم الثورة العلمية بوصفها تتمثل في أن العلماء في مرحلة ما يحدثون تغييراً في مخططات أو تقاليد تفكيرهم، يرون الأشياء القديمة بطريقة جديدة، ويحاولون التوصل إلى فكرة تمثل مفتاحًا يفضّ مغاليق تعثر طارئ، لتتدفق الاكتشافات بسهولة. ويرفض بطرفيلد اعتبار تاريخ العلم تاريخًا للأفراد العظام، أو سلسلة من قصص النجاح، أو تراكم الاكتشافات والمعرفة بالوقائع؛ فذلك لا يعبر عن التناول السليم لتاريخ العلم. هذا التاريخ المتقد، كما يؤكد بطرفيلد، لا تحيط به إلا الرؤية الباحثة عن ثوراته، عن هذا التغيير في مخططات التفكير وتقاليده.
وتوطن التفسير الثوري لطبيعة للتقدم العلمي توطنًا راسخًا بفعل فيلسوف العلم الأكبر كارل بوبر الذي يذهب إلى أن كل نظرية علمية ثورة، قامت على تكذيب سابقتها وإتمام دورتها.. استيعابها وتجاوزها لتبدأ دورة جديدة قابلة هي الأخرى للتكذيب، لتشهد الثورة التالية .. وهلم جرا. فيسير التقدم العلمي في سلسلة متصلة من الثورات. يؤكد بوبر أن كل تقدم علمي وأي تقدم علمي هو ثورة ما، دورة جديد أكبر أو أصغر.
التقط الفيلسوف الأمريكي توماس كون Thomas Kuhn (1922-1996) أيقونة الثورة من كارل بوبر وأخرج كتابه الشهير “The Structure of Scientific Revolutions بنية الثورات العلمية-1962” الذي يعد علامة فارقة في مسار فلسفة العلم، ويفسر التقدم العلمي بأنه تراكم تعقبه ثورة، يتلوها تراكم.. تراكم ثم ثورة وهكذا. لذا يمكن اعتبار نظرية توماس كون في طبيعة التقدم العلمي مركبًا جدليًا من التراكم والثورة، على أن مفهوم الثورة وبالمثل مفهوم النموذج الإرشادي أو البراديم Paradigm قد أصبحا بفضله عمادا فلسفة العلم، وتجاوزا أروقتها وجدرانها ليسودا الخطاب الثقافي العام، ويصبحا من معالم الفكر الراهن.
ثالثاً: الثورة والقطيعة:
وكان جاستون باشلار شيخ فلاسفة العلم في فرنسا قد أبدى هو الآخر حرصًا بالغًا على إبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي، إذ يرى أن كل حقيقة لابد وأن تُكتسب بنوع من النضال والانتصار، والتقدم في العلم يتم من خلال صراع بين الجديد والقديم، ولا يتحقق إلا بنوع من التطهير الشاقّ للأخطاء. المعرفة لا تسير في طريق ميسّر معبّد مباشرة إلى الحقيقة، بل إن طريقها ملتوٍ متعرج، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان، ويصارع فيه الصوابُ الخطأَ صراعًا مريرًا كيما يخلص نفسَه منه. وهكذا نلاحظُ أن فعلَ المعرفةِ في كلِ حالٍ ينطوي في حدِ ذاتِه على ثورةٍ من حيث ينطوي على صراعٍ. يتبلور هذا الصراعُ في السلب.. في (اللا) التي أصبحتْ مقولةً لا يستغني عنها العلمُ (لا حتمية، لا تعين، ميكانيكا لا نيوتنية، وهندسات لا إقليدية …) ذلك أن الجِدّة العلمية لم يعد من الممكن اكتسابها إلا عن طريق السلب المنظم، الذي يصارع القديم ويرفضه، ويعبر عن ما يطرأ على العلم من تحولات أساسية، عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، ويراجعها من جديد.
على أساس الصراع مع الخطأ، السلب والجدلية، الانفصال .. يتضح لنا عمومية التصور الثوري. ويغدو التقدم العلمي مرهوناً بحدوسات جريئة تمثل بدورها قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكاراً، فروح العلم هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها أو ما يسمى منطق التصحيح الذاتي. وينفي باشلار عن نمو المعرفةِ العلميةِ أية سكونية تراكمية تجعلنا نؤمن باستمرارية الأشكال العقلية وثباتها واستحالة قيام طريقة جديدة للفكر.
هكذا يرى باشلار أن الفكر العلمي هو الإبداع الحقيقي والتاريخ الحركي للفكر. على أن حركية التقدم العلمي تبلغ الذروة في: “القطيعة المعرفية”.
القطيعة المعرفية مفهوم أبدعه بشلار ولكنها خرجت من أعطاف فلسفته، بل ومن حدود فلسفة العلم، وشاعت هي الأخرى وذاعت في سائر جنبات الفكر لأنها أبدت خصوبة وفعالية في تفسير التحولات الكبرى.
والقطيعة المعرفية في فلسفة العلوم تعني أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، فهو شق طريق جديد لم يتراءَ للقدامى ولم يردْ لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق وبالتالي الأضيق والأكثر قصوراً. وليس هذا بمعنى نفي الماضي وإنكاره، فذلك غير وارد في التقدم العلمي الذي يمتاز عن أي تقدم آخر في حضارة البشر بأنه ليس أفقياً بل رأسياً، يرتفع طابقاً فوق طابق، فلا يرى نيوتن – كما أكد هو نفسه – أبعد من سابقيه إلا لأنه يقف على أكتافهم .. القطيعة تعني أن التقدم لا يعود مجرد تواصل ميكانيكي أو استمرار تراكمي لمسار الماضي، أو تعديلاً أو إضافة كمية له، بل هو شق طريق جديد كل الجدة. والمثال الأثير لباشلار “المصباح الكهربي”، فهو ليس استمرارًا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق؛ هذا خلق وإبداع جديد تمامًا. والجدة العلمية Scientific Novelty تمثل بؤرة التقدم والانفصال عن ماضي العلم والإضافة الحقيقية لحاضره.
القطيعة المعرفية هي التجاوز النشط المسؤول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر. فلا تعود اللحظة تكرارًا كميًا للتاريخ، بل هي عمل دؤوب، وهي إنجاز – إنجاز للتحديث الجذري. وعن طريقها يؤكد الإبداع العلمي حدس اللحظة التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث أنها هي الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة الذهنية – بتعبير باشلار- في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية وأن نجعل منها منبعًا لحدسنا، متدفقًا دومًا، وأن نرسم انطلاقًا من التاريخ الذاتي لأخطائنا النموذج الموضوعي لمعرفة تكون أفضل وأوضح.. أكثر تقدمًا.
على هذا النحو تبرز القطيعة المعرفية وطأة التقدمية العلمية حين تكون حادة وجذرية. وفي كل حال نجد التقدم إلى حد الثورية مفطورًا في بنية المعرفة العلمية التي تتصدر باقتدار وامتياز مسيرة المعرفة الإنسانية كأنجح نشاط معرفي مارسه الإنسان.
رابعاً: القطائع والتحولات:
على أن العلم ليس فقط معرفة خالصة، سابحة في أجواء العقل الخالص أو حتى العقل التجريبي، بل إنه يتكلّل بقدرته الفريدة على الحوار الإيجابي الخلّاق مع الواقع الحي المعيش، والقدرة على توجيه وقائعه وأحداثه، وفي الأعم الأغلب بما يحقق منفعة وصالحًا أكبر للإنسان. إنه ما يعرف بالتقانة أو التكنولوجيا التي قيل إنها أقدم عهدًا من العلم، ومن التاريخ المكتوب. وفي المرحلة الراهنة نجد التفانة قد جعلت العلم بلا جدال أقوى العوامل المشكلة للواقع. وبالتالي من المنطقي تمامًا أن ترتد هذه الثورية التقدمية المعرفية، إلى ثورات فعلية حياتية معيشة، أصبحت تملأ الأفق الآن، من قبيل ثورة المعلومات والثورة الرقمية وثورة الاتصالات وثورة الهندسة الوراثية…….. إلى آخر هذه الثورات التي تعني هي الأخرى قطائع وتحولات.
ومنذ مطالع العصر الحديث، وبخلاف التقانات والتطبيقات، أو قبلها، انعكست قيم العلم ومثله على البنية الحضارية. لقد كان العلم التجريبي الحديث هو الذي علم الإنسان رفع الوصاية من عليه، مادام يملك العقل والحواس ليبحث بنفسه عن المعرفة ويستجوب موضوعها ويصحح أخطاءه ويعلو بمدارجه يوماً بعد يوم، فكان العلم من أقوى العوامل التي ألقت في أسس الوعي الحضاري المحدث قيم الفردية والمبادرة. وقبلا نجد روح العصر قد تمركزت في التجريبية: المنهج الملائم لبحث الطبيعة. وذلك لأن الطبيعة قد أصبحت آنذاك سؤال العصر إثر الثورة الكوبرنيقية والكشوف الجغرافية اللتين علمتا إنسان عصر النهضة وبواكير العصر الحديث، أن الطبيعة أوسع كثيراً.. كثيراً من كل ما بدا لأرسطو وللأقدمين. لم تكن التجريبية المنهج الملائم للعلم الطبيعي فحسب، أو دائرة معرفية سمحت بها وعززتها الإيديولوجيا السائدة، كما كان الوضع في الحضارة العربية الإسلامية الأسبق، بل كانت التجريبية هي ذاتها أيديولوجيا الحضارة الغربية الحديثة وروحها السائدة.
على الإجمال، صنع العلم الحديث العقل الحديث للإنسان الحديث في العصر الحديث، وإلى ظاهرة العلم ترتد أبعاد ومتغيرات ومعايير الحداثة. بعبارة أخرى العلم الحديث هو الذي صنع الحداثة والعصر الحديث، وليس العكس كما هو شائع.
وتتصدر الواجهة التقانةُ، أي قوى العلم التطبيقية التكنولوجية التي يتبدل معها كل شيء تبدلًا عظيمًا، بدءًا من المثل العقلية وانتهاءً بوقائع الحياة اليومية، مرورًا بأشكال التنظيم الطبقي والعلاقات الدولية.وتعود الثورية التقدمية العلمية لتطل بوجه مختلف حين تزلزل التكنولوجيا ثوابت لم يخطر ببال أحد إمكانية المساس بها، وتخلق إمكانيات واستطاعات لا عهد للبشر بها من قبل.
لا تبدو نواتج الهندسة الوراثية الآن مروعة، أكثر مما بدت نواتج تطور الأسلحة النارية في القرن السادس عشر، فهي الأخرى تعصف بالحياة وتتلاعب بحدودها وتدمر قيم الفروسية والشهامة والمروءة والرجولة والشجاعة والمواجهة والتحدي كما كانت مألوفة ومعاشة ومبجلة في ذلك الزمان، وتحتل في منظومة الشرف منزلة تداني منزلة القيم الإنجابية. وبالمثل المحرك البخاري والقطار أو قطعة الحديد الصلد التي تتحرك من تلقاء ذاتها لتجوب المعمورة، وفيما بعد لتشق أجواز الفضاء.. وسائل الاتصال التي تلغي الزمان والمكان، الإضاءة الكهربائية التي تقلب الليل نهاراً، الأساليب التي تزيح حدود الموت أو تُسمع الصُم وتُبصر العُمى وتُنهض العجزة… الخ.
بعد حين يطول أو يقصُر، وفي الأغلب يقصر، تتلاشى انفعالات الاستقبال الأوليّ ويألف البشر الوضع المستجد. وتلك المتغيرات التي بدت عاصفة، تغدو بدورها ثوابت، ويعمل البشر على استغلالها وتطويرها، ريثما تعصف بها هي الأخرى مستجدات أبعد.
و الآن، في القرن الحادي والعشرين، لا بد أن نتجاوز مرحلة الارتياع والجزع أو الافتتان والانبهار بالعلم ومنجزاته، إلى مرحلة حُسن تشغيله وتطويعه وتوجيهه؛ فلا يعود الاهتمام الفلسفي التقدمي فقط بمنهجية العلم وإبستمولوجيته بل أيضا بقِيمه وأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية؛ فالعلم ببساطة ظاهرة إنسانية، بيد أن ثوراته التقدمية لا تتوقف ولا يخبو وهجها أبدًا.