
بدأتُ تأليف كتابي الأخير “شعر وموسيقى العلوم (2019)” (The Poetry and Music of Science) بعد زياراتي العديدة للمدارس وعملي مع تلاميذ الصف السادس في فصول الدراسات العامة. وكان هؤلاء التلاميذ البالغين من العمر 17-18 عامًا يقولون لي إنهم لا يجدون أي مجال لإضفاء مخيّلتهم وإبداعهم على العلوم. وكم سمعتُ هذه الملاحظة، مرارًا وتكرارًا في أكثر من مناسبة، من شباب لامعين بما فيه كفاية لينجحوا في أي مادة يركزّون عليها.
مع ذلك، لا يستدعي الأمر ذكاء ألبرت آينشتاين لملاحظة أنه لا وجود للعلوم مُطلقًا بدون الخطوة الأولى الأساسية إليها، وبدون الإبداع في إعادة تخيّل الطبيعة وتصوّر الفرضيات لما قد يحدث وراء السطح المادي للظواهر. ولآينشتاين رأي في هذه المسألة بالطبع؛ إذ قال في إحدى المقابلات عام 1929م:
يكفي أن أكون فنانًا لأرسم مخيلتي بحريّة، والخيال أكثر أهمية مقارنة بالمعرفة؛ فالمعرفة محدودة بينما الخيال يُطوّق العالم.
إنّ جميع العلماء يعرفون هذه الحقيقة في الواقع، بيد أنهم كتموها منذ قرنين وفضّلوا طرحًا أكثر أمانًا في الأساليب التجريبية ومنطق الاكتشاف العلمي. ويؤيد تعليم العلوم أسلوب تقديم النتائج والتركيز على المعرفة بدلًا من الالتفات للقصص الإنسانية عن العجائب، والخيال، والأفكار الفاشلة، ولحظات الاستنارة المجيدة والدخيلة التي تنظّم حياة كلَّ من يشتغل بالعلم فعلًا. ويتفوّه إعلامنا بذات الرسالة؛ فلن أنسى أبدًا ذلك الوثائقي لقناة البي بي سي فيما يخص علوم الحاسوب الذي أكدّ فيه المُقدِّم على المُشاهدين مواجهًا الكاميرا وقال إنّه لا يوجد مجال للخيال في العلم، لذا لا عجب أن يُحبَط زملائي الشباب!
إذا كان العلماء يخجلون –إلى حدٍّ ما- من خبرتهم في الخيال، فإن الفنّانين والمؤلفين والملحّنين الذين تحدثتُ معهم احتاجوا إلى ذات الصبر، ليستنبطوا حاجتهم المُتكررة لمبدأ التجربة. فكما يعلم كل فنان أن كشط الطلاء من اللوحة الفنيّة، وإعادة صياغة الرواية للمرة العاشرة، وإعادة تسجيل المادة الموسيقية المواضيعية ما هي إلا تبعات للقيود المادّية التي يواجهها الإبداع بشكل غير متوقع. ويضع الفنّان أيضًا الفرضيات حول كيفية تحقيق عمله وكلماته وموسيقاه للهدف المنشود حتى وإن لم يكن هنالك أي تصوّر واضح.
تبيّن أن ميلاد الرواية الإنجليزية المتزامن تاريخيًّا والأسلوب التجريبي في العلوم لم يكن مصادفة. وبدون الادّعاء الساذج أن للفن والعلوم ذات النتيجة بأي حالٍ من الأحوال، إلَّا أن أوجه التشابه في خبرة من يعمل في هذين المجالين تُعدُّ ملحوظة. وهم في حاجة إلى اكتشاف الحقيقة لأنها أصبحت محجوبة نتيجة خجل العلماء من التحدث عن الخيال وفي المقابل خجل الفنانين من التحدث عن التجربة.
وأصبح هدف مشروعي في الكتاب أن أُنصت إلى أي شخص يؤلّف الموسيقى أو يخترع الرياضيات أو يصنع اللوحات الزيتية أو يٌنشئ نظرية الكمّ، وأسلط الضوء على السُلطة الإبداعية للقيود التي تواجه ذلك الشخص في مسيرته. ورغم هذا، أبت الحبكة المُتصوَّرة بالأصل في كتاب “شعر وموسيقى العلوم” أن تتصاعد في خضوع غريب لنمط مادتها.
إنّ الأدلة المتجاورة لقصص الابتكار في الفن والعلوم، التي يليها مقال مُطَوّل في التباين والمقارنة بينهما، قد فشلت –على نحو متزايد- في إنصاف مُحتوى المادّة. وسبق أن حكت مصادر تاريخية ومُعاصرة قصة مختلفة تمامًا حول الخيال المُبتكَر، والتي لم تفصل ما بين السطور المُبتذَلة لكتاب “الثقافتان” ((The Two Cultures، عوضًا عن ذلك، بدا نمطٌ واحدٌ من بين ثلاثة أنماط للتعبير الإبداعي أكثر إخلاصًا.
إنّ النمط الأول من الخيال البصري هو المصدر الرئيس للفنّان بالتأكيد وذات الأمر ينطبق على العديد من العلماء، بداية من علماء الأحياء الجزيئية ووصولًا إلى علماء الفيزياء الفلكية. وعلم الفلك هو المصدر الأول لمبدأ رسم الإسقاط المنظوري؛ فمثلًا لو طُلِب من المُعاين لأي رسم أن يُعيد إنشاء عالم ثلاثي الأبعاد من صورة أو فكرة على لوحة ثُنائية الأبعاد، عندها ستتطلب مهمة “رؤية” الكون من الصورة التي ندعوها السماء أن تصنع مُحاكاة بنيوية واضحة.
يتمحور النمط الثاني في النصيَّة واللغوية. وقد يكون للترابط بين العلوم والكلمات المكتوبة في النثر أو الشعر نقطة التقاء أساسية عند ميلاد الرواية -كما أشرنا سلفًا-، ولكن الحكاية أطول من ذلك بكثير. وهنالك روايات “التاريخ البديل” (Alternative History) أيضًا التي صوّرها الشاعر ويليام ووردزوورث في مقدمة ديوانه “الأناشيد الغنائية” (1798) Lyrical Ballads))، وبالطبع قد صاغها من قبله كلُ من يوهان فولفغانغ فون غوته وألكسندر فون هومبولت، وهي كالآتي:
إنّ أقصى اكتشافات علماء الكيمياء والنبات والمعادن ستكون أغراض مناسبة لفن الشاعر مثلها مثل أي شيء يُمكن توظيفه، وسيحين الوقت الذي تكون فيه هذه الأمور اعتيادية بالنسبة لنا.
هذه الرؤية الشاعريّة لم تتحقق بعد وذلك بسبب الاستثناءات الملحوظة التي قدّمها رونالد توماس وأحيانًا ويليام بتلر ييتس في مجال الشعر، وفراشات فلاديمير نابوكوف المُحبَّبة التي لطالما تجاوزت رفرفتها من عمله في العلوم إلى عمله في الروايات، وهذا ما يؤدي إلى الإحباط بالتأكيد من التقديم الرتيب جدًّا للعلوم الذي بدأنا به.
يظهر النمط الثالث للخيال عندما تتلاشى كلٌّ من الصور والكلمات؛ لأنّنا حين نتوقع فضاءً مُبتكَرًا، نجد عوضًا عنه الأفكار المُجردة الغامضة والعجيبة للموسيقى والرياضيات. وهذه البُقعة المُشتركة بينهما سبب وجود التشابه في المجالين حتمًا، وليس السبب بالتأكيد القواسم الظاهرية في البُنية العددية التي تربط الأنغام والتناغم بالبُنية الرياضية، بل صيغها التمثيلية الموجودة في جميع الأكوان التي يصنعها عقلنا.
عندما تأخذ رحلةٌ ما أحدهم إلى مكانٍ تأمليٍ كهذا، فإنها ليست سوى خطوة بسيطة نحو إدراك الحاجة إلى تفكير متعدد التخصصات لفهم كل ما يدور حوله. ويعدُّ علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وعلم الأعصاب الإدراكي للإبداع أمرين مُشوّقين؛ أحدهما يعود بنا إلى الأدوات الحجرية لأسلافنا الأوائل مع فجر البشرية، والآخر يأخذنا إلى التوازن الدقيق بين جانبي المخ؛ الأيسر التحليلي والأيمن التكاملي. ويتصف التقليد الفلسفي بأنّه غني بذات القدر، فعلى سبيل المثال، اكتشاف شكوك إيمانويل ليفيناس تجاه النمط البصري نتيجة إبعاده الضمني وتفضيل النمط الصوتي أو السمعي بسبب استيعابه موضوع المادّة. ويُناقش التقليد الفينومينولوجي (الظاهراتي)، بداية من مارتن هايدغر وموريس ميرلوبونتي وحتى حنّة آرنت، نمطًا علائقيًّا بين البشر وغير البشر الذي ينشر الفن والعلوم ليصف الطبيعة كما لو أنها كانت نتاج خيال بشري. وكما كتب الناقد الأدبي جورج ستاينر في كتابه “الوجود الحقيقي” (1989) Real Presences)):
“يُمكن للفن وحده أن يشقَّ الطريق نحو الوصول إلى الاختلاف اللابشري المُجرّد للمادّة ونحو الوعي إلى قدرٍ من قابلية الانتقال إليه“.
يمكنني القول بدقَّة إن الأمر سِيَّان في العلوم، فكيف يُمكن أن يزيد، بطريقة عملية، شعور التقدير الأعمق لما يقدمه الخيال الابتكاري من خدماتٍ للعلوم؟ وهنالك نتائج تترتب على كل من العلماء المختصّين أنفسهم وعلى المجتمع ككل.
حسب خبرتي بصفتي فيزيائي مُمتهِن، وخلال مُدّة التأهيل للدكتوراه وما بعدها، لا يمكنني أن أتذكر ساعة واحدة قضيتها سواء في جانب واحد فعّال من جوانب الإبداع كمناقشة ممارسات العمل، أو في أساليب الحياة التي يمكنها أن تعزز التدفق الإبداعي الضروري للأفكار العلمية. وعلى أي حال، هنالك الكثير ليُناقَش، مثلًا، الترابط المنتظم مع العلوم السمعية والبصرية، والتناوب بين التركيز العقلاني الحاد واللاتركيز التكاملي، والسماح بفترات الراحة عند مواجهة أي مشكلة، كل هذه المواضيع جديرة بالمناقشة مبكرًا في المهن العلمية.
وعلى نطاق أوسع، المنفعة التأمليّة للعلم العادي والمشاركة في الكتابة العلمية عالية الجودة التي تشمل “الاستثناءات البارزة” الشعرية ((Notable Exceptions– ويعدُّ كتاب جون كاري “كتاب فيبر للعلوم (1995)”(The Faber Book of Science) بداية جيّدة – بإدراك أن كما للعلم بنية عميقة في الثقافة البشرية فإن للفن ذات الدور، كل هذه الأمور لن تقود إلا للثراء والتمكين. وباكتشاف وسائل أخرى لتعلّم العلوم غير الطرق التقليدية الرسمية، كتدريس تاريخها وفلسفتها وأفكارها العميقة المطروحة بشكل بسيط وإعادة اكتشاف المُتعة الناتجة من الملاحظات الشديدة للطبيعة؛ بهذا قد يكتشف أناس كثيرون أن المفهوم الدارج: “العلوم ليست لي” الذي غالبًا شاع في وقت مبكر من الحياة، ليس سوى مجرد خدعة قاسية.