لا يلجأ العبقري إلى استخدام القواعد لأنها عكاز يحتاج إليه الأعرج بالضرورة وهي عائق للسليم ألقى بها هوميروس بعيدًا. إدوارد يونغ
إن ارتباط الفن بالميتافيزيقا وخضوعه لها قديم قِدم البشرية، وفي هذه المقالة سوف أبين التدرج بقفزات سريعة علاقة الفن بالميتافيزيقا، ومن ثم سرد موجز لأهم المحطات التي ساهمت في ظهور الفن المستقل أو الفن التجريبي الذي يُعتبر عدواً لدودًا للميتافيزيقا. وفي نهاية المقالة سأبين فوائد الفن المستقل بالإضافة إلى ثلاثة مفاهيم من أجل الحكم الجمالي أو حكم الذوق وهي: (الكون المُغلق، التهذيب القائم على مفهوم الطُرق، الانطباع).
الفن والميتافيزيقا:
عُرف لدى الكثير بأن أفلاطون وجّه تُهمًا قاسية ضد الشعراء في محاورته الشهيرة(الجمهورية) وطالب بطردهم حتى لا يفسدوا الناشئة، إلا أن هذا الحُكم على أفلاطون يخلو من الدقة حيث أنه في ذات المحاورة يُثني على الشعراء بوصفهم “ينطقون بلسان الآلهة” ، كما أنه يسمح بفنٍّ يُهذب النفس أي محكوم وخاضع لقواعد الأخلاق، وهذا ما يظهر بصريح العبارة في محاورة(فايدروس) حيث يفرق بين محاكاة صادقة ومحاكاة كاذبة، ومن هُنا تحديدًا سأشرع في بيان ماذا تعني المحاكاة الصادقة والتي هي “الميتافيزيقا” حتى لا نغرق في الغموض والالتباس.
لدى أفلاطون عالمين: العالم المحسوس والعالم المعقول، وهذا الأخير هو ما يطلق عليه “المُثل”، وعلى الفنان أن يحاكي الثابت والأزلي ويبتعد عما هو متغير وزائل، والذي أريد أن أصل إليه مباشرة أن الميتافيزيقا هُنا تعني: جملة من القواعد الراسخة في عالمٍ مثالي لا يتغير. ومن هنا ظهرت نظرية “المحاكاة”؛ فالفن محاكاة للطبيعة، وهذه الأخيرة تعني الطبيعة المثالية. إذن ما القواعد والمبادئ التي يجب على الفنان إتباعها؟ أفلاطونيًا هي التناسب والتناسق وكذلك “أمثلة” الواقع بحيث لا يصور الجزء البشري كما هو، بل تنُحت التماثيل بلمسة الأبدية كما فعل فيدياس.
إن هذا المبدأ – أي محاكاة الواقع – موجود عبر التأريخ، ولم تبدأ الثورة ضد قواعد الفن اليوناني دفعة واحدة، بل أخذ الأمر زمنًا طويلاً حتى ظهور الفن المستقل ومفهوم “التجريب”. وحتى لا نبتعد عن الحقبة اليونانية أُحب أن أسجل تغيراً طفيفًا بدأ مع أرسطو ولم يلحظه كثير من الباحثين وهو ما ذكره في كتاب “فن الشعر” بأن المحاكاة ليس هدفها فقط تعليم الأخلاق والفضيلة بل لدى الإنسان ميل للمحاكاة ينتج عنه مُتعة ولذة.
ما يهمني بعد هذا السرد الوجيز هو التالي: الميتافيزيقا عبارة عن مجموعة من المبادئ والقوانين التي لا تتغير، وعلى ذلك سار الفن حتى عصر النهضة (مع عدم إهمال أنسنة كارافاجيو) وبدأت الثورة الممهدة للفن المستقل في العصر الرومانسي حتى أعلن الفن تخلصه من انسدادات الميتافيزيقا مع ظهور الانطباعية والدادائية والسوريالية …الخ.
الرومانسية ومفهوم العبقرية:
تُنسب الرومانسية عادةً عند ذكرها إلى جان جاك روسو وذلك لأنه خرج عن البرادغايم (المنظومة التشريعية) لعصره ، ففي حين كان فولتير وديدرو يدافعون عن العقل وقوانين الطبيعة خرج روسو ليقول إن العقل ليس هو الحاكم المُطلق بل هناك العاطفة والوجدان، فبدأت النقلة من جمالية المحاكاة إلى جمالية التعبير، وكما يذكر في اعترافاته : إن الموضوع الحقيقي لاعترافاتي هو الكشف عن أفكاري الباطنية بدقة في كل مواقف حياتي، إنه تاريخ روحي الذي وعدت بأن أسرده ولا أحتاج لأية ذكريات أخرى كي أكتبه بأمانة ، يكفي أن أدخل مجددًا في نفسي الباطنية كما فعلتُ حتى الآن. وهذا بمثابة البيان لظهور الرومانسية في الفن.
سنجد عند هيغل تعبيرًا قويًا لوصف الرومانسية: “باطنية مُطلقة” وفي هذا الوادي مات الفن هيغليًا، ولكن حتى يتبين القصد بطريقة أكثر وضوحًا نقول: إنه من الفيزياء النيوتونية حدثت القطيعة مع الفيزياء الأرسطية التي تقسم ما بين عالم علوي أزلي وطبيعة يعتريها الكون والفساد. لدى نيوتن: ” كل جسم إما …الخ” فالفاتحة بلفظ “كل” أحدث قطيعة مع الرؤية اليونانية بعامة. وفيزياء نيوتن أوجدت مفهوم قوانين الطبيعة الثابتة وانعكس هذا الأمر على ديكارت وهوبز وسبينوزا حيث قالوا بأن الطبيعة تسير وفق قوانين ثابتة وحتمية (حاول ديكارت حل هذه الإشكالية بثنائية الفكر /امتداد). فالرومانسية أرادت الخروج عن هذه الحتمية والقواعد الثابتة وكل تلك الدعاوى للرجوع للفن اليوناني وجعل قواعد الفن الكلاسيكي ميتا-تاريخية أي فوق الزمان، من هنا ولدت الحاجة للعودة إلى الباطن وتغيير قواعد الفن ومبدأ محاكاة الطبيعية، حيث اهتم عصر النهضة بتقنية المنظور والرسم بالفحم والتبخير مع دافنشي حتى يقاربون الطبيعة كما هي.
أنهي ما أريد توضيحه عن الرومانسية التي جاءت ضد قوانين الطبيعة الحتمية (كما رأينا سلفًا قواعد أفلاطون المثالية وهنا قوانين الطبيعة) بما قاله دولاكروا: إذا كانت الرومانسية تعني التجلي الحر لانطباعاتي الشخصية ونفوري من النماذج المنسوخة عن المدارس واشمئزازي من الوصفات الأكاديمية عليّ أن أعترف بأني لستُ رومنسيًا اليوم فحسب بل إني كنتُ كذلك مند سن الخامسة عشرة.
وهنا نكون قد وصلنا إلى أن الفن قد تقيّد مجددًا بقواعد محاكاة الطبيعة، وما الرومانسية إلا محاولة للخروج من هذه الآلية والحتمية التي تحكم الطبيعة. على الفن أن يكون حرًا غير خاضع لأي سلطة، لذلك بدأ الحديث عن مفهوم العبقرية مع ادوارد يونغ، وأخذ هذا يترسخ نسقيًا مع كانط في كتابه (نقد ملكة الحكم). ولكن قبل الشروع في ذكر ماهية العبقرية لدى كانط عليّ أن أرسم الخطوط العريضة لرؤية كانط الإبستمولوجية (المعرفية).
يعتقد كانط بأننا نملك مقولات قبلية في “ملكة الفهم” تسبق التجربة زمانيًا وهذه المقولات هي ما تشّرع للطبيعة، بمعنى أن المقولات بلا مادة فارغة والمادة بلا مقولات عمياء، وهذا ما قاده إلى القول بأننا لا نرى العالم كما هو “في ذاته” بل نرى “الظاهر” أو ما يظهر لنا كما لو كُنا نرتدي نظارات سوداء فنحن مقيدين برؤية العالم بلون العدسات، إلا أن هذه المقولات كلية وضرورية بمعنى أن الطبيعية لديه تقوم على قوانين ثابتة لا تتبدل. السؤال الذي يتقدم هنا: ما الفرق إذن بين العالم والفنان؟
إن “القواعد” أو القوانين لدى العالم ثابتة لا تتغير وما يفعله العالم ليس إلا اكتشافها، لذلك يرى أن الفرق بين العالم ومُقلده هو فرق في الدرجة فقط، بينما الفنان يطلق عليه كانط “عبقري” والعبقري عنده أفضل من نيوتن وغاليليو ، ومعياره في ذلك أن العبقري يُبدع القواعد بطريقة أو بأخرى، وفي إشارة صوفية يذكر كانط في ذات الكتاب بأن لفظ genius تعني في اللاتينية “الروح الخاصة المُعطاة للإنسان عند ميلاده لحمايته وتوجيهه”، من هُنا بدأ الطلاق مع الميتافيزيقا بالمعنى الذي بيناه في بداية المقالة، فالعبقري ذلك البطل الرومانسي هو من يخلق القاعدة ولا يُدرك مصدرها ومن أين أتت، إنها هبة الطبيعة ، لذلك يعجز عن نقلها من خلال التدريس كما يزعم كانط. وعليّ أن أنقل ما ذكره كانط حين قال:
“فلما كانت الموهبة الطبيعية هي التي يجب أن تعطي الفن (بما هو فن جميل) القاعدة فما هو نوع هذه القاعدة إذاً؟ إنه لا يمكن التعبير عنها في صيغة حتى تصلح أن تكون تعليمًا وإلا لكان الحكم على الجميل أن يتحدد بحسب مفاهيم، بل على العكس يجب أن تُجرد (تستنبط) القاعدة من الفعل أعني من الناتج الذي بالنسبة إليه يمكن الآخرين أن يقيموا مواهبهم باستخدام هذا الناتج لا كنموذج يتم نسخه بل يحتذى كقدوة”
وهكذا وصلنا إلى نقطة مهمة في تاريخ الفن وزحزحة قواعده الثابتة والكلاسيكية مما يساعدنا على ولوج القرن التاسع عشر، حيث بدأ الفن بالاستقلال تمامًا عندما تحرر الفنان من كونه حرَفيًا يُنفذ طلبات الملوك أو التجار، وصار قادرًا على جمالية التعبير الروسوية، ولكن كانت الضريبة أن أُطلق عليهم: المنبوذون!
بداية الفن المستقل:
يُخبرنا مؤرخ الفن صاحب الكتاب الرائع (قصة الفن) غومبرتش بأن الفنان بدأ يأخذ في القرن التاسع عشر حريته فلم يعد يتلقى الطلبات من أكابر القوم والنبلاء، ولكن ليس الكل كذلك فهو عصر التحدي والاختيار بين الشغف بصناعة الفن وتفكيك القواعد السائدة وبين المضي قُدمًا مع ما تمليه الأكاديميات والمؤسسات الرسمية، واختيار الاستقلال يعني إما العيش كفافًا أو الولادة بعد الموت.
لكن هذا الصراع بين الذوق العام وبين فردانية الفنان لم يكن خطيرًا إلا “على الشخصيات الضعيفة، إذ أن اتساع مجال الاختيار والاستقلال عن نزوات الرعاة التي كانت كلفة اكتسابها كبيرة قد حصلت منهما فوائد أيضًا، لقد أصبح الفن ربما أول مرة وسيلة الفنان الكاملة للتعبير عن فرديته حقا شريطة أن يكون للفنان فردية للتعبير عنها”.
ظهرت الانطباعية مع مانييه ومونييه ورينوار بغية قلب القواعد الكلاسيكية في تصوير الواقع، فما يهم هو كيف تنطبع الأشياء من خلال حواسنا وكيف نراها، كلوحة ” انطباع شروق الشمس ” فأنت ترى تدرج الألوان كما لو كنت واقفًا عند الشاطئ والزورق في عتمته المُبعثرة، وضوء الشمس الذي يتموج على سطح البحر بلونه الأرجواني، إنها لوحة ببساطة بلا خطوط مستقيمة بل ضربات فرشاة سريعة كفيلة بخلق انطباع يُبعثر الحواس. ولكن الوسط الأكاديمي لم يُعجب بهذه الحركة التي تعادي قواعد الفن المتعالية، ففي عام ١٨٦٣ رفض الأكاديميون عرض لوحات مانييه في معرضهم الرسمي (الصالون)، وبعد الاضطراب الذي تبع هذا الرفض تحركت السلطات لعرض كل الأعمال التي رُفضت من الصالون الرسمي في معرض أطلق عليه (صالون المنبوذين). هذا المعرض الذي وُصم بتسمية تحقيرية كان بداية الفن المستقل والجرأة على التجريب. ففي باريس بدأ خطٌ موازٍ لخط الفن الرسمي أو التجاري، إنه الفن المستقل الذي يُربك النقاد ويزاحم الميتافزيقيا التي تروم دومًا نحو الثبات ورفع القواعد للمطلق حتى لا يتجرأ أحد على المساس بما يُطلق عليه “الفن الكلاسيكي”.
بهذه النقلات السريعة يتضح لنا كيف سار الفن نحو الاستقلال حتى بلغ أوج لُعبته في الفن المعاصر، بداية مع الدادائية والسوريالية والتكعيبية، ولم يقتصر الأمر فقط على الفن التشكيلي بل حتى في النحت نجد رودان وهو العلامة بأعمال آنجلو بدأ بنحت تماثيل ناقصة ومبتورة لغايات فلسفية تتعارض تمامًا مع النحت اليوناني-الروماني.
إن التبدلات في تأريخ الفن طفيفة جدًا ومؤثرة، ولم يكن القصد هنا تأريخ الفن بقدر بيان وجاهة الفن المستقل وقوة مفهوم التجريب من حيث:
1-الفن المستقل يزاحم الميتافيزيقا وقواعده الثابتة، وهذه القواعد قد تكون اجتماعية أو اقتصادية أو حتى لغوية، فالفن المستقل في مجال الرواية مثلا يُغير من ذائقة الجمهور ويزلزل القواعد الرسمية كما كانت صناعة السينما في هوليوود.
٢- الفن المستقل لا يُعطي مساحة للبطريركية(الأبوية) ولا أي شكل من أشكال السلطة، سلطة المؤلف أو النص أو الناقد الأبوي.
٣- الفن المستقل يُحرك المياه الراكدة فمن يتتبع مثلاً تأريخ الرواية والسرد يلاحظ بأن القفزات تأتي عند بلوغ المجال للتخمة، كما هو واضح اليوم في صناعة السينما لذلك التجريب ليس ضربًا من العبث.
مفاهيم من أجل الحكم الجمالي والتهذيب الفني:
أ- الكون المُغلق
يعني ببساطة أن حدود “المُخيلة” البشرية محدودة بحدود هذا العالم الذي نعيش فيه، فمهما بلغ التصوير أو المحاكاة تظل داخل حدود “العالم”، لذلك من العجيب أن يقول أحدهم: “الفن ليس محاكاة للطبيعة وإلا كيف صورنا الآلهة”، وكأن التماثيل وهذه المنحوتات لم تُصنع من مواد الأرض، ولكن مفهوم “الكون المُغلق” سوف يبدو أكثر وضوحا بالاستعانة بإستطيقا هيغل(علم الجمال)، فموت الفن من زاويتي يعني الاعتراف الخجول بكونٍ مُغلق لم يعد به منفذ للأرواح الشاردة خارج أسواره، فالفن لدى هيغل اعتراك بين المضمون والشكل، وحين يكون المضمون غامضًا يأتي الشكل ناقصًا كالفن الشرقي، حيث يتم تصوير الأرباب بالمزج بين الحيوان والإنسان وما إلى ذلك وهذه هي المرحلة الرمزية، بينما الفن اليوناني حيث المضمون يكون مُكتملا بعض الشيء لذلك يتنزل على الشكل(التجسد الحسي) كاملاً إذ يستنفد كل طاقة المادة ويأخذ منها أقصاها بحيث لا تستطيع تلبيه رغبة “الفكرة” أو “الروح” في تطورها ، وهنا أستشهد بنص لهيغل يُمهد لأطروحة “الكون المُغلق” حيث يقول في (دروس في الإستطيقا) :
“لقد بلغ الشكل الكلاسيكي ذروة ما يمكن أن يفضي إليه تصيّر الفن حسيًا، وإذا كان ينطوي على نقص فإنه يعود إلى الفن وحده وإلى محدودية الدائرة الفنية”، إذن القص عائد إلى الفن ذاته كونه “التجلي الحسي للفكرة.
هذا يعني دخول عصر الرومانسية -كما ذكرنا سابقًا – إلا أن الخلاف الروسوي كان مع آلية الطبيعية وقوانينها الحتمية، أما مع هيغل فالمراد نفي المادة حتى نبلغ الفكرة المُطلقة، فالرومانسية عودة إلى الباطن لأن المادة مع الفن اليوناني بلغت أقصاها ولا مزيد عن ذلك، إن المضمون للعصر الكلاسيكي اليوناني مرتبط بالمادة أما مرحلة الرومانسية الأخيرة فهي تحرر من المادة ولقاء الروح مع الروح، وهنا تأويل هيغل المسيحي لتاريخ الفن حيث أن صلب المسيح يرمز إلى موت المادة أو بعبارة أخرى موت التناهي وبقاء اللاتناهي. هُنا تم إغلاق الكون فمنذ المرحلة الرمزية التي مزجت بين ما هو انساني وحيواني والكلاسيكية التي صورت المضمون في المادة كما هو وأكثر إلى الرومانسية التي تحررت من المادة للعودة للباطن، لذلك السؤال: أليس كل أشكال الفن هذه من داخل العالم؟ هذا ما أدركه هيغل لذلك أعلن موت الفن ” فهو لم يعد يُشبع حاجاتنا الكبرى” ولكن إلى أين؟ لا شيء خارج العالم.
في ذات السياق من المناسب أن أقتبس كلاما جميلاً لتيوفيل غوتييه من كتابه (الفن الحديث) :
” إن فنتازيا العقل الإنساني التي نظن أنها واسعة لهي من المحدودية بمكان فمن المستحيل تخيل شكل خارج الأشياء المخلوقة… لم يتخيل فنان مهما كانت مكانته شكلا من الأشكال وعند الرغبة بتوصيل مواضيع تجريدية مثل فكرة الأرباب والأرواح السماوية فهو مضطر للعودة إلى النماذج الإنسانية لأن اختراع أشكال سواها يُعتبر من المستحيلات”.
لذلك عند العودة إلى فلاسفة ما قبل “سقراط” لم يكن من العبث رد الأمور والعلل الأولى إلى الماء والنار والتراب والهواء … وما أبدعه أفلاطون وأرسطو فيما بعد مفهوم الصورة أو الماهية ليس إلا محاولة خجولة كالرومانسية للهرب خارج حدود الكون.
ب- التهذيب القائم على مفهوم الطُرق من أجل “حُكم انطباعي لذيذ”
إننا نوجد في كون مُغلق ومهما حاولنا تجاوز حدوده فلن نخرج بشيء جديد، ولا يهم هُنا أن تكون هناك أفكار قبلية “فطرية” سابقة على الوجود ولكن ما يهم أنه كل ما هنالك هو “هذا العالم” مما يعني أننا نوجد فيه ومن خلال علائقيتنا معه تتشكل رؤيتنا للعالم وتَتَخلق “القواعد” تبعًا للسياقات التاريخية والزمانية. وبعبارة أخرى : إذا كان الكون مُغلق وليس فيه من العناصر والأخلاط إلا ما ذكر مُنذ طاليس وأبقراط فهذا يعني أنه لا توجد “معايير” لازمانية وخارج العالم هذا من جهة ، ومن جهة أخرى الأمر أشبه بتجارب متكررة مع مادة العالم وفي كل مرة يظهر لنا شكل “جديد”(الجِدّة هنا ليست مطلقة) وهذا التجريب التاريخي مع المادة والعالم يعني أننا كائنات “تاريخية”، أي نأتي إلى الحياة ونحن مباشرة في سياق اجتماعي وثقافي واقتصادي تجعل الانسان يمر بمرحلة التهذيب من خلال مراقبة “الذات” وكل ما يُشكل “حسها المشترك ” الذي يجعلها تُعطي حكمًا على عملٍ ما. ومما يجدر ذكره هنا أن تاريخية الكائن لا علاقة لها بمفهوم الأفكار الفطرية أو وجود “صفحة بيضاء”، بل هو سياق نوجد فيه يُقدم لنا نماذج مُتعددة مما يسمى ” فن ” بجميع صنوفه.
السؤال الملحّ هنا: هو كيف يكون التهذيب ممكنًا في حده الأدنى من أجل الحكم الذوقي على عمل ما؟ بدايةً علينا أن نبتعد عن مفهوم “المنهج” والذي يعني بشيء من التجوز “الطريق”، ونلجأ إلى مفهوم مغاير أي “الطُرق”. إن ما واجهته الكلاسيكية الحديثة مع جاك لوي ديفيد والانطباعية من مقاومة ونبذ ، وما تلقّاه بودلير عبر حداثته الشعرية في ” أزهار الشر ” من هجوم مرير، وكذلك ماتلقّاه ديوان والت ويتمان “أوراق العشب” من سخرية دور النشر، أمثلة تدل على تكلفة القواعد والمعايير، وعلى تعدد الطرق ( الأساليب) ، والتي يتطلب الجمع بينها أن نعي جيدًا أنه من الممكن أن تجتمع كل أشكال الفنون هذه دون الحاجة للنزاع من خلال مفهومي ( الطرق والكون المغلق ) لأننا في نهاية المطاف داخل كون مُغلق فليس في الإمكان أبدع مما كان، فهناك قيد الجسد والطبيعة وعناصرها. وهذا الأمر يقودنا إلى ضرورة فهم السياق كوننا كائنات تاريخية، فالشخص لا يستطيع أن يحكم جيدًا على فيلم تجريبي مثل “كلب أندلسي” لبونويل دون أن يدرك المغزى والخلفيات التاريخية لهذا الحدث، لهذا وقع المخرج أورسن ويلز في بداية الأمر في خطأ السخرية من بونويل وصنع فلمًا قصيرًا يسخر منه لكنه تراجع فيما بعد. وهذا ينسحب أيضًا على أفلام أخرى كأفلام مايا درين التي تحتاج إلى العناية والدراية بالسياق. هذه الأحكام التي لا تدرك السياقات السابقة هي ذاتها ابنة سياق اجتماعي ثقافي آخر، هو صناعة الثقافية العالمية الحالية، التي تدعم بعض المعايير ويُظن بأنها الوحيدة التي تملك صفة الجمال والإبداع. وعليه يكون “الحكم” على الأعمال الفنية من خلال “انطباع” تم تهذيبه بعناية. مع الأخذ بالاعتبار بأن لكل مسار قوانين لعبته الخاصة فلا تستطيع نقد الشطرنج من خلال مبادئ البلياردو مثلاً.
الفن طُرق مُتعددة داخل كون مُغلق ذو سقف واحد وتربة واحدة فلا معايير خارج “الزمكان”، فلنتجول في طُرقات الكون كما يحلو لنا، وليغذي كلاً منا عبوة “انطباعاته” فلا شيء أكثر جمالاً ومُتعة من اصطياد تلك الإبداعات الطفيفة التي يضيفها اللاحق على السابق في أي مجال كان.