في عام 1994، صدر عن أكاديمية الفنون المصرية كتاب ” محمد بيومي الرائد الأول للسينما المصرية، تأليف محمد كامل القليوبي، وذلك في إطار مشروع إعادة التأريخ للفنون المصرية الذي بدأ في التسعينات من القرن الماضي. وكان محمد كامل القليوبي قد بدأ منذ 1978 – في إطار أطروحته للدكتوراة – في بحث أركيولوجي يتفقد فيه تاريخ أصول السينما المصرية، مكنه من العثور على أول وأهم الصفحات الضائعة في هذا التاريخ[1]، وهي أفلام محمد بيومي التي أخرجها بين 1923 و 1934، بالإضافة لعثوره على عدد كبير من الوثائق المهمة الخاصة بهذا السينمائي الرائد.
ينتمي محمد بيومي لجيل التنويريين – توفيق الحكيم، بيرم التونسي، سيد درويش، محمود مختار، محمود سعيد .. – الذي لعب الدور الأساسى في رسم ملامح الحياة الثقافية المصرية في بدايات القرن العشرين.[2] وقد انخرط بيومي في ثورة 1919 عند اندلاعها، ومع نهاياتها قرر التفرغ للعمل الفني. في 1920 سافر إلى أوروبا وهناك تعلم صناعة السينما وعاد لمصر في 1923 ومعه المعدات اللازمة لتأسيس استوديو سينمائي صغير،[3] وهو ما قام به عند إنشائه “آمون فيلم”. من هذا الاستديو خرج أول فيلم مصري “ترحيب الأمة المصرية باستقبال سعد باشا زغلول” (1923) وهو فيلم تسجيلي قصير مدته خمس5 دقائق. بعدها وفي نفس العام كان أول مصري يكتب السيناريو ويخرج ويصور فيلمًا روائيًا قصيرًا: “برسوم يبحث عن وظيفة”. صور محمد بيومي فيلمه الأول في شوارع القاهرة فوضع آلته السينمائية في قلب ميدان الأوبرا ليسجل حركة الشارع والجموع قبل وأثناء وبعد مرور موكب سعد زغلول، عند عودته من المنفى (1923). مما يعني أن المدينة قد شكّلت الفضاء الذي أسست فيه السينما المصرية هويّتها المبكرة.
أما صورة الريف السينمائية الأولى في أعمال بيومي فظهرت في آخر أعماله: “ليلة في العمر” (1934) وهو فيلم روائي قصير مدته عشرون دقيقة. تدور أحداث الفيلم – الذي تم العثور عليه في شكل لقطات منفصلة تم تركيبها أثناء عملية الترميم، بناء على خيوط القصة التي وردت في الصحف والمجلات الفنية الصادرة في هذه الفترة[4] – عن فلاّح وفلّاحة مخطوبين لبعضهما البعض، يقرّران قضاء يومٍ في الأسكندرية بعد أن ربح الفلاح الجائزة الأولى في ياناصيب جمعية المواساة. في الجزء الأول من الفيلم نرى الريف من خلال مشاهد خارجية للقرية، بطرقها الترابية وديارها الفقيرة. ثم يركب البطلان القطار في الجزء الثاني من الفيلم قاصدين الأسكندرية لاكتشاف المدينة. وحين يصلان لهناك يركبان الترام ويصابان بدوار شديد بسبب حركته السريعة والمتأرجحة، ثم يستأجران ملابس حديثة من دكان الصغير ويشتبكان مع صاحب الدكان الذي تحرش بالبطلة ويلقيان بضاعته في البحر. يلتقيان بعدها مصورًا فوتوغرافيًا متجولًا ، ويطلبان منه أن يصورهما بزيهما الجديد. وينتهي الفيلم بلقطة قريبة ضاحكة على وجهيهما بعد أن قاما بالتعدي على المصور والسخرية منه. فيبدو الفيلم كرحلة عابثة لفلاحين صعلوكين ينشران الفوضى في كل مكان يذهبان إليه ومع كل شخصية يلتقيانها.
علامات الريف
إذا وضعنا فيلم “ليلة في العمر” في إطار سردية الريف المصرية قبل 1952 فسنجد أن غالبية الأفلام التي صورت الريف كان مخرجوها يفضلون التصوير في الاستوديو وبناء الديكورات سواء الداخلي منها أو الخارجي. بل أن فيلمًا مهمًا يناقش وضعية الفلاح المجتمعية وعلاقة الريف بالمدينة، ويضع قيم الحداثة في مواجهة ساخنة مع القيم التقليدية الممثلة في شخصية الفلاح، وهو فيلم “الأفوكاتو مديحة” (1950) ليوسف وهبي، لا يكاد يخرج للحقل إلا في مشاهد نادرة حيث تشكّل دار الفلاح المكان المفضل لدى المخرجين للتعبير عن الهوية الريفية للمكان.
في الجزء الأول من فيلم “ليلة في العمر” الذي تدور أحداثه في قرية صغيرة نتعرف على العلامات البصرية التقليدية للريف المصري: مشاهد سير الفلاحين في الحقول ودوران الساقية وحلب الجاموسة. إلا أن شيئًا ما في الصورة يعطينا إحساسًا مختلفًا بالمكان الذي تدور فيه الأحداث، مختلفًا عن ذلك الذي نجده في أغلب سرديات الريف في السينما المصرية والتي يسيطر عليها عادة مفهوم المنظر. لقد استقر الأمر لدى العديد من الباحثين أن المنظر هو بناء فني يشكّل الطبيعة في لوحة، وأن جماليات المنظر في طابعها التقليدي مستمدة من تيار الرومانسية ومساحات الحلم والتأمل التي يتيحها. وبالتالي فللمنظر في شكله الدارج بعدًا جماليًا يتخلل ثنايا الصورة، نجده على سبيل المثال في اختيارات كادرات واسعة تتيح رؤي بانورامية للطبيعة بما فيها من خضرة وماء ومن تكوينات تغلب عليها الخطوط الأفقية التي تؤكد على الفراغ المريح للعين. وهي نفس الجماليات التي تميز بها فيلم “زينب” (1951) لمحمد كريم على سبيل المثال، كما نرى في الصور التالية.
لقطات من فيلم زينب (1951) لمحمد كريم
وإذا كان فيلم “زينب” الصامت[5] (1930) لنفس المخرج محمد كريم – وهو أول فيلم مصري مقتبس عن الأدب – يعد فيلمًا رائدًا في مجال التصوير الخارجي في الأماكن الريفية الحقيقية، وإن قدّمه مخرجه بمفهوم جمالي يغلب عليه صناعة المنظر، فإن محمد بيومي بعده بأربع سنوات قد صور فيلمه القصير“ليلة في العمر” تصويرًا خارجيًا بالكامل في قرية ريفية، لكنه قدّم رؤية فنية مختلفة ًتمامًا عن تلك التي قدمها “زينب” في نسختيه الصامتة[6] والناطقة[7]. فجماليات ريف “الكارت بوستال” المعتادة يتم استبدالها في فيلم بيومي بجماليات ذات طابع مختلف. فنجد لقطات عامة ومتوسطة عديدة تركز على هيئة الشخصيات أكثر من التركيز على جماليات المكان. والفلاح بطل الفيلم – بعيدًا عن الهيئة المثالية التي ظهر بها في فيلمي “زينب” الصامت و“زينب” الناطق – يطلّ علينا في فيلم بيومي بملابس رثة وملامح وجهه أقرب إلى القبح: العين العوراء والسن المكسور. أمّا مكان لقاء الحبيبين فلا تحوطه مساحات الخضرة والماء والأشجار الوارفة كما نرى في فيلم “زينب” حيث شجرة الجميز تسيطر على المكان، بل نرى حقلًا أقرب للجفاف وأرضًا ترابية وتصوير للحيوانات عن قرب وإضاءة واقعية. كذلك لا يجتمع الحبيبان بعد الانتهاء من العمل أو تصاحب لقاءاتهما أغنية فولكلورية، بل يجتمعان في لحظات العمل: حلب الجاموسة، السير بالدواب، العمل بالحقل.. وعندما يختليان ففي دار فقيرة أمامها طفلان يفترشان الأرض ويلعبان حافيَي الأقدام، يتم إبعادهما بالعصا. فلا رسم للمناظر ولا لشكل الفلاح ولا لرومانسية اللقاء، بل اقتراب من المعيش اليومىي من خلال مواقف وبصريات واقعية، وهو نفس اتجاه بيومي في كافة أفلامه.
لقطات من فيلم “ليلة في العمر” لمحمد بيومي
المفارقة الساخرة وسيمفونيات المدينة
في فيلم “فجر” (1927) للمخرج الألماني مورنو، نشهد قصة زوجين يعيشان في قريتهما الصغيرة حياة هادئة في عشّ سعيد تقتحمه امرأة لعوب قادمة من المدينة لتقضي إجازتها في ربوع الريف. فتغوي الزوج وتقنعه بقتل زوجته كي ينتقلا معًا للحياة في المدينة. يشرع الزوج في تنفيذ الخطة الشيطانية لكن ضميره يستقيظ في اللحظات الأخيرة ويندم ويطلب الغفران من زوجته التي تسامحه ويذهبان للمدينة لقضاء يومًا في الاستمتاع بمباهجها الحديثة.
إلى جانب الموازاة التي يعقدها الفيلم الألماني بين الريف والمدينة كي يخرج الأول منتصرًا في تلك المواجهة بقيمه الاجتماعية والأخلاقية المحافظة، في مقابل تحرر المدينة ووحشيتها وماديتها، يرسم الفيلم شكلًا تقليديًا لعلاقة الزوجين القرويين: الزوجة الطيبة الحنون، القنوعة، الصابرة والمطيعة، والزوج المغامر،الخائن، وإن تاب وأصلح في الجزء الثاني من الفيلم.
يبدو أن محمد بيومي قد قام بعمل نوعٍ من المحاكاة الساخرة لفيلم مورنو في “ليلة في العمر”. فالفيلمان يصوران، في جانبهما الأكبر، رحلة مدّتها يوم، يقوم بها زوجٌ قروي للمدينة الحديثة لتمضية الوقت والاستمتاع. لكن بينما يشيطن مورنو المدينة في مقابل الريف الذي تمثله الزوجة الطيبة ذات الملامح الملائكية، وبينما يجعل الزوج هو قائد العلاقة ونزواته وقراراته هي محرّك الحدث، نجد أن العكس هو ما يحدث في الفيلم المصري. فبيومي لا يرسم العلاقة بين الريف والمدينة من خلال منظور الخير والشر باحثًا للانتصار لأحدهما على الآخر، لكنه يجعل من تلك المغامرة الاستكشافية التي يقوم بها القرويان وسيلة لللعب والسخرية الضاحكة من علامات التمدن الحديثة.
لا تبدو المفارقة فقط مع فيلم مورنو لكن مع عدد كبير من أفلام العشرينات والثلاثينات في السينما العالمية والتي أطلق على بعضها اسم “سميفونيات المدينة”. صورت تلك الأفلام سطوة المكان الحديث بإيقاعه السريع وآلاته التي تسحق البشر في أفلام مثل “متروبوليس” (1927) لفريتز لانج أو “العصور الحديثة” (1936) لشارلي شابلن، أو حتى في أفلام أخرى تتغنى بالمدنية الحديثة مثل فيلم“الرجل ذو الكاميرا” (1929) للروسي تزيجا فرتوف.
تتعدد علامات المدينة في فيلم محمد بيومي وتأتي وسائل النقل الميكانيكية في مقدمتها. فيستقل البطلان القطار للذهاب من قريتهما الصغيرة للأسكندرية، وعندما يصلان يستقلان الترام للتنزه. وفي الحالتين نجد أنفسنا أمام رموز يتمثل فيها الطابع الصناعي لحياة الحضر، وخاصة ما يتعامل فيه البشر مع الآلة.
يدور مشهد طويل من فيلم “ليلة في العمر” داخل محطة السكة الحديد. لا يشكّل القطار فقط وسيلة للانتقال من مكان لآخر، لكنه يحمل رمزية ذات أبعاد متعددة تتشكل عبر تاريخ السينما منذ فيلم الأخوين لوميير الأول: “دخول القطار إلى محطة سيوتا” (1895). فالقطار هو رمز للحركة الميكانيكية واستعارة عن قوة الصناعة وعلامة من علامات التحضر. ووجود القطار في الفيلم المصري يشير دائمًا لقصة تدور أحداثها خارج القاهرة مركز الصناعة السينمائية ومركز الحكي، فالسينما المصرية كانت دائمًا معنية أولًا بحكايات العاصمة البلد التي يسميها المصريون “مصر”، أي القاهرة. لذا فإن خروج الكاميرات للريف لسرد قصص الفلاحين لا يشكّل أمرًا بديهيًا، بل هو الاستثناء إذا ما نظرنا إليه على مدى تاريخ السينما في مصر. القطار إذا موجود في سردية الريف منذ البدايات، ودائمًا ما يكون دالٌّ على طبيعة العلاقة بين القرية والمدينة. لا ننسى مشهد شقّ القطار للشاشة ودوي صفارته المخيف في فيلم “دعاء الكروان” (1959) لهنري بركات، ولا حالة الهلع التي أصابت “آمنة” وأختها “هنادي” عند مرآه. كان مشهد القطار إعلانًا بشكل مبكر عما سوف تسفر عنه علاقة الفلاحتين الشابتين مع المهندس القادم من القاهرة، والذي تسبب في مقتل “هنادي” وضياع “آمنة”.
يبدأ مشهد القطار في فيلم بيومي بعثور أحد المارة على رصيف المحطة على تذكرتين سفر، نفهم بعد ذلك أن بطلينا قد فقداهما. ننتقل بعدها للبطلين وهما في حالة جزع بعد فقد التذكرتين. ثم يأتي مشهد دخول القطار للمحطة في لقطة بعيدة، ثم محاولتهما ركوب القطار بدون تذاكر ومشادة مع مفتش المحطة ثم عثورهما على التذكرتين المفقودتين وركوبهما القطار.
تتوزع علاقات القوى بين القطار وما يمثّله من نظام رمزي وبين الفلاحين من خلال ثلاثة مشاهد. فخلافًا للدارج الذي يجعل من القطار ودلالاته العنصر الأقوى في تلك العلاقة، نجد أن الفلاحين – وبالأخص الفلاحة التي تقود الحدث – يتجاهلان هذه القوة ويستخفّان بها، فتجلس الفلاحة على شريط القطار لتندب حظّها بعد اكتشافها ضياع التذكرتين، غير عابئة بالخطر الذي يُحدّق بها، بينما يحاول صاحبها تحريكها من مجلسها فلا تستجيب. المشهد الثاني عندما تحاول الفلاحة ويتبعها صاحبها – وفي تشابك بالأيدي مع مفتش المحطة – ركوب القطار دون تذاكر. المشهد الثالث عندما تدخل الفلاحة من باب القطار منتصرة بنظرات ملؤها التحدي والتشفي في المفتش بعد أن عثرا على التذاكر المفقودة.
وبينما قد يبدو من هذه العلاقة مع مايشكله القطار من سلطة ورمز ثقافي، أننا بصدد سخريةٍ من جهل الفلاح بقواعد المدينة، إلا أن ما نراه في الفيلم يبدو كشكلٍ من أشكال العبث بعلامات المدينة، ونزق المتسكعين في فضاءاتها غير عابئين بسلطتها. وهو ما سيتأكد بوصول الفلاحين للأسكندرية. فعلى شاطئ البحر يلتقي القرويان مصورًا فوتوغرافيًا متجولًا يحمل كاميرته ذات الحامل والغطاء الكبير المصنوع من القماش الأسود الذي كان يستعمله المصورون في تلك الفترة المبكرة من القرن العشرين. يطلبان منه التقاط بعض الصور لهما وهما في زيهما المدني الحديث الذي تم استئجاره. لكن في كل مرة يضبط المصور مكان الشخصيتين أمام العدسة ثم يبتعد وينزلق تحت القماش الأسود لالتقاط الصورة، تترك الفلاحة موقعها وتقترب من الكاميرا من ناحية العدسة كي تبحث عن المصور المستتر تحت غطائه الأسود. يتكرر الموقف عدة مرات، وينتهي بحدوث مشاجرة يدوية بين القرويين والمصور وببكائه والسخرية منه.
بالإضافة لما يحمله المشهد من كوميديا “المقلب” أو “farce “، نلاحظ انقلاب موازين القوى بين ممثل المدينة بآلته الحديثة – وهي الكاميرا التي تتفقدها الفلاحة كما تتفقد حيوانًا خرافيًا – وممثلي الريف. وناهيك عن السخرية من الذات – التي يمثلها هذا المشهد، بالإحالة لصانع الفيلم نفسه كمنتج للصورة أداته هي الكاميرا- فإن مقارنة بسيطة بين لقطة المصور مع الكاميرا الشهيرة في فيلم “الرجل ذو الكاميرا” لفرتوف ومصور فيلم بيومي المغلوب على أمره، تشهد بالمفارقة المدهشة التي يخلقها فيلم “ليلة في العمر”، وبالمنظور الفريد الذي يقدمه المخرج لشكل العلاقة بين الريف والحضر. فصاحبانا المتنكران يعتديان على كل من يعترض نزقهما ويضحكان منه ملء الفم. يتكرر ذلك في عدة لقاءات بين الريفيين وأرباب المهن الصغيرة: حمّال، سائق الحنطور، بائع متجول يؤجر الملابس، مصور متجول… بينما تتكرّر لقطات البكاء الكاريكاتوري من أصحاب تلك المهن الذين ساقهم حظهم العاثر للتعامل مع بطلينا المتسكعين.
من ناحية أخرى، فإن شخصية الفلاحة في الفيلم شخصية قوية بملامحها وبمبادراتها وبقيادتها للعلاقة مع خطيبها. وإذا عقدنا مقارنة مع عموم أفلام الريف المصري قبل 1952 سنجد فيلم بيومي يقدم رؤية مغايرة تماما للسائد في تصوير الفلاح المسكين والمرأة الضحية. يقول القليوبي عن “ليلة في العمر” مقارنًا إياه بفيلم “زينب” (1951): ” لا بشوات يمدون يد العون والنجدة للفلاحين كي يساعدوهم على الحياة، ولكن فلاحين يحيون على الأغلب دون الاحتياج لأحد، ويمارسون هذه الشهوة للحياة والرغبة في الاستمتاع بها إلى أقصى درجاتها.”[8] أما إذا قارنا “بورتريه” الفلاحة لدى مورنو بفلاحة بيومي وخروجها المنتصر اللاهي والمبهج من كل المواقف بالفوضى التي تشيعها، سيتكشف لنا مدى إبداع بيومي وتجديده في تشكيل صورة الفلاح عمومًا وصورة المرأة خصوصًا، متجاوزًا كافة التصورات التقليدية التي انتصر لها الفيلم الألماني.
لا يعنينا الرد على تساؤل “الواقعية” في فيلم “ليلة في العمر”، فالواقعية مصطلح تم استخدامه في تاريخ الفن لوصف أعمال كثيرة شديدة التباين إلى حد التناقض أحيانًا. ففلاحة بيومي ليست أكثر ولا أقل واقعية من فلاحة محمد كريم ولا من فلاحة مورنو. تلك الشخصيات تعبرّ بالأساس عن رؤى وقيم فكرية وجمالية أراد أصحابها طرحها عن الواقع من خلال أعمالهم الفنية. لكن ما نود الإشارة إليه هنا هو أن محمد بيومي قد قدم رؤية مستقلة عن التيارات السائدة في السينما المصرية (والتي مثلها إلى حد بعيد محمد كريم في مرحلة البدايات)، وأنه حطّم الأنماط الفنية جميعها سواء في تصويره للريف أو للمدينة، وأن هذه الرؤية المستقلة كانت سببًا في تهميش دوره وإغفال ذكره في أحيان كثيرة كمؤسسٍ أول للسينما المصرية. ما يعنينا ذكره أيضًا أن التيار المستقل في هذه السينما تيار قديم قِدم هذه السينما ذاتها، وأن أعمال محمد بيومي المتمردة كان لها امتدادها في تاريخ الفنون البصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وهي إن جاز التعبير تمثّل طليعية سينمائية مصرية موازية وليست مقلدّة للسينمات الطليعية الغربية في عشرينيات القرن العشرين.
[1] – محمد كامل القليوبي، “محمد بيومي الرائد الأول للسينما المصرية”، أكاديمية الفنون، القاهرة، 1994، ص11.
[2] – المرجع السابق
[3] – نفسه، ص. 18
[4] – نفسه، ص. 79
[5] – فيلم زينب الصامت هو أول فيلم أخرجه محمد كريم وهو للأسف من أهم المفقودات فى تراث السينما المصرية. كل ما تبقى من الفيلم هو عدة لقطات للممثلين أثناء التصوير. لكن محمد كريم في مذكراته الخاصة قد خصًص له فصلًا كاملًا يحكي فيه قصة صنعه ويوثق أحداث تصويره. “مذكرات محمد كريم. فب تاريخ السينما المصرية”، إعداد وتحقيق محمود علي، أكاديمية الفنون القاهرة، 2006. ص. 455
[6]– يتحدث محمد كريم فى مذكراته عن مفهومه عن تصوير الريف وبحثه عن مواضع الجمال فيه بغض النظر عن الواقع، حيث أن ما يجب على الفن تقديمه من وجهة نظره ليس الحياة، بل ما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
[7] – أعاد محمد محمد كريم اقتباس رواية “زينب” (1913) للكاتب محمد حسين هيكل في السينما في 1951، مدخلًا تعديلات على الرواية بما رآه يتسق مع العصر الجديد، كما ذكر في مذكراته.
[8]– إنظر محمد كامل القليوبي، ص. 80