«القراءة» معجميًّا

تكثر الأحاديث عن القراءة ومفهومها وكيفياتها، ويغلب عليها التجارب الذاتية والتأملات الواقعية، ويستدَل عليها بنصوص كبار القراء الذين سطروا خلاصات تجاربهم في كلمات قليلة، ولكن العودة إلى المعجم لاستنطاق تصريفات القراءة ومعانيها في مختلف السياقات كان مهملًا فترة طويلة، رغم ما يكتنزه المعجم من معانٍ ومعارف حريّة بالتأمل والاستكشاف، أدرك هذا كبار الكتّاب فتوجهت همّتهم وتصرّمت أوقاتهم برفقة القواميس، حتى قال ميخائيل نعيمة في “هوامش”: “وهكذا بات القاموس كعبةً لنا وإمامًا، وبات الخزان الذي منه نحشو الذاكرة بالمفردات، والعشّ الذي فيه تنقف أفكارنا ومشاعرنا، ومنه تطير، وإليه تعود”.
قام الفيلسوف المغربي الدكتور حمّو النقاري في كتابه “روح التفلسف” باستنطاق المعاجم العربية والغربية (اللاتينية والفرنسية بالتحديد)، لبيان معنى القراءة ومستوياتها، مع تسطير أسئلة مثيرة للتفكير والتأمل في القراءات والذات بعد القراءة، أحاول أن ألخّص كلامه في هذا المقال لما فيه من إبداع وفائدة لكل قارئ.
ليست “القراءة” مجرد لفظ للمقروء وإلقاءً له وإنما هي أيضًا، وبالأساس، نشاط نظري تتعاضد فيه وتتداخل أفعال متعددة أهمها الأفعال التالية:
فعل الاختيار، التفصيل، الإهمال، الانتقاء، المحبة والتقدير والإجهاد وإمعان النظر، الإيثار، الاعتبار، الاستعلام، الاستبيان، التحصيل، الجمع، الضم، الدنة، القصد، التتبع والاتباع، الاستقراء، الإلحاح، الجبي والاستثمار والتحصيل، فعل التفقه، الدرس، الاستبلاغ والتواصل والتعلق، الاستيلاد والاستنباط والاستنجاب.
يتبين تعدد الصور التي يُتصور بها فعل “القراءة” وكثرة ما يتعاضد ويتداخل معها من أفعال أخرى إذا ما نحن سلكنا، في محاولة تدبّر المفهوم منها وبُغية بناء نموذج يصفها وصفًا عاقلًا، سبيل التأثيل اللغوي لها وذلك بالاستناد إلى لغتنا من جهة، وإلى لغة غيرنا من جهة أخرى.
من أجل تأثيل لغوي عربي لفعل “القراءة”
للقراءة، عربيًا، تعلّق بأفعال أخرى تتضايف معها، هي أفعال: الجمع، الضم، الدنو، القصد، التتبع، الاستقراء، الإلحاح، الجبي، التفقّه، الدرس، الاستبلاغ، الاستيلاد والاستنباط والاستنجاب.
وتثبت هذه التعالقات من “التدبر النظري” للشبكة الدلالية لفعل “اقرأ” العربي. وسيظهر للقارئ الكريم أن حصيلة هذا التدبر النظري المستند إلى الأصول العربية ليست غريبة عن حصيلة التدبر النظري للأصول اللغوية الفرنسية لفعل “lire”؛ إذ الحصيلتان متكاملتان ومتعاضدتان. كما سنحاول هنا أيضًا التخلص إلى تعيين جملة من التساؤلات يكمن في الجواب عنها “الوصف العاقل العربي” لقراءة من القراءات وصفًا يبين الكيفية التي كانت بها هذه القراءة ممكنة ومن ثمة يبين الوجه في تقديرها وتقويمها.
القراءة جَمعٌ
القارئ “جامعٌ” إذ بفضل قراءته “يجمع” على المقروء أي يعزم عليه ليحكمه وليؤلف المتفرق والمنتشر فيه من جهة ناظرًا إليه من جهة أخرى كـ”جمع” أو “جامع” يتضمن ما يمكن أن يستنتج منه ويستخرج. يثبت حضور مفهوم “الجمع” في “القراءة” من كون كل شيء إذا “جمعته” فقد “قرأته” ومن أن دلالة “قرأ” الشيء “يقربه” “قريًا” و”قرآنًا” هو بمعنى “جمعه”.
القراءة ضم
القارئ “ضامٌ” إذ بفضل قراءته “ينضم” إلى المقروء ويقيم معه متلائمًا معه “آخذًا” ما فيه من جهة و”مستأخذًا” به من جهة أخرى؛ آخذًا ما في المقروء “قبضًا” أي محاولًا جعل “المقروء” في قبضته وملكه أو ملتمسًا منه “التقبيض” و”الإعطاء”؛ ومستأخذًا بالمقروء أي “مأسورًا” و”متعلقًا” به. يثبت حضور مفهوم “الضم” في “القراءة” من كون فعل “قراءة” الشيء هو بمعنى “ضم” بعضه إلى بعض:- يقال “رأت كذا قرآنًا” بمعنى “ضممت بعضه إلى بعض”.
القراءة دُنُو
القارئ “متدني” و”متقرب” إذ بفضل قراءته “يدنو” و”يقترب” من المقروء؛ ويكون المقروء من هذه الجهة “مستدنيًا” و”مستقربًا” للقارئ أي طالبًا منه “الدنو” و”التقرب” إليه. يثبت حضور مفهوم “الدنو” في القراءة من كون فعل “أقرأ” فلان من كذا هو بمعنى “دنا” فلان من كذا واقترب منه.
القراءة قصد
القارئ “قاصدٌ” إذ بفضل قراءته “يقصد” المقروء أي يأتيه ويؤمه للوقوف عليه من خلال نهج مسلك مستقيم يعد مؤديًا إليه. يثبت حضور مفهوم “القصد” في القراءة من كون القارئ “يقرو” إلى المقروء “قروًا” أي يقصد “قصدًا”.
القراءة تتبع
القارئ “متتبع” إذ بفضل قراءته “يتتبع” المقروء أي يسير في إثره ليستقصي جميعه، وقد يكون طالبًا الائتمام والعمل به فيكون “متبعًا” له. يثبت حضور مفهوم “التتبع” في “القراءة” من كون القارئ “يقرر” المقروء و”يقتريه” بمعنى “يتتبعه”.
القراءة استقراء
القارئ “مستقرؤ” إذ بفضل قراءته “يستقرئ” المقروء “استقراءً” أي يتتبعه جزءًا جزءًا ناظرًا في دلالاته ومعانيه الكلية. يثبت حضور مفهوم “الاستقراء” في “القراءة” من كون القارئ “يستقري” المقروء إن كان طالبًا الوقوف على ما “يقريه” المقروء ويجمعه ويضمه.
القراءة إلحاح
القارئ “ملحٌ” إذ بفضل قراءته “يلح” على المقروء “إلحاحًا” أي يلتصق به ويديم النظر فيه ويلازمه. يثبت حضور مفهوم “الإلحاح” في “القراءة” من كون فعل “أقرى” فلان الشيء هو بمعنى “ألح” عليه.
القراءة جبي واستثمار وتحصيل
القارئ “جابي” إذ بفضل قراءته “يجبي” لنفسه ما في المقروء “اجتباء” أي استخراجًا لمضامينه وتخليصًا وجمعًا اصطفاء واختيارًا لها. يثبت حضور مفهوم “الجبي” في القراءة” من كون “القري” يعني لغة “جبي الماء في الحوض”. إن “الجبي” بطابعه الاستخراجي والتخليصي والجامع والمصطفي والمختار هو بمثابة “استثمار”، من هنا كان القارئ باعتباره “جابيًا” “مستثمرًا” أيضًا للمقروء بحيث يطلب استخراج ما في المقروء من “ثمرات” ومنافع، أي كان أيضًا “جانيًا” إذ “الجني” “أخذ الثمرة من شجرها”. والقارئ باعتباره “جانيًا” يكون “محصلًا” أيضًا يطلب “تحصيل” ما في المقروء من “حاصلٍ” أو محصول” أو “حصيلة” أي ما يتم “الإبقاء” عليه و”إثباته” بعد إهمال ما يعد “لا حاصل” منه؛ ولا بد أن يكون هذا “المبقى” عليه و”المثبت” اللذين “يرد” إليهما المقروء، باعتبارهما “ما يتحصل” من المقروء، نافعين ومفيدين في نظر القارئ المحصل: إن “الأرد” من المور ما كان الأنفع منها كما أن عد أمر من الأمور “لا رادة” له حكم بأن ذلك الأمر لا فائدة ترجى منه.
القراءة تفقّه
القارئ “متفقّه” إذ بفضل قراءته يريد “فقه” ما في المقروء أي فهمه ومعرفته وعلمه والكشف عما يمكن أن يكون خفيًا ومستورًا فيه. يثبت حضور مفهوم “الفقه” في “القراءة” من دلالة فعل “قرأ” وفعل “تقرأ” على فعل “تفقه”.
القراءة درس
القارئ “دارسٌ” إذ بفضل قراءته “يدرس” المقروء ليذلله ويروضه وكأنه يريد “هضم” ما فيه؛ إن “الدرس” لغة “الأكل الشديد” وإن “المدرس” لغة “الكتاب”. يثبت حضور مفهوم “الدرس” في “القراءة” من كون “قارأ” فلان فلانًا “مقارءة” و”قراء” هو بمعنى “دارسه”.
القراءة استبلاغ وتواصل وتعلق
القارئ “مستبلغ” إذ بفضل قراءته يطلب ويسأل “البلوغ” و”الوصول” إلى ما “يبلغ” به المقروء باعتباره “بلاغًا”؛ فيكون القارئ من هذه الجهة “مبلغًا” إن تحقق له الانتهاء إلى ما طلبه وسأله. إن “التبليغ” “إيصال” و”البلوغ” “وصول”؛ ولا يتحقق “الوصول” إلى المطلوب إلا بتحقيق “الوصل” بين القارئ باعتباره “واصلًا” والمقروء باعتباره “وموصلًا”؛ و”اتصال” الواصل بالموصل “علاقة” انضمام بحيث “يعلق” القارئ بالمقروء وينشب فيه محبة له وكأنه “علقٌ”، أي شيء ثمين ونفيس، يعده ذا “صلةٍ” أي ذا نفع، إذ “الصلة” “القائدة” و”العطية”. يثبت حضور مفهوم “التبليغ” ولوازمه في “القراءة” من دلالة “أقرأ” فلان فلانًا كذا على “أبلغ” فلان فلانًا كذا.
القراءة استيلاد واستنباط واستنجاب
القارئ “مستولدٌ” إذ بفضل قراءته “يستولد” المقروء “استولادًا” أي يستنتج ويستخرج ما يمكن أن “يتولد” منه، فلا يكتفي بالظاهر منه ولكن يريد الوقوف أيضًا على ما “في باطنه”؛ كما أن “المقروء” “يولد” في قارئه، باعتباره “حاملًا”، “مولودًا” ما، فيكون القارئ من هذه الجهة “منجبًا” أو “نجيبًا” بفضل قراءته. من هنا كان لـ “القراءة” تعلق وثيق بمفاهيم “الولادة” و”الحمل” و”الإنجاب”. يثبت ذلك من أن القول أن الشاة أو الناقة “ٌرأت” هو بمعنى أنها “ولدت” أو “استقر الماء في رحمها” أو “أنجبت”.
بهذه التعالقات الأساس الإثنا عشرة السابقة لفعل “القراءة”، من المنظور العربي، يمكن أن نتخلص إلى طرح جملة من التساؤلات تبين أن فعل “القراءة” فعل معقد ومتشابك العوامل المتدخلة في إنجازه:
بحضور “الجمع” في كل “قراءة” لا بد من التساؤل عن الكيفيات التي بها تسنى للقارئ تأليف ما قد يكون متفرقًا في المقروء وحصر ما قد يكون منتشرًا فيه من جهة والكيفيات التي بها استثمر القارئ هذا التأليف وهذا الحصر اللذين قام بهما في استنتاج واستخراج مضامين ومضمرات المقروء من جهة أخرى.
بحضور “الضم” في كل “قراءة” لا بد من التساؤل عن طبيعة اتصال القارئ بمقروئه من جهتين اثنتين: من جهة قوة ارتباطه بهذا المقروء ومن جهة قيمة استفادته من قراءته.
بحضور “القصد” في كل “قراءة” لا بد من التساؤل عن الظروف والملابسات التي اقتضت من القارئ التوجه إلى مقروء ما ليقرأه.
بحضور “التتبع” في كل “قراءة” لا بد من التساؤل هل استقصى القارئ مقروءه في كليته وهل عمل به؟
بحضور “الاستقراء” في كل “قراءة” لا بد كم التساؤل هل تم للقارئ استخلاص كليات مقروئه وجوامعه؟
بحضور “الإلحاح” في كل “قراءة” لا بد من تقدير الكلفة أو الجهد الزمني والفكري المبذول من القارئ في قراءته.
بحضور “الجبي” في كل “قراءة” لا بد من تعيين الفائدة التي استفادها القارئ وتحديد قيمتها وبيان الأمور التي أهملها القارئ والجواب عن لم أهملها.
بحضور “التفقه” في كل “قراءة” لا بد من التساؤل عما هي الطرق التأويلية التي سلكها القارئ والتي آلت به إلى تعيين دلالات المقروء المنطوقة أو المفهومة.
بحضور “الدرس” في كل “قراءة” لا بد من تقدير العبء الذي تجشمه القارئ في تذليل ما في المقروء من صعوبات.
بحضور “الاستبلاغ” في كل “قراءة” لا بد من التساؤل عن الغايات التي توخى القارئ الانتهاء إليها من قراءته.
بحضور “الاستيلاد” و”الاستنباط” و”الاستنجاب” في كل “قراءة” لا بد من استحضار المهام الاستنباطية والاستدلالية التي أنجزها القارئ في قراءته.
يقتضي الوصف العاقل العربي لقراءة قارئ ما، إذن، الجواب على الأسئلة التالية:
1- ما هي الجوامع التي رد إليها القارئ (س) مقروءه من جهة وما هي الأدوات الاستنتاجية التي وظفها هذا القارئ في استثمار تلك الجوامع في فهم دلالات مقروئه من جهة أخرى؟
2- ما هي الطبيعة السيكولوجية والمعرفية لتواصل القارئ (س) بمقروئه؟
3-هل للقارئ (س) كل المؤهلات المطلوبة ليكون قريبًا من مقروئه اللغوية والمعرفية؟
4- ما هي الخلفيات النظرية التي استند إليها القارئ (س) حين طلب قراءة ما قرأ أهي خلفيات تعرفية وتعلمية أم هي خلفيات فاحصة وتدبرية أم هي خلفيات اعتراضية وانتقادية…؟
5- هل استوفى القارئ (س) مقروءه كله وهل استدل به عمليًا؟
6- هل استطاع القارئ (س) الانتقال من مقروئه إلى الأحكام الكلية المؤسسة والمؤصلة لدعاوى وتقريرات هذا المقروء؟
7- كيف كانت ملازمة القارئ (س) لمقروئه وما هي كلفتها النظرية التي أداها؟
8- هل استثمر القارئ (س) ما استفاده من قراءته لمقروئه من جهة وهل أهمل ما يمكن عده فائدة ولم يعتبره من جهة ثانية وما هي أسباب هذا الإهمال وعدم الاعتبار من جهة ثالثة؟
9- ما هي الطرق التأويلية التي سلكها القارئ (س) في فهمه لمقروئه؟
10- ما هي درجة صعوبة المقروء وعسره بالنسبة لقارئه (س)؟
11- ما هي الغايات التي يريد القارئ (س) الانتهاء إليها من قراءته؟
12- هل استطاع القارئ (س) أن يستبطن مقروءه ويستنبط المطوي فيه؟
من أجل تأثيل لغوي أعجمي لفعل “القراءة”
للقراءة، غربيًا تعلق بجملة أفعال تتضايف معها، هي أفعال: الاختيار، التفضيل، الإهمال، الانتقاء، المحبة والتقدير والاجتهاد وإمعان النظر، الإيثار، الاعتبار، الاستعلام، الاستبيان، التحصيل. إن القارئ حين يقرأ مقروءًا ما لا يكون مجرد لافظ بالمقروء وملقي له وإنما يكون أيضًا قارئًا مختارًا وقارئًا مفضلًا وقارئًا مهملًا وقارئًا منتقيًا وقارئًا محبًا ومقدرًا ومجتهدًا وممعن نظرٍ، وقارئًا موثرًا وقارئًا معتبرًا مستعملًا وقارئًا مستبينًا وقارئًا محصلًا.
تثبت هذه التضايفات من “التدبر النظري” للأصل اللغوي الأعجمي لفعل “القراءة” الذي يؤديه الفعل “الفرنسي” “lire” الناقل للفعل اللاتيني “legere” الناقل بدوره للفعل اليوناني “legein”.
سنحاول في ما يلي من الفقرات بيان مختلف هذه التضايفات النظرية لنتخلص إلى تعيين جملة من الضوابط والأحكام العامة ومجموعة من التساؤلات يكمن في الجواب عنها بعضٌ من العناصر التي تمكن من اقتراح وصف عاقل، “غربي المستند”، لقراءة من القراءات، وصفًا يبين الكيفية التي كانت بها هذه القراءة ممكنة ومن ثمة يبين الوجه في “تقديرها” (= بيان القدر) و”تقويمها” (= بيان القيمة)، وسأقتصر قدر الإمكان على المصطلحات العربية منعًا من تشتت القارئ غير المدرك للغات الأخرى.
القراءة اختيار
القارئ “متخير” إذ بفضل قراءته “يختار ما يستحق الإبراز في نظره”. ويثبت مفهوم “الاختيار” على فعل “الإبراز”.
القراءة تفضيل
والقارئ لا يتخير إلا الأمور التي يعدها “فاضلة” وتثبت “أفضلية الأمر المختار والمبرز من تسمية ما يكون “أفضل” من غيره باسم “Elite”.
وإن توفق القارئ في اختيار الأفضل، فعلًا، لإبرازه كان “فاضلًا”؛ وتثبت “فضلية” القارئ من خلال وصفه بكونه “يعرف الاختيار”، أو بكونه “متميزًا” عن غيره، أو بكونه “حسن الذوق”.
القراءة إهمال
وهذا القارئ الفاضل والمتميز وحسن الذوق العارف لفضيلة الأمر الذي اختار إبرازه لا بد وأن يكون، أيضًا، “مهملًا” إذ “الإهمال” في أصله “عدم اختيار”.
القراءة انتقاء
وهذا القارئ، باختياره وبإهماله، لا بد وأن يكون “منتقيًا” أيضًا إذ “الانتقاء” في أصله “عزل وفصل للمختار وللمقروء”.
القراءة محبة وتقدير واجتهاد وإمعان نظر
وهذا القارئ، باختياره وبإهماله وبانتقائه، لا بد وأن يكون أيضًا متصفًا بصفات “المحبة” و”التقدير”، و”إفراغ الوسع في الاهتمام والاعتناء” و”التدقيق في النظر وفي الفحص”.
القراءة إيثار
وهذا القارئ، بصفاته الأربعة السابقة، لا بد وأن يكون أيضًا موصوفًا بكونه فاعل الفعل المؤدى وهما فعلان يفيدان أصلًا معنى “إيثار أمر على آخر”.
القراءة اعتبار
وهذا القارئ “معتبر” يطلب “العبور” من المقروء إلى ما “يعبر” عليه هذا المقروء من “عِبرٍ”؛ إن ما يعبر إليه في فعل القراءة يسمى [“lecon”] في اللاتينية “lectionem” المشتق من “lectio” التي تعني “lecture” من جهة والتي هي مصدر فعل “legere” الذي يعني “lire” من جهة أخرى؛ ويفيد هذا الاسم دلالات خمسة أساس: “العبرة المستخلصة من حدث من الأحداث”، و”القاعدة العملية التي ينبغي أن تراعى في السلوك”، و”الموعظة”، و”العلم المتلقى من المربي”، و”ما يجب على المتعلم علمه وذكره”.
القراءة استعلام
وهذا القارئ “مستعلم” يطلب “علم” ما ينطوي عليه المقروء من “معلومات”؛ ويثبت الطابع “الاستعلامي” للقراءة من كون المقصود بـ”lecture” أمورًا ثلاثة: “التعلم”، و”فهم المستغلق من الأمور”، و”معرفة مضمون نص من النصوص عن طريق تلاوته”.
القراءة استبيان
وهذا القارئ “مستبين” يطلب “تبين” دلالات المقروء؛ ويثبت الطابع “الاستبياني” للقراءة من تسمية “المبيان” الذي يستخدم أداة لـ”بيان” وشرح دلالات الرموز المتواضع عليها باسم “legende” في اللاتيني وفعل “legein” اليوناني اللذين يعنيان “القراءة” و”الاختيار”.
القراءة تحصيل
وهذا القارئ “محصل” يطلب “تحصيل” ما يكون “مع” المقروء و”يتبعه”؛ ويثبت الطابع “التحصيلي” للقراءة من الفعل اللاتيني “colligere” المركب من حرف “-co” الدال على “المعية” أو “التبعية” ومن الفعل “legere” الدال على “القراءة” و”الاختيار”. من هنا كان القارئ في قراءته لا يقتصر على المقروء ولكن يتوخى أيضًا “جني” ما “يستتبعه” هذا المقروء أي ما “يتحصل منه” أو “حاصله”.
فعل “القراءة” إذن فعل ذو وجهين:
– وجه يؤديه الفعل “percevoir” الناقل للفعل اللاتيني “percipere” المركب من الحرف “-per” الدال على “التوسط” و”التوسل” ومن الفعل “capere” الدال على “القبض”؛ من هنا كانت دلالة “percevoir” متمثلة أساسًا ليس في الإدراك فقط وإنما في “القبض أو الإمساك بالأمر عن طريق التوسط والتوسل بوسائط ووسائل ما”؛
– وجه يؤديه الفعل “Recevoir” الناقل للفعل اللاتيني “rcipere” المركب من الحرف “-re” الدال على “الشدة” ومن الفعل “cipere” الدال على “القبول” و”التصديق”؛ من هنا كانت دلالة “Recevoir” متمثلة أساسًا ليس في “الاستقبال” فقط وإنما في “شدة قبول الأمر والتصديق به”.
بهذه التعالقات العشرة السابقة لفعل “القراءة”، من المنظور الغربي، يمكن أن نتخلص إلى تقرير جملة من الأحكام تبين تعقد فعل “القراءة” وتشابك العوامل المتدخلة في إنجازه:
بحضور “الاختيار” في كل قراءة يمتنع وجود قراءة مرسلةٍ لا يحتكم فيها إلى معايير موجهة تعيّن أوصاف عناصر المقروء التي يختار إبرازها؛ من هنا يمكن أن نعد تعدد قراءات المقروء الواحد تعددًا في المعايير الموجهة المرعية، كما يمكن أن نفترض أن كل مقروء يحتمل، نظريًا، قراءات متعددة بحسب جواز تغيير وتبديل المعايير الموجهة. وعليه لا بد لإنجاز وصف عاقل لقراءة من القراءات من تبين المعايير التي وجهت هذه القراءة.
بحضور “التفضيل” في كل قراءة يمتنع وجود قراءة لا تُقيّدها “منظومة قيمية” تبين شروط الحكم على الأمر بأنه خير وميزة وحسنٌ، ومن ثمة يفضل على غيره. من هنا يمكن أن نعد ألا قراءة بإمكانها أن تكون منفكّة عن أخلاق صاحبها.
بحضور “الإهمال” في كل قراءة لا بد من استحضار “الدواعي” و”الدوافع” التي استدعت من القارئ إهمال ما أهمل ودفعته إلى ذلك؛ من هنا يمكن أن يتمايز قراء المقروء الواحد بتمايز “المهمل” و”المعمل” عندهم. لا بد إذن من الإقرار بأن المقروء الواحد يمكن أن يقرأ قراءات مختلفة بحسب اختلاف ما دعا إلى القراءة ودفع إليها.
بحضور “الانتقاء” في كل قراءة لا بد من التساؤل عن “مكامن نقاوة المنتقى” من قبل القارئ من جهة وعن “أسباب عزله وفصله” لما انتفاه من جهة أخرى.
بحضور “المحبة والتقدير والاعتناء والفحص” في كل قراءة لا بد من استحضار “درجة اقتراب” القارئ من المقروء نفسيًا من جهة وعقليًا من جهة أخرى لأن المقروء الواحد يمكن أن يقرأ قراءات مختلفة باختلاف درجة الاقتراب منه.
بحضور “الإيثار” في كل قراءة لا بد من حصر كل ما يمكن أن يكون في مقروء ما محل إيثار وتقديم وترجيح من جهة، ومن إبراز معايير الإيثار والتقديم والترجيح التي أعملها المؤثر والمقدم والمرجح في قراءته من جهة أخرى.
بحضور “الاعتبار” في كل قراءة لا بد من استحضار المقتضيات التي بفضلها يمكن أن تتحول عند القارئ الدلالات والمضامين الخبرية إلى توجيهات وقواعد عملية.
بحضور “الاستعلام” في كل قراءة لا بد من استحضار الوجوه التدليلية التي استدل بها القارئ في علمه من المقروء ما علمه؛ ومعلوم أن جوهر الوجوه التدليلية يكمن في القواعد والأصول المؤسسة للنقلة من المقروء إلى ما علم من هذا المقروء.
بحضور “الاستبيان” في كل قراءة لا بد من استحضار الكيفيات التي أعملها القارئ في إظهاره وكشفه وشرحه وتوضيحه لمعاني مقروئه ودلالاته.
بحضور “التحصيل” في كل قراءة لا بد من استحضار الطرق النظرية التي سلكها القارئ للوقوف على توابع ولوازم دلالات مقروئه؛ ومعلوم أن جوهر هذه الطرق كامن في كونها طرقًا استدلالية.
يقتضي الوصف العاقل الغربي لقراءة قارئ ما، إذن، الجواب على الأسئلة التالية:
1- كيف تم للقارئ (س) إبراز ما أبرزه من مقروئه؟
2- ما هي المعايير المقومة التي قام على أساسها تفضيل القارئ (س) لكون المقروء يدل الدلالة (د) على كونه يدل الدلالات الأخرى المحتملة والممكنة نظريًا؟
3- ما هي الأمور التي أهملها القارئ (س) في قراءته وما أسباب هذا الإهمال؟
4- لمَ انتقى القارئ (س) من مقروئه ما انتقاه؟
5- ما هي الطبيعة السيكولوجية والفكرية لتواصل القارئ (س) مع مقروئه وتقربه منه؟
6- ما هي قواعد الترجيح التي وازن بها القارئ (س) بين دلالات مقروئه؟
7- ما طبيعة العلاقة بين “العلم” و”العمل” التي تحدد وتؤطر قراءة القارئ (س) مقروئه.
8- كيف علم القارئ (س) ما علمه من مقروئه؟
9- كيف تبين القارئ (س) ما بان له من مقروئه؟
10- كيف استدل القارئ (س) بما قرأ؟
بالتأثيلين اللغويين السابقين يمكن أن نتخلص إلى أن الوصف العاقل للقراءة ينبغي أن يكون، بالأساس، وصفًا يعتبر ويتدبر أمورًا لا تنفك عنها أي قراءة من جهة، وبها تتفاضل القراءات وتتمايز من جهة أخرى؛ وهذه الأمور هي:
سياق القراءة
مقاصد القراءة
اتصالية القراءة
كلفة القراءة
تذليل القراءة
إحكام القراءة
استنباطية وانتقائية القراءة
الإهمال في القراءة
استقرائية القراءة
التتبع في القراءة والاتباع فيها
تأويلية القراءة
الاستفادة في القراءة
ولتوضيحها نقول:
1-سياق القراءة: وهو الإطار العام الذي ينتظم داخله فعل القارئ حين يقرأ مقروءًا ما؛ ويتكون هذا الإطار العام أساسًا:
*من جهة القارئ: في ما يكون نسيجه العلمي [= المعلومات التي سبق له العلم بها] ونسيجه العملي [= التعليمات التي تكون أعماله مراعية لها]؛
*من جهة المقروء: في ما يولى للمقروء من أهمية مفترضة، أكانت أهمية علمية تفيد تحصيل معلومات جديدة تثري معلومات سابقة أو تقويها أو تقومها، أم كانت أهمية عملية تفيد تبني قيم جديدة تغني قيمًا سابقًا أو ترسخها أو تضعفها.
2-مقاصد القراءة: وهي الغايات التي يتوخاها فعل القارئ حين يقرأ ما يقرأ؛ فقد يكون القارئ قاصدًا تحصيل المعلومات والمعارف التي يعلم بها المقروء ويعرف بها، وقد يكون قاصدًا تبين المناهج والطرق النظرية المعتمدة في المقروء في إثبات معلوماته ومعارفه والاحتجاج لها، وقد يكون قاصدًا الوقوف موقفًا انتقاديًا من المقروء إن من جهة معلوماته ومعارفه أو من جهة مناهجه وطرقه.
3-اتصالية القراءة: وهي طبيعة التواصل الموجودة في القراءة بين القارئ ومقروئه؛ فقد يكون القارئ بعيدًا من مقروئه لا تسعفه إمكانياته العلمية أو العملية من الاقتراب من مقروئه ليقرأه القراءة المطلوبة والمرادة وقد يكون قريبًا من مقروئه تخفي عليه قرابته منه ما يمكن أن يكون فيه ما حقه أن يرد ويرفض.
4-كلفة القراءة: وهي المتجشَّم من الأعباء والمجهودات التي يبذلها القارئ في قراءته إن زمانًا أو نظرًا؛ فقد يكون المقروء لا تفيد فيه القراءة الواحدة وإنما يستدعي قراءات متعددة وقد يكون المقروء من جهة لغته ومن جهة بنائه في الغاية من الدفة يتطلب معها من قارئه أن يكون في مستواه ودرجته.
5-تذليل القراءة: وهي المجهود الذي يبذله القارئ لتيسير قراءته لمقروء ما؛ إن لكل مقروء مقروءه وكاتبه؛ ومعلوم أن لكل كاتب طرقه في الكتابة وأساليبه في العبارة ومناهجه في بناء الأحكام والاستدلال لها؛ وقد تكون هذه الطرق والأساليب والمناهج متسمة بتفرد خاص مميز لصاحبها لا يجعل التعامل معها من قبل قارئها أمرًا هينًا ويسيرًا ومن ثمة لزم قارئها الاجتهاد لتذليل صعوباتها المحتملة وترويضها.
6-إحكام القراءة: وهي إعمال وتشغيل جملة من المهارات النظرية العلمية والتبينية والاستدلالية في قراءة المقروء تجعل منها قراءة عاقلة؛ ويعود تعقيل القراءة وإحكامها إلى توظيف القارئ مختلف قدراته التدبرية في علم منطوقات المقروء ومفهوماته وفي تبين لوازمه وملزوماته وفي الاستدلال به على ما لم يتم النطق به فيه ولا الفهم له منه.
7-استنباطية القراءة وانتقائيتها: وهما المتمثلان في الانتقال من المقروء المتفرق والمنتشر إلى إبراز جامعه الذي يؤلفه ويحصره باعتباره مستنبطًا منه من جهة وفي انتقاء هذا المبرز الجامع دون غيره، لهذا السبب أو ذاك، من جهة أخرى.
8-إهمالية القراءة: إذ لا إبراز ولا انتقاء إلا بوجود الإهمال وانعدام الاعتبار.
9-استقرائية القراءة: وهي النقلة الحاصلة في القراءة، من جزئيات المقروء إلى ما ينتظم هذه الجزئيات من كليات باعتبارها أمورًا جامعة لهذه الجزئيات مبرزة ومنتقاةً.
10-تتبعية القراءة والتبعية لها: وهما المتمثلان في تتبع المقروء من بدايته إلى نهايته من جهة وفي إمكان الاتباع لما فيه، علمًا وعملًا، من جهة أخرى.
11-تأويلية القراءة: وهي الأوْل بالمقروء وتصييره وإرجاعه إلى دلالة دون أخرى؛ ومعلوم أن هذا الأول أو هذه التصيير أو الإرجاع لا بكون ممكنًا إلا بمقتضى قواعد تأويلية من جهة وقواعد تفضيل على آخر وترجيحه عليه من جهة أخرى.
12-فائدة القراءة أو ثمرتها: وهي القيمة التي يحصل عليها القارئ من قراءته يتقوم بها علمه أو عمله.
يقضي الوصف العاقل العام لقراءة قارئ ما، إذن، الجواب على الأسئلة التالية:
1- ما هو السياق الذي تندرج فيه قراءة القارئ (س) لمقروئه؟ وما هي مختلف أسيقة القراءة بصفة عامة؟
2- ما هي المطالب المعرفية والعلمية والمنهجية التي يطلب القارئ (س) تحصيل الجواب عليها بواسطة قراءته؟ وما هي المواقف النظرية التي يقفها القارئ (س) من مقروئه؟
3- ما هي درجة أهلية القارئ (س) وعدله في قراءته لمقروئه؟
4- ما هو قدر الاجتهاد الذي بذله القارئ (س) في قراءته؟
5- ما هي صعوبات المقروء التي استطاع القارئ (س) تذليلها وترويضها إن هي وجدت؟
6- ما هي الآليات العقلية التي قعل بها القارئ (س) مقروءه إن في حرفيته أو في روحه؟
7- ما هي الأمور التي انتقاها القارئ (س) لبرزها باعتبارها المراد من المقروء؟
8- ما هي الأمور التي أهملها القارئ (س) في قراءته وما أسباب هذا الإهمال؟
9- كيف رد القارئ (س) مقروءه إلى جوامع وما مشروعية هذا الرد؟
10- هل قرأ القارئ (س) مقروءه كله أم اكتفى بجزء منه فقط؟
11- ما هي القواعد التأويلية التي راعاها القارئ (س) في قراءته لمقروئه؟ وما هي القواعد الترجيحية التي وازن بها القارئ (س) بين تأويلات ممكنة ومختلفة لمقروئه؟
12- ما مدى استنفاع القارئ (س) بقراءته من جهة الاستهداء به عامًا أو من جهة الاسترشاد به عملًا؟
القراءة عملية تراكمية تطورية، تفتقر للإرشاد ومشاركة التجارب، ففي ذلك اختصار للطرق واستثمار للأعمار، ولا يتفاوت الناس بقدْر قراءاتهم فقط، بل بكيفيّاتها كذلك، وهو الأهم.