تجيب الروائية الألمانية من أصل روماني، هيرتا موللر، في مقابلة إذاعية أوروبية بعد نيلها جائزة نوبل في عام 2009 عن سبب تشابه رواياتها من حيث البيئة «رومانيا»، والموضوع «العيش تحت حكم ديكتاتوري»، وما إذا كان لجغرافية العمل الروائي أي أهمية للقارئ أو لها:
«لا، لا أعتقد أن المشهد الجغرافي مهم، ذاك المشهد أو البيئة هو ضرورة، ولا أملك مشهداً غير الذي أعرفه، والذي أتيت منه. شخصياتي الأدبية تعكس ما يجري على الانسان تحت حكم أو مجتمع شمولي، وأنا أعتقد بأنه لم يكن موضوعاً اخترته أنا، وإنما موضوع اختارته حياتي لي. أنا لا أملك حرية الاختيار تلك، لا أستطيع أن أقول: أودّ الكتابة حول هذا الشيء أو ذاك. أنا مقيدة بكتابة الأشياء التي تهمني والتي لا تدعني في أمان». [1]
تكمن أهمية هذا الاقتباس في تصريحه لحقيقة تتوارى تلميحا عند كتّاب آخرين نرى تشابه أعمالهم من حيث الموضوع، قد يرى كثير منهم عيباً في ذلك، إذ لا يزال الكاتب والروائي محمّلاً برواسب وأوهام الكاتب القائد لحركة نخبوية، أو الممثل لمجتمع، أو المتحدث باسم جماعة، أو من يحمل على عاتقه هداية وتنوير الأمة، إلخ. وهذا ما يجعل الروائي يتبنى قضايا وموضوعات لا تعنيه كما لو كان يؤدّي وظيفة أُوكلت إليه مهامها، وأصبح المسؤول عنها ليسد احتياجات المجتمع، ويتبوأ مكاناً في هرميته، مثل الخياط الذي يحيك الملابس تفصيلاً على مقاسات الآخرين. إلا أن السؤال يبقى: هل يمكن للروائي أن يكتب بمنظور غير منظوره، وأن يتبنى قضيةً لا تعنيه؟ تتطلب الإجابة على هذا السؤال تسليط الضوء على محاور مختلفة تصب بشكل أو بآخر في صلب السؤال.
الكتابة والجمهور
القراءة عمل فردي، وما أقصده بالقراءة هنا هي العملية التفاعلية بين القارئ والكلمات لإنتاج معنى، أي لو أن جماعة قررت أن تقوم بقراءة «جماعية»، فإن فعل القراءة –كما عرّفناه – يظل فردياً حتى لو قرأ جميعهم الكتاب ذاته، إذ أن عملية قراءة رسم الكلمات والحروف «الدوال» وتحويلها إلى صور في المخيلة «مدلولات» وربطها ببعضها البعض داخل بنية وشكل روائي، هو عمل فردي تماماً وليس جماعي. لكن هل يمكن قول الشيء ذاته حول الكتابة؟ هل يمكن عزل فعل الكتابة عن وجود قارئ أو متلقٍ مفترَض؟
الإجابة القصيرة هي: لا، لا يمكن. فالكتابة لغرض الكتابة تبدو عبثاً. كل ما يُكتب، يُكتب ليُقرأ، أي أنه دائماً هناك متلقٍ في ذهن الكاتب لما تتم كتابته، ولكن لو أعدنا صياغة السؤال السابق فيما يتوافق مع موضوع هذه المقالة قلنا: ما مدى تأثير القارئ المحتمَل على الكاتب؟ وهل يساهم في إجبار المؤلف على تناول منظور غير منظوره؟ هناك فكرة شهيرة تنسب للروائي الإيطالي أمبرتو إيكو تُعرف بـ«القارئ النموذجي»، وهو متلقٍّ متخيَّل قادر على فهم النص القصصي وتأويله بما يتماشى مع مقاصد المؤلف وتوقعاته [2]. إلا أن هذا القارئ لا يُستهدف كقارئ موجود سلفاً يُكتب له، وإنما يوجد كأنموذج في ذهن المؤلف، أنموذج قادر على فك شفرات العوالم المختلفة في النص، ومتمكن من سد ثغراته الكثيرة. ويكون هذا القارئ ناتج عن قراءته النموذجية للنص، أي أنه لاحق للنص وليس سابق له، بمعنى آخر المؤلف أو النص هو من يصنع هذا القارئ، والسبب في ذلك يعود لطبيعة النص المفتوح والممتلئ بالرموز البسيطة والمركبة (الرمز: علاقة الكلمة «الدال» بما ترمي إليه «المدلول»). نخلص من هذا كله أن وجود قارئ أو قراء محتملين ونموذجيين لا يتعارض مع كون الكتابة عمل فردي مثله مثل القراءة لأسباب سيميائية في الأصل.
وبما أن الحديث يدور حول المتلقي والجمهور، فإن هناك عاملٌ اجتماعي لا يمكن إغفاله، عاملٌ ينقل الموضوع إلى منطقة يمكن أن نطلق عليها سوسيو-أدبية أو أدبية-اجتماعية، وذلك قد يكون مؤثراً على الكاتب في اختيار موضوعاته وآرائه والمنظور الذي ينظر من خلاله، خصوصاً إذا ما أخذنا بالحسبان الطبيعة الجماعاتية «collectivist» للمجتمعات العربية، حيث يصعب على أفرادها تبني أفكار وآراء وقيم وحتى اهتمامات لا تلقى تقبّل جماعي، ولا يستثنى المجتمع الثقافي وتجمعات الروائيين من ذلك، إذ يخشى الروائي على صورته ويسعى إلى تلميعها لما يترتب على ذلك من تحديد قيمته في هرمية هذا المجتمع، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه بـ«الرقيب الجماهيري». ولهذه الظاهرة معانٍ يسهل استنباطها، منها أن كتابة الرواية في المجتمعات العربية أصبح ممارسة اجتماعية عِوَض أن يكون ممارسة جمالية تحفر في مفاهيم وقيم الفرد الخاصة، وأداة لتعرية ما لا يقال، أو على الأقل وسيلة لخلق صدمة وتحريك الماء الراكد وإن جمالياً. كما أن التجريب –استخدام أساليب كتابية جديدة وغير معتادة— في الرواية العربية يكاد يكون معدوماً خوفاً من عدم رواجه، والرواية التجريبية العربية شبه مندثرة، أو لأقول لا تلقى أي احتفاء من أحد فتموت مكانها، وذلك أيضاً هاجس يرتعب منه الروائي العربي المهووس غالباً بالقاعدة الجماهيرية الذي يأخذ منها موقعه الأدبي على سلم الهرم الاجتماعي والوجاهي. وغيرها من الأسباب التي تجعل الكاتب يتبنى قضايا أخرى لا تعنيه، فقط لرواجها وتقبلها من الجماهير، والكتابة عبر منظور لا يفهمه ولا يعنيه.
الرواية بين الجانب الموضوعاتي والجانب الفني
يمكننا النظر إلى أي عمل روائي على أنه منقسم إلى جانبين: جانب موضوعاتي يتعلق بمحتوى الرواية، وجانب فني يتعلق بالطريقة والأسلوب التي تناولت من خلاله الرواية ذلك الموضوع. هناك تركيز كبير على الجانب الموضوعاتي في الرواية العربية متناسين أن الرواية في نهاية المطاف فناًّ أكثر منها موضوعاً، وليس بعسيرٍ أن تستحضر كثير من تلك الروايات التي دخلت مناطق وعرة موضوعاتياً لإثبات جرأة الطرح وذلك عبر تناول الثلاثي المحرم: الدين والجنس والسياسة، وقد يلعب ذلك دوراً في علاقة الكاتب بالجمهور كما ذكر في المحور السابق. إلا أن الموضوع في حد ذاته لا يخلق رواية بالمعنى الفني والأدبي، بل يصنع عملاً يطلق عليه «Social Commentary» أو «تعليق اجتماعي» أي عمل لا يستحضر أسلوباً فنياً أو أدبياً جمالياً، لا يستخدم الترميز والتشبيه والمقاربة والتغريب والثيمة أو أي أسلوب فني يُعمّق من تجربة المتلقي الجمالية للعمل، بل يستبدل ذلك بطرح مباشر في عرض الموضوع –الرائج غالباً— والمراد تناوله. أحد أشهر الأمثلة على مثل هذه الأعمال الفنية هو المسلسل الشهير طاش ما طاش، وسيلفي، لما فيهما من انتقاد لأجهزة الحكومة وبعض الممارسات والظواهر الاجتماعية. هذا التطرف في الاهتمام بموضوع الرواية أو العمل الفني عموماً يساهم بشكل كبير في إجبار المؤلف على أن يتلبس بجلدٍ غير جلده لغرض تناول موضوع ما، فيخرج العمل بصورة باهتة وغير أصيلة تستند على رواج الموضوع أو الظاهرة ذاتها وليس الطريقة الفنية التي عُرض بها.
يقابل تطرف الاهتمام بالموضوع تطرف آخر وهو الاهتمام بالفنيات وحدها دون وجود موضوع، والنتيجة هي عمل يملك قيمة جمالية لكنه خاوٍ، أو يتسم بكثير من العبثية بالرغم من كونه أقرب لماهية الرواية الفنية والجمالية. مثل أن يُغرق المؤلف عمله بأساليب فنية متعددة لغرض استخدامها فقط: رواية متداخلة «رواية داخل رواية»، تنويع زوايا السرد، قص ما ورائي «Metafiction»، تشويه زمني، الخ. ولكن هذا النوع من الروايات لا يتأثر مؤلفه بعوامل تجبره على تناول منظور آخر، ولذلك هي خارج نطاق هذه المقالة.
إذا كان الروائي غير قادر على تناول موضوع ومنظور لا ينتمي إليه واتخاذ قضية لا تعنيه، فهو لا يستطيع الخروج من إطار هوياته، وما حوله من عناصر بيئية واجتماعية. هذا يضع الروائي والرواية العربية –تحديدا— في أزمة أخرى، أزمة تتفرع إلى جوانب يمكن حصرها في: الفشل السياسي عربياً، الهوية الدينية والقومية، تقهقر أو انعدام الفلسفة. هذه الوجوه الثلاثة تحاصر موضوعات الرواية العربية، فالفشل السياسي المستمر يثير تساؤل إمكانية الكتابة الروائية الفنية خارج هذه الازمة، والهوية المحصورة بين الدين والعرق في المنطقة يحد من تعريف الروائي نفسه بهويات ذات جذور مختلفة وذلك بدوره يحد من قضايا الكاتب ومن التعبير عن نفسه كفرد لا كجماعة، وأخيرا غياب الفلسفة والطرح الفلسفي يقضي على أي محاولة لاستخدام الرواية كأداة لتمثيل كثير من النظريات والأفكار الفلسفية في قالب فني وجمالي، وهي –الرواية— أداة فعالة في ذلك. هذه العناصر تحفّز الروائي بشكل مباشر أو غير مباشر أن يتخذ من الظواهر الاجتماعية الرائجة موضوعاً له.
القارئ كطرف في المعادلة
بما أن الحديث يدور حول المؤلف والنص، فمن الإخلال عدم التعريج على القارئ وهو عنصر مهم في ثالوث تشكيل المعنى، بل هو الأهم في بعض المدارس والنظريات النقدية، إذ غيابه يجعل النص مجرد كومة أوراق وحبرٌ على رف. غير أن القراءة كالكتابة، فن، وقارئ النص صاحب مسؤولية في فهم النص وتحليله، فكما أن هناك الروائي الرديء الذي يكتب بشكل مباشر، هناك أيضاً القارئ الكسول الذي لا يريد أن ينظر خلف ظاهر النص، وكل من الروائي الرديء والقارئ الكسول يكمل الآخر في عملية تفاعلية، الأول يكتب ما هو رائج بأسلوب باهت وغير أصيل عبر منظور لا يفهمه والآخر يستحسن ذلك لسهولته ومقبوليته الجماهيرية، ويستمر كل منهما في خلق الآخر داخل عملية إنتاج الفن الاستهلاكي.
يقدم كلايف لويس في كتابه «تجربة في النقد» [3] خواص القارئ الجيد للنص عبر مقاربته بين متلقي النص والرسم والموسيقى. فحوى هذه الخواص هو أن يسلّم القارئ نفسه للنص لا أن يأتي محملاً بأفكار، أو أساليب فنية محددة، أو حتى روايات وأعمال سابقة راقت له ومتوقعاً أن تكون الرواية التي بين يديه مثلها. بل أن يأتي القارئ بعقلية منفتحة لاستقبال أي تجربة قرائية أدبية يحمله فيها الروائي بين أمواجها.
ذلك أدعى أن يبقي الروائي في حدود تجربته الحياتية وفق هوياته وما يمتلك من منظور ينتمي إليه، فهو يكتب عما يهتم له وفق رؤيته دون الحاجة لأن يتلبس بغير جلده، ومعوّلاً على قارئ نموذجي يسلّم نفسه للنص –لا أن يحاكمه— لخوض تجربة قرائية يحاول من خلالها أن يخرج خارج دائرة راحته ومتمنياً لحظة دهشة يجدها بين ثنايا النص تكون سبباً في توسعة منظوره وأفقه لقراءة الأمور.
خاتمة
باتت الروايات العربية كلها متشابهة، كما لو كان هناك قالب يعد بنجاح الرواية حال اتباعه كما تحاول أن تروج له آداب وفنون الثقافة الشعبية والجماهيرية، مما دعا كثير من الروائيين أن ينسلخوا من ذواتهم أثناء الكتابة، فصاروا يكتبون نصوصاً موازية لهم لا تتقاطع معهم في شيء، ظناً منهم أن الكتابة الروائية حول قضايا وموضوعات تعنيهم هي كتابة سِيَرِيّة تفضح ضمور مخيلتهم، وتناسوا أن الكتابة الروائية هي عمل فني لا يقبل التقليد ولا يرضى بأقل من الأصالة، وأنها عمل إبداعي متفرد يتسع لمختلف أساليب التجريب والتنويع طالما كان القارئ منفتحاً لتشرّب ما يختلف عنه وما لم يعتده. أحد أهم عناصر تطور الرواية العربية هي أن يعود كتّابها إلى ذواتهم واكتساب الثقة في تجريب أساليب إبداعية جديدة في التعبير عما يهمهم من قضايا حتى وإن كانت فردية تخص الكاتب ذاته دون سواه.
[1] Radio Free Europe/Radio Liberty: Herta Mueller on Growing Up in Ceausescu’s Romania. October 11, 2009
[2] تأملات في السرد الروائي، أمبرتو إكو، المركز الثقافي العربي، ترجمة: سعيد بنكراد
[3] Lewis, Clive Staples. An experiment in criticism. Cambridge University Press, 2012