الكورونا والتنوّع اللغويّ، درسٌ أخلاقيّ ! – أنطونيوس نادر

دخلت القيود المشدّدة على حركة السّفر والتّنقّل في معظم أنحاء العالم، حيّز التّنفيذ وذلك في محاولة لكبح انتشار فيروس “كورونا” المستجد…أصاب الفيروس التّاجيّ أكثر من 82000 شخص حول العالم وتسبّب في وفاة 2810 شخصًا على الأقل منذ ظهوره لأوّل مرّة في مدينة “ووهان” الصّينيّة في ديسمبر. ولا يزال العلماء يدرسون الطّرق الّتي ينتقل فيها الفيروس من شخص لآخر. وإبّان سرعة انتشاره، أصدرت منظّمة الصّحّة العالميّة توصيات مشدّدة للوقاية، إذ لا يوجد حتى الآن دواء لمحاربته، ولا لقاح لمنع العدوى. هذا يعني أنّ مسؤولي الصّحّة والمنظّمات المعنيّة، يأملون في احتواء “COVID-19″، بالاعتماد على التّدابير المصمّمة للحفاظ على المرضى، الّذين قد يصابون بالمرض من جرّاء العدوى…وبالرّغم من سرعة انتشار الأخبار الكاذبة الّتي تطرق بابك كلّ ثانية عبر وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمكتوبة وعبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ على وجه الخصوص، كانت لهذه الوسائل دورها في تحذير النّاس وتوعيتهم ودفعهم نحو التقيّد بالإرشادات الطبيّة والتّوصيات الضّروريّة لحماية أنفسهم.
ونتيجة لذلك، سيتعيّن على الأشخاص غير المصابين تغيير أسلوبهم والطّريقة الّتي يقومون بها بالأشياء اليوميّة، سواء أكان ذلك من خلال الاهتمام بالنّظافة الشّخصيّة بشكل دقيق أو تجنّب الاقتراب من الآخرين والمصافحة وممارسة الرّياضة في النّوادي وارتياد المطاعم والمقاهي أو زيارة الكنائس وأماكن الحج…
لقد لاحظت في أثناء توجّهي للعمل وفي تتبّعي للصّفحات عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ وما تعرضه القنوات الإخباريّة عند كلّ مساء، بالإضافة إلى الإعلانات المعروضة على قنوات الأطفال التّرفيهيّة، ظاهرتيْن لسانيّتيْن-اجتماعيّتيْن، اشتركت على توظيفهما معظم الوسائط المتعدّدة في عرض محتواها الإعلاميّ والإعلانيّ وهاتين الظّاهرتيْن هما “التعدّديّة اللّغويّة” (Multilingualism) والازدواجيّة اللّغويّة (Diglossia).
التّمييز بين” الازدواجيّة اللّغويّة” و”التعدّديّة اللّغويّة”
يميّز اللّسانيّون بين مصطلحي الازدواجيّة اللّغويّة (Diglossia) و “التعدّديّة اللّغويّة” (Multilinguilism)؛ فالتّعبير الأوّل، لفظ مشتقّ من اليونانيّة (διγλωσσία)، ويعني “لغتان” أو “لسانان”. إنّ أوّل من أشار إلى الازدواجيّة اللّغويّة هو العالم الإغريقيّ يانيس بسيكاريس (Ioannis Psycharis)، في نهاية القرن التّاسع عشر، وقد قصد به حالة اللّغة الإغريقيّة. وبعد ذلك في ثلاثينيّات القرن العشرين، استعمل وليام مارساي (William Marçais)، هذا المصطلح لوصف حالة اللّغة العربيّة. ولم يدخل المصطلح مضمار علم اللّغة الاجتماعيّ حتى سنة 1985، حين وظّفه شارل فيرغوسون (Charles A. Ferguson) في مقاله للإشارة إلى اللّغة العربيّة أيضًا.
ﻴﺘﻠﺨّﺹ ﺘﻌﺭﻴﻑ الازدواجيّة اللّغويّة باﺴﺘﺨﺩﺍﻡ فرد أو جماعة ما لمستويَيْن لغويّيْن ﻓﻲ بيئة لغويّة واحدةٍ؛ أحدهما ذو اعتبار أرقى من الآخر، فيستخــدم في الكتابة الأدبيّة والعلميّة والفكريّة وما إلى ذلك. والآخر يستخدم في لغة التّخاطب اليوميّ، ويُنظر إليه على أنّه أدنى من المستوى الأوّل. يطلق فيرغوسون “الصنف الرّفيع H” (High) على المستوى الأوّل، أمّا اللّهجات الإقليميّة فيسميّها “الأصناف الوضيعة L” (Low). وخير مثال على ذلك، العامّية الدّارجة في العربيّة، فهي تستعمل في لغة الحديث اليــوميّ و لا تستعمل في لغة الكتابة إلّا نادرًا. وقد وضع فيرغوسون شروطًا لتحقيق الازدواجية اللّغويّة:
1- الوظيفة (Function): أي تخصيص كلّ مستوى أو صنف بوظيفة يؤدّيها في الاستعمال اللّغويّ؛ فيستعمل الأوّل في الأدب والمحاضرات الجامعيّة والخطابات الدينيّة، بينما يستعمل الثّاني في لغة التّراسل اليوميّ وفي إنتاج الأدب الشّعبيّ…
2- الاعتبار (Prestige): أي أن يُنظر إلى المستوى الرّفيع على أنّه يتمتّع بمكانة مرموقة من حيث الاستعمال وإن كان المستوى الثّاني أكثر شيوعًا؛ وترتبط المكانة بالموروث الدّينيّ، فالفصحى في العربيّة هي لغة القرآن الكريم ووتتّخذ اعتبارها انطلاقًا من هذه العلاقة. في اللّغة اليونانيّة، تعتبر لغة العهد الجديد هي نفسها لغة (katharevusa)، وكانت ترجمة العهد الجديد إلى الديموتيقيّة (dhimotiki)، سببًا لأعمال شغب خطيرة في اليونان في عام 1903.
3- الرّصيد الأدبيّ (Literary Heritage): أن يكون المستوى الرّفيع قد أنتج تاريخًا أدبيًّا يعترف به.
4- الاكتساب اللّغويّ (Acquisition): يستخدم البالغون “الصّنف L” في مخاطبة الأطفال ويستخدم الأطفال المستوى عينه مع الآخرين. ونتيجة لذلك، يتعلّم الأطفال “اللّغة الشّائعة” بشكل ثابت أي بالطّريقة “الطّبيعيّة”. قد يسمع الأطفال “الصّنف H” من وقت لآخر، ولكنّ اكتساب هذا المستوى، يتمّ فعليًّا وبشكل رئيس عن طريق التّعليم الرّسميّ.
5- المعياريّة (Standardization): يخضع المستوى الأوّل إلى معايير مضبوطة لسانيًّا ومحكمة من حيث القواعد والكتابة والمعجم أمّا المستوى الثّاني فيكاد يخلو من الضّبط.
6- الثّبات (Stability): قد يظنّ أنّ الازدواجيّة اللّغويّة غير مستقرّة، تميل إلى التّغيير إلى حالة لغويّة أكثر استقرارًا. إنمّا هو العكس تمامًا، عادةً ما تستمرّ الازدواجية اللّغويّة لعدّة قرون على الأقل، ويبدو أن الأدلّة في بعض الحالات، تشير إلى أنّها يمكن أن تستمرّ لأكثر من ألف عام.
7- البنية اللّغويّة أو القواعد (Grammar): أن ينتمي الصّنفان إلى اللّغة نفسها مع اختلاف في الأبنية الصّرفيّة والفونولوجيّة والتّركيبيّة والدلاليّة مع تمايز في العلاقات بين أجزاء الكلام.
أما ثنائيّة اللّغة أو الثّنائية اللّغوية (Bilingualism) – وهي حالة من حالات التعدّد اللّغويّ (Multilingualism) – فتعني وجود لغتيْن متنافستيْن في الاستعمال تتمتّعان بمنزلة واحدة من حيث الكتابة والاستعمال الرّسمي واليوميّ مثلما نلاحظ في الجزائر ولبنان، حيث العربيّة لغة مشتركة تتقاطع مع الفرنسيّة، يجيدهما المتكلّمون بالقدر نفسه من الكفاية. وهذا شيء ينسحب على المجتمع الكنديّ، الّذي يستخدم اللّغة الفرنسيّة والإنجليزيّة. وترجع أسباب وجود لغتيْن أو أكثر في بيئة ما، إلى عوامل سياسيّة استعماريّة أو اجتماعيّة كالزّواج بين الجنسيّات المختلفة أو جغرافيّة كالنّزوح القسريّ للجماعات إلى مناطق جديدة تختلف وإيّاها من حيث اللّسان أو إلى عوامل اقتصاديّة كسيطرة الإنجليزيّة على أسواق البورصة العالميّة أو إلى أسباب دينيّة أو ثقافيّة. وتُعدّ هذه الأسباب أو العوامل، مبحثًا للدراسة المعمّقة، يقع تحت عنوان: “الصّراع بين اللّغات واللّهجات.”
وهنا لا بدّ من توضيح مسألة تتعلّق بالاكتساب اللّغويّ؛ إنّ اللّغة المكتسبة الأولى قد لا تكون بالضّرورة هي اللّغة الأمّ، وقد تكون لغة أيّ شخص يقيم مع الطّفل بصفة دائمة. وليست اللّغة الأولى، تلك الّتي يتكلّمها الرّاشد بيسر أكبر، وقد يكتسب الطّفل في مراحل تعلّمه الأولى، لغةً ثانيةً تنسّيه لغته الأولى. كما أنّ التخصّص الأكاديميّ، قد يفرض على المرء لغةً معيّنةً، سوف تؤدّي إلى تتنافس وصراع مع لغته الأولى. ومن الطّبيعيّ أن تتفوّق إحداهما على الأخرى، فتستعمل بطريقة أكثر دقّةً وأمنًا في مواقف معيّنة.
“الازدواجيّة اللّغويّة” و”التعدّديّة اللّغويّة” في زمن الكورونا
من المهمّ أن تقدّم الدّول معلومات دقيقة حول فيروس كورونا إلى المواطنين جميعًا بما في ذلك الّذين ينتمون إلى جنسيّات وإثنيّات مختلفة. تتضمّن هذه الموارد صحائف الوقائع (fact sheets) ورسومًا بيانيّةً متعدّدة اللّغات والمستويات اللّغويّة. والأمر ينحسر أيضًا على المدارس والجامعات، الّتي تستضيف طلّابًا من بلدان مختلفة. إنّ الوباء لم يغيّر في لغة الخطابات العائليّة وحسب، بل وفّر أيضًا مساحة لمنظور جديد حول التنوّع اللّغويّ وأثره في السّلوك الصّحيّ.
توصيل المعلومات الصّحيّة باللّغة الصّينيّة غير القياسية (Non-Standard Chinese)
بوتونجوا (Putonghua)، هي الصّنّف المعياريّ للغة الماندرين الصّينيّة (Chinese Mandarin)، لكنّ غالبيّة المتحدّثين بلغة الماندرين يستعملون أصنافًا غير قياسيّة للتّواصل اليوميّ. لذا يتوجّب عليهم وعلى المجموعات العرقيّة الّتي لغتهم الأم ليست لغة الماندرين، تعلّم التّحدث بلغة “بوتونجوا” كلغة مشتركة (Lingua Franca). وقد حرصت المراكز اللّغويّة والسّياسة أيضًا، على تعزيز مكانة “بوتونجوا” من خلال تأمين فرص العمل الفرديّة للفقراء بشرط تعلّم هذه اللّغة، خصوصًا في المناطق النّائية الّتي تقطنها الأقلّيّات. إلّا أنّه حين تفشّى الفيروس، تغيّرت حالة اللّهجات المحليّة واللّغات الأخرى على الفور؛ فبعد إغلاق “ووهان” في مقاطعة هوبي (Hobei) – مركز تفشّي الفيروس – أصبحت المؤسّسات الّتي اعتادت على تعزيز لغة “بوتونجوا”، تعتمد على استراتيجيّة جديدة، تتمثّل في تطوير موارد لغويّة، تهدف لتعلّم أصناف الماندرين غير القياسيّة. على سبيل المثال، تم إنتاج كتيّب صوتيّ ثنائيّ اللّغة (بوتونجوا \ هوبي ماندارين) للعاملين الطّبيّين والمتطوّعين، الّذين تمّ تجنيدهم للردّ على المكالمات الطّارئة والاستفسارات المتعلّقة بالكورونا وسبل الوقاية.
ألحّت الضرورة على تغيير السّياسة اللّغويّة مع تزايد عدد العاملين في المجال الطّبيّ والمتطوّعين القادمين من أجزاء أخرى من الصّين إلى مقاطعة هوبي؛ إذ بحلول 20 شباط، تمّ إرسال أكثر من 60،000 فريق من العاملين الطبيّين من 29 مقاطعة في الصّين إلى مقاطعة “هوبي” لمحاربة “Covid-19” بالتّعاون مع الطّاقم الطّبيّ المحلّيّ. إنّ التحوّل من “بوتونجوا” إلى الأصناف الصّينيّة اللّغويّة الأخرى، لا يساعد على تحسين الرّعاية الطّبيّة وإنقاذ الأرواح وحسب، ولكنّه يساعد أيضًا في شدّ أواصر المجتمع، خصوصًا مجتمع مقاطعة هوبي (ووهان) الأكثر تضررًا من الوباء مع بداية التفشّي. أثارت محاولة تحسين التّواصل من خلال التّحدّث باللّغة الصّينيّة غير القياسيّة، وعي صانعي سياسات اللّغة الصّينيّة في ما يتعلّق بأهميّة إجراء المزيد من البحوث التّطبيقيّة حول اللّغة وأثرها في التّواصل الصحّيّ.

وبمعزل عن تنشيط الأصناف الصّينيّة غير القياسيّة، يمكن ملاحظة تحوّل آخر في ما يتعلّق باللّغات الأجنبيّة والاتّصالات الّتي تستهدف الأجانب الّذين يدرسون ويعيشون في الصّين. في المرحلة الأولى من تفشّي المرض، كانت اللّغة الإنجليزيّة هي اللّغة الأجنبية الوحيدة الّتي استعملت في تداول الأخبار حول الفيروس التّاجيّ عبر الإنترنت. اتّبعت العديد من الجامعات الصّينيّة ومكاتب المقاطعات المسؤولة عن الشّؤون الخارجيّة، تداول الأخبار باللّغة الإنجليزيّة. هذا وأرسلت رسائل الخدمة العامّة، بلغتي الماندرين والإنجليزيّة. يبدو أن اختيار اللّغة هذا يعتمد على افتراض أنّ الطلّاب والعمّال الأجانب في الصّين، قادرون على قراءة اللّغة الإنجليزية أو الماندرين وفهم محتوى التّوصيات. ولكن استنادًا إلى الإحصاءات وإلى طبيعة الاقتصاد الصّينيّ، الجاذب لليد العاملة، يتبيّن أنّ الطلّاب والعمّال المهاجرين من بنغلاديش ولاوس وميانمار وفيتنام والدّول العربيّة، يواجهون صعوبةً في فهم لغة الماندرين وحتّى في فهم اللّغة الإنجليزيّة. ونظرًا لتزايد عدد الطلّاب والعمّال الأجانب في الصّين، كان ضروريًّا أن يتمّ تداول المعلومات الصّحيّة بلغات هذه الجماعات؛ منذ أوائل شباط، بدأت تظهر بعض المعلومات بلغات أجنبيّة غير الإنجليزيّة على المواقع الرّسميّة.

كما قامت بعض المؤسّسات الجامعيّة، بنشر كتيّبات ثنائيّة اللّغة بالصّينيّة القياسيّة وبالعربيّة والإيطاليّة والكوريّة والإسبانيّة والفارسيّة وغيرها من اللّغات؛ على سبيل المثال موقع www.colorincolorado.org/coronavirus، الإسبانيّ الّذي يقدّم دروسًا باللّغة الإنجليزيّة (ELL).
هذا ولجأت دول أخرى إلى اعتماد الاستراتجيّة اللّغويّة ذاتها، عبر مواقعها الرّسميّة وقنواتها كأستراليا[1] وإيرلندا وغيرها من الدّول.
توصيات وقائيّة ضدّ “كورونا” نشرتها وزارة الصّحّة الإيرلانديّة باللّغتيْن الإنجليزيّة والإيرلنديّة
وأمام خطورة الفيروس وسرعة انتشاره، ظهرت أهميّة متزايدة لتداول المعلومات الصّحيّة باستخدام لغات الأقليّات (Indigenous Languages). وهذا ما اعتمدته وزارة الصحّة في نيوزيلاند[2]، الّتي أصدرت توصياتها بلغات عدّة كان من بينها “Niuean” و “Samoan” و “Tokelauan” و “Tongan” و “Tuvaluan”، وهي لغات تعود للأقلّيّات الّتي تسكن الجذر في نيوزيلند. ينعكس التحوّل في استخدام اللّغات المتعدّدة أو اللّهجات المحليّة في تداول المعلومات الصّحيّة، على عمليّة التّأثير في وعي الجماهير على اختلاف جنسياتهم وتحذيرهم من خطورة “الكورونا” وضرورة الوقاية، خصوصًا وأنّ الطريقة المستعملة في التّوعية، تتزامن مع الاعتماد على “اللّسانيّات السّلوكيّة” أي على علاقة المثير (Stimulus) بالاستجابة (Response)، لتعزيز التّوعية وضمان التقيّد بالإرشادات الصّحيّة. وقد أشارت الحكومات المحليّة وحتّى الإقليمية في الصّين، إلى أنّ تداول المعلومات بلغات متعدّدة، يعزّز من مسؤوليّة المواطن ويزيد من ثقته بالحكومة ومساعيها لمحاربة “Covid-19”.
أمّا في لبنان، فقد نشرت وزارة الصّحّة بالتّعاون مع وزارة الإعلام، صورًا متحرّكة تهدف إلى توعية الأطفال حول أهميّة النّظافة الشّخصيّة والاهتمام بغسل اليديْن وعدم المصافحة وذلك باللّهجة العاميّة اللّبنانيّة.
كيف تحسّن التعدّديّة والازدواجيّة اللّغويّة صحّتك ؟
إن تعلّم لغة ثانية أو ثالثة له فوائد من النّاحية الاجتماعيّة والمهنيّة، ويرجع ذلك أساسًا إلى وجود مجموعة أكبر من النّاس الّذي يمكنك التّواصل معهم. في دراسة أجرتها جامعة إدنبرغ (Edinburgh)، أشارت النّتائج إلى أن أولئك الّذين يتحدّثون بلغتيْن أو أكثر لديهم قدرات معرفيّة أفضل بكثير، مقارنةً مع أحاديّي اللّغة. وجد الباحثون أنّ التّأثيرات الأقوى كانت في الذّكاء العام والقراءة. يقول الدكتور توماس باك: “يكتسب ملايين الأشخاص حول العالم لغتهم الثّانية لاحقًا في حياتهم. أظهرت دراستنا أن ثنائيّة اللّغة، حتى عند اكتسابها في مرحلة البلوغ، قد تفيد الدّماغ المتقدّم في العمر.”
ولكن كيف يؤثّر ذلك على الوقاية من فيروس “كورونا” ؟ إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تكمن في طبيعة المعلومة ووظيفتها؛ عمد جاكبسون إلى تحديد وظائف لسانيّة مناسبة لكلّ عاملٍ من العوامل الستّة المذكورة في الخطاطة الآتية.
في التّوصيات والإرشادات الصّحيّة يكون التّركيز على ثلاثة عناصر “المرسل إليه، الرّسالة أو المحتوى وعلاقتها بالسّياق، وقناة الاتّصال”؛ فحين يكون الهدف دفع المرسل إليه إلى تغيير سلوك ما في حياته، يَكثُر ضمير المخاطب، وتعتبر الإرشادات الصّحيّة خير أنموذجٍ عن هذه الوظيفة، الّتي تسمّى الوظيفية الإفهاميّة (Conative Function). ولأنّ هذا النّوع من الخطاب، يروم التّأثير بالمتلقّي وإقناعه وإثارته، فإنّه يغلب في هذه الوظيفة، استعمال أساليب الأمر والنّداء والتّحذير. وهذا الأسلوب اللّسانيّ، يتخطّى مسألة التّأثير العاطفيّ إلى التّأثير البرغماتيّ؛ إذ غايته دفع المرسل إليه نحو الفعل (Action). وتتمثّل هذه الوظيفة في الإعلام (وسائط متعدّدة) وهي قناة الاتّصال (Channel).
وحين يكون التّركيز على قناة الاتّـصال، تتخّذ الازدواجيّة اللّغويّة والتعدّديّة اللّغويّة مكانةً مركزيّةً، وتكون وظيفة اللّغة هنا هي الوظيفة الانتباهيَّة (Phatic Function). وتهدف هذه الوظيفة إلى تأكيد الاتّصال وتثبيته أو إيقافه، مستعملةً لهذا الغرض تعابير وأساليب متداولة في الحياة اليوميّة، ومشتركة بين أفراد المجتمع الواحد. فالتّحذير من الملامسة والمصاحفة والتّقبيل – وهي عادات تختلف بين مجتمع وآخر – يهدف إلى إيقاف هذه السّلوكيّات في هذه المرحلة الدّقيقة، لأنّها تؤدّي إلى انتقال الفيروس، وهذا يتطلّب من المرسل استخدام لغة المجتمع ومفرداتها الخاصّة. كمّا أنّ الحثّ على غسل اليديْن والتّعقيم، يهدف إلى تثبيت المرسلة وما تحمله من معلومات صحيّة أساسيّة لحماية المجتمع المقصود من الفيروس.
وفي هذا الإطار، يعرض موقع منظّمة الصّحّة العالميّة، منشورات متعدّدة اللّغات ما يضمن وصول المعلومات الصّحيّة إلى الأشخاص الّذين يحتاجونها وباللّغات الّتي يمكنهم فهمها. وهذا يجعل الوصول إلى المعلومات الصّحيّة أكثر إنصافًا وفعاليّة.
نستنتج أنّ التّواصل القائم على التعدّد اللّغويّ، يسدّ الفجوات الاجتماعيّة ويعزّز التّفاهم بين النّاس. كما يحقّق نتائج صحّيّة أفضل في جميع أنحاء العالم. وبهذه الطريقة، يعد التّواصل المتعدّد اللّغات، أداة أساسيّة لتحسين الصّحّة العالميّة. وتسهم هذه الاستراتجيّة اللّغويّة في الوصول إلى وضع أفضل لمواجهة التّحدّي الرّاهن، مع انتشار فيروس كورونا، وذلك من خلال تعزيز النّظم الصّحيّة وتوفير الرّعاية المنصفة للجميع.”
نعلم أنّ كل اتّصال يهتمّ بالمرسلة في طبيعة الحال، لذا إنّ الوظيفة المرجعيّة (Referential Function)، هي قاعدة كلّ اتّصال. إلّا أنّ السّياق أو المرجع يبقى العنصر الأهمّ في كل اتّصال وهو يؤثّر على المعلومة الصحيّة على وجه الخصوص، بمعزل عن قناة الاتّصال، والّتي يمكن أن تقوم بدور سلبيّ – كما أشرت في المقدّمة. وغاية هذه الوظيفة تكمن في صياغة معلومة صحيحة، دقيقة، وموضوعيّة عن المرجع، ويمكن ملاحظتها والتأكّد من صحّتها.
ويبدو لنا أنّ التعّاطي مع ملفّ “كورونا”، والإجراءات الّتي اتخذتها معظم الدّول خارج “التنّين الأحمر”، لم تكن على حجم الحدث، حيث غاب أهل الاختصاص عن التدخّل الإعلاميّ، في حين سيطرت بسرعة تفوق سرعة انتشار الفيروس، المعلومة “الفيسبوكيّة” المغلوطة. كما أنّ السّياسة العالميّة، لم تتعامل مع الكورونا بحذر، ربّما خوفًا على الأسواق العالمية والخسائر الّتي ستتكبّدها. وفي ظلّ تسارع الأخبار والمعلومات، الّتي تغيب عنها الدقّة والتّفسير أو تلك الّتي وصلت حدّ الاستهتار والتّجاهل، وجد المواطن نفسه مجبورًا على اتّخاذ قرارات حاسمة وصلت حدّتها إلى الحجر المنزليّ الطّوعيّ في ظلّ تجاهل الدولة لخطورة الفيروس، وخصوصًا الدّول الّتي تعاني أزمات في القطاع الصحّيّ وأزمات جيوسياسيّة. وتكشف الإحصاءات الطّبيّة أنّ الدّول المتقدّمة، لن تستطيع استعاب المرضى في حال تفشّى الفيروس بوتيرة تصاعديّة، ما يتطلّب تعاونًا إنسانيًّا يتخطّى الجنس والعرق واللّغة.
بالرّغم من المخاطر الّتي يسبّببها الكورونا، فقد أعطى فرصة للبشر للتأمّل والعودة إلى مصالحة الكتاب والمطالعة واكتساب مفردات جديدة من خلال قراءة المنشورات الصّحيّة المتعدّدة اللّغات…الكورونا شدّ أواصر العلاقات الّتي كانت فاترة في زمن ما قبل الفيروس. هذا وقد وحّد بطريقة أو بأخرى، كلّ الاختلافات من أجل حماية “الإنسانيّة”، كاشفًا عن الصّدع في المؤسّسات على اختلاف طبيعتها، وأتاح للأرض متنفّسًا ترتاح فيه من ضوضاء البشر اليوميّة وضجيج المصانع والآلات.
وجديرٌ بالّذكر، عودة “أدب الأوبئة” إلى النّور إذ حقّقت رواية “الطّاعون” لألبير كامو مبيعًا هائلًا في الفترة الأخيرة، وزادت الطّلبات على الرّوايات الّتي تتناول موضوع الأوبئة كرواية “رمز” للرّوائيّ البرتغاليّ “جوزيه سارماغو” ورواية “الحبّ في زمن الكوليرا” للإسبانيّ “غارسيا ماركيز” ورواية “كوليرا 76” للرّوائيّ السودانيّ “أمير تاج سر”.
أترككم في النهاية للتأمّل في سؤال كتبته الرّوائيّة ناتالي خوري غريب: هل حقّقت “كورونا” من “العدالة” على هذه الكرة الأرضيّة ما لم تحقّقه كلّ الأنظمة الّتي ادّعت ذلك؟! فلا عنصريّة، لا دولة غنيّة أو فقيرة، لا وزير أو أمير أو معدم فقير، لا مجتمع دينيّ أو لا دينيّ…” وأضيف “لا لغة تعلو على أخرى.”
المراجع:
– Charles A. Ferguson (1959), Diglossia, WORD, 15:2, 325-340, DOI: 10.1080/00437956.1959.11659702
– http://www.signosemio.com/jakobson/functions-of-language.asp
– https://mainichi.jp/english/articles/20200306/p2a/00m/0et/020000c
[1] https://www.health.gov.au/resources/publications/coronavirus-covid-19-information-for-travellers-arriving-from-mainland-china-iran-republic-of-korea-and-italy
[2] https://www.health.govt.nz/our-work/diseases-and-conditions/covid-19-novel-coronavirus/covid-19-information-other-languages#niuean