تخيّل أنّك آخر المتحدّثين بلغتك الأم، ولم يعد لديك أيّ شخص ينتمي إلى بيئتك للتبادل معه أطراف الحديث…أطفالك لم يتعلّموا لغتك أبدًا بل يستخدمون لغة الغرباء. وإذا كنت ترغب في التّفاعل مع أيّ شخص على الإطلاق، يجب عليك استخدام لغة أجنبيّة، فلغتك الأولى قد انقرضت…
ينتشر في العالم اليوم ما يقارب 5000 إلى 6000 لغة، ولكن بعد قرن من الآن سينخفض العدد تقريبًا إلى الآلاف أو حتّى إلى المئات. تجد بعض المجتمعات، الّتي كانت ذات يوم تتمتّع بالاكتفاء الذّاتيّ، نفسها تحت ضغط شديد أكثر من أيّ وقت مضى؛ من أسباب هذا الضّغط، الاتّصال الحضاريّ مع الجيران الأقوياء، أو القوى الإقليميّة، أو الغزاة، ممّا يؤدّي غالبًا إلى فقدان لغاتهم الخاصّة وحتى هوّيتهم العرقيّة.
تخضع اللّغات – كغيرها من المؤسّسات – إلى ضغط اقتصاديّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ أو دينيّ أو سياسيّ أو عسكريً أو أيّ مزيج من هذه الضّغوطات. إنّ الأشخاص المتأثّرين بشكل مباشر، هم الأقلّيّات بحكم مفهوم هذا المصطلح، ومع ذلك فهم يحملون معظم التنوّع اللّغوي الّذي تطوّر على مدار تاريخ البشريّة.
وأبرز مثل حيّ على التنوّع اللّغوي، قبائل بابوا غينيا الجديدة (Papua New Guinea)، الّتي تنطق ألسنتها 900 لغة تقريبًا. كما أنّ الشّعوب الأصليّة للأمريكتيْن، ما زالوا يحتفظون بأعداد أقلّ من 900 لغة أو أكثر من لغاتهم الأصليّة. والأمر نفسه ينطبق على الأقلّيات القوميّة والقبليّة في إفريقيا وآسيا وأوقيانيا، الّتي تحتفظ بعدّة آلاف من اللّغات.
يرى اللّسانيّون، أنّ تعريض اللّغة للخطر يمثّل مشكلةً خطيرةً للغاية على المستوى الإنسانيّ والعلميّ؛ فاﻟﺘﻨﻮّع اﻟﻠّﻐﻮيّ ضروريّ ﻟﻠﺘّﺮاث اﻹﻧﺴﺎﻧﻲّ، فاللّغة عدا عن كونها آداة للتواصل هي كائن حيّ يجسّد اﻟﺤﻜﻤﺔ والحضارة والعلوم اﻟﻔﺮيدة اﻟّﺘﻲ ﻳﺘﻤﺘّﻊ ﺑﻬﺎ شعب ﻣﺎ. وبذلك يشكّل انقراض اللّغة، خسارة للبشريّة جمعاء.
لذا تعدّ اللّغات المهدّدة بالانقراض، إحدى أعلى الأولويّات من النّاحيّة العلميّة والإنسانيّة في اللّسانيّات التطبيقيّة والأنتربولوجيا في أوائل القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن أنّها من المشكلات الأكثر إلحاحًا الّتي تواجه البشرية.
تطرح هذه المقالة، مجموعة من الأسئلة والأجوبة بهدف تأطير ظاهرة اندثار اللّغات وتعرّضها لخطر الانقراض والسّبل الّتي يمكن اللّجوء إليها للتخفيف من حدّة هذه الظّاهرة أو معالجتها.
ماذا يعني انقراض اللّغة؟
إنّ اللّغة المهدّدة بالانقراض، هي اللّغة الّتي من المحتمل أن تنقرض في المستقبل القريب. يتوقّف استعمال الكثير من اللّغات ويتمّ استبدالها بلغات أخرى تستخدم على نطاق واسع في بقعة جغرافيّة صغيرة أو في مساحة أكبر كالدّولة، مثل اللّغة الإنجليزية في الولايات المتحدة أو الإسبانية في المكسيك ويسمّى هذا الاستبدال بالتحوّل اللّغوي (Language shift).
في الواقع، هناك عشرات من اللّغات الّتي لا تزال تعيش اليوم عبر متحدّث واحدّ أصليّ، وسيعني موت ذلك الشّخص انقراض هذه اللّغة.
اقترح اللّسانيّون عدّة طرق مختلفة لتصنيف اللّغات من أجل فهم أفضل للأحوال والإشكاليّات الّتي تصيب اللّغات. يستخدم عالم اللّغة ميشال كروس (Michael Krauss) مصطلح “لغة تحتضر” (moribund) للإشارة إلى اللّغات الّتي لا يتمّ تلقينها للأطفال كلغة أولى، وإن لم يتغيّر شيء ما، ستختفي هذه اللّغات خلال جيل واحد.
اللّغات “المهددة بالانقراض” (Endangered Languages)، هي تلك اللّغات الّتي لا يزال يتعلّمها الأطفال حاليًّا، ولكن هذا التّعليم لن يستمرّ في المستقبل. أمّا اللّغات “الآمنة” (safe languages)، فهي تلك اللّغات الّتي ليست تحت وطأة الخطر – فهي تنتقل من جيل إلى جيل من دون عوائق، في الوقت الحاليّ على الأقل.
ولا بدّ في هذا السّياق، التّمييز بين اللّغات المنقرضة (Extinct Language)، واللّغات الميّتة (Dead Language) ؛ فعلى غرار الحيوانات المنقرضة، إنّ اللّغات المنقرضة لا أمل في إعادة إحيائها إذ لا يوجد أيّ أحفاد أحياء يستعملونها أو على دراية بها. في المقابل، فإن اللّغة الميّتة هي “اللّغة الّتي لم تعد اللّغة الأم لأيّ مجتمع” ، حتى لو كانت لا تزال قيد الاستخدام، مثل اللّاتينية.
في بعض الأحيان تسمّى اللّغات الّتي لا تزال تجري على ألسنة السّكان الأصليّين باللّغات الحديثة (Modern Languages) لمقارنتها باللّغات الميّتة.
وقد حدّدت الأنويسكو مجموعة من الحالات الّتي قد تصاب بها لغة ما، نستطيع إيجازها بالجدول الآتي:
درجة خطر الانقراض | انتقال اللّغة بين الأجيال |
آمنة (safe) | اللّغة منتشرة بين الأجيال. ولا تزال تنتقل من جيل إلى جيل من دون معوقات. |
غير حصينة (vulnerable) | يتحدّث معظم الأحفاد هذه اللّغة، ولكن قد تكون مقيّدة بنطاقات معينة (على سبيل المثال، المنزل أو القبيلة) |
بحالة خطر
(definitely endangered) |
إنّ الأحفاد لم يتعلّموا لغتهم الأم |
بحالة خطر شديد (مستوى 2)
(severely endangered) |
يتحدث بها الأجداد والأجيال الأكبر سنًا. في حين أن الجيل الثاني (Parent generation) قد يفهمها ولكن لا يستعملونها في حديثهم مع الأطفال أو فيما بينهم |
منازعة (مستوى 3)
(critically endangered) |
الجيل الوحيد الحيّ الّذي يستعمل هذه اللّغة هم الأجداد والأكبر سنًا، ويستعملون اللّغة بشكل نادر وجزئيّ |
منقرضة (extinct) | ليس لها أيّ متحدّثين أصليّين |
وقد وضّح ليونارد ويسلي (Leonard Wesley)، أنّ تلك الأحوال أو الأوصاف لا تنطبق بالضّرورة على كلّ اللّغات. وهو يشير إلى بعض اللّغات باسم “اللّغات الهاجعة (sleeping Languages)”، أي “تلك اللّغات غير الموجودة حاليًا أو المعروفة ولكنّها موثّقة، ومطالب بها كجزء من تراث الجماعة، وتاليًا يمكن إحياؤها مثل لغة “Myaamia” في مجتمع ميامي (Miami Community).
كيف تصبح اللّغة مهددة بالانقراض؟
يتمّ تصنيف أسباب تعرّض اللّغة لخطر الانقراض إلى أربعة مجموعات:
- الكوارث الطّبيعيّة، المجاعة، الوباء: على سبيل المثال، مثلًا لغة ((Malol في قبيلة بابوا غينيا الجديدة (زلزال)؛ جزر أندامان (تسونامي).
- الحرب والإبادة الجماعيّة: على سبيل المثال، تسمانيا (الإبادة الجماعية من قبل المستعمرين)؛ الشعوب الأصلية البرازيلية (النّزاعات على الأرض والموارد) ؛ السلفادور (الحرب الأهليّة). وفي هذا الإطار، يدخل صراع اللّغات واللّهجات حيث يكون لإحدى اللّغات أو اللّهجات أسباب القوّة والانتصار.
- القمع العلنيّ القسريّ: على سبيل المثال “الوحدة الوطنيّة” و”التوطين” مثل ما حلّ بالكرديّة والويلزيّة، واللّغات الأصليّة الأمريكيّة.
- العولمة ومن مظاهرها الهيمنة وتشمل:
- الهيمنة الثّقافيّة: الهيمنة من قبل مجتمع يشكّل الأغلبيّة السّكانيّة في منطقة ما، كسيطرة لغة العاصمة على مجموعة من المجتمعات من ناحية التّعليم والأدب؛ فتصبح لغة الشعوب الأصليّة وثقافاتها “فولكلوريّة”. وفي أكثر الأحيان، تكون لغات الأقلّيات مرتبطة بالفقر والأميّة وصعوبة اكتسابها لسانيًّا، في حين تكون اللّغة المهيمنة مرتبطة بالتقدّم والسّهولة والانتشار.
- الهيمنة السّياسيّة: على سبيل المثال، سياسات التّعليم الّتي تتجاهل أو تستبعد اللّغات المحليّة، أو عدم اعتراف السّلطلت بمجموعة من الأقلّيات وعدم السّماح بأن يكون لها تمثيل سياسيّ. وعادةً ما يرافق هذه الهيمنة، قوانين تحظّر استخدام لغات الأقلّيّات في الحياة العامّة. وقد تتفوّق لغة على أخرى عن طريق أشكال الاستعمار والانتداب والنّزاعات الحدوديّة.
- الهيمنة الاقتصاديّة: يؤدّي الفقر في الرّيف إلى الهجرة إلى المدن وخارجها، حيث يتخلّى الفرد عن لغته لكي يتمكّن من التكيّف والاندماج مع المجتمع الجديد. كما أنّ انفتاح الأسواق، وتعاظم القوى الاقتصاديّة لبعض الدّول يسمح بفرض لغتها على سائر اللّغات.
ما هي انعكاسات الناتجة عن انقراض اللّغة؟
بدأ اللّسانيّون الاجتماعيّون والأنثروبولوجيّون، في الكشف عن التّأثير الّذي يحدثه فقدان لغة ما أو التحّول اللّغوي في بعض المجتمعات. وهذه الظاهرة، وإن كانت بحدّ ذاتها طوعيّة أو غير طوعيّة، فهي في الحالّتين، تتسبّب بفقدان الهويّة الاجتماعيّة، عدا عن كونها دليلًا على الهزيمة والاستسلام أمام القوى الاستعماريّة. علاوةً على ذلك ، فإنّ انقراض اللّغة، لا يؤثّر فقط بمسألة الهويّة، بل ينعكس على الوظائف والأدوار الّتي تقوم بها اللّغة بشكل عام.
ونستطيع إبراز هذه التّأثيرات بالنّقاط الآتية:
- تأثير فقدان اللّغة على الأوساط الأكاديميّة.
- تأثير فقدان اللّغة على التّراث والثقافة .
- تأثير اللّغة على الهويّة الفرديّة والجماعيّة.
- اللّغة والبيئة.
تأثير فقدان اللّغة على الأوساط الأكاديميّة
إنّ فقدان لغة ما، يؤثّر بشكل مباشر على الأوساط الأكاديميّة المختلفة بدءًا باللّسانيّات؛ فدراسة اللّغات المهدّدة بالانقراض، هي مادّة أساسيّة في عمل الأكادميّين المتخصّصين بتحليل القدرات اللّغويّة البشريّة في مجالات اللّسانيّات التطبيقيّة. كلّما عرفنا أكثر عن طرق الاستخدام المختلفة للّغة، كلّما تمكنّا من شرح هذه القدرة بشكل أفضل: “إن التنوّع اللّغوي، يزيد من معرفتنا للأبعاد الذهنيّة لأنّ اللّغة تكشف – بطريقة فريدة – الطّرق الإبداعيّة التنظيميّة عند البشر وكيف يصنّفون تجرابهم.”
بعبارة أخرى، كلّما قلّ عدد اللّغات الموجودة (أو الوثائق المتاحة عنها)، تراجع التنوّع الموجود الّذي يمكن دراسته، فنصبح تاليًا أقل معرفة عن الإبداع البشريّ عن طريق اللّغة.
ومن المعروف أنّ اللّغات المهدّدة بالانقراض، يمكن أن توفّر بيانات عن النّماذج اللّغويّة الأولى الّتي لم يتمّ اختبارها لسانيًّا بعد. في المراحل الأولى لظهور اللّسانيّات، كانت اللّغات الهنديّة الأوروبيّة المادّة الأولى الخاضعة للتحليل لأنّ هذه اللّغات تنتمي جميعًا إلى عائلة لغويّة واحدة، ومن الطّبيعيّ وجود ترابط وثيق وتبادل مشترك في الخصائص بين هذه اللّغات.
اليوم، يتمّ توثيق هذه اللّغات بطريقة أكاديميّة، بالمقارنة مع معظم اللّغات الأصليّة (indigenous languages). لكنّ ذلك لا يكفي بل يجب أن تأخذ في الاعتبار، اللّغات الّتي تنتمي إلى عائلات مختلفة لأنّ الخصائص اللّسانيّة (Linguistic features) في اللّغات المهدّدة بالانقراض، قد لا يوجد لها مثيل في اللّغات الهندو-أوروبيّة أو اللّغات الساميّة-الحاميّة. فإذا اكتفى المرء بدراسة اللّغات المعروفة فقط، فسيكون من السّهل للغاية التوصّل إلى استنتاجات خاطئة حول ما هو ممكن أن تتمتّع به اللّغة من قدرات.
كما أنّ اللّغات المهدّدة بالانقراض، هي أيضًا مخازن لمعلومات ذات قيمة متشعّبة، ليس فقط على المستوى اللّسانيّ، بل على المستويات الأكاديميّة الأخرى؛ غالبًا ما يكون لدى السّكان الأصليّين، معرفة معمّقة جدًا بالنّباتات والحيوانات وصناعة الأدوات في المناطق الّتي يعيشون فيها. يقول دانيال نيتل (Daniel Nettle) وسوزان رومان (Suzanne Romaine):” إنّ الكثير من سكّان هاواي قد نسوا الآن، القسم الأكبر من تلك المعارف المحليّة الّتي تراكمت وانتقلت شفهيًّا على مدى ألفين سنة”. وذلك لأنّ هذه المعلومات تمّ تناقلها شفهيًّا ولم تدوّن، وقد اختفت جنبًا إلى جنب مع اللّغة الأصليّة. وهكذا نجد أنّ التخلّي عن اللّغات والثّقافات التقليديّة أو انقراض اللّغة، يؤدّي إلى فقدان هذا النوع من المعرفة الدّقيقة بشكل نهائيّ.
يواجه اللّسانيون والمتحدّثون بلغة مهدّدة بالانقراض، خطر فقدان شيء ذي قيمة عالية. وبالعمل معًا، ربّما تتمكّن المجموعتان من درء الخطر وإعادة إحياء اللّغة إلّا أنّ – لسوء الحظ – معالجة هذه الإشكالية ليست بهذه البساطة.
تأثير فقدان اللّغة على التّراث والثّقافة
اللّغة وعاء الثّقافة والتّراث، فالإنسان يعبّر عن مظاهر حياته الاجتماعيّة والثّقافيّة والرّوحيّة والفكريّة ويحفظها من الاندثار والزّوال عن طريق اللّغة ووسائطها المتعدّدة كالتّدوين والمشافهة، بدءًا بالتّحيّات اليوميّة وأساليب المحادثة والفكاهة، وصولًا إلى طرق التحدّث إلى الأطفال والمصطلحات الفريدة الّتي تستعمل في ممارسة العادات والسّلوك والتّعبير عن العواطف، فضلًا عن الصّلوات والشّعائر والأساطير والاحتفالات والأدب والمفردات الشّفويّة والتّقنيّة.
وعند انقراض إحدى اللّغات، يجب إعادة تشكيل كل هذه المعطيات في اللّغة الجديدة بحسب المستويات اللّسانيّة؛ فعلى المستوى المعجميّ تظهر فئات جديدة للكلمات المختلفة، وعلى المستوى الفونولوجيّ يتمّ إدخال مقاطع صوتيّة (phoneme) جديدة، وعلى المستوى التركيبيّ-المرفولوجيّ، تظهر هياكل نحويّة وصرفيّة تختلف بشكل جزئيّ أو كلّيّ عمّا كان سائدًا في اللّغة المنقرضة.
تخسر المجتمعات الّتي حصل فيها تحوّل لغويّ، الجزء الأكبر من ثقافاتها وتقاليدها وتراثها بالرّغم من الحفاظ على هويّاها الاجتماعيّة. وفي أغلب الأحيان، تتولّى الأشكال الثقافية الطّارئة الّتي تبثّها السّلطة الاستعماريّة، بمحو ممنهج لهذه الخصائص عن طريق فرض لغتها. وهناك بعض المواقف تزعم أن فقدان اللّغة هو نتيجة حتميّة للتقدّم والعولمة وهو أمر يعزّز حوار الحضارات والتّفاهم بين المجموعات، ولكن هذا الطّرح يسقط عندما يتكوّن لدى الشعب الوعي الحضاريّ الّذي يجعلهم يدركون أنّ تهديد لغتهم أو عدم استعمالها على المستوى العام، يعني مباشرةً القضاء على هويّتهم وخصائصهم الجماعيّة ومكانتهم الوجوديّة بين الحضارات.
لكن ألن يكون الأمر أسهل إذا تحدّث الجميع بلغة واحدة؟ أن تستطيع أن تتواصل مع الآخر مهما اختلفت جنسيّته، من دون الحاجة إلى تعلّم لغته، هو أمرٌ مهمّ يخدم حوار الحضارات وتبادل الثّقافات إلّا أنّ هذا التّواصل لا يفترض إقصاء لغة الآخر أو تخلّي الفرد أو الجماعة عن اللّغة الأم. فضلًا عن أنّ هذا التموضع، لا يعني بالضّرورة التّقوقع والاكتفاء والانكماش، بل هو من باب القوميّة الّتي لا يجب أن ينظر إليها نظرة سلبيّةً كما خو سائد اليوم. فالتّواصل مع الآخر المختلف يمكن أن يتحقّق عبر تعلّم لغة ثانية وثالثة (Multilingualism) ، إلى جانب اللّغات الأولى.
يذكر موقع الأونيسكو على الإنترنت أنّ “التنوّع الثّقافي هو قوّة دافعة للتنمية، ليس فقط في ما يتعلّق بالنموّ الاقتصاديّ، ولكن أيضّا على مستوى السّياسيّ والديبلوماسيّ من خلال الاعتراف يخصوصيّة الآخر”. يُشار إلى التنوّع اللّغوي باعتباره “ركيزة ثقافيّة” و “ضرورة استراتيجيّة” أساسيّة على هذا الكوكب.
عندما تتلاشى اللّغات، يتلاشى معها نسيج العالم الغنيّ بالتنوّع الثقافيّ: “الفرص، التّقاليد، الذّاكرة وأنماط التّفكير والتّعبير الفريدة”، كلّ هذه الجوانب القيّمة لضمان مستقبل أفضل، هي أيضًا تزول !
تأثير اللّغة على الهويّة الفرديّة والجماعيّة
غالبًا ما يُنظر إلى اللّغات كدلائل على الهويّة العرقيّة والقوميّة. يدعي الناشطون في مسألة اللّغة المهدّدة بالانقراض أنّه بانقراض اللّغة، تختفي النّظرة الفريدة إلى العالم. هذه العلاقة يمكن اعتبارها نسخة ضعيفة من فرضيّة “Sapir-Whorf”، والّتي تقول بأنّ طريقتنا في التّفكير، وتاليًا هويّتنا الثقافيّة، يحدّدها المعجم (Lexicon) والتراكيب (Syntax) في لغتنا.
يرى قسم كبير من الكتّاب والفلاسفة، المتأثّرين بالاتجاه الفكريّ في مرحلة ما بعد الحداثة (Postmodernism Philosophies)، أنّ الهويّات ليست مقوّمات ثابتة أو حقائق خالصة، فهي كالسّوائل، وكالأبنية الخاضعة للتفكيك في أيّة لحظة.
قد تنتمي إلى بلد ما، في حين أنّك تشجّع فريقًا رياضيًّا ينتمي إلى مكان آخر؛ قد يساعد هذا المثل في تفسير المفارقة المتمثّلة بادعاء العديد من المتحدّثين بلغة مهدّدة بالانقراض وجود ارتباط قويّ بلغتهم، ولكن لا ينقلونها إلى أطفالهم. ولتوضيح هذه المفارقة، يقول لو باج (le page) و تابوري كيلر (Tabouret Keller): “إنّ الشّعور بالانتماء الإثنيّ يستطيع أن يصمد عند انقراض لغة ما”. وتعلّق نانسي دوريان (Nancy Dorian): “لأنّها – اللّغة – ليست سوى واحدة من مجموعة لا حصر لها تقريبًا من علامات الهويّة، يمكن استبدال أيّ لغة بلغة أخرى بسهولة، وفي هذا الصّدد يكون احترام لغة الأجداد أمرًا مستهلكًا من النّاحية الوظيفيّة”.
وبالرّغم ممّا سبق، فإنّ الحفاظ على الهويّة الإقليميّة يزداد أهميّة في عصر العولمة. اللّغة هي واحدة من الطّرق الّتي يبني بها الناس هويّاتهم ، وهي تصبح مهمّة للهويّة عندما تشعر المجموعة بأنّها تفقد هويّتها لأسباب سياسيّة أو اجتماعيّة. لذلك تنشط مؤخّرًا حملات، لإبراز الخصائص الإثنيّة والمحليّة للشعوب المنقرضة لغتها، كإحدى الطّرق الّتي يمكن عبرها إعادة إحياء اللّغة.
اللّغة والبيئة
يرى عدد من العلماء، أنّ ثمّة ترابطًا أو أوجه تشابه بين التنوّع الثقافيّ واللّغويّ والتنوّع البيولوجيّ. وقد وجد علماء الأحياء، أنّ بعض الأماكن الجغرافيّة مثل إندونيسيا وبابوا غينيا الجديدة الّتي تحتوي على عدد كبير من الأنواع البيولوجيّة المختلفة، لديها أيضًا عدد كبير من اللّغات المختلفة، مقارنةً بأوروبا الّتي تضمّ أقلّ عدد من اللّغات والأجناس. وقد تلقّت هذه الفرضيّة اهتمامًا واسعًا لدى الجمهور، عبر سلسلة من البرامج مثل “Lost for words” على قناة “BBC”.
هل يعني هذا الكلام أنّ هناك علاقة سببيّة بين انقراض اللّغة وانقراض الأنواع البيولوجيّة ؟ لقد خلصت لويزا مافي (Luisa Maffi) – وهي واحدة من 39 مؤلفًا عملوا على كتاب أكسفورد للّغات المهدّدة بالانقراض، وهو كتاب جديد يعرض أحدث الأبحاث في الحفاظ على اللّغات – إلى أنّ هناك تقاطعًا بين الشّعوب والإيكولوجيا والأنواع البيولوجيّة المستوطنة. تقول: “يحدث فقدان التنوّع اللّغوي في المناطق نفسها الّتي تنفرض فيها الأنواع البيولوجيّة.” (راجع الخرائط في الأسفل)
وتضيف: ” لقد عانت الأمريكيّتان وأستراليا – وهي من المناطق الّتي تشهد نسبًا عاليةً من الأنواع البيولوجيّة المهدّدة بالانقراض – من أكبر خسائر في اللّغات. إنّ 64 % من اللّغات في الولايات المتّحدة و 50 % من اللّغات الأستراليّة و 30 % من لغات جزر المحيط الهادئ، قد اختفت في السّنوات الـ 45 الماضية.”
في الواقع، هناك خبراء آخرون يدعمون هذه الطّروحات. تقول تيريزا ل. مكارتي (Teresa L. McCarty) – أستاذة التّربية والتّعليم والأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا: “الحفاظ على التنوّع اللّغوي، هو قوّة معاكسة أمام محاولات جنسنة (homogenization) العالم” ]…[، التنوّع في كلّ صنف هو ما يمكّن الجنس البشريّ من البقاء والازدهار”، كما تقول: “إنّه – التنوّع – جزء من إنسانيتنا.”
إلى أنه على الرّغم من وجود علاقة واضحة بين التنوّع الثقافيّ والتنوّع البيولوجيّ، فمن الأكيد أن تكون أسباب التّراجع الأكثر تأثيرًا في المسالّتين مختلفة. ومع ذلك، فإن عددًا من “اللّغويين الإيكولوجيّين” يستخدمون أدوات تحليل الخطاب النّقدي للادّعاء بأن تعريض البيئة للخطر، يرجع جزئيًّا إلى الممارسات اللّغويّة الّتي تكشف عن مواقف استغلاليّة تجاه البيئة الطبيعيّة.
ماذا عن الشرق الأوسط والعالم العربيّ؟
ينتشر في العالم العربيّ، مجموعة من اللّغات واللّهجات الّتي تنتمي إلى مجموعتين؛ المجموعة الأولى هي اللّغات ذات الأصل الساميّ (Semitic)، والمجموعة الثانية هي اللّغات الإفريقيّة (الحاميّة). وسأكتفي بعرض اللّغات ذات الأصل السّامي – بشكل دقيق – مع ذكر طفيف للّغات، الّتي تنتمي إلى المجموعة الثّانيّة.
ويمكن أن نجمل أسباب المخاطر الّتي تتعرّض لها تلك اللّغات بالنّقاط الآتية:
- انتشار اللّغة العربيّة واعتبارها لغة الدّول الرّسميّة، وهي ذات بعد حضاريّ مدعوم بالرّافد الدينيّ الإسلاميّ ما يضمن لها القوّة وأسباب الانتصار.
- انخفاض عدد المتكلّمين بهذه اللّغات قياسًا بعدد من حولهم ممّن يتكلّمون العربيّة.
- أسباب داخليّة تتعلّق بالحياة البدائيّة وعادات متكلّميها من الشّعوب الأصليّة.
ومن أبرز هذه اللّغات:
اللّغة المنداعيّة (المندائيّة): هي لغة آراميّة شرقيّة، ارتبطت بجماعة دينيّة عرفت باسم الصّابئة. وهي لهجة طائفة العارفين المسيحيّة الّتي لا تزال موجودة في جنوب العراق إلى اليوم. وعلى غرار اللّغتين السريانيّة واللّاتينيّة، تستخدم اللّغة المندائيّة الكلاسيكيّة كلغة طقسيّة ليتورجيّة، حيث دوّنت بها الكتب الدينيّة والرّوحيّة. وبما أنّ لها قواعدها الصّارمة الّتي لم تتأثّر باللّهجات الأخرى، أصبحت لغة قائمة بذاتها. تفرّع من المندائيّة، لهجات محكيّة وتسمّى ”الرطنة” وهي مندائيّة غير صافية نتيجة تأثّرها بشكل كبير باللّغتين العربيّة والفارسيّة.
إنّ تجمّعات السّكان المتحدّثين بالمندائيّة، قد نزحت من دزفول وشوشتر إلى الأهواز والمحمرة بعد مجازر تعرضوا لها خلال أحداث 1880. ممّا جعل الخرمشهر والأهواز، أكبر تجمّعين للنّاطقين بالمندائيّة في العالم. وبسبب الحرب العراقيّة-الإيرانية، فإن التجمّع المندائيّ في المحمرة قد ترك المدينة ونزح إلى مدينة الأهواز أو إلى المهجر، ممّا جعل مدينة الأهواز – في إقليم خوزستان – آخر موقع جغرافيّ يتواجد فيه تجمّع يتحدث المندائيّة في حياته اليوميّة.
إنّ جميع المتحدّثين بهذه اللّغة لا تقلّ أعمارهم عن ثلاثين عامًا، وكلّهم تقريبًا في الخمسين وما فوق و لا يوجد توافق في الآراء، بشأن العدد الإجمالي لجميع الطّوائف المندائيّة في العراق أو إيران؛ فالأرقام الخاصّة بعدد المتحدّثين باللّغة المندائيّة الجديدة (Neo-Mandaic) في تضارب والتباس. لذا تعدّ المندائيّة، من اللّغات المعرّضة للانقراض بشكل سريع، بما أنّها لا تنقل إلى الجيل الجديد، حيث تظهر بعض الإحصاءات أنّ مجموع من يتحدّثون بها حوالي 100 شخص في العالم، و 40% منهم من رجال الدّين و 10 أشخاص منهم فقط في العراق والبقيّة في إقليم خوزستان في إيران ومعظمهم ثنائيّي اللّغة، يتحدّثون إمّا اللّغة الفارسيّة (اللّهجة الغربيّة) أو العربيّة (اللّهجة العراقيّة أو الأهوازيّة).
اللّغة السّامريّة: هي العبريّة القديمة، تتكوّن من اثنين وعشرين حرفًا، وتقرأ من اليمين إلى اليسار، وهي لغة ليتورجيّة. تكتب السّامريّة العبريّة باستعمال الأبجدية السّامريّة، وهي سليل مباشر من الأبجديّة العبريّة القديمة، الّتي كانت البديل عن الأبجديّة الفينيقيّة. وقد كانت لغة رموز ثمّ تطوّرت إلى لغة رسم إلى أن أصبحت لغة كتابة. بعض المراجع تعتبرها لغةً مهدّدةً بالانقراض إلّا أنّ ، أمين المكتبة السّامريّة الرسميّة بنيامين تسيداكا (Binyamin Tsedaka) يقول: “إنّ السامريّة ليست بأيّ حال من الأحوال في طور الانقراض”، إذ لا يزال المتكلّمون بها ينقلونها لأبنائهم وبناتهم، الّذين تتراوح أعمارهم ما بين 5 و 15 سنة. يضاف إلى ذلك، اهتمام مجلة “السّامري نيوز” الّتي تصدر كل أسبوعين منذ إنشائها في عام 1969 بالسّامريّة العبريّة القديمة، من خلال نشر مؤلّفات مكتوبة بهذه اللّغة.
في عام 1538 نشر ويليام بوستيل الأبجدية السامرية إلى جانب أول تمثيل غربي لعملة هاسموني.
اللّغة الجباليّة: تعرف باسم اللّغة الشحريّة (Shehri language)، وهي لغة أهل جنوب سلطنة عمان الحاليّة وظفار تحديدًا وتنسب إلى قبائل الشحره سكّان ظفار الأصليّين. الشحرية هي لغة، لم تتمّ كتابتها بعد أو توثيقها بشكل رسميّ، كما أنّ هناك بعض الأشخاص في ظفار الّذين لا يعتقدون أن الشحريّة لغة. ووفقًا لهؤلاء، إنها لهجة أو لكنة؛ يأتي افتراضهم من فكرة أنّه “إذا لم يتمّ تدوين اللّغة، فهي لكنة، بينما إذا نظرنا إلى الشحريّة من حيث المنطق اللّسانيّ، نجد أنّها تحتوي خصائص صوتيّة ومفردات وقواعد خاصّة وفي الوقت نفسه، ليست بعد جزءًا من أيّ لغة أخرى.
تكشف بعض إحصاءات، عن أنّ عدد المتحدّثين بالشحريّة يبلغ 5000 شخص؛ ففي أثناء الحرب في ظفار، أجبر الكثير من النّاس من الجبال على النزوح إلى اليمن باعتبارها أقرب بلد إلى ظفار، بحثًا عن ملجأ ومكان أفضل. وتقتصر الشحريّة على الكلمات والتعابير الّتي تشير إلى الأشياء والنّباتات والحيوانات والخبرات الخاصّة بالمناظر الطبيعيّة للمنطقة. وهذا يدلّ على عزلة المتحدّثين، بهذه اللّغة وفي الوقت عينه يعدّ سببًا من أسباب انقراض الشحريّة. قالت خالصة الأغبري، أستاذة اللّسانيّات في جامعة السّلطان قابوس، في عُمان: “إنّ وضع لغة الشحرية متناقض. الشباب الّذين يتكلّمونها فخورون بمعرفة اللّغة ويفتخرون بتراثهم، لكنّ المتحدّثين الأكبر سنًّا يشتكون من أنّ الشّباب لا يتحدّثون اللّغة بطلاقة مثل ذويهم.”
https://youtu.be/tKiDiM3Djco
اللّغة السوقطرية: وهي اللّغة المحكيّة المتداولة في جزيرة سوقطرى التّابعة لليمن، والواقعة على مسافة 200 كلم إلى الجنوب، في بحر العرب. وهي من اللّغات اليمنيّة القديمة. وجدير بالذّكر، أنّ في الجزيرة بعثة روسية مهمّتها دراسة الآثار هناك ومحاولة إنقاذ اللّغة السوقطريّة. هذه اللّغة قريبة من أقدم اللّغات المكتوبة السّاميّة الّتي انقرضت منذ آلاف السّنين – ولديها ميزات نحويّة لم تعد موجودة في اللّغة العربيّة أو العبريّة أو الآراميّة. تساعد السوقطرية، في فهم الماضي العميق لما قبل التّاريخ – والتطوّر اللّاحق – للألسنة السّاميّة. كتبت ماري كلود سيمون سينيل (Marie-Claude simeone-senelle)، الخبيرة الفرنسيّة في فولكلور سقطرى: “على الرّغم من الاتّصالات التاريخيّة والثّقافة المشتركة، لا يوجد تفاهم متبادل بين النّاطقين باللّغة العربيّة والمتحدّثين الأصليّين لأيّ “لغة عربيّة جنوبيّة حديثة – بما في ذلك السوقطرية.”
اللّغة السّريانيّة: هي لغة ساميّة شرقيّة (لِشانا سُريايا) وغربيّة (لِشونو سُريويو)، مشتقة من اللّغة الآرامية ويعتبرها بعض الباحثين تطوّرًا طبيعيًّا لها دون أن يفرّقوا بين اللّغتين. إلى جانب كونها لغة ليتورجيّة، تعدّ السريانيّة من أهم اللّغات الشرقيّة؛ فهي المدخل لدراسة الحضارات الشّرقية والعمران وكيف تمّ تبادل الثّقافات والمعارف؛ إذ كان للسّريان الدور الأساسيّ في حركة التّرجمة من اليونانيّة إلى السّريانيّة ثمّ إلى العربيّة في العصر العبّاسيّ، فانفتح العرب على الفكر اليونانيّ وعلى علمي الكلام والمنطق. لذلك اعتبرت اللّغة السّريانيّة، لغة العلوم والفنون والآداب، خصوصًا في مدينة الرّها والّتي نشأت بها بنوع خاص، أولى المدارس السّريانيّة. في الوقت الرّاهن لا يوجد في لبنان أيّ جماعة تستخدم السّريانيّة كلغة تخاطب يوميّة، بيد أن هناك عدّة محاولات لإحيائها. أمّا في سوريا، لا تزال تستخدم كلغة تخاطب في معلولا وقرى مجاورة لها في شمال دمشق كما أنّها منتشرة في المناطق ذات الكثافة السّريانية في القامشلي والحسكة وغيرها من مناطق الجزيرة الفراتيّة. أمّا في العراق، لا تزال السّريانية لغة التخاطب في المناطق والقرى ذات الغالبيّة السّريانيّة/الكلدانيّة. إنّه لصعب الإقرار، بأنّ هذه اللّغة مهدّدة بالانقراض بالرّغم من زعم بعض الأكادميّين ذلك؛ فالسّريانيّة لغة آمنة بفضل انتقالها من جيل إلى جيل الآخر عبر المدارس والجامعات، وذلك بدعم من حركة تعمل بنشاط واسع وكثيف لتلقين هذه اللّغة لكافّة الأعمار عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ وخصوصًا في لبنان والعراق وسوريا. ولقد استطاعت اللّغة، أن تصمد أمام الحروب المتنوّعة العربيّة والغربيّة والتركيّة نتيجة ارتباطها بالرّافد الدينيّ المسيحيّ من جهة وعلاقتها بتراث عريق من جهة ثانية.
اللّغة الآشورية: الحقيقة العلميّة والتاريخيّة الثّابتة، هي أنّ البابليّين والأشوريّين القدماء، كانت لغتهم “الأكديّة المسماريّة”، وتكتب على الطّين. سادت اللّغة الأكديّة القديمة في العراق وانتشرت إلى بلاد العيلاميّين والحثّيين ووصلت إلى مصر. وفي القرن الثّامن قبل الميلاد، اضمحلّت الآشورية وأصبحت لغة عسكرية خاصّة بالحكّام، لأن الآراميّة غزت دولة أشور. وبسبب الاستعمار الغربيّ والانقسام الطائفيّ والحروب الداخليّة، ظهر خلاف بين الأشوريين والسّريان حول مسألة الجذور الآراميّة والهويّة التاريخيّة. وثمّة محاضرة على بلاتفورم “TED”، تشرح عن أصل هذه اللّغة وأسباب تعرّضها للانقراض. ولعّل السّبب الأبرز هو الإبادة الجماعيّة الّتي تطال هذه الشّعوب، والحروب الأخيرة في العراق وسوريا مع داعش والحركات الإرهابيّة.
اللّغة القبطية: وهي آخر مراحل تطوّر اللّغات المصريّة؛ تستخدم في كتابتها الأبجديّة القبطيّة، وهي عبارة عن أبجديّة يونانيّة مع إضافة بعض الحروف الّتي تختلف من لهجة إلى أخرى، وهي مأخوذة من الكتابة الديموطيّة (Demotic). تراجعت تدرجيًّا أمام ضغط اللّغة العربيّة، حتى زالت بحلول القرن السّادس عشر، غير أنّها لا تزال لغة اللّيتورجيا في الكنيسة القبطيّة الأرثوذوكسيّة. أنشأ روّاد حركة إحياء اللّغة القبطيّة، سلسلةً من المواقع لتعلّم اللّغة القبطيّة، بالإضافة إلى حسابات على منصّات متعدّدة في محاولة لإنقاذ هذه اللّغة من خطر الانقراض.
اللّغات الإفريقية (الحامية) المهدّدة بالانقراض:
اللّغات النيليّة التشاديّة، وهي كثيرة تنتشر في السّودان وتشاد: ومن اللّغات الّتي تنضوي تحت هذه المجموعة لغتا المَحَس والدنقليّة في شمال السّودان. وتنتشر في السّودان حتى ليبيا، لغات إفريقيّة كثيرة نكتفي منها بذكر لغة التبو، ولغة الحَوصة. وقد نظفر بعلاقات لسانيّة بين لغة منها ولغة أخرى غيرها، أو بينها وبين العربيّة. إنّ هذه اللّغات معرّضة للاندثار وخطر الزّوال بسبب الاستعمار والحروب والهجرة واستغلال الثّروات الطبيعيّة الّتي تتمتّع بها قارّة إفريقيا، ما يؤثّر على مختلف جوانب الحياة لدى السّكان الأصليّين.
ما الّذي يمكن فعله للحفاظ على اللّغات المهدّدة بالانقراض؟
كي لا نبقى في حدود طرح الحلول النظريّة، سوف أعرض نماذج حول العالم كيف تمّ الحفاظ على لغات كانت مهدّدةً بالنقراض.
المجتمع الّذي يريد الحفاظ على لغته، أمامه عدد من الخيارات؛ ربما تكون المسألة الأكثر إثارةً هي مسألة العبرية الحديثة (Modern Hebrew)، الّتي تمّ إحياؤها كلغة أم بعد قرون من تعليمها في شكلها القديم المكتوب. وفي السياق نفسه، حظي الإيرلنديّون بدعم مؤسّساتيّ وسياسيّ للحفاظ على لغة إيرلندا الوطنية، بالرّغم من التقدم الكبير الّذي حققته اللّغة الإنجليزية. أمّا في مجتمعات الماوري (Maori communities) النيوزيلنديّة، أُنشئت مدارس حضانة يتولّى كبار السّن فيها تلقين لغة الأجداد للنّاشئين، تسمّى كوهانغا ريو (kohanga rio) أي “أعشاش اللّغة”. وفي ألاسكا وهاواي وأماكن أخرى، يتمّ توسيع هذا النّموذج ليشمل المدارس الابتدائيّة والثّانويّة. وفي لبنان، يزداد عدد المؤتمرات وورش العمل والمنشورات والمنصّات الّتي تقدّم الدّعم للأفراد والمدارس لنشر اللّغة السّريانيّة وتعليمها للطلّاب من أجل ضمان وجودها وحفاظًا على التّراث والهويّة.
ومن الحلول البرغماتيّة الّتي يجب على الحكومات المحليّة تبنّيها “تخطيط سياسة لغويّة وطنية وتطويرها”؛ يجدر بالسّياسات اللّغوية دعم التنوّع اللّغوي بما فيها اللّغات المهدّدة بالانقراض، وذلك انطلاقًا من مبدأ احترام حريّة الفرد وحقوق الإنسان كما ينبغي أن يشارك عدد أكبر من الباحثين الاجتماعيّين واللّسانيّين وعلماء الإنسان والمتحدّثين باللّغات المهدّدة بالاندثار في صياغة هذه السّياسات.
هذا الدّعم يجب أن يكون متكافئًا، حيث ثُقيّم كلّ لغات البلد على أنّها موجودة ويعمل القانون على حمايتها اللّغات وصونها والتّشجيع على استعمالها في المجالات الخاصّة أكثر منه في المجالات العامّة.
المراجع:
- Harrison, D. 2007. When Languages Die. Oxford: Oxford University Press.
- Krauss, M. 1992. The World’s Languages in Crisis: University of Alaska, Fairbanks.
- Le Page, Robert B. & Andree Tabouret-Keller. 1985. Acts of Identity: Creole-based Approaches to Language and Ethnicity: Cambridge: Cambridge University Press.
- Nettle, D. & S. Romaine. 2000. Vanishing Voices: The Extinction of the World’s Languages: Oxford University Press.
- Romaine, S. 2008. Linguistic diversity, sustainability, and the future of the past. In K. King, N. Schilling-Estes, L. Fogle & Lou, J. Sustaining Linguistic Diversity: Endangered and Minority Languages and Language Varieties, 7-22. Washington, DC: Georgetown University Press.
- Duchêne, A & Monica, H. 2007. Discourses of Endangerment: Ideology and Interest in the Defense of Languages: Advances in Sociolinguistics. London: Continuum.
- Crystal, D. 2000. Language Death: Cambridge: Cambridge University Press.
- Grenoble, L & Lindsay W. 1998. Endangered Languages: Language Loss and Community Response: Cambridge: Cambridge University Press.
- Davis, W. 1999. Vanishing Culture: National Geographic. 196(2). 62-89.
- Maureen H. 2009. Endangered Languages, Linguistics, and Culture: Researching and Reviving the Unami Language of the Lenape: Bryn Mawr College.
- Aaron D. The Jibbali (Shaḥri) Language of Oman: Brill, Afro-Asiatic Languages, Historical and Comparative Linguistics & Linguistic Typology, Language Documentation & Description (Grammars), Linguistics.
- Deschene, N. 2019. Coptic Language Learning and Social Media: New York University.
- Kenneth L, et al. 2018. The Oxford Handbook of Endangered Languages: oxford university press.
- Wesley, L. 2008. When Is an “Extinct Language” Not Extinct? Miami, a Formerly Sleeping Language. Sustaining Linguistic Diversity: Washington D.C.: Georgetown University Press.
- Atto, N. 2011. Hostages in the Homeland, Orphans in the Diaspora: Identity Discourses among the Assyrian/Syriac Elites in the European Diaspora: Leiden University Press.
- Atlas of the World’s Languages in Danger: http://www.unesco.org/new/fileadmin/MULTIMEDIA/HQ/CLT/pdf/aboutEndangeredLanguages-WV-EN-1.pdf
- Russian roots and Yemen’s Socotra language: https://www.aljazeera.com/indepth/features/2015/03/russian-roots-yemen-socotra-language-150308083716499.html
- Endangered languages: http://www.unesco.org/new/en/culture/themes/endangered-languages/atlas-of-languages-in-danger/
- UNESCO, Atlas of Endangered Alphabets: http://www.unesco.org/new/fileadmin/MULTIMEDIA/HQ/CLT/pdf/aboutEndangeredLanguages-WV-EN-1.pdf
- Atlas of Endangered Alphabets: Samaritan: https://www.endangeredalphabets.net/alphabets/samaritan/
- جبر يحيى، اللّغات المهدّدة بالانقراض في الوطن العربي، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين، 2012.
- لغات سلطنة عُمان القديمة مهددة بالإنقراض : https://www.al-fanarmedia.org/ar/2019/02/لغات-سلطنة-عُمان-القديمة-مهددة-بالإنق/