المحَّاح: في لسان العرب: «مَحَّاحٌ: كذاب يُرْضِي الناسَ بالقول دون الفعل؛ وفي التهذيب: يرضي الناسَ بكلامه ولا فعل له».
عندما تقاعد غوتشو غوتشي [Gucci]، منتج حقائب الأمتعة والحقائب اليدويّة، مسلّمًا ثروته وزمام تجارة مزدهرة نمّاها طيلة حياته لأبنائه، لم يعمِد حينها إلى إطلاق سلسلة الأحداث التي قادت إلى الزجّ بأحد أبنائه في السجن، وموت أحد أحفاده مفلسًا، فيما أُردي حفيد آخر، وهو ماوريتزيو، قتيلًا بالرصاص في مقر عمله دون رحمة. إذْ يُفترض بتجارة شُكِّلت بالشغف، واشتد عضدها بعرى وثائق العائلة؛ أن تصبح استثمارًا مخلصًا متضامنًا؛ أي، أن يكون منيعًا، مقصورًا على أصحابه، ورشيق الخطى. وعلامة غوتشي، العلامة المهيمنة ذات القيمة الدولاريّة المليونيّة، كانت هكذا؛ إلى أن شرعت العائلة في حربها.
«ما الذي يوقد حربًا في أي عائلة؟» كتب غرانت غوردن ونايجل نيكلسن في كتاب، «حروب العائلة: الحقيقة وراء أشهر العداوات في التجارة العائليّة»[1]. يزعم الكاتبان أن الحروب العائليّة لا تختلف عن الحروب المجتمعيّة المتعلّقة بالمسائل السياسيّة أو الاقتصاديّة؛ إذْ «يحاول الأشقاء أن يفوقوا بعضهم في المناورات، ويحارب الأبناءُ آباءهم للاستيلاء على العرش، وينخرط فرع من العائلة في حرب عصابات ليسيطر على الآخر أو يهمّشه. حيث يتصاعد اختلاف الآراء في إدارة الأعمال ليصل إلى شقاق كبير».
في حالة غوتشي فكل ما ذكر أعلاه ينطبق عليهم. فقد تصارع ابنا غوتشو غوتشي، ألدو ورودولفو، ومن ثمّ أحفاده، پاولو وماوريتزيو، من أجل ملكيّة الشركة، ومن أجل توجهها ومواردها الماليّة، بل وتصارعوا حتى على الغرز الملائمة للحقائب الجلديّة الخضراء والحمراء والسوداء. بينما سعى رودولفو إلى إبقاء غوتشي إيطاليّة تقليديّة، أراد پاولو، رئيس مصممّي ما يربو على ١٤٠٠ قطعة من قائمة غوتشي، عصرنة وتسويق غوتشي على مدى أوسع وأبعد. لقد عُدّ پاولو على الأرجح «الخروف الأسود [المنبوذ]» في أسرته، تقول آن رو في «كتاب النعي»[2] إنه قد ظهر مرة من اجتماع مجلس الإدارة فيما «تسيل الدماء من شجٍّ في وجهه»، وقد صرّح للصحفيّين قائلًا «ترون ما الذي يحدث عندما يجتمع مجلس إدارة غوتشي».
لكن هذا مفهوم على نواحٍ عدة. إمبراطوريّة الأزياء التي أسسها غوتشو غوتشي، الذي كان عامل مصعد في فندق لندنز ساڤوي هوتيل، أتاحت لهم الكثير ليتصارعوا عليه، فيما تتوسّع الشركة، مفتتحةً متاجر فاخرة حول العالم بتشكيلة لا تحصى من المنتجات، حاصلةً على مئات الملايين من الدولارات المتدفقة. ورثت عائلة غوتشي وحشًا ملتهبًا أشعل رذائلًا متعددة دفعة واحدة: الجشع، الغيرة، الخيانة الزوجيّة، الصفقات غير النزيهة، وصولًا إلى المشهد الأخير في هذه التراجيديا الرومانية: ماوريتزيو، الشخص الأخير من أسرة غوتشي الذي أدار الإمبراطوريّة، أردي قتيلًا بالرصاص؛ رصاصتان في الظهر وواحدة في الرأس.
أمر العوائل المتناحرة ليس جديدًا. فالحكايات الشكسبيريّة والميثولوجيا الإغريقية زاخرة بالتسميم وضرب الأعناق والخيانات. نحن مثل آكلات اللحوم حينما تهرع إلى قطعة مفردة من اللحم: فحينما تصبح لك؛ فهذا يعني أنها لن تعود لي.
للعائلات المتناحرة اليوم نمط جديد، حيث تحطّمت القواعد وتعقّدت. في كتاب «المِحاح، استخدام واستغلال الخطاب الأخلاقي»[3] كتب جستن توسي وبراندون وارمك: «اكتسب أسلافنا الهيمنة بالقوة البدنيّة أو بالتخلّص من منافسيهم» أما اليوم «بمقدورنا أن نحظى بالهيمنة عبر إحراج الآخر في وسائل التواصل الاجتماعي». في الواقع، من المرجح أن حرب العائلة الحديثة تدور عبر الإنترنت بقدر ما تدور على طاولة عشاء العائلة. ليس مسرح الحرب وحده من تبدل، بل وطبيعتها أيضًا، إذ تبنّت النبرة غير المباشرة والدقيقة في الثرثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث التواصل المباشر، عينًا لعين، قد استُبدل بالميم والكلمات التي تقدح شرارة الغضب. أي يجد أفراد العائلة اليوم أنفسهم لا يتحاربون من أجل المال ومتعلّقات الحياة الواقعية، بل من أجل «الكلمات»، وقد لخص توسي ووارمك هذه الظاهرة بمصطلح «المِحاح» الموصوف بأنه «استخدام الخطاب الأخلاقي للترويج الشخصي».
«في كل مرة أصمُ أحدًا بأنه عنصري أو متحيز جنسيًا، سأتلقّى تفاعلًا. هذا التفاعل حينها سينال التأكيد والاستدامة بالنجوم، وبالقلوب، وبالإبهامات المرفوعة، هذه الموافقات التي تشكل العناصر الدقيقة في فاعلية وسائل التواصل الاجتماعي».
يستخدم توسي ووارمك هذا الاقتباس من الحياة الواقعية لمحارب الثقافة الإنترنتية لتبيان كيف يصبح المحّاح «متفوق أخلاقيًا» بمجرد قراءة الأخبار، وكتابة المنشورات عنها والصراع مع أصدقاء الواقع والعائلة من أجل مواضيع أخلاقيّة. إذ بالنسبة للمحّاحين، فالحديث الأخلاقي بمثابة سحر، «فاستحضار المفردات المقدسة -كالعدالة، والكرامة، والحقوق، والمساواة، أو الشرف، والتقاليد، والإيمان، والعائلة- يحوّل سلوكك الأناني المسيء الكريه تحويلًا سحريًا إلى أمر بطولي جدير بالثناء» كما كتب توسي ووارمك. «أترغب في أن تقسو على من لا تحبهم وأن يهنئك من يوافقونك الفكر في الوقت نفسه؟ غلّف سلوكك بلغة أخلاقية عالية. ها أنت ذا تنال مبتغاك!».
نظرًا لجوعهم إلى المكانة الاجتماعيّة وسط مجموعتهم، يلجأ البشر عادة إلى الوجاهة (باستخدام المعرفة، أو المهارات، أو النجاح، أو الثراء) أو إلى الهيمنة (أما تخويفًا أو إكراهًا أو بالقوة الوحشية الخالصة) لينالوا تقدير الآخرين. يوضّح توسي ووارمك، أن المحّاحين يسعون للوجاهة بصفاتهم الأخلاقية، بينما في الوقت نفسه يوظفون الخطاب الأخلاقي لإسكات وإهانة الآخرين. صاغها الفيلسوفان على النحو التالي: «اخرس وارضخ لرؤيتي في العالم وإلا أخجلتك وأحرجتك! فأنا المتفوق أخلاقيًا هنا!».
إذًا ما الذي يحدث عندما يكون المحّاح فرد في العائلة، بصرف النظر عن ميوله السياسيّة؟ بصفتي شخص مهتم بالأمر الفلاني، أجد أن آراءك جديرة بالشجب الأخلاقي. لا تنظر لي حتى. باستخدام الغضب الأخلاقي المبالغ فيه، قد يتسبب المحّاح في أضرار جسيمة. كما شرح توسي ووارمك باستخدام أدوات الفلسفة الأخلاقية، المِحاح مشكلة وفقًا لكل النظريات الأخلاقية الرئيسيّة: فله عواقب سيئة؛ كما يفشل في معاملة الناس باحترام؛ إضافةً إلى أنه ليس بفضيلة؛ حيث «يكسو المحّاحون محاولتهم لتعزيز قيمتهم بلغة القلق على الآخرين، ويستخدمون نفس الحديث بصفته طريقة مقبولة اجتماعيًا للإساءة لمن لا يحبّونهم. ليس هذا السلوك فضيلة ناقصة معتادة،» ويضيف الفيلسوفان، «إنما شكل فريد من الرذيلة».
بوجود محّاح في العائلة، لا يلزم أن يكون الخلاف من أجل الإرث، أو الخيانة الزوجية، أو الطعن في الظهر، أو حتى من أجل حليب مسكوب. يمكن أن تندلع الحرب كالسحر، غالبًا من العدم. بمقدور المحّاح في أي لحظة أن ينهض ويندّد بأي شخص على الطاولة. وإن لم يطعه بقية أفراد العائلة، فسينبذهم المحّاح بدوره. «آراؤكم ليست مزعجة وحسب بل وخطيرة جدًا!» وهذه هي نهاية النقاش. بالنسبة للمحّاح، فوجهات نظره في كل المواضيع «منطقيّة تمامًا»، كما ذكر توسي ووارمك. يعتقد المحّاحون أن «أي شخص كفء لإصدار أحكام أخلاقية سيخلص بالتأكيد إلى نفس النتيجة»، حينها يتنكر المحّاح فورًا لأي فرد من عائلته لعدم امتثاله.
كيف وصلنا إلى نقطة في التاريخ البشري حيث لا يتصارع أفراد العائلة على الأعمال بل على الكلمات؟ ماذا قد يقول فيلسوف الأخلاق فريدريش نيتشه عن وجود المحّاح في العائلة؟ كرّس الفيلسوفان توسي ووارمك جهودًا لتحليل المحّاح في ضوء الأخلاقيات النيتشويّة، إذ وفقًا لهما فالمِحاح يبدو نقيض «ممارسة الفلسفة».
وفقًا لنيتشه، فإن الحياة الطيبة للإنسان تكمن في تفوقه خلال سعيه لأهدافه، سواءً كانت إمبراطورية أزياء كما هي الحال مع أسرة غوتشي، أو إبداع عمل فني، أو تغذية عائلة صحية سعيدة، أو تميّز الإنسان في مجاله المختار أو مهنته. نحن، فرادى، نضع أهدافًا من خلقنا، ثم نسعى إلى تحقيقها، ونشعر بمتعة هائلة عندما نتغلب على عقبات وعوائق تحقيقها. لكن يصبح بعض الناس «محبطين، وأحيانًا محبطين بقدر كبير،» كما يجادل الفيلسوفان.
«ومن هنا تنشأ المشكلة، فبدلًا من الاعتراف بالهزيمة ببساطة، فأن أولئك الذين فشلوا في توظيف إرادة القوّة[4] لديهم عبر تحقيق الأشياء القيّمة حقًا ينزعون إلى تحريك المرمى [تغيير قواعد اللعبة]؛ حيث يحاولون إعادة تعريف معنى أن تعيش عيشة طيبة، ويحطّون من قدر نجاح الآخرين. ينتج عن هذا ما يمسيه نيتشه “ثورة العبيد” فيما يخص الأخلاق» كما كتب توسي ووارمك.
خلال الثورة، يشرع الناس في استخدام المبادئ الأخلاقيّة بذاتها ليشبعوا إرادة القوة عندهم. المبادئ الأخلاقيّة أداة تستخدم لإعلاء مكانتهم، ليحصلوا بها على الوجاهة والهيمنة، ليروا الآخرين أنهم قد أنجزوا شيئًا جديرًا بالتقدير في هذه الحياة. «خطاب الأخلاق بمثابة جلد خروف ترتديه الذئاب الضعيفة أو اليائسة … قد يشعرهم بالقوة لكن كفة إنجازهم فارغة»، ويلخص الفيلسوفان «إبهار الآخرين عبر المِحاح الأخلاقي ليس قطعًا مثل تحقيق التفوق بذاته».
قيل إن الجد غوتشي أشعل المنافسة بين أبنائه. ظن غوتشو غوتشي أن سباقًا بسيطًا، لن ينتج عنه سوى عاملون بالتزام زائد. وبالرغم من هذه المعارك الشرسة، كان گوتشو محقًا بهذا المعنى: ألدو ورودولفو شحنا غوتشي طيلة حياتهم شحنًا فائقًا أوصلها للامتياز الذي تحظى به اليوم.
المِحاح، على نحو آخر، لا يؤدي إلى نتائج محسوسة، «أنت متحجّر! أليس لديك أي احترام للآخرين؟» بوجود المحّاح في أي عائلة، يخسر الجميع.
[1] Family Wars: The Real Stories behind the Most Famous Family Business Feuds.
[2] Book of Obituaries.
[3] Grandstanding, The Use and Abuse of Moral Talk.
[4] إرادة القوّة عند نيتشه.
New Pilosopher: Issue #027: Family