«المدينة عالَم، لأنّها من العالم، ولكونها تحمل جميع خصائص العالم الحالي… في المدينة تستشعر إذاً وبشكل مخصوص تعدديّة العوالم التي تصنع العالم المعاصر». مارك أوجي
إنّ المدينة أفقاً أنثروبولوجياً. بالمعنى الذي تتحرّر فيه الأنثروبولوجيا من قبليّاتها: سواء كعلم للمجتمعات المسمّاة بدائية التي تنحو نحو الاندثار، أو كعلم استعماريّ خاصّ بالمستعمرات السابقة، أو كعلم للمجتمعات التقليديّة أو القرويّة. وتحلّ محلّها أثروبولوجيا جديدة لعوالم جديدة: عوالم المدينة. بهذا المعنى تكون المدينة أفقاً أنثروبولوجياً، من أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة مع الأنثروبولوجي مارك أوجي Marc Augé [1]، إلى أنثروبولوجيا المدينة (بل، إلى أنثروبولوجيا الذوات في المدينة) مع الأنثروبولوجي ميشيل أجيي Michel Agier [2].
تأزيم الأنثروبولوجيا
لَمَّا كان الموضوع الكلاسيكيّ للأنثروبولوجيا هو المجتمعات والثقافات المسمّاة بدائيّة، مروراً بالتقليديّة والمستعمرة، فالقرويّة، ثم البحث عن الملامح التقليدية في المجتمعات الحديثة، فإنّها وجدت نفسها أمام موضوع، في طور التلاشي والاندثار شيئاً فشيئاً. وجدت نفسها أمام موضوع مفقود. نفس الشيء بالنسبة للمنهج. فلم يعد المنهج الأنثروبولوجي، قادراً على التمكّن مِن موضوعه المفقود. هكذا، أصبحنا أمام عِلم مغترب، يعيش نوع من الاغتراب، نتيجة هجر موضوعه ومنهجه، في ظلّ التغيُّرات المتناسلة والمتسارعة للمعاصرة. ممّا ولّد أزمة وجودية للحقل المعنيّ. وأضحت الأسئلة تلو الأخرى، تتناسل وتتكاثف: ما الجدوى من هكذا حقل معرفي؟ هل نحن في حاجة إلى عِلْمٍ فقد موضوعه ومنهجه معاً، تجاوزه موضوعه الإيتيمولوجي: الإنسان Anthropos؟
هذه الأسئلة وغيرها، وضعت الأنثروبولوجيا موضع أزمة. ولّدت نقاشاً إبستيمولوجياً حول الهوية المعرفيّة للأنثروبولوجيا ذاتها، موضوعاً ومنهاجاً. كيف ينبغي التعامل مع هذه الوضعية والحالة هذه؟ هل نتخلى بكل بساطة عن مجال معرفي صار متجاوزاً، أم أنّه حان الوقت لكي يعيد الأنثروبولوجيِّين النظر في تراثهم المعرفي، محاولين بذلك مجاوزة الكلاسيكيّات الأنثروبولوجيّة، من خلال فتح حوار نقديّ معه وإعادة النظر الفعليّة في الأسس الّتي يقوم عليها؟ أو إلى إحداث قطائع إبيستيمولوجيّة فعليّة والانفتاح على الأفق الإنساني المعاصر؟ لا شك في أن الاختيار الأول كان مستبعداً تماماً، لأنّه لا يمكننا اليوم، في ضوء ما تشهده عوالمنا من التشعّبات والتعقيدات المتشابكة، أنْ نستغني عن الأنثروبولوجيا، نظراً لمكانتها المركزيّة في العلوم الاجتماعية من جهة أولى، ولمِاَ يمْكن أن تقدِّمه من فهم وتأويل… يمكن أنْ يساهم في توسيع مجال تفكيرنا حول الوجود البشري برمّته، من التفاصيل اليوميّة لحياة الأفراد إلى الأفق الإنساني الكوني المنشود، من جهة ثانية.
نحو أنثروبولوجيا جديدة
لم تعد الأنثروبولوجيا اليوم تدرس المجتمعات التقليدية، بل غدت تدرس الإنسان أو بمعنى أدقّ تبحث في ثقافيّ الإنسان، في أي ّسياق كان. فمِن مفعولات القطيعة التي أحدثتها الأنثروبولوجيا مع ذاتها، أنّها أعادت تعريف نفسها، من خلال تجسيد ما تعنيه إيتيمولوجياً: الأنثروبولوجيا: علم الإنسان. وبما أنّ إنسان اليوم هو إنسان المعاصرة، فإنهّا لا تعمل إلاّ على رصد هذه المعاصرة محلياً وكونياً: رهان الأنثروبولوجيا المعاصرة. هكذا، بعدما كان الأنثروبولوجيّ يدرس ساكنة بعينها، صار اليوم يدرس موضوعات، يبني موضوعاته باستمرار. تلك الموضوعات التي تأخذ مِن المدينة مجالاً أو بالأحرى حقلاً أنثروبولوجياً لها. بوصفها أفقاً أنثروبولوجياً، لرصد تجليات المعاصرة تلك، حيث يتداخل ويتقاطع فيها ما هو محلي وخصوصي بما هو عالمي وكوني.
يميز مارك أوجي في كتابه “من أجل أنثروبولوجيا للعوالم المعاصرة” بين ثلاثة عوالم أساسية، تخصّها الأنثروبولوجيا اليوم بالدراسة والتفكيك والتأويل، تشكِّل العالم المعاصر، ألا وهي: الفرد، الظواهر الدينية الخاصة بالمستعمرات السابقة، والمدينة. إذ، تقع هذه العوالم بين الوحدة والتعدّد. ولفهمها، يقترح علينا زوجين من المفاهيم: الأمكنة/ اللّا أمكنة، والحداثة/ ما فوق الحداثة. وهو الزوج الذي يحاول به الأنثروبولوجيّ اليوم تفكيك مفارقة المعاصرة: التفرّد والكونية، الوحدة والتعدد. وعلى هذا الأساس، فإنّ أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة هي أنثروبولوجيا المدينة.
إنّنا إذاً، أمام أنثروبولوجيا جديدة لعالم جديد، عالم المدينة قبل أيّ شيء آخر، عالم التفرّدات والكونية، الوحدة والتعدّد، الأمكنة و اللّا أمكنة، الحداثة و ما فوق الحداثة، الهويّة و الاختلاف، المحلِّي والكوني… عالم المعنى و الحرية. إنّه عالم المفارقات. وعلى هذا النّحو، فإنّ مهمّة الأنثروبولوجيّ اليوم، أنثروبولوجيّ المعاصرة، تقع فيما بين المعنى والحرية.
المدينة أفقاً أنثروبولوجياً
على غرار الفلاسفة، السيميولوجيين وعلماء الاجتماع…إلخ، صار للأنثروبولجيين مدينتهم. نتحدث عن المدينة التي يصيغها ويعيد صياغتها الأنثروبولوجي. يتعلّق الأمر في المقام الأول بالمدينة المعاصِرة، مدينة المعاصَرة التي نتنفسّ معاصَرتها. أمّا في المقام الثاني، فيتعلّق الأمر بالمدينة المعيشla vécue ville. هذه هي مدينة الأنثروبولوجيين اليوم؛ مدينة في طور تأليف وبناء دائم؛ في طور حركة وسيرورة مستمرة.
لم تعد الأنثروبولوجيا اليوم تكتفي بدراسة الحياة الحضرية في شموليّتها، بل غدت تدرس الحياة المدينيّة للمدينيِّين في تفاصيلها اليومية المعيشة. ومن هذا المنطلق يتضح لنا ذلك المجرى الإبيستيمولوجي من الأنثروبولوجيا الحضرية إلى أنثروبولوجيا المدينة، إلى أنثروبولوجيا الذّوات في المدينة.
من أجل صياغة أنثروبولوجيا للمدينة، يقترح علينا ميشيل أجيي في كتابه الموسوم ب: “أنثروبولوجيا المدينة” أو في كتابه المعنون ب: “دراسات في أنثروبولوجيا المدينة” قبله، جملة من المفاهيم. يمكن تحديدها في ثلاثة: الجهة، الوضعية، الشبكة. وهي مفاهيم تُمكِّننا بشكل أو بآخر حسب أنثروبولوجي الهوامش، من هدم وإعادة بناء مستمرة للمدينة أنثروبولوجياً، وبالتالي التمكّن من بلورة مدينة أنثروبولوجيّة. إنّ أنثروبولوجيا المدينة، هي بمثابة تفكّر انعكاسيّ في ما/ مَن “يصيغ المدينة” une réflexion sur ce qui «fait ville»: المدينة المعيشة؛ مدينة المدينيين. لهذا، فإنّ السؤال الجوهري اليوم بالنسبة لأنثروبولوجي المدينة هو: ما الذي/ مَن يصيغ المدينة؟ وكيف تصاغ المدينة؟ وبالتالي فإنّ إشكال المدينة اليوم هو إشكال صياغة المدينة faire- ville [3].
تمنح أنثروبولوجيا المدينة اليوم الأولوية للمعيش اليومي، للأفراد- المدينيِّين، على اعتبار أنهم مَن يصيغ المدينة. يصيغ الأفراد- المدينيِّين المدينة من خلال صياغتهم لوضعيات، جهات وشبكات معقدة ومتعددة، بتعقد وتعدد العوالم الحضرية والمعاصرة التي يصيغونها باستمرر. إنّها عوالم المدينة قبل كلّ شيء، شبكة الشبكات، عالم العوالم المعاصرة.
[1] يمكن مراجعة:
- Augé Marc, Colleyn Jean-Paul, L’anthropologie. Presses Universitaires de France, « Que sais-je ? », 2009.
- Augé Marc, Le Métier d’anthropologue: sens et liberté, Paris, Galilée, 2006.
- Augé Marc: Pour une anthropologie des mondes contemporains, Paris, Éditions Aubier, coll. Critiques, 1994.
[2] يمكن الاطلاع على:
- Agier Michel, Anthropologie de la ville, Paris, PUF, 2015
- Agier Michel, Esquisses d’une anthropologie de la ville- Lieux, situations, mouvements, Louvain-la-Neuve, Academia-Bruylant, 2009.
[3] ليس من السهولة بمكان، في هذا السياق، ترجمة الكلمة الفرنسية faire، إلى العربية. و يعود ذلك إلى كونها ترتبط بمفهوم أنثروبولوجي معقّد قد يتجاوز معناها الملفوظ، خاصة في التركيب:faire- ville . لهذا، ارتأينا ترجمتها بعبارة: صياغة؛ صياغة- المدينة، عوض عبارات أخرى من قبيل “صنع”، “إقامة”، “تشكيل”،…إلخ. على اعتبار أنها أقرب إلى حد ما من معنى المفهوم الآنف الذكر.