المعنى الحقيقي للكتابة عند فرانز كافكا – سعيد بوكرامي

ماذا تشيّد؟
أريد أن أحفر مدخلاً. يجب أن يحدث تقدم. موقفي متعالٍ جدًا، هناك. كافكا
أصبح بإمكاننا اليوم تفكيك بعض الألغاز المحيرة حول حياة وكتابة كافكا، إذ تيسّر لنا، بفضل البحث والترجمة، متابعة ولأول مرة، كتابات صاحب “التحول” و”المحاكمة” و”القلعة”… في صيرورتها وتداعياتها الأخيرة. من خلال كتاب فريد ” كافكا الدفاتر الأخيرة” المترجم من اللغة الألمانية إلى اللغة الفرنسية في 298 صفحة. وقد نشرته دار “نحن” الفرنسية الحريصة منذ سنوات على إصدار نصوص نادرة للأدباء العالميين. اعتمد الكاتب والمترجم روبر كاهن المتخصص في أعمال كافكا على النص الأصلي، الذي طبعته دار كريتيك الألمانية. وقد استندت بدورها على المخطوطات النادرة التي تتألف من سبعين دفترًا. كانت موجودة عند سيدتين من عائلة سكرتيرة ماكس برود.
يعتبر الكتاب مشروعًا هائلاً، كتب بلغة “متقشفة ودقيقة، وإيقاعية” خلال الفترة الممتدة من نهاية يناير 1922 إلى بداية شهر أبريل 1924 التي تميزت لدى كافكا بحياة مادية صعبة ومضاعفات متزايدة لمرض السل الذي سيكون سببًا في وفاته في 3 يوليو 1974. ورغم ذلك واصل كافكا الكتابة مستغلاً جميع الوسائل من دفاتر وأوراق صغيرة وملفات ليكتب كلماته الأخيرة نصوصًا ومسودّات قصص وملاحظات وشبه أمثال وشذرات. وظف الكاتب هذا المتن بلا حيل توضيب أو رغبة في انجاز مقتطفات وإنما اختار أن يصدره كما كتبه كافكا دون تدخل منه. أصبحت شذرات كافكا كلها خلال سنواته الأخيرة، بين يديّ القارئ، وحسب تسلسلها الكرونولوجي.
اتبع الكاتب روبر كاهن أيضا المنهج نفسه في 2015 حينما نشر المائة وتسعا وأربعين رسالة، كان كافكا قد أرسلها إلى خطيبته ميلينا. فقام روبر بترجمتها محترمًا لغة كافكا الدقيقة والمتفردة، منتبهًا إلى صياغة الجملة، وإيقاعها الأصيل. وبذلك منحنا المترجم فرصة الاطلاع على لغة كتبت خلسة وفي أشد الحالات معاناة. لغة رغم ظروفها الأليمة إلا أنها كتابة مفكر فيها بطراوة التداعي، التي نسج بها كافكا عالما ولغة جديدين، بدون تكلف. لغة متحررة من المرجعية الأسلوبية للغة الألمانية، ذات النفس الملحمي والأسلوب الوصفي والاستطرادي. في نفس الوقت، يدعونا روبر كاهن للنظر في كتابة “كافكا في لحظاته الأخيرة” الزمن الذي كان كافكا فيه معاصرًا لكاتبين عظيمين شيدّا مثله قلعة أدبية حصينة بالغوص في النفس البشرية وتفاصيلها الصغيرة المؤسسة لحيوات بكاملها مع مارسيل بروست وأيضا مع جيمس جويس، حينما حول حياة الأفراد إلى ملاحم معاصرة وأساطير جديدة.
تتميز النصوص الأخيرة لكافكا، مثل “فنان الجوع “، “الجحريّ”، أو ” المغنية جوزفين “، بطغيان الفكاهة السوداء والتقشف الكبير في اللغة بل بجفاف واضح في الكتابة وكأن معين كافكا كان ينضب مع تدهور صحته. على خلاف النصوص السابقة، مثل “التحول” أو “في مستعمرة العقاب “، على سبيل المثال، التي كانت أكثر خصبًا في الخيال وتنويعًا في الكتابة بل يمكن القول إنها كانت أكثر حيوية ومرحًا متخففة من أعباء الجسد والوقع، مجنحة في اختراع الحكايات والتلاعب بالبداهات وأيقوناتها الاجتماعية والثقافية.
في هذه النصوص الأخيرة يمكن أن يُلاحظ أنها مدموغة جدًا بأعباء المرض ومعاناته لأن كافكا كان يعيش مرحلته الأخيرة من صراعه مع داء السلّ الذي أصيب به عام 1917. كان يعيش إذن صراعًا بالمعنى الحرفي لهذه العبارة، في عيادة كلوستيرنيوبورغ بحيث لم يعد بمقدوره الكلام، بل أصبح بدون صوت. وفي النهاية ما عاد بإمكانه التواصل مع “دورا” وأقاربه إلا بواسطة الكتابة على قطع صغيرة من الورق. هذا هو الشكل النهائي للكتابة عند كافكا وهي النصوص المختلفة الأحجام ما بين جملة واحدة وبضع صفحات، والتي أطلق عليها النقاد “كتابات ما بعد الموت”، وهي نفسها التي استخدمها الكاتب والمترجم روبر كاهن كأساس لترجمته.
إذن ما كتبه كافكا في نهاية حياته ليس سوى شذرات على سند مؤقت وفي زمن مستقطع ما بين الحياة والموت. هي في النهاية أيضًا شكل من الكتابة تختلف تمامًا عن نصوص شبابه، أو ما أبدعه في الروايات الثلاث، يمكن للمرء أن يرى مع ذلك أن في هذه الأخيرة النصوص الأخيرة حضور قوي للاستسلام لليأس. وإن كان هذا التأثير إيجابي للعمل الأدبي إلا أنه قاس جدًا للمؤلف، من هذا “الأسلوب المتأخر في الكتابة” لدى كافكا، والذي قام إدوارد سعيد بتحليله بشكل جيد. على سبيل المثال، فكرة السخرية المذهلة النابعة من الكلمات الأخيرة التي كان” فنان الجوع” يهمسها لحارس حديقة الحيوان: “لم أتمكن من العثور على الطعام المحبب لديّ، لو أني وجدته، صدقني، لم أكن قد أثرت كل هذه الضجة ولكنت شبعت مثلك ومثل الجميع”.
ولكي نقرب القارئ أكثر من أجواء هذه النصوص الأخيرة لكافكا. نقترح عليه ترجمة خاصة بمنصة معنى لشذرات منتقاة من كتاب “دفاتر كافكا”:
“الكتابة ترفضني. ومن هنا أتى مشروع تقصّي السيرة الذاتية. ليست السيرة بالمعنى الصريح، ولكن التقصّي وكشف النقاب عن أصغر العناصر الممكنة. ثم أريد أن أبني نفسي من هنا مثل شخص يقطن منزلاً مهددًا بالسقوط، ويرغب دائمًا في بناءٍ واحد آخر بجانبه، أشدّ صلابة، وإن أمكن بمواد المنزل القديم، ولكن الأفدح يحصل عندما ينهمك في البناء وفجأة تنهار قواه ليترك المنزل الصلب المشيد نصفه ويعود للمنزل الأول المهدم جزؤه والآيل للسقوط، والنتيجة في النهاية لا شيء. ما سيلي هذا جنون كله، وإذن الأمر يشبه رقصة القوزاقيين بين المنزلين، خلالها يضرب القوزاقيون الأرض بكعوب أحذيتهم العالية، نقرًا وحفرًا ونبشًا فترة طويلة وكأنهم يحفرون تحتهم قبورهم.” ص 23-24
***
“كيف وصلت إلى هنا؟ صرخت على نفسي. كانت غرفة متوسطة الحجم، مضاءةً بضوء كهربائي ناعم. مررت أمام جدرانها، كان هناك عدد قليل من الأبواب، ولكن إذا فتحنا كلها سنجد أنفسنا أمام حائط صخري داكن وأملس، كانت في متناول يدي من عتبة الباب. لم يكن هناك مخرج. فقط باب وحيد يؤدي إلى الغرفة المجاورة، كانت رؤيته تمنح بصيصا من الأمل غير أنه لم يكن أقل غرابة من الأبواب الأخرى. كانت هناك غرفة أميرية، تزدهي بالأحمر والذهبي، كان هناك أيضًا العديد من المرايا العالية مثل الجدران وثريا كبيرة من الكريستال. ولكن لم يكن هذا كل شيء…” ص 25
***
“وصلت وقد انقطعت أنفاسي. وكان العمود الغائص في الأرض مائلاً قليلاً حاملاً لوحة كتب عليها “الدفن”. قلت لنفسي يجب أن أصيب الهدف، ونظرت حولي. على بعد خطوات قليلة فقط كانت شجرة متواضعة غارقة في العشب، تأتي منها ضوضاء خفيفة. ذهبت إلى هناك، فانزلقت برأسي من خلال فتحة ضيقة، لكني لم أرى في الداخل سوى الظلمة، ومع ذلك حييت وسألت: “هل تعرف من يعتني بالدفن؟ “أنا بذاتي، وأنا بخدمتك”، قال صوت مهذب، “أنا قادم على الفور” أستطيع الآن أن أميز شيئًا فشيئًا أعضاء المجتمع الصغير، كان هناك زوجين شابين وثلاثة أطفال صغار بالكاد تصل جباههم إلى سطح الطاولة وطفل رضيع لا يزال بين ذراعي أمه. حاول الرجل الذي كان يجلس في أعماق عريشة العنب النهوض على الفور والانصراف إلى الخارج. طلبت منه زوجته بلطف التكرم أولا بإنهاء وجبته، لكنه نبهها إلى وجودي بإشارة من أصبعه، وقالت مرة أخرى يجب أن أكون لطيفًا ما يكفي وأنتظر قليلاً لأتقاسم معهم وجبة غدائهم الهزيل، وأخيرًا، بدت غاضبة مني، لأنني بتصرفي السيء جدًا أزعجت بهجتهم ليوم الأحد، كان عليّ أن أقول: “للأسف، للأسف، سيدتي العزيزة، أنا لا أستطيع قبول دعوتكم، لأنه يتوجب عليّ فورًا، نعم على الفور، أن أدفن “آه”، قالت المرأة ” لم تجد غير يوم الأحد وأكثر من ذلك خلال، فترة الغداء. يا لأهواء الناس. يا للعبودية الأبدية! “لا تؤنبيني بهذه الطريقة” قلت: “أنا لا أسأل زوجك نزوة. ولو كنت أعرف كيف أفعل ذلك، لكنت فعلته وحدي، ومنذ فترة طويلة. “لا تصغ إلى زوجتي”، قال الرجل، الذي كان بالفعل ما زال بجانبي منهمكًا في تدريبي على طريقة الدفن “لا تسأل النساء البسيطات مطلقًا عن شيء اسمه: المنطق”. ص 27-28
***
“كان ممرًا ضيقًا، منخفضًا، سقفه مستدير، جدرانه بيضاء، كنت واقفًا أمام المدخل المؤدي نحو الأعماق. لم أكن أعرف ما إذا كنت ملزمًا بالدخول أم لا. مترددا أفرك قدمي فوق العشب النادر المتزايد أمام المدخل. مرّ رجل، بالتأكيد، صدفة، وانحنى قليلا، عن طيب خاطر، لأنه أراد أن يتحدث إليّ: “إلى أين أنت ذاهب يا فتى؟ سأل. “دون وجهة في الوقت الراهن”، قلت، وأنا أنظر إلى وجهه المرح ولكن الشامخ – كان يمكن أن يكون شامخًا حتى من دون نظارته الأحادية – “دون وجهة في الوقت الراهن. أفكر أولاً…” ص 31
***
“كانت لدي دائمًا شكوك معينة حول نفسي. ولكن هذا يحدث فقط من وقت لآخر، من خلال حلقات، كان هناك بينهما فترة توقف طويلة، كافية للنسيان. كان بعضها تافه أيضا، تظهر بالتأكيد عند الآخرين، ولا تعني لهم أي شيء مهم، مثل الدهشة التي ترافقك أمام المرآة، أو عند انعكاس في المرآة الخلفية لرقبة الرأس، أو حتى من الهيأة كلها، وعندما تمر فجأة، أمام مرآة واجهة في الشارع”. ص 66
***
(…) كنت كلبًا صغيراً، بالطبع أنا متلهف جدًا وحريص على العيش، لقد تخليت عن كل المسرات، ورفضت جملة وتفصيلاً الملذات والاغراءات كلها وحشرت رأسي بين قائمتيّ وشرعت في العمل. لم يكن عملاً علميًا، وليس من أجل الدراسة العلمية ولا من أجل المنهجية ولا القصدية. كانت هذه بالتأكيد أخطاء، لكنها لا يمكن أن تكون حاسمة. لم أتعلم الكثير لأنني ما إن انفصلت مبكرًا عن أمي، حتى اعتدت بسرعة على الاستقلالية، عشت حياة حرة غير أن الاستقلال المبكر جدًا وهو عدو لاكتساب المعرفة بشكل منهجي. بالمقابل رأيت وسمعت الكثير، لقد تحدثت مع عدد كبير من الكلاب من الأنواع جميعها، ومارست المهن كلها وأعتقد أنني لم أتعامل مع كل هذا بشكل سيء وأنني لم أربط بشكل سيء فيما بينها وبين ملاحظات التفاصيل، التي حلت إلى حد ما محل سعة الاطلاع، علاوة على ذلك، فالاستقلالية، حتى لو كانت عائقًا لاكتساب المعرفة، فهي على مستوى البحث الشخصي ميزة كبيرة. بالنسبة لي، كان من الضروري جدا ألا أتمكن من اتباع الطريقة العلمية الحقيقية، أي استخدام أعمال السابقين والاتصال بالباحثين المعاصرين.
لقد اعتمدت على نفسي كليًا، في البداية بدأت بالوعي، الذي يكون مبهجًا في مرحلة الشباب، لكن يصبح مضايقًا جدًا كلما تقدمنا في العمر، ويجب أن تكون نقطة النهاية العشوائية التي سأضعها، هي النقطة النهائية. هل كنت وحدي حقًا في بحثي، الآن وأبدًا؟ نعم و لا. من المستحيل ألاّ يكون هناك كلاب معزولة أبدا ودومًا، هنا وهناك، في مثل وضعي.
لا يمكن، بالنسبة لي، أن تسوء أموري، لأنني لا أبتعد عن الكائن الكلبي. يملك كل كلب، مثلي، الدافع للتساؤل، ولكلّ كلب مثلي دافع للصمت. إذا لم أستطع، من خلال أسئلتي، التسبب في أقل الاضطرابات، والتي كنت، من حسن حظي، أراها بحبور كبير، حتى لو كانت هذه الغبطة مبالغًا فيها. كما كنت أملك الدافع للصمت الذي لا يتطلب أي دليل معين. لذلك أنا في العمق لا أختلف عن أي كلبٍ آخر، لذا فإن الجميع سيقبلونني رغم كل الاختلافات في الرأي والبراهين، ولن أتصرف بطريقة أخرى مع أي كلبٍ آخر. لا يوجد سوى مزيج من العناصر التي تتغير، والتي، على المستوى الشخصي، تُحدث فرقًا كبيرًا، في حين أنها غير مهمة بالنسبة لمجموعة من الناس.
يمكنني الادعاء أنني حملت حركية إلى هذه المواضيع من خلال أسئلتي. نبدأ بالتبرير، ثم نقوم بتدوير نوع من التبرير، ونبدأ من جديد، لكننا لن نتجاوز البداية. لكن لدينا شيء ما. وما يظهر بهذه الطريقة ليس، بالتأكيد، هو الحقيقة – لن نصل إلى أبعد من ذلك مطلقًا – ولكننا وصلنا، في كل الأحوال، إلى مظهر من المظاهر العميقة للكذب. (…) ص 85-86.