في القرن الماضي هيمن سؤالان على الفلسفة التحليلية: “كيف بوسعنا أن نقول أي شيء له معنى عبر العلامات، والرموز، والأصوات؟” و”ماذا تعني تحديداً تلك العلامات، والرموز، والأصوات؟”. لماذا يركّز الفلاسفة اهتمامهم على اللغة والمعنى؟ دعوني أجيب بسببين عامّين. الأول هو أنه لم يكن بوسعنا التعرض إلى مباحث هائلة إلا عن طريق فحص اللغة، وعبر هذا السبيل سنستطيع أن نعثر على أنظار فلسفية مهمة. والسبب الآخر هو الأثر الكبير الذي تركه الفلاسفة الذين اهتموا باللغة على الفلسفة من بعدهم، خاصةً فلاسفة بريطانيا وأمريكا.
فلنتكلم قليلاً عن السبب الأول. من الغني عن القول الحديث عن تأثير إيمانويل كانط على الفلسفة من بعده. وكان من بين آثاره تركيز الفلسفة على العلاقة بين العقل والعالم. أي طبيعة العلاقة بين الوعي الذاتي والعالم الموضوعي. وقد شرح كانط العلاقة بينهما في مقولات يجب علينا أن نحوزها كي نعيش خبرات ذات معنى في العالم. لكنه لم يفكر في تلك المقولات والمفاهيم من منظور لغوي، لأنها بالتأكيد كانت لتسبق اللغة عنده. لكن مع الوقت انتقل الفلاسفة تدريجياً من الاهتمام بمقولات ينتجها العقل إلى تصورات تنتجها اللغة. إذ بدأ الفلاسفة بحث دور اللغة في العلاقة بين العقل والعالم، ودورها وسيطةً في خبراتنا به. وإلى جانب كانط، كانت توجد قوة دافعة أكبر وراء تركيز فلسفة القرن العشرين على اللغة، وهي فكرة أننا إن قدرنا على فهم منطق اللغة، وتحليل كلامنا كي لا يضللنا نحوه السطحي، فإننا سنتمكن من الإجابة عن الأسئلة الفلسفية الخلافية كلها، أو -من وجهة نظر أخرى- سنثبت أنها محض مشاكل زائفة.
أما السبب الثاني للتركيز على اللغة فهو أن أولئك العمالقة الذين وضعوا برنامج الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، ومنهم مثلاً فريجه وراسل ومور وفتغنشتاين، صرفوا اهتمامهم على نحو ما إلى نمط من التحليل الفلسفي للغتنا. وخَلَفَهم جيل من الفلاسفة أمثال كواين وبُتنام وديفيدسُن تأثروا بنتاجهم فأمضوا الوقت المتطاول والجهد البالغ في دَرْس صنوف مباحث اللغة وقضايا المعنى والإسناد (Reference).
للغة دور بالغ الأهمية في تفاعلنا مع الآخرين والعالم. فنحن نستخدم كلمات ومفاهيم متنوعة في كلامنا عن الأشياء (الطاولات والزهور)، والخواص (الألوان والأشكال)، والعلاقات (الزهور فوق الطاولة، والألم في ذراعي). فنحن نعبّر عن مشاعرنا، ونطرح الأسئلة، ونأمر، ونقول نكات، ونحكي قصصاً، ونغني أغانٍ، وغير ذلك. لنرجع إذاً إلى أسئلتنا الأولى: كيف نفعل كل تلك الأشياء باللغة؟ وكيف تكتسب علامات، ورموز، وأصوات بعينها معنى ما؟ وما معناها على التحديد؟ هل كلمة “قطة” ذات معنى بسبب ما تشير إليه، أي تلك الكائنات الموّاءة التي نربيها في بيوتنا؟ هل ينطبق معنى “قطة” على تلك الحيوانات فقط؟ والأهم هو هل يحدد العالم تصوراتنا؟ أي هل نحاول باستخدام اللغة أن نعكس أنواع الأشياء والخواص والعلاقات المتعددة الموجودة بالفعل، أم أن العالم “منفتح” أمام تصوره بطرق مختلفة؟
كدّرت أسئلة كهذه صفو فتغنشتاين، فحاول الإجابة عنها في كتابه الأول “رسالة منطقية فلسفية”. لكنه لاحقاً وجد أوجه قصور في تلك الإجابات. وعبّر عن تحوّله الفكري في عدد من المذكرات والمسودات غير المكتملة التي نُشرت في العقود التي تلت وفاته. وأشهرها كتاب “بحوث فلسفية” الذي كان يعدّه للنشر قبل وفاته عام 1951، لكنني سأعتمد على أعماله المتأخرة كلها في هذا المقال.
معيارية اللغة وقواعد النحو
أحد جوانب المعنى اللغوي المهمة أنه معياري normative. أي أنه ثمة طرق صحيحة وأخرى خاطئة لاستخدام الكلمات. وإن استخدمنا الكلمات خطأً، فلن نقول شيئاً له معنى. إن قلت مثلاً: “كانت النافذة كلباً”، فقد أخطأت استخدام إما “نافذة” وإما “كلب” بطريقة تجعل من كلامي لغواً. وهذه المعيارية لها دور مهم في آراء فتغنشتاين المتأخرة عن اللغة.
فقد ربط في كتاباته المتأخرة على نحو واضح بين مفهومي المعنى اللغوي واستخدام اللغة. كانت طبيعة العلاقة التي رآها بين المعنى والاستخدام محل جدال كبير، لكنني سأحاول تجنب الخوض في التفاصيل الخلافية. لكن يمكننا أن نقول إنه توجد علاقة مهمة عند فتغنشتاين بين استخدام اللغة -أي ما نؤديه بها ومتى نقوله وأين- وبين معنى الأصوات التي نصدرها والرموز التي نكتبها.
استخدامنا اللغة عند فتغنشتاين مقيد كما قطع الألعاب مقيدة بقواعد اللعبة، مثل حركة الملك في الشطرنج مثلاً. لذلك انتقل في فلسفته المتأخرة إلى مفهوم القاعدة اللغوية، أو ما أسماه -تسميةً مُلبسة قليلاً- قواعد النحو. هذه القواعد النحوية هي تلك المعايير التي نقيّم بها ما إن كان الكلام له معنى. لكن ليس من الضروري أن يكون هذا التقييم صريحاً. فطالما أننا تعلمنا اللغة ذاتها وننتمي إلى مجتمع المتحدثين نفسه، فسأقيّم استخدامك اللغة بتحقق فهمي لما تقول أو لا. إن حرّكت طابية الشطرنج مثلاً حسبما تنص القواعد، فلن نختلف لأنني أفهم حركتك. لكن القواعد موجودة خفيةً رغم ذلك. وإن حرّكت الطابية قُطرياً، يجب أن نستحضر القواعد وأذكّرك بها. وبالمثل، إن أخطأت في كلامك، فإني إما سأصحّح خطأك، وإما سأسألك عن قصدك، وقد تستلزم إجابتك استحضار قواعد النحو. لكن ما الذي يعنيه فتغنشتاين تحديداً بقواعد النحو؟
أكّد فتغنشتاين أنه كان يستخدم مصطلح “النحو” بمعناه العادي. لكنك بالتأكيد لن تجد الأمثلة التي وضعها لقواعد النحو في أي كتاب نحو معتاد. فمن بين الأمثلة “شيء طوله 4 أمتار”، و”الأريكة أطول من الكرسي”، و”هذا أحمر (قالها وهو يشير إلى شيء أحمر)”، و”التصديق ليس تفكيراً”. يكمن جزء من الفكرة في أن قواعد النحو هي الأشياء التي نقولها للآخرين عندما نشرح لهم معنى كلمة أو تعبير ما. فعندما نتكلم مثلاً مع طفلة ونخبرها بأن ذلك الشيء 4 أمتار، ثم تسألنا إن كان هذا يعني أنه ثقيل، يمكننا أن نقول إن “طوله 4 أمتار”. أو إن كنّا نحاول فهم ما نقصده من “تصديق” شيء، فربما نذكر أنه يوجد فرق في استخدامنا كلمتي “تصديق” و”تفكير”، وبالتالي يوجد فرق بين التصديق والتفكير؛ فالمرء قد يصدّق شيئاً دون أن يفكر فيه، وقد يفكر في شيء دون أن يصدّقه. إذاً تقيّد قواعد النحو عند فتغنشتاين بمعياريتها ما نعنيه بالكلمات والتعبيرات. وتلك القواعد هي ما تحدد المعنى اللغوي.
أحد جوانب النحو الأخرى المرتبطة بأهميته للمعنى هو الطريقة التي يهيئ بها الظروف للتحدث القصدي عن العالم. وباستخدام أحد مجازات فتغنشتاين المتأخرة، توجّه القواعد النحوية كلامنا عن العالم كما توجّه ضفتا النهر مياهه. كما يوضح في في كتابه “النحو الفلسفي” Philosophical Grammar (كُتب بين عامي 1930 و1933)، يكمن جزء من الفكرة في أن القواعد النحوية لا تحدد صدق كلامنا عن العالم أو كذبه، بل إن دورها توفير الظروف لمقارنة قضايانا العيانية بالواقع كي نحدد ما إذا كانت صادقة أم كاذبة.
علينا أن نلاحظ بضعة أشياء كي نتجنب الالتباس. أولاً- لا يستلزم اتباع قواعد النحو والكلام القصدي معرفة تلك القواعد كلها مسبقاً، ولا يستلزم حتى الاقتدار على ذكر القواعد النحوية كلها لأي كلمة. وأحد أسباب ذلك أنه ليس معقولاً أن يتحدث المرء عن مجموع القواعد النحوية، لأن المعنى اللغوي عادةً لا يكون مقيداً في جميع الوجهات والحالات، وكثير من الكلمات يكون معناها منفتحاً عند استخدامها في سياقات لاحقة. ثانياً- لا تكون التعليقات أو العبارات قواعد نحوية لكونها على شكل ما أو حالة متحررة من السياق، بل لطريقة استخدامها في سياق ما. فقد تسألنا طفلة تتعلم أسماء الألوان عن اللون الأحمر مثلاً. حينئذ يمكننا أن نشير إلى شيء أحمر ونقول: “هذه الزهرة حمراء”. ما قلناه في هذه الحالة يُعدّ قاعدة نحوية. لكن إن كنّا نتكلم مع شخص مصاب بعمى اللونين الأحمر والأخضر وسألنا عن لون القميص فأجبناه: “هذا القميص أحمر”، فإننا بهذا لم نقدّم قاعدةً نحويةً، بل قضيةً عيانية، أي قضية تصف إحدى سمات العالم الذي نخبره.
ثالثاً- لمفهوم الألعاب اللغوية (Language games)دور كبير في فلسفة فتغنشتاين المتأخرة. والمقصود باللعبة اللغوية الطريقة التي يستخدم بها الناس عادةً الكلمات، والعبارات، والإيماءات، وتعبيرات الوجه، وغيرها للتواصل في موقف معين. إن نظرت إلى تطور كتابات فتغنشتاين بعد “رسالة منطقية فلسفية”، فستجد تحولاً من التركيز على النحو إلى التركيز على الألعاب اللغوية في سياق حديثه عن المعنى. لكن جنوح فتغنشتاين لمفهوم الألعاب اللغوية لم يحل دون إقراره بمعيارية اللغة وأهمية القواعد النحوية. كما أن ذلك التحوّل لا يعني رفض النحو، فقواعد النحو تُعتبر جزءاً جوهرياً من الألعاب اللغوية. لكنه يعني التحوّل إلى منظور أكثر انفتاحاً لاستخدام اللغة، والإقرار بأن كلماتنا ذات معنى حتى إن لم تكن مقيدةً تماماً بالقواعد.
اعتباطية النحو ودور الواقع
لربط فتغنشتاين المعنى بالاستخدام عدة تبعات مهمة. طرحت قبل قليل سؤالاً عمّا إذا كانت كلمة “قطة” ذات معنى لأنها تشير إلى الكائنات الأليفة التي نحبها. نميل إلى الاعتقاد بأنه طالما أن اللغة تمثيلية Representational -أي أن محورها الأشياء- فهذا يعني أن تلك الموضوعات (كالقطط، والطاولات، والأفكار، والمشاعر) هي ما تُكسب اللغة معناها. لكن فتغنشتاين يرفض هذه النظرة إلى اللغة. صحيح أننا نتكلم عن حشد كامل من الأشياء ونشير إليها، لكن المعنى لا يأتي من تلك الأشياء ذاتها، بل من استخدامنا الكلمات في سياقات معينة، ولوجود طرق صحيحة وخاطئة لاستخدام الكلمات والتعبيرات. وكما قلت مسبقاً، استخدام اللغة مقيد معيارياً بقواعد النحو. وذلك الاستخدام يقرّه المجتمع كقواعد اللعبة.
تمنحنا هذه الطريقة في مقاربة اللغة والمعنى أنظاراً معتبرة. وإحدى ثمارها تأكيد فتغنشتاين على طبيعة اللغة العمومية. إذ تأتي نسبة كبيرة من المعيارية التي تولّد المعنى من استدراك الأخطاء، والاستفسار عن القصد، وتصحيحات الآخرين لكلامنا، خاصةً عندما نتعلم لغة ما. وأحد الجوانب الأخرى أن كثيراً من لغتنا يكتسب معناه نتيجةً لسياقه العمومي فقط. صحيح أنّ بوسعنا أن نسائل أنفسنا ونحملها على بعض الأشياء، بيد أن المغزى من هذا السلوك كثيراً ما يكون ملتبساً علينا. ومن الأسئلة المرتبطة بهذا السياق إمكانية وجود لغة خاصة، وهذا يتضمن التفكير فيما نعنيه عندما نتكلم عن الأحاسيس التي تنتابنا. لكنني أريد أن أركز على فكرة أن قواعد النحو لا تخضع لأي واقع موضوعي. أو كما يقول فتغنشتاين: “النحو اعتباطي واللغة مستقلة”.
توجد بضعة أشياء يقصدها فتغنشتاين بقوله إن النحو اعتباطي. أريد أن أركز على فكرة أن النحو، وبالتالي المعنى، لا يخضع للواقع. إن أخبرتني بوجود نمور بيضاء لكنني لم أصدقك، يمكنك أن تحضر لي نمراً أبيض وتشير إليه وتقول: “هذا نمر أبيض”. هكذا ستكون أثبتّ ادّعاءك. يرى فتغنشتاين أن المرء يعجز عن تقديم مثل هذا الإثبات لقواعد النحو. تُرى ماذا كان يقصد وما أهمية كلامه؟
لنأخذ القاعدة النحوية البسيطة “الأريكة أطول من الكرسي” التي تُظهِر جزءاً مما نعنيه بـ”أريكة”. كيف تثبت هذه القاعدة؟ قد تحاول أن تشرح لي ما الأريكة وما الكرسي، وقد يتضمن مثل هذا الشرح أن توضح أن بإمكانك أن ترقد على الأريكة، لكنك ستعجز عن فعل ذلك على الكرسي، وبالتالي لا بد من أن تكون الأريكة أطول من الكرسي. أو قد تشير إلى كرسي وأريكة كي تريني أن الأرائك أطول من الكراسي حقاً. لكن كلتا المحاولتين تواجهان المشكلة ذاتها. إن كانت الكلمات التي تقولها أو حركات الإشارات التي تؤديها ذات معنى، فلا بد من أن القاعدتين النحويتين “أريكة” و”كرسي” موجودتان ومستخدمتان بالفعل. تذكّر أن قواعد النحو عند فتغنشتاين تهيئ الظروف للتكلم القصدي عن العالم. إن لم تكن موجودة بالفعل، فلا يوجد كلام له معنى وبالتالي لا يوجد تفسير ذو معنى للكرسي أو الأريكة. والفكرة إذاً أنه إذا كانت قواعد النحو تتيح استخدام اللغة القصدية وبالتالي “مفترضة مسبقاً”، فلا فائدة في إثباتها بردها إلى الواقع. فكيف تفعل هذا؟
لنعد ثانيةً إلى سيناريو الإشارة إلى الأريكة والكرسي، ودعوى أنها تفترض الاشتغال القبلي للنحو. تُسمى هذه الإشارة “التعريف الإشاري” أو الشارح(Ostensive definition) ، كأن يكون الشيء الذي تعبّر عنه كلمة ما أمامك، فتشير وتقول مثلاً: “هذه أريكة”. وقد تناول فتغنشتاين مفهوم التعريف الإشاري بشيء من التفصيل. أحد الأشياء التي يتفق عليها شارحو فتغنشتاين عموماً أنه يريد أن يذكّرنا بأن مثل تلك الإشارة لا تكون ذات معنى إلا في سياق لعبة لغوية. فكي نشير إلى شكل شيء ما مثلاً بدلاً من لونه، فلا بد من أن يعرف المرء بالفعل بعض المعلومات عن الألوان والأشكال، ولا بد من أن يفهم شيئاً عن ماهية الشكل وماهية اللون لأن الإشارة وحدها مُلبسة. فعندما تشير على كرة توجد فوق طاولة، هناك عدة أشياء قد تشير إليها: الكرة نفسها، أو الكرة والطاولة، أو المساحة التي تشغلها الكرة والطاولة، أو ملمس الكرة، أو شكلها، إلخ. ولرفع هذا اللبس وإظهار أنك تقصد شكل الكرة لا لونها، يجب أن تكون اللغة قائمة قبلاً. إذاً في حالة الأريكة والكرسي، يجب أن تكون القواعد النحوية التي تخص الأرائك والكراسي موجودة بالفعل كي تكون الإشارة إليهما مبينة لا لبس فيها.
إذاً فاللغة كيان مستقل لأنها لا تُحيل إلى الواقع. لكن كيف يعني هذا أن النحو اعتباطي؟ من المهم أن نذكر أن هذا لا يعني أن النحو والمعنى تابعان للأهواء ولا يقيدهما أي شيء، بل يعني أن الواقع الموضوعي غير البشري لا يحدد -أي لا يحتّم- تصوراتنا وأساليب كلامنا. لكننا -بالنظر إلى بنية أجسامنا وعلاقتنا بعالمنا المعقد والآخرين- لدينا احتياجات ورغبات معينة تساعد في تشكيل لغتنا والتصورات التي نشكّلها عن العالم وعن أنفسنا. فإن كانت أنماط حياتنا المادية والاجتماعية مختلفة، فما كنّا لنستخدم التصورات نفسها.
إننا نتكلم عن الصخور، والطاولات، والكراسي، والكتب، والمشاعر، والحكومات، إلخ. نقسّم العالم إلى أنواع مختلفة. قد يبدو أنه توجد طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لفعل هذا. بالتأكيد توجد قطط وكلاب، والقطط بلا شك مختلفة عن الكلاب. وكذلك توجد بلا شك ذرات وشموس ونجوم. لدينا هذه التصورات تحديداً لأننا عن طريقها نمثّل حقيقة العالم تمثيلاً دقيقاً. وهذا الموقف جزء مما كان يعارضه فتغنشتاين. فالعالم -إذا جاز التعبير- لا ينحت نفسه ليصبح أشياء. والنحو اعتباطي بمعنى أنه لا تقيّده إلا احتياجاتنا، ورغباتنا، و-إلى حد ما- طريقتنا في إدراك الحقائق الأساسية عن بيئتنا وموقعنا فيها. قد نقسّم العالم بطريقة مختلفة إن اختلفت احتياجاتنا أو حقائق بعينها عن موقعنا في العالم أو إدراكنا له.
يتركنا هذا الفهم لاعتباطية النحو في موقف محرج على عدة نواحي. فمن جانب يبدو أنه يتعارض مع ما قد نسميه هدف العلم: البحث في طبيعة الواقع الموضوعي، وتطوير نظرية تفسر ذلك الواقع على أفضل وجه. فنحن اكتشفنا مثلاً أن جزيئات الماء تتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين (H2O). وسيبقى الماء H2O بغض النظر عن كلامنا. ومن زاوية أخرى، ثمة إشكال فلسفي أكثر مركزية.
يقول فتغنشتاين في الفقرة 373 من بحوث فلسفية: “تخبرنا القواعد بنوع الموضوع الذي يكون عليه أي شيء”[1]. لكنه يظل مبهماً لدينا ما مبلغ اعتباطية قواعد النحو في هذا السياق، وإلى أي مدى نحن الذين نحدد -لا العالم- نوع المواضيع الموجودة. أيعني هذا لدرجة ما أن ما يوجد تابعٌ للغتنا، أي أنه من دون اللغة، وبالتالي من دوننا، لن يكون ثمة تجسد لعالمنا؟ يبدو أن هذا احتمال بعيد. ويصطدم هذا بمشكلة أن النحو نفسه يبدو مقيداً بالعالم؛ بالحقائق الأساسية المتعلقة ببنية أجسامنا، واحتياجاتنا، وبيئتنا. إن كانت تتطلب تلك الأشياء النحو لـ”يشكّلها”، فإنها ستكون عاجزةً عن تقييده. هل يعني هذا إذاً أنه يوجد عالم مستقل عن لغتنا وعنّا، لكنه إلى درجة ما طيّع قابل لطرق تشكيله المختلفة؟ وليس من الواضح هنا معنى أن نقول إن العالم “طيع”. إن كان العالم موجوداً قبل استخدامنا اللغة، فلا بد من أنه يملك طبيعة محتومة مستقلة. فما معنى أن تكون تلك الطبيعة المحتومة طيعةً؟
أرى أننا سنبتعد كثيراً في محاولة فهم مقصد فتغنشتاين بكلامه عن اعتباطية النحو وأهميته للمعنى إن حصرناه في مسألة علاقة الواقع نفسه بلغتنا. صحيح أنها مسألة مهمة، لكن فتغنشتاين -أحياناً على الأقل- لا يريد أن يحلّ مثل هذه المشاكل الفلسفية، بل يفضّل أن يُظهر أنها مبنية على سوء فهم ولّدته اللغة. توجد دروس أهم لنتعلمها من اعتباطية النحو من وجهة نظر فتغنشتاين. فاللغة مثلاً لا تكتسب معناها بأن تعكس الواقع، والمعنى ليس نتيجة المواضيع التي تشير اللغة إليها. لكنها تكتسب معناها من طريقة ومكان استخدامنا إياها وفقاً لقواعد النحو والمواقف اليومية المتنوعة التي نتعرض لها. ولأننا نحن الذين نحدد بشكل ما الأشياء الموجودة عبر استخدامنا اللغة، فعندما نريد أن نبحث تلك المواضيع وسماتها -مثلاً: المواضيع الفلسفية المهمة كالفكر، والمعنى، والمعرفة، والإيمان- ينبغي علينا أن ننظر في طريقة استخدامنا اللغة لأننا نعجز عن فصل الأشياء نفسها وتشكيل سماتها بمعزل عن اللغة.
[1] بحوث فلسفية، لودفيج فتجنشتين – ترجمة د. عزمي إسلام.