مدخل
تعبّر هذه المقالة[1] التي اخترنا تعريبها عن تقاطع تجربتين نسويّتين من ثقافتين مختلفتين، تجربة الباحثة الأمريكيّة ميريام كوك، وتجربة الباحثة في جامعة أوستن من أصول عربيّة هينا عزام. وإذا كانت ميريام كوك اسمًا علميًّا ونسويًّا مشهورًا في الثقافة العربيّة المعاصرة، فإنّ صاحبة المقال هينا عزام باحثة نسويّة حديثة التجربة نسبيًّا. وغاية من غايات هذا المقال توجيه الأنظار إلى إنتاجها العلميّ.
ليس من الميسور في هذه المقدّمة الإحاطة بإسهام ميريام كوك في الأبحاث النّسويّة ما بعد الكولونياليّة. لكنّنا نكتفي بالإشارة إلى أنّها جمعت في مسارها التّأليف بالتّعريب، والممارسة النّظريّة بمعرفة عدد من المجتمعات العربيّة معرفة مباشرة. ومثّلت أطروحتها عن أدب يحي حقّي منطلق إنتاج علميّ تخصّص في الكتابات النّسويّة العربيّة، ومنها كتابات غادة السّمّان، وسحر خليفة، وحنان الشّيخ، وفادية فقير. وأصدرت منذ سنوات كتابًا عمّن اعتبرتها رائدة النّسويّة العربيّة، نظيرة زين الدّين[2]. والذي يعنينا من الإشارة إلى بعض مؤلّفاتها، وعدد منها تمّ تعريبه[3]، أنّها اختطّت لنفسها مسارًا في دراسة النّسويّة الإسلاميّة متحرّرًا من الأفكار المسبقة التي يجسّمها القول إنّ مجرّد الحديث عن «نسويّة إسلاميّة هو ضرب من التّضادّ» Islamic feminism is an oxymoron » [4]. وقد مكّنها تفهّمها للنّسويّة الإسلاميّة من اجتراح مفاهيمها الخاصّة في مقاربة الجندر. وفي المقالة التي عرّبنا بعضٌ من هذه المفاهيم كالنّقد المتعدّد Multiple critique، والصّورة المنطبعة Imageness .
ليست تجربة النّسويّة الإسلاميّة، فيما يتعلّق بهينا عزام موضوعًا للدّرس فحسب، وإنّما الأمر عندها جزء من ممارسة تحدّثت عن قليل من تفاصيلها في مقالها، وجانب من تلك التّفاصيل تجربتها مع الحجاب فيما قبل 11 سبتمبر وما بعده. وما يشدّ الانتباه أنّ مسارها النّسوي العملي ترافق مع مسار علميّ مداره بالأساس الانتهاكات الجنسيّة كما تعامل معها الفقه الإسلاميّ بمدارسه. وكان المنطلق أطروحة لها، ناقشتها سنة 2007، موضوعها العنف الجنسي في التّشريع المالكي، ومدوّنتها مدوّنة الفقه المالكي[5]. ثمّ اتّسعت المدوّنة لعموم الفقه الإسلامي[6]. ولها إضافة إلى ذلك عدد من المقالات والفصول في نفس المبحث[7]، وبعض منها تصدّى للموضوع في السّياق الأدبي المعاصر[8].
وقد أسهمت هينا عزام في الحراك الطّلابي النّسائي للمسلمات المهاجرات بالولايات المتّحدة الأمريكيّة. وتسعى بشكل دؤوب إلى جعل الشّعارات النّسويّة معبّرة عن النّساء المسلمات، وهو ما استدعى منها جهدًا نقديًّا في قراءة الشّريعة الإسلاميّة بالتّوازي مع قراءة تأصيليّة للنظريّة النّسويّة.
والذي شدّنا إلى المقالة، وقدّرنا أنّ الفائدة قد تحدث بتعريبها أنّ التّجربتين، ليستا نظريّتين، تخوضان في النّسويّة من أفق تنظيري منفصل عن الوقائع اليوميّة، بل هما تجربتان منغرستان في الحدث اليومي، وتستحضران خصائص التّواصل المعاصر، وما لها من أثر في الهويّات وكيفيّات تمثّلها في مجتمع أمريكي تتنامى فيه مشاعر التّفوّق والعنصريّة، وتزداد داخله في الوقت نفسه المخاوف من الإسلام المعدود إرهابيّا، محتقرًا للأنوثة وقامعًا.
وجوهر المقالة، إن جاز تلخيصها البحث في إشكاليّة بدت لنا مهمّة: كيف يمكن للنّساء المسلمات أن يصغن مقاربة نسويّة تحقّق المساواة الجندريّة من دون الانزلاق نحو استنساخ التّجربة النسويّة الغربيّة، أو الوقوع في فخّ تبرير الانتهاكات المرتكبة في حقّ النّساء بدعوى تطبيق الإسلام؟ أي كيف بوسع النّساء المسلمات أن يصغن مقاربة أصيلة تُحرّرهنّ، وتحترم خصوصياتهنّ الثّقافية في الوقت نفسه؟
وما يسترعي الانتباه أكثر ليس أنّ المقال من إنشاء باحثة نسويّة في المرأة المسلمة. فقد كان ممكنًا أن تكتب هذا المقال، بالهواجس نفسها، نسويّة أخرى تنتمي إلى ثقافة مغايرة، وإنّما كونه يشرّع النّوافذ على الاختلاف الثّقافي ويرفض عولمة النّسويّة، أي جعل ما اصطلح عليه بـالنسويّة البرجوازيّة البيضاء الأنموذج الأوحد الّذي يتوجّب اتّباعه. فمقال هينا عزام إذن صدى لأصوات نساء يدافعن عن حقّهنّ في الاختلاف، وصدى لأصوات نساء الهامش في مواجهة أصوات نساء المركز ومن والاهنّ.
وكان من نتاج هذه الرّؤية المنعتقة من إسار المركزيّة الغربيّة تغيّر جوهريّ في مفهوم النّسويّة ووظائفها. وهذا من طريف ما قالته ميريام كوك. فلم تعد النّسويّة في تصوّرها مضمونًا محدّدًا، وهويّة تجعل صاحبها يوصف بكونه نسويّا أو غير نسويّ. فلقد أظهرت كوك مرونة فكريّة لافتة للانتباه، وقدرة عالية على الإصغاء إلى الآخر المختلف عبر التّأكيد أنّ النّسويّة ليست إلّا أداة تُستدعى عند الحاجة، ويُستغنى عنها بزوال الحاجة إليها. وهي تلك المرونة الّتي تجعل مصالح النّساء في مختلف أصقاع العالم أولويّة ملحّة، وتسمح لهنّ بالحرّيّة في تحديد متى يحتجن المقاربة النّسويّة لمشاكلهنّ.
لقد كان من عوائق تبيئة المباحث النّسويّة أنّ الكثير ممّا كُتب عن المرأة كُتب كما لو كان بيانا عقديّا في مواجهة الإسلام وتقاليده، وصيغ في الغالب بروح نصوص نسويّة غربيّة غير ذات اتّصال وثيق بمعاناة المرأة في برّ المسلمين. وشئنا تعريب هذا المقال الوجيز من باب المنبهة على أنّ المباحث النّسويّة ما بعد الكولونياليّة وفي مضادّتها يمكن أن تكون مدخلًا ذا نجاعة إلى إثراء النّقاش حول الملفّ النسويّ في سياقنا العربي.
ملحوظة:
- هوامش صاحبة المقال مدمجة في المتن، وموضوعة بين قوسين.
- هوامش التّعريب موضوعة أسفل الصّفحات، ومرقّمة.
المقال المعرّب
النسويّة الإسلاميّة بين الإسلام والإسلاموفوبيا
استكشفت ميريام كوك Miriam Cooke طوال مسيرتها العلميّة عددًا من القضايا الخاصّة بالنّساء العربيّات والمسلمات، من بينها أهمّيّة أن تُدخل إلى ما تسمّيها «قصّة حرب» «The war story» (كوك 1997) تعقيدًا يتمثّل في تجارب جندريّة خاصّة عرفتها النّساء في الحرب والصّراع بالشّرق الأوسط.
أطبّق بصائر كوك في عملها هذا وسائر أعمالها على وضع النّساء المسلمات المائز وتجاربهنّ في خضمّ حرب الثّقافة الأمريكيّة الرّاهنة على الإسلام، وأنظر في مدى توافقها مع مقتضيات المواطنة والانتماء. فالنّساء المسلمات، على جبهة الحرب هذه يحملن عبئًا مختلفًا عن عبء الرّجال المسلمين، بل إنّ النّساء المسلمات اللّائي يعتبرن أنفسهنّ نسويّات إسلاميّات يتجشّمن مشقّة عبء أثقل.
نعلم التّحدّيات التي تواجهها النّساء المسلمات المرتديات للحجاب في الولايات المتحدة الأمريكيّة. إنّهنّ بمثابة جواذب صواعق للمشاعر المعادية للمسلمين. وفي الوقت الذي يعتبر فيه الكثير من الأمريكيّين أنّ الرّجل المسلم عنيف ومتعصّب وميسوجينيّ [9]misogynist، فإنّ كثيرًا منهم أيضا يخافونه. وهذا الخوف يتولّد عنه احترام على كَره. في المقابل فإنّ النّساء المسلمات اللاّئي يرتدين الحجاب يواجهن غالبًا عداء وازدراء لأنّ المجتمع المهيمن يراهنّ متواطئات مع دين وجماعة يضطهدانهنّ. وينتج عن هذا التّصوّر ضرب من الكراهية الممحّضة لتلك الفئة من النّاس التي ترضى أن تكون ضحيّة وتأبى الخلاص، أو إظهار الامتنان المناسب بإزاء جهود تحريرها.
تصيب حرب الثّقافة الأمريكيّة على الإسلام النّسويّات الإسلاميّات بطرائق خاصّة، نعني بهنّ أولئك اللّائي يحاججن ويعملن من أجل المساواة الجندريّة في إطار الإسلام إذ عليهنّ أوّلا، حتّى يُنشئن طرائق جديدة في فهم الإسلام وممارسته، أن يُجرين نقدًا للجوانب الجنسانيّة في التّراث الإسلامي. وثَمَّ يكمن التّحدّي وتكمن المجازفة: كيف بوسع النسويّات الإسلاميّات أن يشرعن في هذه الخطوة الأولى من غير أن تصبح انتقاداتهنّ هذه سلاحًا بأيدي الإيديولوجيّين المعادين للمسلمين، يستثمرونها كي يقدّموا الإسلام في صورة بربريّة barbaric ميسوجينيّة لا تُلائم الحداثة، ويسعون على هذا الأساس إلى طرد المسلمين والإسلام من الأمّة الأمريكيّة؟ وكيف لباحثات النّسويّة الإسلاميّة والنّاشطات في هذا الحقل أن يستمررن في مثل هذا السّياق العدائي خاصّة حين تمكّن وسائط التّواصل الاجتماعي من نشر سريع للمعلومات يتجاوز جماهيرهنّ المستهدفة؟
إنّ درجة نشاط الإسلاموفوبيا وبلاغتها في الولايات المتّحدة هي الأعلى طوال سنوات، وهي جزئيّا في اصطفاف مع الرّدود العنصريّة على انتخاب الرّئيس باراك أوباما Barack Obama. وقد فاقمت موجة من الحوادث الإرهابيّة باسم الإسلام في أوروبا والولايات المتّحدة أواخر سنة 2015 ومطلع سنة 2016 شعور الإسلاموفوبيا هذا، وتندرج ضمنها التّفجيرات وعمليّات إطلاق النّار في ماراثون بوسطنBoston Marathon، وفي سان برناردينوSan Bernardino بكاليفورنياCalifornia ، وفي فرنسا، وبملهى “نبض” Pulse اللّيلي للمثليّين بأورلاندو Orlandoفي فلوريداFlorida . وكان صعود دونالد ترامب Donald Trump إلى سدّة الحكم بحملة التّحريض الشّعبويّة الّتي قادها قد زاد من جذوة الكراهية الشعبيّة للإسلام والمسلمين. ففي ظلّ حكمه، اكتسب مناهضو الإسلام ثقلًا سياسيًّا، بينما تضاءل الالتزام بتأييد حقوق المسلمين المدنيّة ولا يبدو أنّها موثوق بها بالقدر نفسه في جميع الدّوائر القضائيّة.
وبالنّظر إلى درجة المشاعر العالية المناهضة للإسلام والمسلمين في المجتمع الأمريكي فإنّ قوى الشّقّ اليميني تستطيع في يُسر أن تستخدم نقد النّسويّة الإسلاميّة للتّراث الدّينيّ دليلًا على ما يشكّله الإسلام من تهديد لثقافة الولايات المتّحدة ولمجتمعها. بل يمكن أن يساهم خطاب النّسويّات الإسلاميّات نفسه من غير قصد في استهداف مسلمي الولايات المتّحدة. وما فاقم هذه الهشاشة إزاء التّوظيف الخطابي المغرض، المشهدُ الوسائطي الاجتماعي الجديد الذي هدم الحدود بين مقامات تكلّم وكتابة متباينة، وغيّب الفوارق بين مصادر المعلومة ذات المصداقيّة العالية والأقلّ مصداقيّة منها.
إنّ الباحثة النّسويّة وهي تتكلّم أو تكتب بأسلوب نقديّ صريح، خصوصًا حول مباحث الجندر في الإسلام ليس بمقدورها الاعتماد على مجموعة من المعايير التّواصليّة المشتركة مع جمهورها. فالمجموعات المناهضة للإسلام المهمومة بسرعة الجواب تقدر على إخراج مقاطع الكلام عن سياقها وتشويهها بما يخدم أغراضها الايديولوجيّة. والسّرعة التّي ينتشر عبرها التّضليل والتّشويه غير مسبوقة، تسهّل ذلك منظّمات عبر الانترنت مؤسّسة من أجل خدمة غرض مخصوص ألا وهو نقض الأصوات المسلمة، وإعاقة نقاشات متوازنة حول الإسلام.
خلقت هذه العوامل سياقًا تواصليًّا مشحونًا بالنّسبة إلى النّساء المسلمات بالولايات المتّحدة اللّائي يسعين إلى صياغة رؤية جندريّة منصفة للإسلام وإلى إجراء نقد داخليّ للمذاهب الإسلاميّة وللمؤسّسات المضرّة بمصالح النّساء. فإن التزمت إحدى النّسويّات بالانخراط في نقد إسلاميّ دقيق هادف ضمن أيّ فضاء عام (وهو الفضاء الوحيد المتاح) فإنّ مناهضي الإسلام يستغلّون ذلك باعتباره دليلًا على أنّ الإسلام دين أبويّ ميسوجيني دائمًا وإلى الأبد. وإذا أقدمت باحثات النسويّة المسلمات بدلًا من ذلك على عمل يروم فهما دقيقًا وتمثيلًا عادلًا للمذاهب الإسلامية الكلاسيكيّة حول مبحث النّساء والجندر، فإنّهنّ يُجازفن بأن يُعتبرن متبنّيات لهذه المذاهب.
فكيف حينئذ يجدر بالنّسويّات الإسلاميّات أن يسلكن في أزمنة الإسلاموفوبيا هذه؟ هل عليهنّ أن يكنّ أخفّ انتقادًا وأقلّ صراحة عند معالجة مواضيع الإسلام والنّساء؟ وهل يتوجّب عليهنّ التّقليل من شأن مسائل النّساء والجندر والجنسانيّة في التّاريخ الإسلامي أو في المجتمعات المعاصرة؟
يقدّم عمل كوك حول النّسويّة الإسلاميّة توجيهات عمليّة في الغرض.
سألتُ كوك، خلال إحدى محاوراتنا العديدة حول النّسويّة والإسلام عندما كنت طالبة مجازة، رأيها في وجهة نظر كنت قد لقيتها بين النّساء المسلمات، وهي أنّهنّ لسن بحاجة إلى الأداة النّسويّة الوافدة لأنّ الإسلام إذا ما طُبّق تطبيقًا صحيحًا سليمًا فإنّه سيكون كافيًا لضمان العدالة للنّساء. فأجابتني بطريقة ظلّت ماثلة في ذهني كل هذه السّنوات. قالت: ليس على النّساء المسلمات استخدام النّسويّة إن كنّ لا يشعرن بالحاجة إليها. فالنّسويّة وجدت من أجل النّساء ليعتمدنها عند الحاجة. كان ذلك موحيًا. فقد كنت أدأب على الاعتقاد أنّ «النسويّة» محتوى Content و«النّسويّ» هويّةIdentity : «تؤيّد النّسويّة أ أو ب أو ج» أو «كذا وكذا نسويّ أو غير نسويّ بالقدر الكافي». وهذه الصّيغة تجعل الجهود النّسويّة في مواجهة الجهود غير النسويّة، وتتّخذ القرارات بشأن من يتعيّن ضمّهم أو إقصاؤهم، وأيّة أفكار يتوجّب قبولها أو رفضها.
لقد كانت كوك تذهب إلى أنّ الأفضل أن تعدّ النسويّة أداة ضمن عدد من الأدوات النّظريّة والعمليّة الهادفة إلى تحسين ظروف النّساء، يمكن استخدامها عند الحاجة واستبعادها عند انعدام الحاجة إليها. فليست هي الهويّة التي تتضمّن كلّ شيء all-encompassing identity، ولا هي بمجموعة محدّدة من الأفكار الّتي يجب على الجميع الانخراط فيها. وكان فهم النّسويّة هذا متناغمًا مع فكرة «النّقد المتعدّد»[10] لكوك multiple critique (2001, 113). فـ «ليس النّقد المتعدّد آليّة تفويض ثابتة، بل هو استراتيجية خطابيّة مرنة، مستقاة من وضعيّات كلاميّة متعدّدة. وتُتيح هذه الاستراتيجية حدوث محادثات مع مخاطبين كثر حول مواضيع مختلفة. وعلى خلاف سياسات الهويّة التي تعتمد على هويّة أساسيّة بعينها، يسمح النّقد المتعدّد بالتّناقضات الهويّاتيّةidentitarian contradictions ردّا على مساعي الآخرين إلى إسكات المختلفين. وهدف الفرد هو البقاء داخل المجتمع الذي يتكلّم من داخله حتّى وهو ينقد مشكلاته».
في هذا الإطار، تمثّلت النّسويّةُ الإسلاميّة الممارسةَ النسويّة ضمن الالتزام بالإسلام. فـ «ليست هي، ـ وفقا لكوك – هويّة، بل هي بالأحرى واحدة من مواقع تكلّم متعدّدة». وهذه المرونة والحريّة في التّعامل مع الموقف الكلاميّ المخصوص كانتا محرّرتين لها بشكل ملحوظ. وعنى ذلك إنّ النّسويّة الإسلاميّة ليست أساسًا مجموعة ثابتة من الأفكار بمقدار ما هي حساسيّة قابلة للتّكيّف مع سياقها التّواصليّ المحدّد. فهي على شاكلة سجلّ لغويّ، قد لا تتطلّب التّفعيل دومًا، ولا تحدّد باستمرار مضمون المحادثة. وبفضل مرونتها يمكن للنّساء نشرها بشكل مختلف وفقًا لمقتضيات السّياق.
لقد حرّرتني أفكار كوك من الاضطرار إلى الاختيار بين أن أكون نسويّة أو لا، أو إلى أيّ حدّ أكون نسويّة. كما لم أكن بحاجة إلى أن أقرّر ما إذا كانت النسويّة متوافقة مع كوني مسلمة أم لا. إذ يمكنني التحدّث من موقع نسويّ، والصّدع بانتقادات نسويّة في الزّمان والمكان اللّذين أجد خلالهما تلك الانتقادات منطقيّة بالنّسبة إلي، كما يمكنني أن أتحدّث من مواقع مختلفة، وأن أطرح حلولًا مناسبة للسّياق دون اعتبار ذلك أمرًا غير متناغم.
إنّ التزامًا ديناميكيًّا بالنسويّة محرّر بشكل خاصّ في بيئتنا الثّقافيّة والسياسيّة والإعلاميّة المعاصرة. وينبغي على النّساء المسلمات، صواحب الحساسيّة النّسويّة، أن يكنّ قادرات على التّحدّث بشكل دفاعي نقديّ تعدّدي. ففي سياق الحروب الثّقافيّة والسّياسيّة المركّزة على الإسلام والمسلمين والنّساء المسلمات، تجعلنا الحساسيّة النّسويّة التي اقترحتها كوك أقدر على الحديث عن الوضعيّة التي نجد فيها أنفسنا. يمكننا أن ننقد الأبعاد الأبويّة patriarchal للخطاب أو الممارسة الإسلاميّة في بعض المواضع، وأن نبرز المثل التّقليديّة المكرّسة للمساواة والعدل في مواضع أخرى. ويمكننا أن نستعين بالثّقافة والتّاريخ والقانون الأمريكي للدّفاع عن المساواة الجندريّة في الإسلام في بعض الحالات، وأن ننقد في المقابل أبعادها القمعيّة في حالات أخرى.
إنّنا نعيش ضمن هويّات عدّة وفضاءات مختلفة بالتّزامن، والأمر كما كتبت كوك (54، 2001) «إذا كانت الهويّة هي التعرّف على التّماثل مع البعض والتّباين مع البعض الآخر، فإنّ لنا العديد من الهويّات إذن. ونعمد، للحفاظ على شعور بالوحدة عادة، إلى تأكيد هويّة واحدة فقط من ضمن هويّات عدّة ممكنة، وهي تلك الهويّة التي تكسبنا نفوذًا لحظة تأكيدها». ففي بيئة معادية للإسلام، قد تعبّر النّسويّة الإسلاميّة عن أمريكيّتها المشتركة في الحاضر لأنّ المشاكلة الثّقافيّة تجعل جمهورها أقرب إليها. وهذا القرار يخوّل لها تناول قضايا عن النّساء والإسلام ضمن سياق مختلف. وبالمثل فإنّها قد تعمد- في بيئة دينيّة معادية للمساواة الجندريّة Gender Equality – إلى عدم التّشديد على موقعها النّسويّ حتّى تكون أعمق تأثيرًا.
لا يعبّر هذا التّغيّر عن الافتقار إلى الأمانة أو الانسجام بل يأخذ بجدّيّة التّصوّرات المسبقة التي يمكن أن تكون فاعلة في سياقات مختلفة. وهنا تساعدنا أفكار كوك حول “الصّور” « images » و”الصّورة المنطبعة ” « imageness»[11]. فخلال أيّ تفاعل، يحمل كلّ شخص صورًا دائمة بطيئة التحوّل عن الآخر بوصفه ممثّلًا لإحدى الجماعات. وعلى هذا الآخر أن يأخذ هذه الصّور بعين الاعتبار من أجل ضمان تواصل فعّال. تصف كوك (2001، 128) في هذا الصّدد، الصّورة المنطبعة بأنّها “الحقيقة البصريّة التي تشكّل الوعي”، إنّها “الصّور الثّقافيّة الّتي نستجلبها عند أوّل مقابلة” وهي التصوّر “الّذي يحضرنا بشكل مثالي” عند التّفاعل مع أحدهم. وبالنّظر إلى وزن هذه الصّور عند أي لقاء تواصليّ، فإنّه من المنطقيّ أنّ المرأة المسلمة قد تعمد إلى توظيف «السجلّ» النّسوي الذي يمكّنها بأقصى فاعليّة ممكنة من إعادة تشكيل صورتها وفقا لما تتطلّبه منها المواجهة المحدّدة، وما رصدته من أهداف.
سعيت بشكل نشط، على ضوء فهمي وممارستي المتغيّرين للنّسويّة الإسلامية، إلى إعادة رسم صورة لنفسي من خلال استخدامي الحجاب بهدف تسهيل التّواصل مع الآخر. فعندما بدأت التحجّب باعتباري طالبة جامعيّة بالولايات المتّحدة، كان ذلك قرارا نسويًّا بمقدار ما هو دينيّ. وقد ظلّ كذلك إلى حدود الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001.
لقد غيّر هذا الحدث بشكل دراميّ خطابات الولايات المتّحدة الثّقافيّة حول الإسلام والمسلمين. وعانيت إثر ذلك من قطيعة متزايدة بين فهمي الذّاتي للحجاب بوصفه تمكينًا للمرأة، وتصوّر عام عنه بوصفه قامعًا، ودالاّ في الآن نفسه على الاصطفاف مع أشكال الإسلام المحافظة والمتطرّفة. وربّما شعرت بهذه القطيعة نساءُ محجّبات أخريات في الولايات المتّحدة. وعلى أيّة حال، فإنّ إحدى تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر طويلة المدى تمثّلت في كون عدد كبير من النّساء المسلمات اللّائي ارتدين الحجاب طويلًا قد توقّفن عن فعل ذلك في السّنوات الموالية. أمّا بالنّسبة إلي، فقد حانت تلك اللّحظة سنة 2006، حينما استحال الحجاب بشكل مفرط محدّدا لموقعي وصورتي الشّخصيّين. فالخوف الثّقافي من الإسلام والمسلمين، وطبيعة الحجاب المميّزة بشكل صارخ قلّصا من مساحة مناورتي الرّمزيّة ومن قدرتي على التّواصل النّافذ.
لقد توقّفت عن ارتداء الحجاب في جانب لأزيح الغطاء عن المزيد من مساحات الغموض. ومنذ ذلك الحين لم يزدد الفضاء الخطابي والرّمزي حول المسلمين إلاّ ضيقا. وعدم التّحجّب في سياقات مخصوصة مكّنني من الخروج عن الصّورة المنطبعة، ومن أن أنتقي بيسر أكبر الهويّة الأكثر فاعليّة في سياق محدّد، وأن أخرج بحرّيّة ودقّة أيّ سجلّ أفضّل من سجلّات النّسويّة الإسلاميّة.
إنّ غرضي من تقديم هذا المثال ليس الدّعوة إلى التّحجّب أو السّفور، والإيحاء بأنّ تجربتي مميّزة على نحو من الأنحاء، أو استنفاذ الطّرق التي يمكن أن تطبّق عليها مفاهيم كوك في النّقد المتعدّد والصّور المنطبعة. وإنّما أعني ببساطة أن أُبيّن كيف إنّ فكرة كوك عن النّسويّة الإسلاميّة من حيث هي استراتيجيّة أكثر من كونها هويّة كانت ناجحة فيما يخصّني، أنا باعتباري امرأة مسلمة محدّدة.
مراجع صاحبة المقال
Cooke, Miriam. 1997. Women and the War Story. Berkley: University of California Press.
ــــــــــــــــــــــــــــــ . 2001. Women Claim Islam. New York : Routledge.
مراجع التّعريب
المراجع بالعربيّة
ميريام كوك، يحي حقّي، تشريح مفكّر مصري، ترجمة خيري دومة، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط2. 2009.
ــــــــــــــــــ ، أصوات على هامش الحرب، كتابة المرأة عن الحرب الأهليّة في لبنان، ترجمة صلاح حزين، مراجعة سحر توفيق، المشروع القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2005.
ــــــــــــــــ ، النّساء يطالبن بإرث الإسلام، صياغة نسويّة إسلاميّة من خلال الأدب، ترجمة وتقديم رندة أبو بكر، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2015.
ـــــــــــــــ ، سورية الأخرى، صناعة الفنّ المعارض، ترجمة حازم نهار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدّوحة، قطر،ط1، 2018.
المراجع الأعجميّة
الكتب:
Azam, Hina. Sexual Violence in Maliki Legal Ideology: From Discursive Foundations to Classical Articulation, Duke University, 2007.
ـــــــــــــــــــــــ. Sexual Violation in Islamic Law: Substance, Evidence, and Procedure. Cambridge University Press, 2015.
Cooke, Miriam. Nazira Zeineddine: A Pioneer of Islamic Feminism (Oxford: Oneworld 2010).
المقالات:
Azam, Hina. The Ḥijāb at Cross-Purposes: Conflicting Models of the Erotic in Popular Islamic Advice Literature. Comparative Islamic Studies, 2009, vol. 5, no 1.
ـــــــــــــــــــــــــ. Competing Approaches to Rape in Islamic Law. Feminism, Law, and Religion, 2013, p. 327-341.
ــــــــــــــــــــــــ. Rape as a variant of fornication (Zinā) In islamic Law: An Examination of the Early Legal Reports. Journal of Law and Religion, 2013, vol. 28, no 2, p. 441-466.
ـــــــــــــــــــــــ.Sex, Marriage, and Eroticism in Contemporary Islamic Advice Literature, Journal of Middle East Women’s Studies, Vol. 9, No. 1 (Winter 2013), pp. 54-80.
ــــــــــــــــــــــــ. Islamic Feminism between Islam and Islamophobia, Journal of Middle East Women’s Studies. 14 :1, March 2018, pp124-128.
Cooke Miriam. Multiple Critique :Islamic Feminist Rhetorical Strategies , in Nepantla : Views from South, Duke University Press, Volume 1, n° 1, 2000
[1] – مصدر المقالة:
Azam, Hina. Islamic Feminism between Islam and Islamophobia, Journal of Middle East Women’s Studies. 14 :1, March 2018, pp124-128.
[2]– Cooke, Miriam. Nazira Zeineddine: A Pioneer of Islamic Feminism (Oxford: Oneworld 2010).
[3] – أضحت ميريام كوك اسما معروفا عربيّا. وهذا ما يفسّر تعريب عدد من كتبها، نذكر ههنا ما وصل إليه علمنا بها:
ميريام كوك، يحي حقّي، تشريح مفكّر مصري، ترجمة خيري دومة، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط2. 2009.
ــــــــــــــــــ ، أصوات على هامش الحرب، كتابة المرأة عن الحرب الأهليّة في لبنان، ترجمة صلاح حزين، مراجعة سحر توفيق، المشروع القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2005.
ــــــــــــــــ ، النّساء يطالبن بإرث الإسلام، صياغة نسويّة إسلاميّة من خلال الأدب، ترجمة وتقديم رندة أبو بكر، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2015.
ـــــــــــــــ ، سورية الأخرى، صناعة الفنّ المعارض، ترجمة حازم نهار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدّوحة، قطر،ط1، 2018.
[4]– Cooke, Miriam. Multiple Critique :Islamic Feminist Rhetorical Strategies , in Nepantla : Views from South, Duke University Press, Volume 1, n° 1, 2000, p93.
[5] – نُشرت أطروحتها في كتاب صدر في السّنة نفسها، انظر:
Azam, Hina. Sexual Violence in Maliki Legal Ideology: From Discursive Foundations to Classical Articulation, Duke University, 2007.
[6] – انظر :
Azam, Hina. Sexual Violation in Islamic Law: Substance, Evidence, and Procedure. Cambridge University Press, 2015.
[7] – بعض من عناوين هذه المقالات والفصول:
ــــــــــــــــــــــــــ . Competing Approaches to Rape in Islamic Law. Feminism, Law, and Religion, 2013, p. 327-341.
ـــــــــــــــــــــــ.The Ḥijāb at Cross-Purposes: Conflicting Models of the Erotic in Popular Islamic Advice Literature. Comparative Islamic Studies, 2009, vol. 5, no 1.
ــــــــــــــــــــــ.Rape as a variant of fornication (Zinā) Inislamic Law: An Examination of the Early Legal Reports. Journal of Law and Religion, 2013, vol. 28, no 2, p. 441-466.
ـــــــــــــــــــــ. Sex, Marriage, and Eroticism in Contemporary Islamic Advice Literature, Journal of Middle East Women’s Studies, Vol. 9, No. 1 (Winter 2013), pp. 54-80.
[8] انظر اشتغال كوك على أعمال يحيى حقّي مثلًا.
[9] . تقدّم العربيّة في تعريب مصطلح Mysogynist عبارة كاره النّساء. لكنّها في نظرنا لا تؤدّي عموم ما تؤدّيه اللّفظة الأعجميّة. لذلك احتفظنا بها لاسيما وقد صارت دارجة في الاستخدام. والميسوجيني صفة تطلق على الرّجل الّذي يحتقر المرأة ويحمل كراهيّة تجاهها. واشتقّت هذه الصّفة من كلمة misogynie في اللّسان الفرنسي وmisogyny في اللّسان الأنقليزي. وقد شاع استعمال هذا المصطلح مع ظهور النّظريّة النسويّة ضمن تصدّيها لفضح مظاهر التّمييز ضدّ المرأة وأشكال الاضطهاد المسلّطة عليها.
[10] – اقترحت رندة أبو بكر في تعريب Multiple critique عبارة «القراءة النّقديّة المتعدّدة الجوانب». انظر:
رندة أبو بكر (ترجمة وتقديم): النّساء يطالبن بإرث الإسلام، صياغة نسويّة إسلاميّة من خلال الأدب، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2015، ص159. وبدا لنا أنّ عبارة «النّقد المتعدّد» تؤدّي المعنى نفسه مع مزيّة الاختصار.
[11] – اختارت رندة أبو بكر في تعريبها لهذا المصطلح «الصّورة الانطباعيّة». وظنّنا أنّ صفة المنطبعة تضفي أكثر معنى الثّبات على هذه الصّور النّمطيّة التي نحملها عن المخاطَب. أمّا الانطباعيّة فتلتبس بمعنى الإحساس الأوّلي الذي يحمله إلينا التّواصل مع الغير.
انظر : رندة أبو بكر (ترجمة وتقديم): النّساء يطالبن بإرث الإسلام، ص175.