مقالات

الآفاق الكونية للكتابة النسوية الجزائرية – سعيد بوكرامي

الكاتبات الجزائريات باللغة الفرنسية من قيود التاريخ إلى الحرية الإنسانية

 

عندما نتحدث عن الكاتبات الجزائريات باللغة الفرنسية، سرعان ما ينبثق اسم الأديبة الراحلة اسيا جبار كنجم هائل يحجب معه أسماء الكاتبات الأخريات، خصوصًا حينما انتخبت عضوًا في الأكاديمية الفرنسية، وأصبحت قريبة من الفوز بنوبل للأدب باستمرار. صحيح أن الأدب النسوي الجزائري ظاهرة حديثة نسبيًا، ومرحلته الأولى تبدأ زمنيًا من 1945 وتمتد حتى 1970 وتمثله اثنتان أو ثلاث كاتبات، أكدن موهبتهن في الثمانينيات ثم تألقن في العقد التالي، لكن مع بداية القرن الحادي والعشرين، ظهرت كاتبات متميزات باللغات الثلاث، العربية والفرنسية والأمازيغية. وقد اخترت في هذه المقالة التركيز على الأدب المكتوب باللغة الفرنسية الذي يضم كاتبات جزائريات لا يعرفهم القارئ العربي؛ لأن أغلبهن لم يترجمن إلى اللغة العربية.

أول كاتبة تتبادر للذهن بمصيرها التراجيدي الفريد هي بطبيعة الحال إيزابيل إيبرهارت، التي عرفت بشخصيتها الاستثنائية وكتاباتها المثيرة. ولدت في عام 1877 بجنيف من أم روسية وأب يزعمون أنه ألكسندر تروفيموفسكي وآخرون يقولون إنه الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو. قلت مصيرًا فريدًا لأنها ماتت بطريقة تراجيدية غريقة في واد “عين الصفرا” بالجزائر عام 1904 عن عمر لم يتجاوز السابعة والعشرين. تميزت هذه الحياة القصيرة بطابع الأصالة والسعي الحقيقي لاكتشاف الذات. في غضون عشر سنوات، كتبت إيزابيل العديد من النصوص: كتابات حميمة هي عبارة عن رسائل ويوميات، وروايات وقصص قصيرة وكتابات صحفية عن أحداث وتقارير عاشتها خلال رحلاتها.

ويتضح ذلك الآن بعد الطبعة الجديدة لأعمالها لدى الناشرة جويل لوسفيلد، والتي سحر إنجازها باحثان متحمسان لمصير وأعمال إيزابيل، هما جان رينيه هولو وماري أوديل دولاكور، اللذان ساعدا على إلقاء نظرة شاملة على إقامتها في الجزائر. كما قدما لوحة بألوان متنوعة عن كتاباتها وكشفا أيضا الجانب الصوفي الأصيل الذي يقدم نظرة متعاطفة وخاصة نحو الإسلام والمسلمين: من خلال كتابات حميمة وشفافة تجاه البدو البسطاء، والرمال والصحراء والآفاق العظيمة التي جعلت من حياتها وكتابتها أسطورة أدبية.

أما الكاتبة الثانية المقترحة فهي إليسا الرّايس، هذا هو الاسم المستعار الذي اعتمدته روزين بومنديل التي ولدت في البليدة عام 1876 من أب عربي وأم يهودية، وتوفيت في عام 1940. اكتشفت موهبتها الحكواتية، فوظفتها في الكتابة ونشر قصص قصيرة في مجلة العالمين كما نشرت روايات لدى الناشر بلون بحيث لقيت استحسانًا حقيقيًا من القارئ. واليوم تعيد دار بوشين طباعة ثلاث كتب شهيرة لها منها “سعدا المغربية”، الرواية صدرت في عام 1919، والرواية التي صدرت في نحو ثلاثين طبعة “المقهى الغناء”، و”ابنة الباشا”، الرواية التي يرجع تاريخها إلى عام 1922.

إن قصص إليسا الرايس تهيمن عليها عاطفة الحب وشلالات من المشاعر الإنسانية: بالنسبة إليها الحب ضروري، لكن تحقيقه مستحيل دائمًا، مما يثير مشاعر الغيرة وغريزة التملك ويترجم إلى مشاعر مضطربة. حاولت إليسا سبر الدوائر الاجتماعية التقليدية اليهودية والإسلامية، بأسلوب يوظف الكليشيهات السائدة عند المستشرقين عن شرق غامض، وفاتن مترع بالعطور والبخور والمخمل والحرير والباحات والحدائق .

بعد ذلك ظهر نجم آسيا جبار (1936-2015) واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء إملحايين. نشرت آسيا في وقت مبكر أي في عام 1957 روايتها الأولى “العطش” وعمرها عشرون سنة فقط. معلنةً بذلك عن ميلاد موهبة فذة. وانطلاقا من عام 1957 إلى روايتها الأخيرة “في لامكان من منزل أبي” الصادر عن دار لافيارد في عام 2007. فرضت آسيا جبار نفسها كوجه أدبي قوي في مسار الكتابة النسائية في الجزائر والمغرب العربي. بالإضافة إلى ذلك الأهمية القصوى التي تمنحها الكاتبة للمرأة كموضوع عن الشرخ الإنساني عامة، والشعور بالشرخ اللغوي خاصة بحيث جعلت من (فقدان اللغة “الأصلية”، والكتابة باللغة الفرنسية) واحدًا من الجوانب القوية في كتاباتها. ومن بين هذه الجوانب العلاقة الجريحة بين التاريخ وبصفة خاصة العلاقة بالفترة الاستعمارية ومقاومة الاستعمار. يتميز أدبها، بالنخبوية، والغموض اللغوي، لكنه أكثر إتقانًا وتحكمًا في اللغة والسرد. فقد كانت كتابتها، لفترة طويلة، الممثل الوحيد للأدب الجزائري في المحافل الأدبية العالمية. مما جعلها تحظى بإشعاع عالمي مكنّها من أن تكون اسمًا حاضرًا بقوة في اللائحة القصيرة لجائزة نوبل للأدب، لكن بالمقابل فقد تسبب ذلك في تهميش الكثير من التجارب النسوية الأخرى.

كتابات جديدة بأفق كوني

طوال الحرب الجزائرية، ما بين 1954 و1962، كتبت الجزائريات العديد من النصوص، كانت في معظمها دواوين شعرية مخطوطة لكنها لم تنشر. وبعد الاستقلال سيتعرف القراء على مجموعتين شعريتين لقيتا انتشارًا جيدًا وهما “أمل وكلمة” صدرت في عام 1963، لدينيس بارات ضمن منشورات سيفيرز، وفي عام 1965، ظهرت مجموعة “الديوان الجزائري” لجمال الدين بنشيخ وجاكلين ليفي فالنسي ضمن منشورات هاشيت. هذان العملان يعكسان فضاء من الفظاعة المخضبة بصور الأشخاص المشوهين نتيجة الحرب، تتعالى منها صرخات الكراهية أو الحب أو العنف المرعب، أو التمرد، أو الالتزام التام بالأمل في المستقبل. في بعض الأحيان، يتحول الشاعر إلى مقاتل.. كتبت القصائد بأسلوب غنائي، وعبارات عاطفية، تستدعي الحرب الجزائرية، والثورة الجزائرية، ونتائجها القاسية. ومن بين الأسماء التي فرضت وجودها: أنّا غريكي وليلى جبالي وجميلة عمران وزهور زيراري ويامنة ميشكارة (1949- 2013) هذه الأخيرة ستبرز بشكل ملفت بروايتها ” المغارة المنفجرة”.

ما بين 1967 وهذه الرواية ورواية ” القبرات الساذجة ” الصادرة عام 1979، ساد صمت طويل للأصوات النسوية وكأنهن دخلن مرحلة من النقد الذاتي لمشاريعن الأدبية. وربما هذا ما يفسر النجاح المقبل، فيما يتعلق بأدائهن الأدبي والجمالي، في الكتابة “الروائية” مثل رواية “خادرة اليرقة” لعائشة ليمسين، وبديعة بشير صاحبة رواية ” فيضان الوادي” التي نشرت في عام 1979 ضمن دار المئوية في باريس. لكن النهر الجديد للكتابة النسائية سيتدفق عذبًا مع رغبة الكاتبات الجزائريات عدم البقاء في هذه الفترة. وكأنهن محجوزات داخل ذاكرة حرب التحرير وتداعياتها. لهذا ستهتم الكاتبات بمجتمعهن الراهن من خلال عزمهن على قراءة واقع وطنهن من خلال وعيهن بضرورة توظيف خيال روائي مغاير والانفتاح على موضوعات انسانية حميمية. وقد أتت المبادرة من الكاتبة “فضيلة مرابط”. وسيعرف هذا التيار انطلاقته مع الرواية الأولى للكاتبة “حواء جبالي” في الثمانينيات التي وضعت قطيعة مع الحرب وتداعياتها. ويمكن الاطلاع على تجربتها ضمن منشورات دار الاختلاف الفرنسية عامة وروايتها الملفتة ” الياسمين الأسود” الصادرة عام 2013 خاصة.

في نهاية الثمانينيات ومع بداية التسعينيات ستبرز روائية متميزة وهي “مليكة مقدم” المزدادة بالجزائر عام 1949. كانت روايتها الأولى “الرجال المشاؤون” التي انتهت من كتابتها عام 1989 قد وجدت ناشرة تحمست لها عام 1990 فقدمتها ضمن سلسلتها، وسرعان ما عرفت الرواية استقبالاً حارًا من القراء والنقاد. مما دفع ناشرين آخرين إلى طلب أعمالها. في 1999 نشرت رواية “نزيد” أي “أذهب” لدى دار “سوي” الفرنسية المرموقة. رواية عن امرأة تدعى “نورا” وجدت نفسها على متن قارب في عرض بحر الأبيض المتوسط. ستعيش حالة من فقدان الذاكرة وكلما تذكرت شيئا كانت الصور التي تتجسد أمامها مثخنة بالعنف ومن بين أهم أمثلته قتل صديقيها: جان وجميل أمام عينيها.

تمزيق شرنقة العادات والتقاليد والسياسة

منذ روايتها الأولى ” في البدء كان البحر” التي صدرت عام 1996 وأعيدت طباعتها عام 2003 لم تتوقف الكاتبة “ميساء باي” عن استكشاف حيوات النساء الجزائريات مثل بطلة روايتها الأخيرة، “هيزيا”، التي مارست جرأتها إلى النهاية ودفعت مقابلها ثمنًا باهظا. في عام 2001، كتبت رواية متعددة الأصوات، ودائما عن الفئات المحرومة والأرواح المحطمة، والأصوات المختلفة والمصائر المذهلة. في رواياتها الثلاث تضع الكاتبة فتياتٍ ونساءً في تجربة البحث عن الذات، وبطرق مبتكرة وجريئة لتمزيق شرنقة العادات والتقاليد والسياسة. إذا نظرنا إلى روايتها المميزة “أزرق أبيض أخضر” التي صدرت عام 2006 سنجد الكاتبة قد وضعت صوتين متوازيين (رجل -امرأة) لاستعراض عشرين سنة من استقلال الجزائر. وفي سنة 2010 أصدرت رواية “مادام قلبي قد مات” التي تحكي عن أم تعمل أستاذة للغة الانجليزية، لكنها تعيش محطمة كليًا بسبب مقتل ابنها من طرف أحد الإرهابيين.

كانت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد سنوات صعبة بالنسبة للجزائر. فارتفع تحدي الكاتبات المتمثل في الوجود الثقافي في بلدٍ يعاني من العنف والموت والنفي. هذا هو الحال بالنسبة للكاتبة “هاجر بالي” – اسم مستعار لجليلة قاضي-حنفي ( المزدادة عام 1961 ) – و التي أسست جمعية ثقافية فاعلة وفي ظروف سياسية صعبة، تحت اسم “الشرنقة”، بادرت إلى تنظيم قراءات أدبية واجتماعات ثقافية و تأسيس مختبر للمسرح ونادٍ للسينما. وبهذا ارتفعت دينامية مشاركة الكاتبات في المشهد الثقافي الجزائري ممهدة الطريقة لكاتبات شابات وواعدات.

مواهب وجوائز ومستقبل واعد

ننهي هذه البانوراما بالكاتبة الشابة الواعدة كوثر أديمي ( المزدادة عام 1986) التي يعتبرها الكثيرون أمل الأدب النسوي الجزائري إلى مزيد من العالمية. قبل ست سنوات، وقّعت كوثر دخولًا أدبيًا ملفتا؛ ففي عام 2010 نشرت دار برزخ روايتها الأولى “بالرينات بابيتشا “، التي لاقت سريعًا اهتمامًا في الأوساط الثقافية الجزائرية. وأعيد إصدارها من قبل دار أكت سود الفرنسية في عام 2011، تحت عنوان مغاير:” عكس الآخرين”. الرواية ساخرة ومستفزة، عن واقع مضحك ومأساوي لعائلة جزائرية على حافة الجنون. ومنذ استقرارها في فرنسا لاقت رواياتها استحسانًا نقديًا وإقبالاً قرائيًا. مؤخرًا أدرجت روايتها ” ثرواتنا” 2017 ضمن لائحة جائزة الغونكور، ورغم أنها لم تفز إلا أنها ظفرت بجائزة رونودو المرموقة.

ويبدو أن الكاتبات الجزائريات القادمات بقوة مثل ليلى عسلاوي، فاطمة بخاي، نصيرة بلولة، عائشة بوعابسي، ياميلي غبالو، سارة حيدر، ليلى حموتين… قد بدأن من “النقطة الصفر” مراهنين على أدب جديد يتخلص تدريجيًا من عبء تاريخ المقاومة، والإيديلوجيا السياسية واللغوية، بل أصبح أكثر تحررا من قيود التابوهات. أدب ناشئ يخوض بجرأة مساحات جديدة، متألقا باستمرار مع حصوله على جوائز عالمية، تبوؤه مكانة مرموقة وحضورًا متميزًا لدى القراء والناشرين والمترجمين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى