(سلسلة مقالات يكتبها البروفسور جون سيمونز لمنصة معنى)
إنّ البحث الفلسفي يمكن أن يكون واحدًا من أعظم مُتع الحياة، ومع ذلك فلا مفرّ من الرزوح -أحيانًا- تحت وطأة الأسئلة الفلسفية الملحّة؛ رزوحًا ثقيلًا مزعجًا. حيث تُقدّم الأسئلة الفلسفية نفسها -أحيانًا- بوصفها ضربًا من ضروب اللعنة المقلقة؛ فلا مناص من التفكير فيها، وقد تبدو مع ذلك مستعصيةً على الحلِّ؛ حلًا مباشرًا وبسيطًا، كما أنها قد تترك أثرًا مزلزلًا في الحياة العادية. إننا -بطبيعة الحال- نهتم بالأسئلة الكبرى؛ أعني أسئلة القيمة ومعنى الحياة، وفيما لو كانت المعرفة ممكنةً أم لا، وعن شكل الحياة التي ينبغي علينا أن نعيشها؛ والإجابة عن هذه الأسئلة ثمينة ومهمة، والاهتمام بها قد يُقلق الإنسان المُتفكّر. فقد رأى الفيلسوف النمساوي العظيم، فتغنشتاين، أن أفضل طرق التعامل مع القلق الفلسفي يكون عبر ضرب من العلاج الفلسفي؛ حيث أخذ فتغنشتاين قلقه الفلسفي مأخذ الجد؛ وهو قلقٌ قد طارده في حياته الشخصية كما يبدو؛ إذ آمن بأن أهم مَهمة ينبغي أن يضطلع بها الفيلسوف هي معالجة قلق الأسئلة الفلسفيّة.
يُمكن ملاحظة أن فتغنشتاين قد دافع في كتاباته عن رؤيته القائلة بأن المشاكل الوجودية ناتجة عن نزوعنا إلى إساءة فهم كيفية عمل لغتنا العادية؛ فبحسب فتغنشتاين، فإنّ اللغةَ مُضَلِّلَة. ولكنه اعتقد مع ذلك بأن علاجَ قلق الأسئلة الفلسفية كامنٌ في اللغة نفسِها؛ إذ يتضمن العلاج الفلسفي استعمال الكلمات، وذلك عَبر إعادة توجية انتباهنا توجيهًا ذكيًا نحو عمل الكلمات في حياتنا العادية. حيث يصف فتغنشتاين مشروعه بما يلي:
«عندما يستعمل الفلاسفة لفظةً ما، «معرفة»، «وجود»، «شيء»، «أنا»، «قضية»، «اسم»، ويسعون جاهدين إلى إدراك جوهر الشيء، علينا أن نتساءل دائمًا: هل هذه اللفظة تُستعمل فعلًا بهذا التأويل [الحرفيّ] في لُعبةِ أهلِ هذه اللّغة؟
نحن من يحوّل الألفاظ من استعمالها الماورائي إلى استعمالها اليومي.»
[تحقيقات فلسفية، لودفيك فتغنشتاين، ترجمة: عبد الرزّاق بنّور. بتصرف]
إنّ مفاد رؤية فتغنشتاين هو أنه ينبغي علينا أن نَحول دون اختطاف الفلاسفة لمصطلحات لغتنا بقصد استعمالها -كما يرى- في أهدافهم المُضللة، وإنما ينبغي علينا أن نوجّه انتباهنا إلى طريقة اشتغال اللغة على الكلمات حين تعمل فيما ينبغي عليها أن تعمل. وفي عبارة حبلى بالتأويلات ومشهورة من التحقيقات الفلسفية، كتب قائلًا:
Die Philosophie ist ein Kampf gegen die Verhexung unsres Verstandes durch die Mittel unserer Sprache. § 109
«إنّ الفلسفة هي مقاومة فتنة تفكيرنا [أو ذكائنا] بواسطة لغتنا (الشذرة 109).»
فإن اللغةَ بحسب فتغنشتاين أُسُّ مشكلتِنا ووسيلة شفائنا، في آن. وفي كتابه الأخير هذا، دافع فتغنشتاين دفاعًا واضحًا عن رؤية أن الفلسفةَ نمطٌ من أنماطِ العلاج، ولن يعوزنا العلاج إلا حين تكون الفلسفة نفسها هي العلّة؛ فالفلسفة شفاءُ مرض التساؤلات الفلسفية. ولكن هل كان فتغنشتاين محقًا حين عدّ التساؤل الفلسفي مرضًا؟ لا شك بأن الفلسفة أحيانًا تتسبب في المتاعب، وحين نضع العلاج في عين الاعتبار، نستطيع أن ندرك أحيانًا أن المشاكل الفلسفية قد تؤثر حتى على علاقتك بأمك.
ونرى ذلك في فيلم آني هال (1977)؛ إذ يقدّم لنا المخرج وودي آلان مشهدًا نرى فيه الأم مع الصبي آلفي سينغر (ولعله نسخة من وودي آلان في طفولته) حين أخذته إلى محلل نفسي. وتَأمُل السيدة سينغر أن يعالج المحلل النفسي طفلها من قلقه الفلسفي المزعج:
- الدكتور فليكر: لماذا أنت مكتئب يا آلفي؟
- السيدة سينغر: كَلِّم الدكتور فليكر. يتعلق الأمر بشيء قد قرأه.
- الدكتور فليكر: شيء قرأته، ها؟
- آلفي سينغر: الكون يتمدد.
- الدكتور فليكر: الكون يتمدد؟
- آلفي سينغر: حسنًا، إن الكون كل شيء، وإن كان الكون يتمدد؛ فيومًا ما سوف يتحطم، وسيكون ذلك نهاية كل شيء.
- السيدة سينغر: وما شأنك أنت بذلك؟ لقد توقف عن إنجاز واجباته المدرسية.
- آلفي سينغر: وما الفائدة؟
- السيدة سينغر: وما علاقة الكون بهذا! أنت هنا، في بروكلين، وبروكلين لا تتمدد.
- الدكتور فليكر: لن يتمدد إلا بعد مليارات السنين يا آلفي، وينبغي علينا أن نحاول أن نمتّع أنفسنا بينما ما زلنا هنا. ها؟ ها؟ ها؟ [يضحك]
يُمكنكم رؤية هذا المشهد من الفيلم على هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=5U1-OmAICpU
ترى والدة آلفي أن الحياة مستمرةٌ في بروكلين، وأن العالم لا يتمدد (على الأقل، ليس في أي إطار زمني يتعلق بحياتنا)، وأنه يجب إنجاز الواجبات المدرسية. بينما الطفل آلفي، في المقابل، غمَّهُ سؤالٌ من الأسئلة الفلسفية الكبرى، وبحسب وجهة نظر فتغنشتاين، فإن تفكير آلفي قد فتنته اللغة وضللته؛ فحين نطرح سؤال «ما الفائدة؟» في الحياة العادية فإننا نروم مقصدًا ضاربًا في العاديّة، وموغلًا في العمليّة؛ كأنْ يُحادثنا شخصٌ ما فترةً طويلة، فلا نسمع إلا ثرثرةً وكلامًا مملًا، ونودّ أن يقول لنا لُب رسالته: ما الذي تريد أن تصل إليه؟ ما الفائدة؟ ولكن حين نسأل «ما فائدة إنجاز الواجبات المدرسية؟» فهو سؤال مختلف؛ ففي هذه الحالة نتساءل عن مسوغات أو دواعي العمل، ومع ذلك، فمثل هذه الحالات لها إجابات واضحة وفي غاية المعقولية؛ إذ يقول الوالدان لصغارهما: إنّ عليهم أن ينجزوا واجباتهم المدرسية من أجل التعليم، أو من أجل النجاح في المادة. وقد يسأل الطفل بعدها عن سبب الحاجة إلى النجاح في المادة، فيجيب الوالدان بإجابات معقولة، مثل: يحتاج المرء إلى اجتياز المادة، ويحتاج اجتياز المادة لكي يتخرج من المدرسة ويتوظّف، ويحتاج الوظيفة لكي يدفع أجار منزله ومصروفاته، إلخ، ولكن في كل خطوة من سلسلة التسويغ هذه قد يسأل المرء: ما الفائدة؟ فاللغة تسمح لنا بأن نسأل «ما الفائدة؟» دون زمام ولا خطام؛ إذ في وسعنا دائمًا أن نسأل عن الأسباب، وبحسب فتغنشتاين، فهذه هي خصيصة المعادلة البسيطة لـ«ما الفائدة؟». إذن، من منظور فتغنشتاين وأُم آلفي، فإنّ سؤال آلفي غير مشروع، وهو سؤال لا يعنيه. كما أن السؤال الكبير الذي عشْعَش في باله يحمل ميزةَ أنْ يكون عذرًا لتجنّبِ إنجاز الواجبات المدرسيّة: فمن منظور العالم أجمع، يتساءل، ما الفائدة من حل واجباتي؟ يوجد جانبٌ من آلفي سينغر في كل واحدٍ منا؛ إذ يعتقد من يفكر ويبدو بأنه يطرح أسئلة فلسفية؛ كيف ينبغي أن أعيش؟ ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب أن أهتم به؟ ما هو الحقيقي؟ ما فائدة كل هذا؟ ويصعب تصوّر شخص يستحق أن نتجاذب معه أطراف الحديث لمدة خمس دقائق وهو محصّن تحصينًا تامًا من قوة هذه الأسئلة.
يبدو أن قلق آلفي الوجودي جعله مكتئبًا، واهتمامه بالأسئلة الكبرى قدّم له أعذارًا كبرى لتجنب أداء واجباته المنزلية، ولكن في نفس الوقت، آلفي ليس مخطئًا تمامًا. إذ إنّ معرفتنا بأن الحياة والكون المادي قد قُدّر عليهما أن ينتهيا تبدو بأنها معرفةٌ تهمنا، وسؤال أهميّتها من عدمه هو ذاته سؤالٌ فلسفي. هل ينبغي أن تؤثر فكرة أن الكون كله، وحيواتنا، محدودة على الكيفية التي نهتم بها بالأشخاص، والأشياء، والواجبات المنزلية، وغيرها من المشاريع؟ كيف ينبغي علينا أن نقارب أسئلةً فلسفيةً كالتي طرحها آلفي الصغير؟ هل ينبغي علينا أن نعاملها كما نعامل سؤالًا علميًا؟ أم هل توجد طُرق أخرى نفكر بواسطتها بهذه الأسئلة؟
لنأخذ، مثلًا، الرياضيات والشِّعر بديلًا عن العلم. إذ يُعد اشتغال الفيلسوف، من عدّة جوانب، أقرب للرياضيات والشعر منه للعلوم الطبيعية؛ فلو تأملنا البحث الرياضي، سنجد بأن الرياضيين، مثل علماء الطبيعة، يحلّون أسئلة صعبة، ويقدّمون اكتشافات لافتة للنظر ومفيدة من حين إلى آخر بفضل ذكائهم وحُكِمهم القائم على تعليمهم. ولكنّ الرياضيين لا يحتاجون إلى معدات مختبر باهظة الثمن، أو فرقٍ عملاقة من طلاب الدراسات العليا يشتغلون عليها؛ فكل ما يحتاجه الرياضي هو متسع من الوقت، ومكتب، وورقة، وقلم، وسلة نفايات. إن الرياضيات رخيصة، لكن سنفقد جانبًا معتبرًا من العلوم والهندسة لو لم توجد الرياضيات. والفلسفة تخصصٌ أرخص من الرياضيات؛ فبحسب تلك النكتة القديمة (والمجحفة)، نحن الفلاسفة لا نحتاج إلى سلة نفايات. ولكننا نحن الفلاسفة، مثل الرياضيين، نشتغل على أسئلة أساسية لحقول بحثية أخرى؛ إذ إننا نطرح أسئلة كبرى نجدها -على نحو مفاجئ- ذات معنى وفائدة في نهاية المطاف. إنّ العلم الطبيعي يعتمد على مفاهيم مثل مفهوم السببية، لكن ما عسى تفسيرًا علميًا عن السببية أن يكون؟ من المستبعد أن يُقدّم تفسيرًا علميًا لمثل هذه المفاهيم.
وبدلًا من الضحك على الطفل آلفي سينغر، أو أن نقول له بأنه «ينبغي علينا أن نحاول أن نمتّع أنفسنا بينما ما زلنا هنا»؛ فإن الفيلسوف يأخذ أسئلته مأخذ الجد؛ فثمة مسوغ لرغبة الفيلسوف في أن يقول لآلفي ما قد يُعد الفائدة الكبرى -إنْ وجدتْ- من إنجاز واجباته المدرسية. وعلى أقل تقدير، فإن الفيلسوف لن يتجنب السؤال أو يضعه جانبًا بضحكةٍ منه. إنّ أم آلفي محقة في قولها: إنّ تمدد الكون ليس من ضمن الأمور التي ينبغي أن تشغل بال طفل في بروكلين لا حول له ولا قوة في فعل شيء بشأنه، ولكنها مخطئةٌ في إنكارِ أن الاهتمامات غير العملية ذات مغزى ولها مسوغ ومعنى. وعلى نحو مماثل، أخالُ أنَّ رؤيةَ فتغنشتاين -التي مفادها أن الفلسفة يحرّكها فتنة تفكيرنا بواسطة اللغة- نظرة مضللة وليست دقيقة. ومع ذلك فإن فتغنشتاين قد قدّم لنا -إنْ تجوّزنا في القول- تفسيرًا عن أصلِ اهتماماتنا الفلسفية. كما قد يكون صحيحًا أن ما يدفع الطفل آلفي إلى طرح سؤال ما الفائدة النهائية من القيام بأي شيء هو رغبته في تجنّب واجباته المنزليّة، ولكن مع ذلك، كون سؤاله نابعًا من كسله لا يستلزم بالضرورة بأنه ليس سؤالًا ذا مغزى. وسأحاول في المقالات القادمة أن أُبيّن ما عسى إجابةً عن سؤال «ما الفائدة؟» أن تكون.