بيتر بان بين المأساة والخيال – هيڤي عمّار
تتطرق الكاتبة ، عبر قصة بيتر بان ، إلى ما قد يخفيه بريق الخيال وسحره الجميل من حزنٍ وبؤس.

لعلّنا نتذكر جميعنا تلك الحكايات الخيالية التي طبعت طفولة معظمنا، فقد تعرفنا من خلالها على عوالم ساحرة ومتنوعة، مكنتنا، في أكثر من حكاية من التحليق طويلا بين سماواتها. تبقى في الحقيقة عذبةً طالما احتفظنا بتمثلاتنا عنها ونحن صغار، لكن ما أن تنقشع عنها هالة الطفولة، حتى نكتشف وجهها الآخر، لنجد أنفسنا أمام مداخل متاهات أيديولوجية عديدة ودلالاتٍ مسكوت عنها. يمكن أن أعبّر عنها، بالمقولة التالية: ” إن عالم القصص الخيالية يبدو مليئًا بالنجوم ولكن خلف تلك النجوم سماءً معتمة مليئة بأجرام ميتة”.
في هذا السياق نستحضر، عددًا من الحكايات الخيالية، على سبيل المثال لا الحصر: سندريلا، أليس في بلاد العجائب، الجميلة والوحش، أطفال الماء، طرزان، جبل العجائب، وغيرها. تلك الحكايات كان لها، بلاشك، تأثير كبير على طفولتنا سواء كانت ورقية أو معروضة على وسائط مرئية. تحمل هذه الحكايات كلها كمًا هائلاً من الرسائل والأسئلة التي تحتاج إلى تفسير وتفكيك لألغازها الوفيرة، بل إن بعضها مترعٌ بالرعب.
وفي هذا الصدد كثيرًا ما تشغل تفكيري حكاية بيتر بان، كأحد أكثر الحكايات إثارة للجدل، والتي تحمل وراء تلك الأحلام كلها عالمًا مظلمًا وحكايةً بائسة. فما أن تشرع بقراءتها حتى تشعر بأنك في دوامة من ضحكات أطفال، بينما الحقيقة الكامنة في داخلها كفيلة بأن تجعلك تتساءل عن كيفية تحوير حكايات الأطفال بشكل يخفي عنا حقيقتها المتمثلة في طابعها السوداويّ، المطبوع بفكرة الموت والفقد والضياع الأبدي، الذي يجعل المرء يعيش في دوامة نفسية.
نحن متآلفون، في الأغلب، مع اسم بيتر بان، سواءً من خلال أفلامه العديدة التي صنعتها شركة ديزني أو غيرها أو بواسطة الروايات التي كان بطلها. ظهرت أول حكاية لبيتر بان عام 1904 وكان مؤلفها هو جيمس ماثيو باري، ثم اشتهرت كمسرحية. هي أقرب تصنيفًا لمسرح الحقبة الإدواردية والفيكتورية. حيث أن بيتربان تظهر مزيجًا من قصص المغامرات في بداية القرن التاسع عشر، شبيهة بجزيرة الكنز وروبينسون كروزو وأطفال الماء وحكايا الهنود الحمر، لذلك كان إخراج مسرحية بيتر بان أمرًا معقدًا، حيث احتاجت لمؤثرات وديكورات ضخمة مثل مشهد منزل ويندي أو مشهد بيتر بان وهو يطير، وبالرغم من ذلك لا تزال إرثًا ثقافيًا وكنزًا أدبيًا في عالم أدب الأطفال وقصصهم.
تستمد القصة جذورها من تاريخ الكاتب الشخصي، حيث أنها تشبه إلى حد كبير تمثلات حياته من خلال فكر خيالي، يستند فيها على خيال من الأحلام المفقودة والضائعة. ولد الكاتب في أسرة أسكتلندية فقدت طفلها المفضل؛ مما أفقد أمه صوابها، وكردّ فعلٍ من باري ليساعد أمه بدأ يتقمص شخصية شقيقه ويحاكيها، لكنه كان يشعر أن أعصابه تُنهَك كلما سمع حديث أمه المتكرر حول عدم قلقها على ديفيد شقيقه المتوفي، لأنه سيبقى في نظرها طفلاً للأبد. كان لموت شقيقه تأثيرًا جسيمًا عليه وعلى حياته، حيث أن أغلب أمور حياته الشخصية تشكلت في وقت مبكر بناءً على هذه التجربة المريرة في الصغر.
استمرت معاناة باري بعد زواجه الفاشل، لكنه وجد عزاءه وسلوته في أطفال صديقه دافيس، فبدأ الكتابة عنهم، كتبت صروف القدر وفادة والد هؤلاء الأطفال مبكرًا، فقرر باري التقدم لوالدتهم، لكن صروف القدر أيضًا اختطفت الأم، مما جعله وصيًا على خمسة أطفال لتستمر مأساته التراجيدية. كان مصير الأطفال مؤسفًا، خصوصا المسمى بيتر الذي مات منتحراً إثر تداعيات السخرية التي حصدها عقب شهرة الرواية.
إذا حاولنا التعمق في تاريخ الكاتب الشخصي سنلاحظ أن أغلب شخوص الرواية مستمدة من واقعه، حيث أن الأمر يبدو – من منظوري الخاص – أشبه بمحاولة لتخليد مأساة تحت غلافٍ لامع، حتى أن شخصية ويندي في الحقيقة هي شخصية ابنة صديقه التي كانت تنادي اسمه كفيندي مستمدة التسمية بطريقة طفولية من كلمة Frind الإنجليزية؛ لذا أطلق عليها إسم: باري بويندي.
من جهة يبدو لي أن محاولة باري جعل غموض وظلام نيفرلاند وبيتر مخبئاً تحت ستارة مليئة بغبار الجنيات والمغامرات والكثير من الأحلام أشبه ما يكون بمحاولة إثبات أن الطفولة قد تكون كابوسًا وليست ذكرى مشرقة دائماً، وهذا يظهر جليًا في تفاصيل مراحل طفولته، حيث أن باري كشخص يبدو كمن علق -من أجل والدته- في تلك المرحلة المبكرة، لكنه حينما أصبح يتعامل معها بكل إخلاص حبًا في الأطفال من حوله لاقوا جميعاً حتفهم مبكرًا. وهذا يبرهن لنا حجم البؤس الذي قد يتوارى خلف بعض الفترات تحت سياق وأفكار نمطية عن مرحلة عمرية، كمرحلة الطفولة.
من جهة أخرى، أرى أنه حاول إثبات أن تحكّم الكبار في الصغار يدفعهم إلى التمرد، أو تقييدهم، حيث يشير بعض النقاد أن تقييد باري قد تجسّد من خلال رغبته في تقليد شقيقه؛ إثر الضغط النفسي الذي مارسه عليه الشعور بالفقد، وحالة الحزن التي اجتاحت أمه، فقد تكوّنت لديه حالة نفسية ما في سياق الحكاية، تسمى بعبادة الأم، وهو ما يظهر في الرواية من خلال تعلق الصغار ويندي ومايكل وجون بأمهم وحبهم لها.
ومن هنا، يمكن الحديث عن ذلك الجانب المربك الذي يبدو أشبه بالفصام، ويتجلى في أن باري نفسه كان متحاملاً على طفولته البائسة، إلا أنه لم يتقبل فكرة البلوغ تمامًا، فحين نقترب سنرى أن أكثر ما يصعب تقبله بالنسبة لبيتر هو مواجهته لحقيقة مرعبة تتمثل في رفضه الخروج من مرحلة الطفولة وعوالمها السحرية، لهذا نراه يريد البقاء كما هو منغمسًا بين اللهو واللعب، كما يشاء. أرى أن باري قد علق في نقمة، إنه يرى أن البالغين قد يقيدون الطفل بقيد نفسي من خلال حبهم له ورغبتهم بتكوينه في مرحلة النضج، وهو نفسه لم يتقبل فكرة أن يصبح بالغاً. وأحد أكثر ما يعزز فكرة نقمة باري من خلال بيتر هو تلك النظرية التي تقول إن الأطفال الضائعين كانوا يقتلون على يد بيتر ما إن يكبروا، وهذا هو ما يجعل عددهم يتغير في كل مرة.
وواضحٌ إن الصراع بين البلوغ والطفولة لدى بيتر جلي من الناحية الجنسية أيضاً، حينما نرى بيتر يلهو هنا وهناك نلاحظ أيضا أن الحوريات يحاولن ملاطفته دائماً ولكن ردود فعله تظهر كمجرد مداعبات صغار، بالرغم من أن الأمر في الجوهر صراع جنسي بين الجسد وتحولاته الفيزيولوجية، ولكي نستوعب احتياجاته الجنسية اتجاه الجنس الآخر. نسترشد هنا بسيغموند فرويد، حيث إن اللاوعي في الطفولة هو ذلك التاريخ الذي يكوّننا، أو هو مكوّن تاريخنا الشخصي، ويرى أن تلك الحدود الفاصلة التي تحول بين الطفل واكتشاف الرغبة. ومن وجهة نظري أرى أن ارتباط فكرة اللاوعي بالطفولة ظاهرة للغاية في بيتر بان، حيث أن طيش بيتر وتجاهله لفكرة البلوغ تحول بينه وبين الوعي لاحقًا في تكوين تاريخ خاص به. ونشير هنا إلى مفارقة تكمن في أن الكابتن هوك يمثل الوعي، حيث أنه يعلم ما يريد من الناحية الجنسية على عكس بيتر الذي يتحكم فيه اللاوعي ويقود خطواته.
في النهاية، إن أمعنّا النظر في قصص الأطفال والحكايات الخيالية التي لها ارتباط وثيق بذكرياتنا. سنجد أنفسنا أمام سيلٍ من الحقائق التي قد تصدمنا، كما أننا سنرى أنفسنا أمام أسرارٍ كثيرة للكتاب والروائيين الذين كتبوها لنا، وكما يذكر الناقد “بيتر هنت” فإن خلو قصة من الفكر الشخصي أو الأيديولوجي يكاد يكون أمرًا معدومًا، لأن ارتباط الإنسان والفكر هو أمر لا مناص منه، ولأن الفكرة هي ما تكوّن الإنسان وتكسبه ذاته، وهذا هو أحد الأسباب التي تدفع الكتاب جلّهم لذكر فكرهم الشخصي ونقله من خلال الكتابة. وهنا نراه ظاهراً من خلال أحد القصص التي عشنا معها تجربة الطفولة وتمنينا جميعاً أن نعيش في أرضها. ربما لا أحد منا لم يتمنَّ الطيران مع بيتر أو الحلم بمصادقة الجنيات ومحاربة الكابتن هوك أو مصاحبة ويندي. لكن استطاع باري أن يبرهن لنا أن بعض بريق الخيال وسحره الجميل، قد يخفي تحته أحلك الظلمات وأشد القصص بؤساً وحزنا.