يُدرك المرء بعد حينٍ أن التفلسف فعلٌ بأثر الأدب ونتيجة له، فما يقوله الأدب وما يوحي به وما يحوم حوله ضمن فقراته السردية تتناوله الفلسفة مباشرة، فتحلِّله بما هو هو وترى تطبيقاته وتمثلاته وصوره العديدة، قبل أن تعود إلى الأدب من جديد لفهم جوهره وما ينطوي عليه، لذلك، لا عجب أن نجد الفلاسفة التحليليين للظواهر النفسية خاصة يستعينون بالأدب لقول ما يعجزون عن قوله بلغة الفلسفة، أو ما قد يبدو بلغة الفلسفة نظرياً وخالياً من سهولة الفهم والإدراك، فنجد بعض الفلاسفة يعرض نظريته التحليلية والتركيبية ويلحقها بفصلٍ يحلِّل فيه فصولاً من بعض الروايات التي تناولت الفكرة إياها، ولكن بلغة أدبية تُمثل الجانب الوجداني من الإنسان، والذي يصل إلى الحقيقة ذاتها التي تصل إليها الفلسفة، ولكن بالشعور وحده.
أقرأ اليوم، للمرة الثانية، قطار الليل إلى لشبونة، للكاتب باسكال مرسييه، وأقع على مفهومٍ فلسفي نفسي عرضه الكاتب بقدرٍ من الإبهام والإطالة في آن، لقد كان يحوم حول الفكرة ويعرض الحالة الإنسانية المعاشة لها، مذكِّراً إياي بما تفلسف بشأنه آدم فيليبس في كتابه “فوائت الحياة”، لنرى ما يتحدث به مرسييه أولاً.
يصف مرسييه شعور جورج – شخصية في الرواية – إثر كابوس ينتابه في عجزه عن العزف على خشبة المسرح: “استيقظتُ فجأة وأدركتُ أخيراً أن إتقاني العزف على هذا البيانو لا يزال بعيداً عن متناول حياتي”، ولمَّا نعرف أن الشخصية تحدوها رغبة شديدة في عزف بعض المقطوعات من دون أن تتمكن من ذلك، ندرك أن ما تتحدث عنه وتعبِّر هو خوفٌ من عدم تحقيقها أمراً ترغب فيه بشدَّة قبل موتها، ويتحدث جورج عن الأشياء الكبيرة والأمنيات التي يحملها المرء في نفسه، وتحدوه رغبة عظيمة في تحقيقها لأنه يرى فيها إكمالاً لنقصٍ في حياته، نقصٍ يشعر به ويُضنيه ويؤلمه ويذكِّره بوجوده كلَّ يوم، ومن هنا يخشى المرء الموت لأنه نهاية لحياة لم تُعش على أكملها، نهاية حياة ناقصة كان يجب إكمالها بصورة ما:
“ألن يُصبح ذاك الشيء الذي سبَّب لهم الخوف جلياً وبسيطاً وواضحاً لو أنهم يتلقون في هذه اللحظة خبر وفاتهم الوشيكة؟ .. إنهم لا يريدون أن تصل (حياتهم) إلى نهايتها حتى لا يجدوا بعد ذلك سبيلاً إلى الندم على الحياة التي اشتاقوا إليها، تلك التي أدركوها تمام الإدراك”
ومن هنا، يتساءل مرسييه على لسان شخصية ثانية: “ماذا يُمكن أن يعني اكتمال الحياة، هذا الذي يتعرَّق جبينك لغيابه المتوقع؟”، ويحاول تحليل الحالة الإنسانية المصاحبة له، فيتساءل عن طبيعة هذا الخوف من العجز عن إكمال الحياة بما ينقصها، ويقول بأن الأمر منوط بالصورة التي تعكسها الذات، أي كيف تفهم الذات الحياة التي تعيشها؟ هل ترى في هذا النقصان عيب؟ أم تعريف للحياة بما هي هي؟ يقول الكاتب مُستنتجاً: “سيكون باستطاعتنا توصيف الخوف من الموت باعتباره خوفاً من عدم القدرة على أن نصبح الشخص الذي صبونا إليه”.
لذلك، فإن التجارب التي تُسعدنا هي التي نُدرك بأنها جزءٌ من تحقيقنا الكمال الذي نصبو إليه، ولهذا نحاول عيشها حدَّ التخمة، والتمسك بالشيء أو الفعل أو المهنة أو الممارسة التي نرى فيها ذواتنا التي لم نعشها، ونريد أن نعيشها، أن نتصور فيها الحياة الموازية التي نعيشها في أذهاننا، ونحن نعيش الحياة الناقصة في الواقع، محاولين إكمالها عبر إنزال ما في الذهن إلى الواقع، في محاولة انتحارية تقتل التصور والفكرة وتجعلنا ندرك أننا قد لا نصل أبداً إلى تحقيق ما نريد.
يقول مرسييه:
“عندما يحدونا يقين بأننا لن نبلغ هذا الكمال أبداً، فإننا نصبح فجأة غير عارفين بكيفية عيش الزمن الذي لم يعد بالإمكان أن نعيشه تبعاً له. إنا علَّة هذه التجربة الغريبة والمزعجة، تجربة يقوم بها بعض مرضاي المحكوم عليهم بالموت. إنهم باتوا يجهلون فجأة كيف يشغلون وقتهم مع أنه أصبح وجيزاً جداً”.
لذلك، يرى مرسييه أن من الأفضل إدراكنا الحياة بما فيها من نقصان، وأن يكون وعينا لهذا النقصان عبر تصوره جزءاً أصيلاً من حياة نعيشها، أي احتمالٍ نسير فيه، يحمل ما يحمله من كمال ونقصان في آن، لا سيما إن عرفنا أن المستقبل الواعد قد لا يعد بالكثير، وأن من المستحيل أن نقع على تجربة تُحقق لنا الكمال الذي نتصوره، إنه يُخلخل السؤال الأصل حول وجود هذا الكمال، ويحاول إفهامنا أن الأسئلة يجب أن تكون صائبة أولاً لنتمكن من الإجابة عليها، كي لا توقعنا في الحيرة ونجد أنفسنا أمام معضلة تتعلق بتعاسة خفية تصيبنا من دون أن نتمكن يوماً من حلِّها.
يعبَّر آدم فيليبس عن الحالة ذاتها إذ يتحدث عن “الحيوات التي لم نعشها”، أو تلك التي اتفقنا على تسميتها “أمنيات” بدلاً من اسمها الحقيقي “حاجات” كي نُخفف عن أنفسنا عبء تحقيقها، ذاك لما في تحقيقها على أرض الواقع من مهمة تتطلب منا شجاعة ومخاطرة وتنازلاً عن رومنسية ما، ولأن المرء اليوم نتاج ما عاشه في الواقع لا في الخيال، فإنه يعيش معاناة ما لم يعشه، لا سيما عندما يتصور الخيارات العديدة التي أمكنه اتخاذها لتحقيق ما يريد، سواء كانت تلك خيارات متاحة أمامه في حياته الواقعية أم لا، ويعبِّر فيليبس عن هذه الحال الإنسانية بقوله:
“ولأن الرفاهية أتاحت لأناس أكثر من ذي قبل التفكير في حيواتهم على أساس الخيارات والاختيارات، تطاردنا دائماً خرافة ما نملكه من إمكانات في أنفسنا تجعلنا نكون شيئاً ما أو نفعل شيئاً ما. ومن ثم فإننا عندما نتخلى عن التفكير في أن ’الطرق التي نفتقد بها حيواتنا هي الحياة‘ .. فإننا نشعر بالحزن أو الندم أو بالاستياء في أن نكون ما نتخيل أننا يمكن أن نكونه. إننا نتشارك حياتنا مع أناس فشلنا في أن نكونهم”.
لذلك، يرغب كثير من الناس في أن يعيش أطفالهم تلك الحيوات، أو ذلك الكمال المفتقد، في حياتنا، ويُطالبونهم بسدِّ هذه الفجوة كونهم امتداداً لوجودهم ذي المعاناة، بل إن الكاتب يصف تلك الإمكانات التي جُعلت أمامنا “خرافات” تتسبَّب في تعاستنا، لأننا لن نعرف يوماً ما إن كانت هذه الإمكانات موجودة فينا، أو ما إن كانت تلك الخيارات المتوهمة تناسبنا، أو ما إن كنا نطيق تحقيق ما نريد، أو إن كنا حتى نُريد ما نريد، بمعنى آخر، إننا لا نقع على فهمٍ واضح لأنفسنا وذواتنا حتى نشعر بالتعاسة لما لم يحدث لنا، أو لما لم نختره أو لم يكن من نصيبنا.
يصف فيليبس هذه التعاسة المرافقة لهذه الحالة بقوله إننا نعتقد يقيناً بأن حياتنا الواقعية مدفوعة بإحباط كبير لدينا، ينتج عن عدم عيشنا حياة فاتتنا، أو فقدناها، أو لم تُصبنا رغم توقنا الشديد إليها، لذلك فإننا نعرِّف حيواتنا بالفقدان، أي بما ليس فيها وبما نريد بشدَّة أن يكون فيها، غير أن المفارقة في ذلك أننا نفتقد أشياء لم نجرِّبها، ونشعر بالشوق إلى ما لم نعشه، إننا نريد أشياء لا نعرف ما سيكون حالنا لو حصلنا عليها، ولا ندرك جاهزيتنا على تحمُّلها، ولا نفهم الصدمة الشعورية التي ترافق تحققها في حياتنا، عندما ندرك أنها لا ترقى إلى رومانسية الصورة التي كانت في أذهاننا، فتكون تعاستنا إثر ذلك مركَّبة ومعقدة.
ويربط فيليبس هذه الرغبة في نيل ما لا يمكننا تحقيقه بشعورنا بالتميز المرافق لتطورنا عن بقية الكائنات، وتميزنا عنها بما تنتجه الثقافة، إننا نريد أن نشعر بالتميز دائماً حتى آخر العمر، فنحمل تصورات عن حيوات لم نعشها ويكون تقدمنا في العمر مجرد سنين إضافية من عدم فعل ما انبغى علينا فعله، لذلك فإن هذا الشعور بالتميز والإلحاح عليه يسلب منا قدرتنا على الاستمتاع بنصيبنا في الحياة، أي الحياة الواقعية التي نلتفت عنها، ولكنه يعود للحديث عن هذه الحالة من منظور آخر أكثر متعة:
“إننا نجعل حياتنا ممتعة، ومن ثم حياة تُطاق، عن طريق تصورها كما يحتمل أن تكون، ومع ذلك فليس من الواضح تماماً ما الذي يجعل هذه الحياة المتخيلة الجذابة، الحياة باعتبارها حياة تقترب من الإشباع الكامل، علاجاً ذاتياً. إن حلولنا تخبرنا ما مشكلاتنا، وحيواتنا المتخيلة ليست، أو ليست بالضرورة، بدائل للحياة الحقيقية أو ملاذاً منها، بل هي جزء لا يتجزأ منها”.
لذلك، ومن هذا الإحباط، أي من إحباط أننا لا نعيش الحياة التي نُريد، نُدفع إلى عيش الحياة الواقعية، والتماس بعض مظاهر الجمال فيها لنُسكت رغباتنا المتأجِّجة، ولأن الرغبة تستغرق زمناً للتشكل، ولأن إشباعها الفوري فور ظهورها لا يجعلنا نفهمها في الأصل، يكون الإحباط السابق أحد مكوناتها الأكثر أهمية، بل إنها لا تنشاً إلا منه وبوساطته، يمنحنا هذا الإحباط وقتاً وصيرورة أفضل لتشكيل رغباتنا وفهمها ورسمها بدقة، عندئذٍ قد نعي أننا نريد أو لا نريد ما توهمنا من قبل أننا نريده، أي أن الإحباط يعيننا على فهم ما نريده بالضبط، وما لا نريده على وجه الدقة، وذلك فقط باستغراقه زمناً فينا ليعمل عمله، لذلك يرى فيليبس أنَّ:
“الحرمان من الإحباط هو حرمان من احتمالات الإشباع. لنفرض مثلاً أننا لا ينبغي أن نستخدم الجنس للتخلص من الرغبة الجنسية، وإذا لم يكن علينا أن نُبطل متعتنا بالسعي إليها ببطء شديد، فإننا سنحتاج إلى استعادة إحباطنا أو على الأقل تحسينه، وسيكون علينا مقاومة رغبتنا التي سُرقت منا قبل تحقيقها. لذلك، فإننا نحتاج إلى العودة إلى إحباطنا قبل إشباع رغبتنا”.
هي الفكرة ذاتها، تناولها أديبٌ وفيلسوف، فوقع الأول في تحليل نفساني عبر أسئلة مُبررة بين الشخصيات، ليصل إلى تصور بضرورة تقبل الحياة التي حصلنا عليها، لأننا قد لا نعي ما نريده على وجه الدقة، أو قد لا يكون سؤالنا صائباً حول الكمال المفترض، بمعنى آخر، إنه يُعيد موضعة رغبتنا الشديدة في أمرٍ ما ليجعلها جزءاً من حياتنا الواقعية لا خارجة عنها، ويرى في عدم نيلنا ما نريد جزءاً أصيلاً من تجربتنا الواقعية، إنه يرى النقصان على أنه مكون رئيسي مما نعيش، وليس مشكلة يجب حلُّها، في حين يرى فيليبس أن النقصان هو ما يدفعنا إلى التخيل، ومن ثم إدراك ما نريد عبر عملية بطيئة من التحاور والتصور والتخيل، بما يرافق ذلك من حزن وتعاسة فوريين، ولكن يضمحلان بمرور الوقت وإدراكنا الدور الذي يلعبه الإحباط في حياتنا، ووقوعنا على الحقيقة الأكثر أهمية: لا أهمية لما نريد في الحقيقة، بل لفهمنا للتكوين الذي نكون عليه، والذي يُصدر المشاعر والخيال عبر دفقٍ مُستمر لا ينتهي.