- مُقَدّمَةٌ
الكتابُ الذي بين أيدينا، تأملاتٌ من خلال القرآن: صُوَرٌ نغميّة في ثقافة شفاهية، لمؤلفه البروفسور إرنست مكلين[1]؛ ينتمي لما يمكن تسميتُه الكُتب الشّجاعة. تَكْمُن هذه الشجاعة، أوّلاً، في اختيار موضوعِ الكتاب، القرآن العظيم، وثانيًا في طريقة المعالجة، إذ يَدْرُسُ القرآنَ من زوايا نظر مُتعددةٍ، تتطلب إلْمامًا بِعدّة تخصُّصاتٍ، الكتبِ المقدسة والرياضياتِ والفلسفةِ والموسيقى، كما أنّ صدورَ هذا الكتابِ من شخص غير متخصص في القرآن، بل وينتمي لثقافة تعتبر بعيدةً عن القرآن؛ يتطلّبُ قدْرًا من الشّجاعة المعرفيّة.
ورغم صدور الكتاب قبل أربعين عامًا تقريبًا (1981)، إلا أنه، في نظري، لم يفقدْ أهميتّه؛ لأن هذا النسقَ من الكتاباتِ حول القرآن، للأسف، أقربُ إلى النادر. ويكفيك لتعلمَ قيمةَ هذا الكتابِ، على الأقل وقتَ صدوره مطلع الثمانينات، أن تقرأ مراجعةَ البروفسور سيد حسين نصر، والملحقة كذلك بآخر الكتاب، إذ كَتَبَ عنه أنه أحدُ أهمّ كُتب الدّراسات الإسلامية التي صدرتْ في تلك السنوات، وأنه، وبكل تأكيد، أَحَدُ أهم الكتب المتعلقة بالقرآن باللغة الإنجليزية؛ باعتباره لا يُقدّم نفسَه للمتخصصين في الإسلام فقط، وإنما لِكُلّ منْ له اعتناءٌ بالرُّوح:
Altogether, Meditations through the Quran is one of the most surprisingly valuable and worthwhile works in Islamic studies to appear in recent years. It is certainly one of the most significant works on the Quran in English, and it addresses itself not only to scholars of Islam, but to all human beings attracted to matters of the spirit.
يسعدني أن أشارك الأصدقاءَ هذه الوقفاتِ مع الكتاب، لعلها تفتحُ آفاقًا للنظر فيما يسميه الغزالي عالَمَ الملكوت،[2] وتشقّ مَساراتٍ للتّفكّرِ في الوحيِ الإلهي، كما أرجو أن تنالَ نصيبها من قوله جل جلاله (كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبّروا آياتِه وليتذكر أولوا الألبابِ) [صاد، 29]؛ إذ إن النظرَ إلى القرآن من منظور مختلف مما يُعين على فهمه؛ بل إن القرآن نفسَه أشار إلى إمكانية فهمِه من خلال سؤال “الآخر”: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك؛ فسئل الذين يقرؤون الكتابَ من قبلِك) [يونس، 94].
لِنُنْصِت إلى القرآن إذن، ولكن هذه المرّة من قَلْبٍ عاشقٍ للجَمال، شغوف بأفلاطون، ومفعم بحُبّ الصوت والنَّغَم.
- المؤلف والسّياق الفكري
وُلِد المؤلفُ، إرنست مكلين، في مدينة كانتن، التابعة لولاية أوهايو، سنة 1918، وحصل على البكالوريوس في الموسيقى، ثم أكمل الماجستير في الموسيقى كذلك من جامعة نورث وسترن (Northwestern) سنة 1947، وتخرّج بعد ذلك بدرجة الدكتوراه في التربية عام 1959 من جامعة كولومبيا (Columbia) العريقة في نيويورك. عمل مكلين في السّلك الأكاديمي، حيث كان بروفسورًا في كلية بروكلن التابعة لجامعة سِتي في نيويورك (City University of New York) إلى تقاعده، وقد أصدر ثلاثةَ كُتُب، والكثير من المقالات. توفي مكلين عام 2014.[3]
اهتمّ مكلين بعلم النغماتِ الموسيقيةِ، بِنظريات فيثاغورس في علم الرياضيات، وبِفِكرَة أن التراثَ الإنسانيَ القديمَ—سواء في ذلك الفلسفة والكتب السماوية والآثار الحجرية وغيرها—مليءٌ بالرموز والإشارات إلى التوافقات الموسيقية وعلم الأنغام، وكيف أن ذلك كلّهُ امتدادٌ لحضارة إنسانية مُشتركة، بِتِمثّلات مختلفةٍ. بالنسبة لمكلين؛ التراث الإنساني كله مترابطٌ من خلال النظريات الرياضيةِ ودلالاتِها الموسيقيةِ. والتوافقاتُ الموسيقيةُ، في نظره، هي الأداة التحليلية لفهم الفلسفة والدين والحضارة؛ فَفِي الفصل الأخير من كتابه الأول وَهْمُ الثبات (The Myth of Invariance)، يكتبُ مكلين مُقَرّرا هذه النّتيجةَ التي تَوصّل إليها:
Harmonical analysis is a technique for synthesizing the tonal, arithmetical, and geometrical imagery of ancient civilizations. It aims at the reconstruction of the esoteric diagrams which gave the sacred symbols of particular cultures their enduring and magical powers and furnished philosophy with a ground of certainty. The technique is applicable to all cultures which considered tone and number twin keys to the secrets of the universe, and practicable wherever a sufficient mythology and cosmology have survived.[4]
ثم بَنَى مكلين على هذه الفكرة وطوّرَها في كتابِه الثاني، أفلاطون الفيثاغوري: مقدمة للأغنية نفسها (The Pythagorean Plato: Prelude to the Song Itself)؛ إذ قامَ بتحليل دقيق لفقراتٍ مُتعدّدة من كُتب أفلاطون، منها كتابه الجمهورية؛ فقراتٍ تحتوي على رموز رياضية، وتَوَصّلَ إلى أنها إشاراتٌ إلى التّوافُقات النّغمية، وأن حلّها يُمكن من خلال التحليل النغمي. ولذلك خَلَصَ مكلين إلى مركزية الصوت والموسيقى في فلسفة أفلاطون حين كتب:
For Plato, as for his Hindu predecessors, sound was the primary guide to “interiority.” Movement is the “embodied movement” of the soul through which creation becomes manifest. Without ordered movement we are in the field of “non-being.” Music, being an art of pure relations, offers the primary examples of aesthetic “being.” Despite Plato’s emphasis on vision as the most important of the senses, he is actually directing attention to visual models of sound phenomena while asking us to rise above this ground of appearances and contemplate with him the invariance of pattern.[5]
والآن، وبعد هذه النبذة المختصرة عن فكر المؤلف، لندخل إلى كتابنا الجميل، كتاب مكلين الثالث: تأملاتٌ من خلال القرآن: صُوَرٌ نغميّة في ثقافة شفاهيّة. وأُنَبّهُ بادئَ الأمر إلى أنني سوف أضع صفحاتِ الكتاب التي ترد فيها الأفكارُ والعباراتُ بين قوسين دائريّيْن ( )، للتوثيق والدقة، ومن أجل تيسير الوصول إلى الأفكار لمن يريدُ مراجعة الكتاب. كما أنني تعمدت أن أنقلَ مجموعةً من عبارات المؤلف بنصّها، بعد تلخيصها، وذلك لأهمّيّتها، ولجمالها أحيانًا، ومن أجل أن يأخذَ القارئُ فكرةً أفضلَ عن الكتاب وأسلوبِ المُؤلف.
- وَقَفاتٌ مع الكتاب
يتَأَلّفُ الكتاب، القصيرُ نوعا ما، من أربعة فصول (123-1)، وملحق طويل نسبيًا (161-125). عنوان الفصل الأول هو “القرآن كَمُشْكلَة للغرب“، وعنوان الفصل الثاني “القرآن كَمُشكلة للشرق“، أما الفصل الثالث فهو “الأنغام، والحجارة، والمكعبات المقدسة: التّغييرُ القرآني لشركِ العرب“، والفصل الأخير أسماهُ “رقصة الحياة“. ثم يختم بملحق تحت عنوان “الجبل المقدس“. فيما يلي؛ سأعرض بعضَ أفكاره، ولكن بشكل مجتَزأٍ غالبًا، كي أتركَ للقارئِ متعةَ قراءة الكتاب، كما سَأَضْربُ صَفْحًا عن المُلحَق؛ إذ ليس له تعلقٌ كبير بموضوع الكتاب الرئيس، القرآن العظيم.
يخبرنا مكلين أنه ابتدأَ قراءةَ القرآن في شبابه، ولكنه لم يستطع تجاوزَ بضعَ صفحاتٍ، ومع كل محاولة للقراءة كان انطباعه الأولُ يتأكدُ لديه—أن القرآن لا يمكن أن يُقْرَأَ إلا من قِبَلِ المؤمنين به (3)؛ مكلين بذلك يُذكّرني بقوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) [فُصّلت، 44]. وبعد أربعين سنة عاد مكلين للقرآن مرة أخرى، ولكنْ بعد أن تَعَلّمَ كيف يستمع له. إن قراءتَه للقرآن غَدَتْ مغامرةً في الإحساس الجمالي (aesthetic feeling)، ولكنه كان أيضًا يبحث عن شيء محدّد في القرآن؛ اللغات الأربع، أو أبعاد الوعي الأربع (dimensions of consciousness): لغة الوجود، لغة اللا وجود، لغة التضحية، ولغة الرؤية المتجسدة (4). هذه اللغات، يعترف مكلين، ليست إلا أداةً تحليلة تُقَرّبُنا من فهم المعنى الأصلي للقرآن، ولغرابتها؛ فإنها تُغيّر من أنماط التفكير التقليدية، وتُنبّهنا إلى السياق الأوسعِ للقرآن:
The very strangeness of the four categories used here alters normal habits of attention and alerts us to the wider contextual setting for any particular Quranic teaching (5).
وفي هذا السياق يقول مكلين إن القرآن لابد أن يُقرأ حسبَ شروطه هو، لا من خلال عاداتنا العقلية (2)، ولذلك يرى أنّ إحجامَ البعضِ عن قراءة القرآن إنما يَنبعُ من كونه يتحدى تَوقّعاتِهم عما يجبُ أن يكون عليه شكلُ الكتاب (3)؛ فالقرآن يُجْبِرنا على تجاوز اللغة إلى الإحساس الجمالي، وقراءتُه لا بد أن تكون إعادةَ تخليقٍ (28)، وتأمّلًا (62)؛ لأن المعنى لا يَتَكَشّفُ إلا بالتَّأمّل: (وإذا قُرئَ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف، 204]، كما ينبه مكلين على أهمية أن تكون علاقةُ القارئِ مع القرآن شخصيةً (28).
قراءةُ مكلين للقرآن شاهدةٌ، في نظري، على احتياجنا للآخر في فهم أنفسنا، وعلى الفائدة التي نجنيها من الاستماع للبعيدين عن ثقافتنا: (الذين يستمعون القولَ فيتبعون أحسَنَهُ) [الزمر، 18]؛ الغريبُ، كما يقول المؤلف، يوقظُ فينا الاحتمالاتِ المتعددةَ في أنفسنا، والآخرون ضرورةٌ لِتحرّرنا الداخلي، ولكن ذلك يقتضي التضحيةَ بالأفكار والنماذج والتصورات المسبقة (120)، ولذلك يبقى “الآخرُ” دائما مصدرَ تهديدٍ لإيمان المرء بما يعتقد؛ لأنه يُذَكّرُه بِوُجود تصوّرات أخرى تختلفُ عن تصوراته (44)،[6] فكيف إذا كان هذا الآخرُ هو القرآن؛ كتابٌ يخاطب إحساسَ الإنسان بالحقّ، والقيمةِ، والخيرِ، والجمالِ؛ فَيَقِفُ الإنسانُ عاجزًا أمامه، ولذلك يؤكد مكلين على أنّ أي مجتمعٍ ماديّ، تتجاذبه الحيرةُ بسبب تناقضاته الداخليةِ، لن يصمدَ أمام كتاب كالقرآن:
Any society threatened by disintegration from within, impoverished by materialism, and confused by the conflicting claims of its own reason is thereby precariously ripe for simplification—and defenceless before the poet who knows how friction can be focused into renewed spiritual flame (21).
إن عبقريةَ القرآن الكريم—الذي جاء يلبي حاجةً بشريةً للإيمان (a universal human need to believe) (6)—هي، بالنسبة للمؤلف، في انطوائه على فلسفةٍ عميقةٍ في حين يَظهَرُ أنه كتابٌ غيرُ فلسفّي (13)؛ فَخَلْفَ الصّور والأمثال القرآنية الواضحة—كمبدأ التوازن (balance) الذي يُحيط بالمُتَناقِضات في سورة الليل—تكمن عصورٌ من التجربة البشرية، بما فيها الفلسفة الإغريقية (21)؛ إنّ البساطةَ والعمقَ يجتمعان في الفنّ (In art simplicity and profundity can wed) (25)، أو هكذا يُخبرنا مكلين.
وهذه الفلسفةُ القرآنية نابعةٌ من تركيز القرآن على الشّعور؛ فالقرآنُ يَتحدّى أيّةَ محاولةٍ لِفَصْل العقلِ عن المشاعر (117)، ويُوَحّدُ الناسَ من خلال الشّعور (116)؛ فأعمقُ دلالات القرآن هي التسليم للقيمة الجمالية، للحدس، وللحقيقة المحسوسة من الداخل، الكامنة في النفس (122)، الحقيقة التي نعرفها “مسبقا”: (ما يُقالُ لكَ إلا ما قد قيل للرّسُل مِن قَبلك) [فصلت، 43]—إن تأكيدَ مكلين على منزلة “الحدس” يقارب فلسفةَ الشيخ الرئيس ابن سينا؛ إذ يُمثّل الحدسُ أحدَ أركان فلسفته العقلية، كما يتجلى من كتابه الإشارات والتنبيهات وغيره،[7] وهي فكرةٌ استفادها من أرسطو فيما يبدو،[8] وربما يصح التأصيلُ لها قرآنيًا من باب التّفسير الإشاري؛ على سبيل المثال من قوله تعالى (إني لأجد ريح يوسف) [يوسف، 94]. القرآن إذن غارقٌ في الشعور؛ الشعور الذي من خلاله “تُغَنّي” المعاني لِيَفْهَمَها كلُ أحدٍ، إذ الحكمةُ كامنة في “الحب الفعال”:
The Quran is suffused not with philosophic maxims or proverbs but with poetic feeling. Meaning is required to sing in ways even the childlike can understand. Wisdom lies not in right thinking but in active loving—“to keep life living” (63).
وهنا يَلمَحُ مكلين التشابهَ بين الظاهرة الصوتية للوحي وبين علم الأنغام؛ فالموسيقى والفنون لها تَعَقُّلُها الخاصُّ بها: عقلٌ يوجّهُه الحدس والشعور؛ فلا يمكن لأحد أن يُفسّر مقطوعةً لموزارت مثلا، وبالتالي يرى مكلين أن المحاولةَ الغربية لاختزال الفلسفة في المثبتات العقلية محاولةٌ مستمرة لفصل الفلسفة عن الفن، وذلك يؤدي بدوره إلى الحدّ من ارتباط الفلسفة بالحياة (117). باختصار؛ يرى مكلين أن القرآن يُمثّلُ انتصار الشعور الإنساني على الفهم القاصر:
A more critical analysis of the Quran—with attention to its own criteria—might reveal it as a triumph of human feeling over the limitations of human understanding and set its dynamism to work on the problems of the modern world (47).
ولكنّ تَيَسُّرَ القرآنِ ووضوحَه، الذي يُعبّر عنه بقوله (الصراط المستقيم) [الفاتحة، 6]، يبدو أنه يناقضُ مبدأَ الحركة الذي يرمز له تأكيد القرآن على فكرة الدوران: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) [الإسراء، 60]. فالقرآنُ، في نظر المؤلف، مليءٌ بالحركة، ويحتوي على طاقة كبيرة (112)، ومن هنا يُفَسّر المؤلفُ لماذا تمَّ حظرُ الدراويش الصوفية في تركيا أثناء عشرينيات القرن العشرين—إنه لمن الصّعب على من يرى القرآنَ مُتَمثّلًا أمامَه في صورةِ حركةٍ مستمرةٍ أن ينقادَ:
It is easy to understand why a Muslim audience, living within a tradition ruled by custom, but exposed daily in the mosque to the fluid, moving images of the Quran, could respond with a fervor unnerving to any kind of political regime. The Quran reverberates with the revolutionary fervor of a new vision for a man to live by and not with the mere static harmony later imposed by the teachers (112).
مِنْ فِكْرَة الحركةِ، نَنْتقلُ الآن إلى “الثيمة” الأساسية للكتاب: الظاهرة الصوتية والقرآن: ليست الكلماتُ، وإنما الصوت، هو ما يؤشّرُ لبداية أهمّ حدث في التاريخ؛ يوم القيامة: (ونُفِخَ في الصور) [الزمر، 68]، والقرآن مليءٌ بالصور الصوتية (Acoustical imagery)، فالصوت هو الأصلُ عند مكلين، خلافا للتراث الإغريقي الذي جعل المُشاهَدَ والمرئيَّ أعلى منزلةً من المسموع، بل إنه يرى أن الانتقالَ من المسموع إلى المرئي والمكتوب إنما ابتدأ مع أعمال أفلاطون (30).
الصوتُ هو الحضور التام؛ ففي الحضارات السّامية تجلى اللهُ سبحانه بالصوت لا بالصورة: (فلما أتاها نودي يا موسى) [طه، 11]، وسببُ ذلك، في رأي المؤلف، هو أن الصُّوَرَ قد تَكذِبُ، والعينَ قد لا تُدركُ الصورةَ كاملة، وهنا يلفت مكلين انتباهَنا لكيفية ترميزِ القرآن لهذه الفكرة في قوله تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون؛ لقالوا إنما سُكّرت أبصارنا، بل نحن قومٌ مَسْحُورونَ) [الحجر، 14-15]، بالإضافة إلى أن إبراهيم -عليه السلام- رأى النار بعينيه، ولكنْ جاءَه الوحيُ سماعًا (31).
الظاهرةُ الصوتيةُ تستمد مكانتها، إذن، من مجيء جميع الدّيانات العظيمةِ على هيئة وحي مسموعٍ (59)، كما أنّ الصوتَ، بخلاف الصورةِ، لا يُخاطب وعيًا واحدًا فقط، ولكنْ كلَّ درجاتِ الوعي، ويجمع بين الضجيج والالتباس والحركة؛ فيعطي خياراتٍ متعددةً للسامع وآفاقًا أوسعَ، وهو ما يُذَكّرنا بمحدوديةَ قُدراتِنا، وإشكاليةِ الفرضياتِ التي نَبْني عليها تصوّراتِنا، وهذا كله يناقضُ محاولةَ الفلاسفة—من لدُن أرسطو—إلى بناء الفلسفة على مبادئَ أوليةٍ من أجل الوصول إلى رأي راجح وحيد؛ كأن مكلين يقول هنا إن “الصوتَ” يعطي تعدديةً، في حين أن “الصورةَ” أحاديةٌ؛ ومن هنا يتفوق المسموع على المرئي:
An aural model carries within itself the contextual substratum of noise and ambiguity and alternative possibilities to remind us of the precariousness of our perceptions and of their dependence upon a field of assumptions. There is important psychological truth in the ancient mistrust of vision and corresponding increased trust of hearing. The effort since Aristotle to ground philosophy on some unshakeable first principle is an effort to find one preferred viewpoint that always works (60).
هذه التعدديةُ، بالنسبة لمكلين، هي من صميم الفلسفة القرآنية؛ فالقرآن لا يُقَدّمُ نظريةً اختزالية، ولا نمطًا واحدًا،[9] متجاوزًا بذلك التبسيط الذي يسعى—كما هي طبيعة العلم الحديث—للوصول إلى نظريات صارمة؛ بذلك يُطابقُ القرآنُ، حسب مكلين، بعضَ أفكار إدموند هسرل (121)، الذي نَظّرَ للعلاقة بين العمق الشديد وبين الفوضى، ورأى أن ذلك من الحكمة لأن طبيعةَ الحياة كذلك؛ معقدة ومتشابكة، كما في كتابه الفينومينولوجيا ومأساة الفلسفة:
Profundity is a mark of the chaos that genuine science wants to transform into a cosmos, into a simple, completely clear, lucid order. Genuine science, so far as its real doctrine extends, knows no profundity. Every bit of completed science is a whole composed of “thought steps” each of which is immediately understood, and so not at all profound. Profundity is an affair of wisdom; conceptual distinctness and clarity is an affair of rigorous theory.[10]
فكرةُ أنّ القرآنَ لا يُقَدّمُ نظريةً فلسفيةً صارمة محددة الأركان= قد تُستفاد أيضًا من الكتابات المتعلقة بالفلسفة الأخلاقية للقرآن: على سبيل المثال، د. طه عبدالرحمن لا يُقرّرُ هذه الفكرة بوضوح، ولكنه يشير لها إشارةً؛ إذ يرى أن النظريةَ الأخلاقيةَ الإسلاميةَ لا تقوم على مبدأ الإلزام بالأوامر والنواهي—التي، في رأيي، تأخذ خطًا مستقيمًا—، وإنما تقوم على مفهوم الاعتبار، “الذي هو عبارة عن جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان تلقائيًا مما يشاهده من أفعال ويتلقاه من أقوال”،[11] وبالتالي تقوم النظرية على “إيراد الأحكام الخلقية، لا في صورة أوامر، وإنما في صورة أخبار، ولا في صورة نسق، وإنما في صورة قصص، لأن الأخلاق أفعال حية والأفعال الحية هي تاريخ والتاريخ لا يحيا إلا بالقصة، فتكون أخلاق الإنسان هي قصته التي تحدد هويته.”[12] هذا الاتجاه يخالف مذهب القائلين بإمكانية استنباط نظرية أخلاقية واضحة من القرآن، كما هو رأي الأستاذ الكبير د. محمد عبدالله دراز في كتابه دستور الأخلاق في القرآن، وقد ناقش د. سامر رشواني هذه الإشكالية عند الشيخ دارز بقوله:
ينطلق دراز من فرضية كامنة ترى النص القرآني واضحًا قاطعًا في رسم نظريته الأخلاقية (دراز 1973, 17)، وكأن كل ما ينبغي على الباحث أن يفعله هو أن يتجه إليه حتى تنفتح له كل مغاليقها. وهنا يتساءل المرء عن سبب الاختلاف القديم بين المدارس الإسلامية العقدية والفقهية منذ القرون الأولى حتى اليوم في تصور هذه النظرية وتحديد مفرداتها! إن هذا الموقف يعكس تجاهلًا متعَمَّدًا ليس لهذا التراث فحسب، بل لأحد الأسباب الكامنة خلفه، وهو طبيعة الخطاب القرآني، وقابليته لتعدد القراءة.[13]
نعود إلى مكلين الذي يرى أنّ مَنْ يَقرأُ القرآنَ بلا خيالٍ موسيقي، وبلا ذائقة شعرية، مُحاولاً تجريدَه إلى البعد القانوني الحرفيّ، وإخضاعَه إلى قراءةٍ واحدةٍ، لن يفهمه كما يجب، بل وسيُحَوّرُه عن رسالته التعددية:
Whoever reads the Quran without a musicalized, poetic imagination, trying to reduce it to the prosaic “legal” status of the factual kind appropriate for a mathematics textbook thereby radically diminishes his own world and falsifies Muhammad’s (59).
هذا الربطُ بين التناغمات وبين الوحي، نابعٌ كذلك من تَصَوّر مكلين للقرآن وللموسيقى؛ إذ يرى أن الموسيقى ليست إلا نظريةً للتّناسُب (ratio theory)، بل ويذهب إلى القول بأنّ الأقدمين أطلقوا اسم “الموسيقى” على نظرية التناسبات؛ لأن الإغريقَ والمصريين السومريين اكتشفوا جمالَ الوتر والقيثار حين أبانت تلك الآلاتُ عن تناسق وتماثل لم تلتقطه الأعينُ وإنما الآذانُ (84)، فقد كانت علومُ الأقدمين—الموسيقى والرياضيات والفلك—مُتَوحّدةً (99). وعلى الجانب الآخر، فالقرآن مليءٌ بالإشارات إلى التناسق والنظام؛ كقوله تعالى (إنا كلَ شيءٍ خلقناهُ بِقَدَر) [القمر، 49]، وقوله (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) [الملك، 3]، ومن هذا الباب يلحظ مكلين التلاحمَ بين علم التناسب—المسمى موسيقى—وبين القرآن، لاسيما فكرة الثنائية في القرآن، والتي تعتبر مبدأ رئيسا في كل الفنون القديمة، والفلسفة، والأديان (82)، والتي يُعَبّر عنها القرآن بعدة نماذج كالجنة والنار، الّذَيْن يُمثلان “تناسق الأضداد”؛ إنها ثنائيةٌ حاصلةٌ من انقسام “الواحد” (101): (أوَلم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقًا فَفَتَقناهُما) [الأنبياء، ٣٠].
إن القرآنَ، في رؤية مكلين المفعمة برياضيات التناغم، يوازنُ بين أمرين؛ بين قوة الإيقاظ والإطلاق، وبين قوة التقييد والإمساك، “والتوتر” الحاصل بسبب هذا التوازن الصعب= قد يكون أحدَ أعظمِ إنجازات القرآن (6). كما أنّ الأثرَ المباشر للقرآن هو أنه يغرس في النفس شعورا “بالاتجاه”، بشكل يجعل الحياة طقسًا مُقدسًا مُبْهِجًا، ويُقَوّضُ فكرةَ المجتمع اللا روحيّ:
But the main effect of the Quran is to instill a sense of direction. It is an antidote for materialism. It denies mere matter-of-fact can rule our lives. It makes life itself a joyful sacrament. In short, it subverts the whole notion of a secular society intentionally (41).
يُقَرّرُ مكلين في آخر الكتاب أنّ التأملاتِ القرآنيةَ= مغامراتٌ في الخيال التاريخي، والخيال الفلسفي، ومغامرات في الشعور، ولكنه يعترف بأن المغامرةَ تستلزم المخاطرةَ (122)، وأن الرحمةَ والشعورَ الإنساني المشترك لهما حدود، فلا يمكن إجبارُ أحدٍ عليهما، وهو معنى أدركه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا إكراه في الدين) [البقرة، 256]؛ فَمِنْ أجل اللحظات التي يُخفقُ فيها الشعور، ويكتشف فيها الناسُ أن نداءاتِهم الداخلية لا تتفقُ مع مَن حولهم، ولا تُطابق ما يشعر به الآخرون؛ فقد علّمَ جبريل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خاتمةَ كلمات المحبة التي يُمكن أن تُقال: (لكم دينُكم، ولي دينِ) [الكافرون، 6]:
Adventure entails risk. That human compassion and shared feeling have limits and cannot be coerced, the Prophet knew: “Let there be no compulsion in religion” (ii. 256). Where feeling fails, where men discover that their private intuitions cannot confirm that of others, or gain confirmation by others, Gabriel taught Muhammad the last loving words which can be said:
To you be your Way,
And to me mine.
(cix.6) (122-123).
[1] Ernest G McClain, Meditations through the Quran: Tonal Images in an Oral Culture (York Beach, Maine: Nicolas Hays, Inc., 1981).
[2] أبو حامد محمد الغزالي، إحياء علوم الدين (جدة: دار المنهاج للنشر والتوزيع، ٢٠١١)، المجلد الثاني، ص ٣٠٣؛ حيث يقول: “ومعاني القرآن من جملة الملكوت، وكلُّ ما غابَ عن الحواسّ ولم يُدْرَكْ إلا بنور البصيرة؛ فهو من الملكوت.”
[3] F. Leighton Wingate, The Published Writings Of Ernest Mcclain Through Spring, 1976 (Masters Thesis, North Texas State University: Texas: 1977), pp. 1-2; Obituary: (https://www.legacy.com/obituaries/nytimes/obituary.aspx?n=ernest-glenn-mcclain&pid=170921414).
[4] Ernest G McClain, The Myth of Invariance: The Origin of the Gods, Mathematics and Music from the Rg Veda to Plato (Stony Brook, N. Y.: Nicolas Hays Ltd., 1976), p. 195.
[5] Ernest G McClain, The Pythagorean Plato: Prelude to the Song Itself (Stony Brook, N. Y.: Nicolas Hays Ltd., 1978), p. 131.
[6] وأنا أقرأ هذه الكلمات لمكلين، طرأ عليّ ذكرُ القرآنِ لكلمات أولئك القومِ الذين يعرضون عن سماع القرآن خشية تأثيره في أنفسهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) [فصلت، 26].
[7] الحسين بن عبدالله ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، تحقيق الدكتور سليمان دنيا (بيروت: مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٢)، المجلد الثاني، الصفحات 389-394.
[8] Dimitri Gutas, Avicenna and the Aristotelian Tradition, (Leiden: Brill, 2014), pp. 179-201.
[9] لاحظ هذا المعنى في قوله تعالى: (لنهدينهم سبلنا) [العنكبوت، 69]، حيثُ جَمع السبل، ولم يجعلها سبيلا واحدا. والله أعلم.
[10] Edmund Husserl, “Philosophy as Rigorous Science” in Phenomenology and the Crisis of Philosophy, edited by Quentin Lauer (New York: Harper, 1965), p. 144.
[11] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000)، ص. 156.
[12] طه عبدالرحمن، سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000)، ص. 157.
[13] سامر رشواني، “الدرس الأخلاقي للقرآن: قراءة في بعض المقاربات الحديثة”: ( Journal of Islamic Ethics, 2017, 1(1-2), 158-194, 166.)