مقالات

تجاوز نيتشه: إدراك الفرق بين التعاطف والشفقة

شين نورتن ترجمة: نورة آل طالب

الشفقة مصطلحٌ يساءٌ فهمه. إنه يعني حرفيًّا شعور الأسى تجاه مصائب الآخرين، غير أن دلالته الضمنية تختلف تمامًا عن ذلك المعنى؛ إذ تستحضر الشفقة صورًا من التفوق والازدراء. وعلّة دلالة هذه الدلالة الضمنيّة هو أن الشفقةَ شعورٌ غير متبادل بالضرورة حتى وإن كانت حسنة النية، كما لا توحي بالتكافؤ بين المُشفِق والمُشفَق عليه.

ولعلّ نيتشه أولَ من فطِن لهذه المسألة، وقد توسَّع فيها بقوله إن الشفقة ليست شعورًا غيرَ متبادلٍ وغيرَ متكافئٍ بطبيعته فحسب، بل إنها مؤذية أذىً متعمدًا من ناحية أنها تفاقم الضعف، حيث ذكر في كتابه عدو المسيح:

«لقد تجرأ الناس على وصف الشفقة بالفضيلة .. بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بجعلها عين الفضيلة؛ أساس ومصدر كل الفضائل، لكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن هذا المنظور مأخوذٌ من فلسفة عدمية نقشت نفيَ الحياة على درعها. كان شوبنهاور مُحقًّا في رأيه بأن الشفقةُ تنفي الحياة، وتجعل منها شيئًا جديرًا بالنفي. إن الشفقة ممارسةُ العدمية. مرة أخرى: هذه الغريزة المُثبِّطة والمُعدية تتعارض مع الغرائز التي تعزز قيمة الحياة وتحافظ عليها؛ إذ إن الشفقة إحدى وسائل زيادة الانحطاط حينما تُضاعفُ البؤس بقدر ما تستبقي كلَّ شيءٍ بائس. إنها تستدرجُ الناس إلى العدم.»

يعتقد نيتشه أن الشفقة لا تقتصر على مضاعفة بؤسنا، بل إنها تقود أيضًا إلى انتقاص الكرامة؛ فالشفقة –أو حتى الرأفة- على إنسانٍ آخر تمنح المُتلقي تأييدًا ضمنيًّا للظرف الذي أثار الشفقة في المقام الأول.

بغض النظر عن رأيك حول هذه الحجة، فأنا أعتبرها تحديًا عظيمًا، وأحثّك على الاعتقاد بهذا أيضًا، ليس لأنها حجة متماسكة وقوية؛ بل لأن الناس يستعملونها دائمًا في محاجَّاتهم؛ ولعلّك تميّز بعضها من المثال التالي. فمن عادة المحافظين أن يقولوا «لا يمكن أن تفشي الحكومة الرعايةَ الاجتماعية بلا قيد أو شرط؛ لأن ذلك سيُحفِّز الناس على التعلق بالرخاء.» رغم أن هذه الحجة لا تتطابق تمامًا مع حجة نيتشه، إلا أن الفكرة التي يقوم عليه هذا المثال بالتحديد هي الاعتقاد بإمكانية الإفراط في التعاطف. وهذا الأمر تتفق معه الكثير من الأيديولوجيات من الناحية النظرية على الأقل.

أصبحنا في السنوات الأخيرة نستبدل المعنى الدال على الشفقة بمفردات مثل التعاطف (sympathy) أو الرأفة (compassion) أو التَشاعر (empathy)، بيدَ أن هذه مجرد خدعة مفاهيمية؛ فما هي إلا استبدال معنى حرفي قد خسر أمام معنى ضمني حديث. ويبدو أن هذا مثبتٌ تأثيليًا؛ في علم الاشتقاق. جُلبت مفردة التشاعر (empathy)، الأكثر حيادية من تلك الكلمات، إلى اللغة الإنجليزية في بداية القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1908. وأفترض أن إدخال هذه الكلمة المحايدة كان يرمي لاستبدال المعنى غير المحايد لمفردة شفقة (pity)، التي كانت قد بدأت ترمز للاحتقار والازدراء.

لكن ما يزال التحدي قائمًا رغم هذه التطورات. فعودة ظهور كلمات أسلم من مفهوم الشفقة بدافع المساواة لا ينفي الحجة ذاتها، خاصة وأن حجة نيتشه تنطبق كذلك على التعاطف (sympathy) أو الرأفة (compassion) في أقوى صورها. وحتى التَشاعر (empathy)، إن كان يعني مجرد القدرة على فهم الآخر ومشاطرته الشعور، فإنه يظل غير ذي صلة بالحجة؛ فالمشكلة ليست في القدرة، بل في تجسيد تلك القدرة.

وهذا ما يُفسّر جزئيًا استخدام الفكر النيتشوي (استعمالًا باطلًا) في تعزيز الفلسفة الفاشية في القرن الماضي. ففي إحدى تلك القراءات الزائفة للفكر النيتشوي، لا تُعد الكرامة متأصلة في الإنسان؛ بل كانت شيئًا يُكتسب.

كانت الشفقة -بالمعنى الذي ينافي الازدراء؛ أو: التعاطف- بمثابة تغاضٍ عن وجهٍ منقوصٍ من الإنسانية. فمن منظور الفاشية النيتشوية الزائفة، ربما يكون الضعفاء مجرد أفراد مؤهلين لامتلاك صفة الإنسانية، لكن عليهم تحقيق هذه الإنسانية؛ إذ ينبغي عليهم التحلي بالقوة كالفاشيين. ولهذه السبب كان التعاطف رذيلةً في الفاشية لأن فيه اعترافًا بكرامةٍ لم تُكتسب. في المقابل، كان الكبرياءُ إقرارًا بالكرامة المكتسبة.

لكي أكون منصفًا: كان نيتشه سيعارض معظم هذا الهراء. إذ يرى بأن الكرامة – أي؛ الرغبة في الحياة رغبةً إيجابية- تكمن في النضال. ومن ثم فإن الكرامة ليست شيئًا يُحرَز أو يُكتسب، إنما أسلوبًا يُتَّبَع. والحياة لا تُنقص – أو تُنفى كما يقول – إلا بالتملص من النضال أو الكِفاح في الحياة.

وسيكون هذا التمييز المفهومي صعبًا على الفاشيين، وهذا عائدٌ إلى شمولية المفهوم؛ فكل البشر يُناضلون ولا يتمايزون إلا في مساعيهم للتهرب من ذلك النضال أو في إخفائه كشيءٍ آخرٍ تمامًا. النقطة الأخيرة هذه هي لب مشكلة الشفقة، لأنها تُعيد تعريف طبيعة النضال بأنه في حدِّ ذاته لا يُناضَل ضدَّه، ومن شأن هذا أن يحُط من قدر الجميع جملةً واحدة.

قد نجد حل هذه المشكلة عند فيلسوفٍ آخر ألهمَ نيتشه إلى حدٍّ ما حول هذه المسألة. ففي ثنايا كتاب إرادة القوة، اقتبس نيتشه مقطعًا من كتاب ميتافيزيقا الأخلاق لإيمانويل كانط:

«… إذا عانى شخصٌ آخر وسمحت لنفسي (بمخيلتي) أن أُصاب بألمه أيضًا مع عجزي عن مداواته فالمحصلة: شخصان يعانيان، مع أن البلاء (بطبيعته) لا يُحيق إلا بصاحبه. ولكن لا يمكن أن يكون لزامًا زيادة بلايا العالم..»

لو اعتبرنا كانط مُحقًّا هنا، حينها يصبح السؤال: هل بالإمكان التعاطف مع الآخرين دون الشعور بآلامهم؟ هل يمكن استعادة مفهوم الكرامة الإنسانية دون تعاطف؟ أم لا يمكننا تحديد المفهوم الأوسع للإنسانية إلا بالإشارة إلى تجربتنا المتبادلة؟ هل نحتاج إلى التعاطف لعيش حياة أخلاقية؛ أو على الأقل ما نظن أنها حياة أخلاقية؟

لعل صون الكرامة الإنسانية والأخلاق بالمعنى الواسع من خلال نبذ الحاجة إلى الإحساس المُشترك بالشعور؛ أي، بمجرد إدراك موقع كل فرد في الصراع الشخصي المرتبط بكل فردٍ. وهذا لا يتم إلا عندما نستوعب الجزء المهم من كلمة (sympathy) (تعاطف) الكامِن في جذرها (sym) ويعني «سويًّا» أو «مع» وليس في الجذر (pathy) الذي يعني «شعور».

تكمن مشكلة الشفقة المُحتقِرة في استعلائها غالبًا، إذ إن الشفقة على الآخر تُشعرنا بأننا أعلى منه. وقد سعى عديدٌ من الفلاسفة إلى تعطيل مثل هذه الفكرة بالإشارة إلى أننا نعجز عن تجاوز إمكانية أن نتعرّض نحن أنفسنا للمواقف المثيرة للشفقة. ومع الأسف، هذه الإمكانية لا تُحسِّن الواقع، فالشفقة انعكاسٌ على العالم كما هو الآن، وليس على العالم الذي يمكن أن يكون أو الذي كان يمكن أن يكون.

بالأحرى، يجب أن ننظر للمعيَّة على أنها واقعٌ وليست مجرد إمكانية. فنحن سويةً ليس لأننا متحدون بما يمكن أن يحدث، بل لأننا مجتمع مكوَّن من أفراد مترابطين يواجهون جميعًا صراعات فردية، وجميعهم يتقاسمون المسؤولية في صراعات كل فرد في المجتمع.

لنضع إذن مفهومًا جديدًا للتعاطف: لا يستوجب التعاطف مع الآخر -بهذا المعنى الجديد على الأقل- الشعور بآلامه بعينها، بل يقتضي التجانس معها من خلال مفهوم الشخص نفسه عن الألم. والأهم من ذلك كله، إدراك موقع الفرد في خلق الألم أو إدامته، وبالاعتقاد بأننا جميعنا، بتآزرنا معًا، يمكننا النضال ضد النضال.

إذن، بدلًا من الإقرار بوجود شقاء الآخر –الذي لا يعدو كونه تأكيدًا على شعورٍ كامنٍ في شخصٍ آخر– ينبغي علينا أن نُقر بمسببات الشقاء، ليس بإيماءةٍ أو بتأكيدٍ صريح، بل بالانضمام معًا إلى الصراع ضد مُسبِّب الشقاء هذا. عندها فقط سيشير التعاطف ضمنًا إلى شيء لا يخص العاطفة تحديدًا بل إلى السعي نحو مساواة متبادلة.

 

 


المصدر

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى