مقالات

تخيّل المستقبل | أيمي كايند

ترجمة: إبراهيم الكلثم

قلّة منّا كانوا على أهبة الاستعداد لمّا انغلق العالم فجأة في مارس 2020 نتيجة جائحة كوفيد-19. فحين كنّا نتباعد جسديًا، ونحتفظ بمناديل الحمام، ونحاول أن نستعصر آخر قطرات معقم اليدين من علبة شبه خاوية؛ أبرم العديد منّا وعدًا صامتًا مع أنفسهم: سأحُسِنُ الاستعداد في المرة القادمة. ولكن – لا شك – يَصْعُب أن تُحسّن استعدادك لما يُخبّئه المستقبل إنْ لم تعرف ماهية ذلك المستقبل. ولهذا فإنّ الاستعداد الحق لا يبدأ بحثّ الخطى إلى المحلات؛ إنمّا بحثّ الخطى إلى المُخيّلة. مالم نستطيع تخيّل ما هو آت؛ لا آمل لنا في وقاية أنفسنا منه.

توجد العديد من الإخفاقات التي ساهمت في الوباء الحالي؛ فقد رأينا – مثلًا – إخفاق الاستخبارات، وإخفاق التعاونات العالمية، وتجاهل نصائح خبراء الصحة العامة. ولكننا شهدنا كذلك إخفاقات المُخيّلة؛ أي، الإخفاق في تخيّل إلى أي مدى قد تسوء الأحوال. فمَن مِن أولئك الذين فكّروا في مسار الوباء المستقبلي في أيامه الأولى قد تخيّل أننا ما زلنا نصارع الوباء، وأن عدد الإصابات في ازدياد بعد أكثر من عامين؟

لا يتبوأ أغلبنا منصبًا يخوّله من تمكيننا من إصلاح الإخفاقات النظامية التي أشرتُ إليها آنفًا؛ فهي إخفاقات لا تقع ضمن سلطة الفرد، ولكن الإخفاق الذي يستطيع كل واحد منّا أن يساهم فيه هو إخفاق المُخيّلة.

أتلمّسُ بحثًا في هذه المقالة دورَ المُخيّلة في مدّ يد العون لنا في التفكير بمستقبلنا، وذلك من أجل أن نُحسّن فهمنا لقدرة المُخيّلة. وكما سنرى، فإنّ انغلاق العالم نتيجة الوباء صاحبه فرصة جديدة قد فتحتْ باب المُخيّلة.

«الصفحة البيضاء» - رينيه ماغريت
«الصفحة البيضاء» – رينيه ماغريت

اعتراض المتشكك

تخيّلات الوباء تتعلق غالبًا بمستقبلنا الجمعي، وجميعنا ساهمنا في هذا المسعى سويًا؛ حيث نروم اسشتراف مستقبلنا. ولكن قبل أن نفهم حق الفهم كيفية رفع قدراتنا التخيّلية الجماعية لمعرفة مستقبلنا الاجتماعي؛ يساعدنا أولًا أن نركز على تخيّل من نوع مختلف، وشخصيّ أكثر من ذاك المسعى؛ ألا وهو التخيّل الذي ننخرط فيه عندما نُفكّر في مستقبلنا الشخصي.

تؤدي المُخيّلة دورًا محوريًا في اتخاذ القرارات (انظر مثلًا، Nanay 2016)؛ إذْ إننا نعتمد على المُخيّلة في اتخاذ القرارات دائمًا؛ سواء كانت قرارات مصيرية – مثل اختيار السيرة المهنية – أو قرارات صغيرة – مثل اختيار وجهة الإجازة – هل أقضي أجازتي بين الجبال أم على الشاطئ؟ البتّ في هذا القرار قد يتطلّب منّي تخيّل نفسي أولًا في وضع معين، ثم تخيّل نفسي في وضع آخر؛ فقد أتخيل نفسي وأنا أتنزه في هواء الجبال البارد والمنعش، ثم أتخيّل نفسي مسترخيةً على رمال الشاطئ وأنا أقرأ رواية غموض وتشويق. أحاول معرفة ما ستبدو عليه هذه الإجازات المحتملة في مُخيّلتي بتخيّل كل واحدة منها على حدة؛ مما يساعدني على اتخاذ القرار.

ورغم أن اتخاذ القرار على هذا النحو قد يبدو أمرًا عاديًا، إلا أن بعض الفلاسفة وضعوا دور التخيّل موضعَ تساؤل في هذا السياق. تأمّل مثلًا عندما تُتخذ القرارات في حالات تكون فيها الخيارات المستقبلية غريبة عن جميع ما عشناه في حياتنا؛ فعندما تختلف السبل المستقبلية اختلافًا شاسعًا عن جميع ما نعرفه من قبل، يعتقد المشككون في قدرة المُخيّلة أن المُخيّلةَ قاصرةٌ عن تحقيق الغاية، ولا يعول عليها في ذلك. وعليه، مفاد الاعتراض المتشكك هو: في حالات عديدة، المُخيّلة عاجزةٌ عن فعل ما ينبغي عليها فعله كي تمكننا من اتخاذ قرارات عقلانية حول مستقبلنا (Paul 2014).

ويبدو أن تأملاتنا المذكورة آنفًا تعضد هذا الاعتراض المتشكك. هل تذكر قصور العديد منا في تخيّل ما كانت جائحة كوفيد-19 ستبدو عليه؟ فلقد كانت غريبة عن جميع ما نعرفه. وعليه، إذا كانت مسارات مستقبلنا غريبة كغرابة الجائحة؛ فلمَ نظن أننا سنحسّن توظيف مُخيّلتنا لتساندنا في اتخاذ قراراتنا؟

 

معارضة الاعتراض – القسم الأول

رغم أن هذا الاعتراض ذو وجاهة؛ إلا أنني أرى مخالفته. إنّ المتشكك في قدرة المُخيّلة قد غفلَ عن جانب بالغ الأهمية فيها؛ ألا وهو أن المُخيّلة مهارة (Kind 2020a). فكما سنرى لاحقًا في هذا القسم من المقالة، حالما نضع هذا الجانب من المُخيّلة في حسباننا؛ سنرى أن اعتراض المتشكك قد فُنّدْ.

عندما أسعى إلى اتخاذ قرار حول وجهة الإجازة، وأتخيّلُ نفسي وأنا بين الجبال، وعلى الشاطئ؛ فإنّ خيالاتي يعضدها عملية أسميها «المساندة التخيّليّة» (Kind 2020b). هب أنني محتارة بين قضاء أسبوع في منتجع في «منتزه جبل روكي الوطني» في ولاية كولورادو، وأسبوع في منتجع في مدينة كابو سان لوكاس المكسيكية. لم أزرْ هذين المنتجعين قط، ولكنني زرتُ منتجعات أخرى، وهي منتجعات تقع بين الجبال أو على الشاطئ؛ فيسعني استحضار هذه التجارب الماضية، واستعمالها في تخيّل إمكانات الإجازة التي أفكر فيها؛ أي إنني أساند عملية اتخاذ القرار بتجارب خضتها لأصل لتلك التي لم أخضها بعد.

يعتمد نجاح هذا الفعل التخيلي على عدّة عناصر: أولًا، يعتمد على المصادر التجريبية المتاحة. فرغم أنني لم أزر كابو سان لوكاس قط؛ إلا أنه توجد أسباب تسوغ الاعتقاد بأن المنتجعات هناك مشابهة من وجوه عدة لمنتجع شاطئي في هاواي قد زرته من قبل. إذن، استفادتي من تجربتي السابقة في إجازة هاواي تعني أنني في موضع أفضل لتخيّل إجازة كابو سان لوكاس مما لو أنني لم أزر منتجعًا شاطئيًا من قبل.

ولكن توفّر المصادر التجريبية وحده ليس كافيًا؛ إذْ إنّ نجاح تخيلي يعتمد كذلك على قدرتي على التحكم في المصادر التجريبية المتاحة. فمثلًا، رغم أن منتجعا هاواي وكابو سان لوكاس منتجعان شاطئيان؛ إلا أن منتجع كابو سان لوكاس مختلف عن منتجع هاواي من جوانب عديدة: هاواي جزيرة؛ فلها اقتصاد الجزر، وهذا يفضي إلى وجود بعض الاختلافات الهامة بين إجازة في هاواي، وإجازة في كابو سان لوكاس. كما أن وجود هاواي في الولايات المتحدة سيضيف اختلافًا هامًا بين الإجازتين؛ فهاواي تستعمل العملة الأمريكية، ومعظم سكانها يتحدثون الإنجليزية لغةً أولى، وهذان الأمران لا ينطبقان على كابو سان لوكاس. وعليه، من أجل استخدام هذه التجارب التي خضتها في مساندتي لأصل إلى تلك التي لم أخضها بعد؛ فينبغي علي أن أضيف على هذه التجارب السابقة، وأطرح منها، كما ينبغي علي كذلك دمجها، وجمعها، وتكييفها مع التجارب الأخرى. مثلًا، رغم أن المنتجع الشاطئي الذي قد زرته يقع في الولايات المتحدة؛ إلا أنني قضيتُ بعض إجازتي سابقًا في مواقع عالمية؛ حتى وإنْ لم تكن قط على الشاطئ، ولا في المسكيك. وأقول مثل ذلك: رغم أنني لم أقضِ إجازتي قبل قط في المسكيك؛ إلا أنني زرتها في رحلة عمل. إذن، استفيد في مُخيّلتي من تجارب إجازتي في هاواي، ومن تجارب إجازاتي في بلدان غير الولايات المتحدة، وتجاربي في زيارة المسكيك لأمر غير قضاء الإجازة، وبإجراء الإضافات اللازمة، والطرح، والدمج؛ أصل إلى شيء يقارب ما سيبدو عليه قضاء الإجازة في منتجع كابو سان لوكاس، وذلك أفضل مما لو لم أمتلك تلك المصادر التجريبية.

وكما لا يخفى، إجراء جميع هذه التعديلات يتطلب جهدًا تخيّليًا، وقد يتطلب جهدًا كبيرًا، وبعضنا أفضل من بعض في إجراء تلك التعديلات، ولكن هذا ليس مفاجئًا نظرًا لأن المُخيّلة مهارة. فكما يتفاوت الناس في مهاراتهم لأداء أنشطة أخرى – سواء كانت حل الكلمات المتقاطعة أو عزف الكمان – فإنهم سيتفاوتون في مهارة مُخيّلتهم. ويجدر بنا أن نذكر مع ذلك، كما أن المرء قد يتحسّن في حل الكلمات المتقاطعة أو عزف الكمان إنْ هو انخرط في التمارين الملائمة لهما؛ فكذلك نحن قادرون على تحسين مستوى مُخيّلتنا بأداء التمارين الملائمة لها (Kind, 2022). نمرّن مُخيّلتنا في طفولتنا كثيرًا؛ حتى لو كان هذا التمرّن تلقائيًا؛ إذْ إننا نوسّع مُخيّلتنا كلما قرأنا كتابًا مصورًا، أو لعبنا ألعابًا مع أشقائنا أو أصدقائنا نؤدي فيها أدوارًا معينة. وعندما نكبر، المتطلبات التي تقيّد وقتنا تضيّق الفرصة على هذه الضروب من الأنشطة التي تتوسّع فيها مُخيّلتنا، ولكن هذه النشاطات ستكون في متناول اليد إنْ سعينا في إثرها؛ سواء أكان ذلك بواسطة تمارين التصور البصري المُرشّدة في تطبيقات التأمّل، أو بواسطة فصول التمثيل الارتجالي في استديوهات التمثيل المحلية.

باختصار، من الممكن أن تفعل بواسطة المساندة التخيّليّة أكثر بكثير مما يدرك المتشكك في قدرة المُخيّلة؛ خصوصًا بالنسبة للمتمرّس فيها. إننا إذن في موضع أفضل مما يسمح به المتشكك يؤهلنا للاعتماد على المُخيّلة في اتخاذ القرارات. ولكن هل يكفي ذلك لتفنيد اعتراض المتشكك؟ فحتى إذا كنّا قادرين على تحسين اتخاذ قراراتنا بواسطة المُخيّلة أكثر مما يظنّ المتشكك؛ فقد لا تفي التخيلات بتحقيق المطلوب. أيسعنا التوقع تخيّليًا وبدقة بما سيبدوان عليه موقعا الإجازة؟ وألا تتعقد المسألة بالنسبة لسياقات اتخاذ القرارات الأهم من قضاء الإجازة؛ مثل عندما نختار من مسارين مهنيين مختلفين، أو الاختيار بين مدينتين مختلفتين للعيش في واحدة منهما؟

استجابة لهذه الإشكالات، أرى ضرورة توخي الحذر في عدم وضع مطالب غير معقولة على ما ينبغي أن تفعله المُخيّلة من أجل أن تسمح لنا باتخاذ قرارات عقلانية حول المستقبل. لا تنسَ أن منبع الاعتراض مفاده أنّ سبلَ المستقبل غريبة عنا حدَّ أنها جوهريًا متمنّعة علينا من منظوراتنا الحالية. إذن، لتفنيد هذا الاعتراض، لسنا مضطرين إلى إظهار أننا نعرف بالتفصيل ما سيبدو عليه اتخاذ مسار عوضًا عن اتخاذ مسار آخر. من المستبعد أن يكون ذلك ممكنًا في أي سياق لاتخاذ القرارات؛ حتى في حالات اتخاذ القرارات المألوفة. عمومًا، لا نعتقد أن معرفتنا حول ما سيبدو عليه مسارنا المستقبلي يجب أن تكون معرفةً تامة ومعصومة عن الخطأ من أجل اتخاذ قرار عقلاني؛ فمن يتناول كثيرًا من أطباق الخضروات الحارة وبريتو الفول لا يتوجب عليه أن يعرف بالتفصيل مذاق هذا الطبق المعين من طبق الخضروات الحارة كي يكون عقلانيًا في اختياره مقارنة ببوريتو الفول، والطالب الجامعي الذي درس عدة مقررات في التاريخ والأدب لا يتوجب عليه أن يعرف بالتفصيل ما سيبدو عليه مقرر «تاريخ 241» كي يكون عقلانيًا في اختيار هذا المقرر بدلًا من مقرر «أدب 241». عمومًا، لا يتوجب علينا أن نحوز معرفة كاملة وتامة حول الخيارات المتاحة من أجل أن تكون خياراتنا عقلانية.

«المَلَكة التخيليّة» - رينيه ماغريت
«المَلَكة التخيليّة» – رينيه ماغريت

معارضة الاعتراض – القسم الثاني

إذن، إدراك أن المُخيّلة مهارة يقطع بنا مسافةً طويلة في الرد على اعتراض المتشكك في أن قدرة المُخيّلة تمكننا من اتخاذ قرارات عقلانية حول المستقبل، ولكن توجد فكرة هامة أخرى يجدر بنا ذكرها: عندما نستعمل المُخيّلة في سياقات اتخاذ القرارات؛ فنحن لا نسعى إلى مجرّد توقّع المستقبل؛ بل إننا نسعى كذلك إلى تشكيله. إنّ المتشكك ينظّر ضمن إطار تصوّر محدود النطاق للغاية لما نستخدم تخيلاتنا فيه، فيسعنا أن نزيد في تفنيد اعتراض المتشكك بواسطة تبنّي مفهوم أثرى حول مدى عمل المُخيّلة في هذه السياقات.

تقدّم الفيلسوفة ماغدالينا بالسراك جاكسون في بحوث حديثة إطارًا نظريًا ينفعنا أكثر من الإطار الضيق المذكور آنفًا، ويفيدنا في إثراء تفكيرنا حول دور المُخيّلة في اتخاذ القرارات (Balcerak Jackson 2020). ومن السمات الجوهرية لهذا الإطار النظري التمييزُ بين نموذجين مختلفين للمُخيّلة تسميهما: «نموذج المُتَكهّن» و«نموذج المعماري».

حينما نفكر في المُخيّلة حسب نموذج المُتكَهّن؛ فإننا نراها باعتبارها نشاطًا يستهدف تمثيل مسارٍ للمستقبل، وكما تقول بالسراك جاكسون، فإننا: «نفعّل جوهرتنا الداخلية، ونرى المستقبل». إنّ استعمال المُخيّلة للتفكير حول المستقبل يتوافق مع استعمال المُخيّلة للتفكير حول حالات الحاضر؛ إذْ عندما يقدّم لك شخصٌ هديةَ يوم ميلاد قد غُلّفتْ تغليفًا جميلًا؛ فإنّك قد تحاول أن تتخيل محتويات العلبة قبل أن تأخذ في حلّ عقدة شريط الهدية. استعمال المُخيّلة للتكهّن بمحتويات العلبة مماثلٌ جدًا لاستعمالها للتكهّن بمحتويات المستقبل؛ إذْ إنّك تروم في الحالتين اكتشاف شيء مجهول. وبفعلك لذلك؛ فإنّك تسعى إلى وضع الأمور في نصابها؛ أي إنّك تسعى إلى اكتشاف الحقيقة.

ليس مستغربًا أن نتبنى نموذج المُتَكهّن عندما نستخدم المُخيّلة في اتخاذ القرارات. إنّ تبني هذا النموذج يسمح لنا كذلك بعقد مقارنة تمثيلية لطيفة بين المُخيّلة والإدراك الحسي؛ فكما أن الإدراك الحسي يمكننا من رؤية العالم الحالي كما هو في واقع الأمر؛ فإنّ المُخيّلة تمدّ لنا يد العون في رؤية العالم المستقبلي بقدر ما يمكنها ذلك. وهذا لا ريب هو استعمالنا للمُخيّلة في حالات عديدة من اتخاذ القرارات.

ولكن مع ذلك، أحيانًا نوظف المُخيّلة في اتخاذ قراراتنا توظيفًا مختلفًا؛ فعندما نفكر في المُخيّلة حسب نموذج المعماري بدلًا من نموذج المُتكهّن؛ فإننا نعد المُخيلّة نشاطًا يستهدف تصميم سبيل المستقبل؛ إذْ إنّ الهدف هن ليس التوقّع؛ إنما التكوين. فكما تقول بالسراك جاكسون: «نضع صورة أولية للمستقبل الممكن […] على طاولة التصميم، ونستعمل قدراتنا التحكمية على المُخيّلة تعديلًا وعملًا على هذه الصورة». نستطيع أن نرى هنا كذلك التوافق مع استعمالات مماثلة للمُخيّلة في التفكير حول حالات الحاضر. إنّ الأطفال الذين يلعبون ألعابًا يؤدون فيهًا أدوارًا تخيليّة يستعملون تخيلاتهم لتصميم العالم المصطنع في اللعبة؛ إذْ إنهم يشكلون المحيط حولهم، ويحوّلون ساحة اللعب إلى سفينة قراصنة، ويدفعونها للإبحار إلى جزيرة مهجورة. إنّ الأطفال لا يسعون هنا إلى اكتشاف شيء مجهول، ولا إلى اكتشاف الحقيقة؛ إنما يرومون صنعَ حقائق جديدة. وعلى نفس المنوال، عندما نقارب اتخاذ القرارات بواسطة المُخيّلة حسب نموذج المعماري بدلًا من نموذج المُتكهّن؛ فإننا كذلك ننخرط في عمليات تصميم بدلًا من عمليات اكتشاف.

إنّ المتشكك حينما يُسائل فاعلية المُخيّلة في اتخاذ القرارات؛ فإنّه يفترض أننا نستعمل المُخيّلة حسب نموذج المُتكهّن. وكما رأينا في القسم السابق، يسعنا نحسّن من تكهننا أكثر مما يسمح بذلك المتشكك، وهذا يمنحنا سبيلًا نرد به على اعتراضه. ولكن كما يشير إليه نقاشنا في هذا القسم؛ فإننا أحيانًا نستعمل المُخيّلة استعمالًا مختلفًا كليًا، وهذا يمنحنا سبيلًا آخر في الرد على اعتراض المتشكك. عندما نقارب مستقبلًا مقاربة تخيّليّة ليس باعتبارنا متكهنين؛ بل باعتبارنا معماريين؛ فإننا لا نروم فحسب رؤيةَ إمكانيات المستقبل؛ إنما كذلك نروم تشكيل مستقبلنا من هذه الإمكانيات. إنّ المرء لا يرى فحسب احتمالية نسخة من ذاته المستقبلية في المُخيّلة؛ إنما يسعى إلى تحقيق نسخته المستقبلية تلك.

كيف يتحقق ذلك؟ أعتقد أننا نستعمل نموذجًا شبيهًا لنموذج المعماري في حالات مختلفة كثيرة؛ حتى لو لم نلاحظ دائمًا أن ذلك ما نفعله. لنمثّل على ذلك بمثال: خذ مثلًا الورش المعقودة في الحرم الجامعي، والتي تهدف إلى مساعدة أعضاء المجتمع على تحسين مساندتهم لضحايا التمييز العنصري، وعادةً ما يؤدي المرء في هذه الورش أدوارًا كثيرة. قد يُقدّم للمرء حالةً يتصرف فيها الشخص تصرفًا منافيًا للأخلاق إزاء شخص آخر؛ إذْ قد يعتدي عليه اعتداءً بسيطًا، أو قد يفعل ما هو أسوأ من ذلك. فإذا أدينا هذه الأدوار؛ فإنّ أولئك الذين يحضرون الورش يتخيلون استجاباتهم لهذا التصرّف. ولكن، وهذا أمرٌ هام، نحن لا نروم استشراف استجاباتنا الواقعية؛ حيث يعدُّ ذلك أمرًا مسلمًا به مسبقًا. وإنما نتخيل تصرفاتنا [السليمة] في أوضاع معينة بما يخولنا لأن نصبح أشخاصًا نستجيب على ذلك النحو.

أتذكر في هذا السياق أمرًا ذكرته لي إحدى طالبتي عندما سألتُ الطالبات عن كيفية استعمالهن للمُخيّلة: «أتخيل المستقبل، وأتخيل نفسي فيه، ويساعدني في ذلك تلوين المستقبل الذي لولا هذا النشاط لبقيَ بلا ألوان». بقولها لذلك فإنّ التخيّل لم يوظف في توقّع المستقبل بالنسبة لها، أو على أقل تقدير، لم تكن هذه هي وظيفته الوحيدة؛ إنما وُظّف في بناء مستقبل لها.

إنّ ما يطرحه اعتراض المتشكك بخصوص دور المُخيّلة في اتخاذ القرارات مَرَدُّه – إلى حدّ بعيد – مساءلته لقدرة المُخيّلة في اتخاذ تخمينات دقيقة حول المستقبل، ولكن إنْ قلنا بأن اعتمادنا على المخُيّلة في اتخاذ القرارات موجّه نحو تصميم المستقبل، وليس تخمينه؛ فإنّ اعتراض المتشكك سيتلاشى.

استعمال المُخيّلة

كما وضّح النقاش في القسم السابق، إنّ فهم هذين الاختلافين بين استعمالي المُخيّلة لأغراض معنية بالمستقبل يخوّلنا للإجابة عن اعتراض المتشكك، ولكن نيل هذا الفهم يمكننا بما هو أكثر من ذلك؛ على وجه الخصوص، حالما نحسّن تصورنا لما قد تحققه المُخيّلة؛ فإننا مؤهلون لتحسين استغلالنا لقدرتها.

لنعد إلى ضروب التخيلات المعنية بالمستقبل التي استهللنا بها مقالتنا؛ أي، التخيلات حول جائحة كوفيد-19. لقد كان البحث في السنتين الماضيتين عن سبل معينة نتخيّل بها أنفسنا في أوضاعٍ نجتاز بها الجائحة أمرًا طارئًا جدًا. ولكن كما أشرنا آنفًا، لم يفدنا ذلك كثيرًا في بادئ الأمر. يَصعُبْ على المُخيّلة أن توظّف إذا انعدمتْ المعلومات؛ إذْ إننا نحتاج نقطة انطلاق، شيء يسندنا، ولكن عندما بدأتْ الجائحة، لم يحظَ أغلبنا بالمصادر التجريبية التي نحتاجها لنبلي بلاءً حسنًا في المساندة التخيّليّة.

كلما ازداد عمر الوباء، وواجهتنا حالات متتالية لم يسبق لها مثيل في الأزمنة المعاصرة؛ توسّعتْ مصادرنا التجريبية توسعًا مزعجًا، وفي أحيانًا، قد توسعتْ حدَّ مرحلة نصل معها إلى الانهيار، ولكنْ وجدتْ نتيجة إيجابية واحدة على الأقل؛ جانب مشرق واحد؛ ألا وهو أن مُخيّلتنا قد توسّعتْ كذلك. لقد امدتْ تجاربُنا مع الجائحة مُخيّلاتنا بمواد أكثر مما سبق يستفيد منها، وبدأت مُخيّلاتنا بداية جديدة. لقد أصبحنا مع هذا التوسّع، وهذه البداية الجديدة للمُخيّلة، في موضع أفضل للتفكير تفكيرًا بَنّاءً حول المستقبل الذي قد نواجهه.

وبفعلنا لذلك، أينبغي علينا أن نكون مُتكهنين أم معماريين؟ الجواب بالنسبة لي: كلاهما. سنستفيد استفادةً حسنة إنْ اشتغل هذان النموذجان مع بعضهما بعضًا؛ إذْ إننا مضطرون إلى رؤية إمكانيات المستقبل كي يسعنا الاختيار منها ما نود أن نوجده، وكلّما تحسنا في تصوّر إمكانيات المستقبل هذه في عين أذهاننا؛ ازدادتْ إمكانية أن نبدأ تصميم المستقبل المختار.

كما تعلّمنا من الإخفاقات التخيّلية للجائحة الحالية، ومن عواقب هذه الإخفاقات؛ إنّ عمل المُخيّلة ليس رفاهيةً؛ إنما أمرًا ملزمًا. إذن، لعل أهم ما نتذكره من عمل المُخيّلة هو أنه عمل، ويصدق ذلك عليه سواء كنّا مُتكهّنين أو معماريين، أو خليطًا من الاثنين. وكما أشرتُ آنفًا، إنّ المُخيّلة مهارة، وهي مثل جميع المهارات، يتحسّن المرء فيها كلما مارسها. إذا بدأنا العمل على تطوير تلك المهارة الآن – أي إذا استخدمنا مصادرنا التجريبية الجديدة، ووضعناها في خدمة تحسين عضلاتنا التخيّلية – فإننا سنحسّن حالنا فيما هو آت، ولا يقتصر ذلك على رؤية أن في المُخيّلة ضروبًا مختلفة من المسائل المتعلقة بالمستقبل الذي قد نواجهه، ولكن أنّ نرى فيها كذلك سبلًا قد نحلّ فيها مثل هذه المسائل.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

المراجع

Balcerak Jackson, Magdalena. 2020. Designing Our Futures. September 16. https://junkyardofthemind.com/blog/2020/9/14/designing-our-futures

Kind, Amy. 2022. “Learning to Imagine.” British Journal of Aesthetics 62: 33-48. https://doi.org/10.1093/aesthj/ayab037

Kind, Amy. 2020a. “The Skill of Imagination.” In The Routledge Handbook of Skill and Expertise, edited by Ellen Fridland and Carlotta Pavese, 335-346. Abingdon: Routledge

Kind, Amy. 2020b. “What Imagination Teaches.” In Becoming Someone New: Essays on Transformative Experience, Choice, and Change, edited by Enoch Lambert and John Schwenkler, 133-146. Oxford: Oxford University Press

Nanay, Bence. 2016. “The Role of Imagination in Decision-making.” Mind and Language 31 (1): 127-143

Paul, L.A. 2014. Transformative Experience. New York: Oxford University Press

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى