رأينا الفلسفةَ النسوية إضافةً حقيقية. وتجسيدًا لقيم ما-بعد-الحداثة، وما-بعد-الاستعمارية، وما-بعد- الوضعية، وما-بعديات شتى… هي منطلقٌ نقدي للوضعِ الراهن، تلقي الضوءَ على مثالب وقصورات وحيودات، باحثةً عن رؤيةٍ متكاملة، تستوعب منظورات وقيماً يمثلها جانبٌ، طويلًا ما جرى تهميشه، هو الجانب الأنثوي.
ولعلّ الفلسفة النسوية بهذا لا تعبّر عن نظرةٍ خاصة بالنساء، بقدر ما تعبّرُ عن نقدٍ وتطوير لما هو عام وشامل للبشر أجمعين. لا تزعم أن النساء يمتلكن الحقيقة، بل فقط أن الرجال لا يستأثرون بها. وذلك لإحداث توازن وتكامل مأمول بين جانبي الموجود البشري: الذكورة والأنوثة، بدلًا من انفراد الذكورية بالميدان، فتأتي المحصلة أكثر سخاءً. ومن ثم فإن استحضارَ النسويةِ لاستنطاقِ وتفعيل القيم الأنثوية إنما هو إثراءُ لا ريب فيه، كتحديث ملموس وإيجابي للثقافة. والثقافةُ بدورها مثولٌ عيني واقعي معيش للأفكار والمقولات.
وفي عصرنا هذا، عصر العلم وتتابع ثوراته التقنية الجبارة، تغدو الثقافة العلمية هي الأكثر حضورًا والأكثر إلحاحاً وراهنية؛ فماذا يمكن أن تفعل النسوية في ميدان التفكير العلمي؟ وما الذي تستطيع تقديمه وإضافته للثقافة العلمية تحديداً؟
في الإجابة على هذا التساؤل نجد النسوية الآن تمثلُ واحدًا من أبرز تيارات فلسفة العلم، تيارًا ترك بصماته على مساراتها، بحيث جعلها أكثر التحامًا بالواقع وبالحياة، وساهم في الانتقال من مقولة العلم المتحرر-من- القيم إلى وضع العلم المُّحَمل- بالقيم، والمُتحمِل لمسؤولياتِه الاجتماعية والثقافية. ويمكن القول إن فلسفة العلم التقليدية، أي فلسفات العلم الأسُسية المنحصرة في منطق العلم ومنهجه، تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، أما النسوية فهي تحاول أن تفيدَها.. أن تضيفَ إلى العلمِ ما ينقصُه ويجعله أفضل. إنها تبحث عن صورة جديدة متطورة للعلم والممارسات العلمية والثقافة العلمية.
ولعل العلم – فيما ترى النسوية – كأية بنية ثقافية أخرى في الحضارة البطريركية: مؤسسة موسومة بالمركزية الذكورية والتحيز الجنساني الذكوري، وسوف يكون العلم أفضل لو أنه عولج من غلواء هذا. لقد بدا العلم الحديث هو الأكثر استحقاقًا وانتظارًا للمعالجة النسوية وقيمها الأنثوية، لأنه أكثر من سواه تطرفاً في تجسيد القيم الذكورية، حتى اعتبر كل ما هو أنثوي حميم كالعاطفة والحنو والشعور والانفعال وعمق الارتباط بالآخر والرعاية طويلة المدى….. لا علم وضد العلم. ولئن كانت الطبيعة أنثى بامتياز، فإن العلم الطبيعي الحديث كان مشروعًا ذكورياً بامتياز: مشروعا للهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها واستغلالها والاستمتاع بمجانيها؛ مما تمخض عن الكارثة البيئية، وعن استغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى. وهذا القالب الذكوري المصمت هو السائد في واقع الثقافة العلمية المتداولة، ليبدو العلم خشنًا جافاً، يوضع كنقيض للإنسانيات، في حين أنه في جوهره الأكثر إنسانية وحيوية وإبداعية.
هكذا تضطلع الفلسفة النسوية بمقاومة التفسير الذكوري المطروح للعلم، وتحرير العلم من التطرف في هذه الذكورية، أو تحرير الثقافة العلمية من ذكورية العلم. وليست المقاومة النسوية لهيلمان الذكورية مجرد نزوع للسلب والرفض، بل تنطوي أيضًا على الإضافة والإنجاز الإيجابي، إنها إضافة وتفعيل الأنثوية والمنطلقات الخاصة بالأنثى، لكي تضيف إلى العلم قيمًا أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجية ومواءمة إنسانية؛ وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، وتجعل الثقافة العلمية أكثر دفئاً وجاذبية.
القيم الأنثوية هي الاعتماد المتبادل والحميمية والتفكير السياقي، بدلًا من الردية والاختزال والعزل والتفكير الخطي. هي الحدس والانفعال والشعور والعاطفة، بدلًا من الاقتصار الذكوري على الاستقراء والاستنباط والخوارزميات. هي الترابطية والاتصال بدلًا من التفرد والانفصال والاستقلال الذاتي في الذكورية.. هي أخلاق الرعاية الحانية والمسؤولية في الموقف الحياتي المعني، بدلًا من أخلاق القاعدة الصورية والقوانين المجردة والمبادئ العمومية في الذكورية. وفي مقابل العجلة في البحث العلمي وسرعة الإنجاز وأسبقية الكشف والنشر، بمكن التوقف بإزاء قيمة أنثوية حميمة هي التعهد والرعاية والمقاربة طويلة المدى التي تكشف عمّا لا يكشف عنه عشرات البحوث العجلى.
ولئن كانت الميثودولوجيا أو المنهجية العلمية تمثل الدرس العظيم الذي ينبغي أن تستقطره الثقافة العلمية وتعمل على بثّه، فإن القيم الأنثوية تتبلور في الميثودولوجيا العلمية النسوية، التي تبحث عن الإنصات إلى الطبيعة وتلقي رسالتها كصديق يحكي لك عن نفسه.. كزهرة تتفتح أمامك؛ ويغدو العلم حوارًا مع الطبيعة بدلًا من أن يكون محكمة تفتيش واستنطاقًا واستجوابًا. أكدت بربارة ماك كلينتوك – الحائزة على جائزة نوبل عن أبحاثها في جينات نبات الذرة – أكدت كثيراً على”الإنصات” لما تقوله الطبيعة، ورأت فيه منهجية حوارية تقوم على ارتباط شعوري عميق بموضوع البحث.
إنه اكتشاف طرق إضافية للفهم. وتقدم النسوية عقلًا علميًا يلعب فيه الشعور دورًا أكبر. إن الشعور مصدر من مصادر الفهم، وبالمثل نتيجة من نواتج الفهم، ليتوشج في العملية المعرفية من رأسها إلى أخمص قدميها، تخليصًا للعلم من جفافه، وتخلصًا من الفوارق القاطعة بين المناشط العقلية، ومن سائر التصنيفات القاطعة. القيم الأنثوية تعني انفتاح البحث العلمي على الطبيعة والعالم بتصورات نسوية تداوي أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل توازن مأمول، يكون مثمرًا للغاية أن ينعكس في الثقافة العلمية.
الميثودولوجيا التقليدية تركز على العقل والحواس، وقد تضيف الخيال والحدس خصوصًا في إبداع الفرض العلمي. ولكن ماذا عن الشعور والإحساس والعاطفة والوجد والانفعال والتذوق والاستمتاع والمعايشة والعلاقات مع الزملاء والارتباط بالمؤسسة العلمية…. النسوية ترى أن يؤخذ كل هذا أيضًا في الاعتبار إذا رُمنا مقاربةً متكاملة للمنهج العلمي، أكثر حيوية ودافعية، أكمل وأجمل حضورًا في الثقافة العلمية.
ويبقى تقديس الحياة والقيم الإيكولوجية في عصرٍ باتت فيه البيئةُ من كبرياتِ المشاغل. وهنا تتقدم النسوية بقيمها.. لتكون فلسفة بيئية على الأصالة وثقافة بيئية عميقة ممتدة الجذور والأصول. إن توازن المشروع العلمي والثقافة العلمية بالقيم الأنثوية التي تقوم على عمق الارتباط بالآخر وانبثاقة الحياة من المرأة والتعهد بها ورعايتها وتنميتها. يؤذن بطرح ٍفي صالح مشكلة البيئة والمتطلبات البيئية. لقد تصاعدت النسوية البيئية التي تعبر عن العلاقة الحميمة بين الطرفين: الطبيعة أنثى والأنثى طبيعة. وهذا ما يؤكده التاريخ العتيق المهدر لصالح الرجل. فقد اكتشف الرجل القنص والحرب، واكتشفت المرأة الزراعة والرعي. اخترع الرجل الفأس والبلطة والسكين والخنجر والقوس والسهم والرمح، واخترعت المرأة القدور والأواني والأطباق والأقداح والموقد. صنع الرجل العجلة وصنعت المرأة الردهة والفراش والستائر…. كان هذا في العصور السحيقة التي كانت قبل العصر البطريركي (الأبوي)، أي في العصر المبدئي البعيد جدًا السابق على التاريخ المدون، حين كانت المرأة هي مركز الأسرة وعمادها، والرجل يخرج للقنص والصيد وقد لا يعود.
أما في عصرنا هذا ومرحلتنا الراهنة فقد بدأ عصر البيئة بكتاب “الربيع الصامت – 1962” وهو من وضع امرأة، هي: راشيل كارسون [ترجمه إلى العربية العالم الراحل د.أحمد مستجير، وصدر عن منشورات جامعة القاهرة]. وبهذين القوسين: السحيق والمعاصر، العصر الأمومي وعصر ما بعد الحداثة، تؤطر الفلسفة النسوية مبرّرات الزعم بأن الثقافة البيئية والحفاظ على البيئة من أخص خصوصياتها.
منذ عقود أربعة خلت، انطلقت فلسفة خضراء مع تيار الإيكوفيمينزم أو النسوية البيئية، تيار يأتي خصيبا دافقا كواحد من أقوي تيارات الفلسفة البيئية والإيكولوجيا الجذرية.. نظريًا، وأقوى منطلقات أحزاب الخضر ونشطاء الحفاظ على البيئة عملياً. ونعود إلى الثقافة العلمية المأمولة لنجدها وقد بات لزامًا عليها أن تجعل قضايا البيئة مهمتها الأولى. إن صياغة حيثيات وجوب تكفير العلم عن خطيئته الإيكولوجية فرض عين على الثقافة العلمية؛ وبالتالي لا تستطيع أن تغض الطرف عن الفلسفة النسوية والقيم الأنثوية التي تبدو قادرة حقًا على الإسهام في إعادة التصالح مع البيئة، وصونها ورد الاعتبار إليها. إن النسويةَ البيئيةَ عتادٌ منجز فعال للثقافة العلمية المأمولة.
وأخيرًا، وربما أولاً وقبلًا، نجد الفلسفة النسوية تؤكد أن العلم ليس مجرد نشاط مهني، بل هو شكل جوهري من أشكال الثقافة الإنسانية، محملٌ بالقيم والمسؤوليات والأهداف الاجتماعية. وانطلقت النسوية بنزعتها بعد الحداثية والجماهيرية النابذة للنخبوية وللمركزية، لتبحث في تأكيد ديمقراطية العلم، والعلم الذي ينطلق من أسفل، أي من القاعدة الجماهيرية وليس فقط من النخبة العلمية العليا، وتؤكد ضرورة الاعتراف بالآخر، وتتحدث آن كَدْ عن التعددية الثقافية كفضيلة معرفية في الممارسة العلمية وفي المنهجية العلمية. قد يبدو من البداهة بمكان ضرورة تنزيه العلم والبحث العلمي والممارسة العلمية والثقافة العلمية وعالم العلم إجمالًا من أوشاب العرقية أو الإثنية والعنصرية. وبديهي أيضًا أن هذه المنطلقات النسوية المبدئية مواتية تمامًا للتفعيل في الثقافة العلمية، لتجعلها أكثر دفئًا ومواءمة إنسانية، أكثر شمولية ونبذا للإقصاء، وبالتالي ومستجيبة لمتطلبات الواقع الثقافي الراهن في القرن الحادي والعشرين.
والحقّ أن الثقافة العلمية ستغدو أرقى وأكثر إنسانية وأكثر إيجابية؛ لو أنها استفادت في طروحاتها للعلم والقيم العلمية من هذه الصورة المتطورة المتوازنة التي تقدمت بها الفلسفة النسوية.