يُعد إطلاق “مكتبة دريدا” ضمن منشورات” سوي” عملًا عظيمًا. وهي تهدف بالأساس إلى استعادة الحلقات الدراسية جميعها التي قدمها الفيلسوف جاك دريدا في جامعة السوربون، وعاهد وجامعات مختلفة ومتفرقة. نشر بعضها متفرقًا هنا وهناك. ويمثل صدورها اليوم حدثًا ثقافيًا غير عادي. كان دريدا يكتب دروسه كلها ولا يترك مجالًا للارتجال، بحيث خلّف لنا حوالي 14000 صفحة. وهذا سيفتح على المدى الطويل دينامية هائلة لناشريه، تحت مسؤولية كاتي تشينويث. لكن هل ستتمكن هذه الدروس من فتح آبار جديدة في أعمال دريدا المتشعّبة؟ عندما نقرأ المجلد الافتتاحي، الصادر في شهر أبريل الماضي تضطرم في أعماقنا أسئلة جديدة حول فكر دريدا، وكأنها أنوار ساطعة تميط اللثام عما التبس وتعتم من فكر دريدا ومنهجه التفكيكي.
أول ما يثيرنا في عمل دريدا تخليه عن العطف ما بين مفهومي الحياة والموت. دريدا يتخلص مبدئيًا من الاقتران والمعارضة، لينتقل إلى منطق الاختلاف، من الواضح أنه مجال قوة تفكير وفكر دريدا. بالنسبة لقراء اليوم، فإن مقاربة دريدا ذات طابع تربوي وهي ما يميز منهجه أو أحد تظهراته الي يسميها “برنامج” والمقصود الفكرة الواضحة تلو الفكرة الواضحة: “نقل متغير للمتغيرات”، وتحييد للمعارضة وتحديد الهوية، فإننا لن نجد لا “كينونة” الوجود، ولا “عطف” التقارب ، ولا رفض الدينامية البيولوجية. (الحياة ، الموت) ، إذن هي وجهة نظر قد تتحول إلى ( الموت، الحياة). ثم تصبح العلاقة أكثر تعقيدا. كما يصرح محررا هذا المجلد الأول، باسكال أن برول وبيجي كاموف، اللذان ضمنا المجلد الأول بعض الدروس، دون تغييرات كبيرة، لأنها نصوص سبق نشرها. هذا هو حال الحلقة الثانية، التي نشرت في أوتوبيوغرافيا. حول تدريس نيتشه وسياسة الإسم الشخصي ( نشرت سابقا لدى غاليلي ، 1984). و تشكل الحلقات الأربع الأخيرة جزءًا من محتوى البطاقة البريدية. من سقراط إلى فرويد وما بعده (نشرت سابقا لدى فلاماريون ، 1980). أما بالنسبة للجزء الثامن والجزء التاسع، فقد نشرهم دريدا سابقا، ولكن باللغتين الإنجليزية والألمانية ولا يعرفهم إلا قليل من القراء الفرنسيين.
سبع جلسات فقط من أصل أربعة عشر جلسة جديدة تمامًا، باستثناء الأولى والسابعة، فهي ليست الأكثر إثارة للاهتمام. هناك أنفاق حقيقية تمر من هنا إلى هناك زخمة بحمولات فلسفية، تلتقي وتتقاطع، لا سيما عند النقاش الوثيق الذي أجري حول نص فرانسوا جاكوب، “منطق العالم الحي” الذي (نُشر في عام 1970) ، والذي يعد بمثابة نقطة انطلاق للعمل مع الطلاب. بصرف النظر عن التأملات حول الاستعارات ومفهوم النموذج، والحدس الذي بدأ دريدا يشتغل عليه (والتحقق منه منذ ذلك الحين) ومن هنا سيصبح الخطاب البيولوجي نموذجًا لجميع الخطابات الأخرى. بمجرد قيامه بدورة بواسطة نيتشه، ثم بقراءة هايدغر(الذي يبقى دائما غير مفهوم جيدًا) لنيتشه،بواسطة فرويد، قلت دورة لأننا أمام فكر لولبي رائع ومثير، يحوم حول متون الغير، فيتغلغل ويتدخّل ويفكك وينتزع وينظم ويحلل ويركّب. ولعمري هذا هو دريدا الخالص في أعمق تجليّاته الفلسفية.
الاستثناء الملحوظ هو الجلسة السابعة، إذ يقوم دريدا بقراءة بعض المقاطع من كتاب الفيلسوف التي يستحضر فيها نيتشه أصل دافع الحقيقة، التي تأسست عليها الأطروحات الفلسفية منذ اليونان وإلى يومنا هذا. وفي معرض تعليقه على المقطع الذي يشرح فيه نيتشه أن الطبيعة قد أوصدت على البشر جيدًا وألقت المفتاح، لا يقدّم دريدا تأملًا رائعًا فقط حول المفتاح ورميه، ولكنه يجعلك تفهم كيف أن نسيان المفتاح هو شرط الحقيقة.
بطريقة تدريجية جدًا، يضعنا على طريق التمييز الأساسي عند نيتشه، بين الحقائق الزائفة للحياة الاجتماعية والحقيقة التي يجب أن نبحث عنها في الفجوة التي خلفتها هذه المبادرة. “يوجد قبل أي َقفل وفَتح – إغلاق ، قبل أي مفتاح موجود أو استرداد معين ، فتحة – التي لا هي طبيعية ولا هي مصطنعة (تقنية، و مُنشأة ) – تسمح به هذة الفتحة لإلقاء نظرة من خلالها … “.
تختتم الجلسة باقتباس جملتين لنيتشه والتي من المحتمل أن تكون الدافع وراء تأمل دريدا بالكامل وكل ما يحاول أن يكتشفه في هذا الدرس. يعلق هايدغر على هاتين الجملتين أيضًا. الأولى مأخوذة من إرادة القوة : “إن عالمنا كله من رماد الكائنات الحية التي لا حصر لها، والقليل من أن الكائنات الحية تقارن بكل شيء، يبقى أنه بمجرد أن يتم تحويل كل شيء إلى حياة، سوف تستمر في أن تكون كذلك” والثانية، التي يبدو أن دريدا يعتقد أنها تتناقض على ما يبدو مع الأولى، والتي تبرر مقولته “الموت الحياة”، وتأتي من المعرفة المرحة: “دعونا لا نقول إن الموت سيعارض الحياة. ليس الكائن الحي سوى نوع من الموت، بل هو من النوع النادر جدًا”.
تحتوي هذه الدروس على لحظات مشرقة أخرى من التفكيك الفلسفي. قراءته تتناسب أيضًا مع الزمن المحدد للدرس، والذي يعطي إيقاعًا خاصًا للفكر. لكن مع دريدا، الذي اعتدنا بالفعل على منهجيته المسافرة في الأفكار، متخليًا عن البناء المنظم والصارم للكتب، لكي يحافظ في أعماله، على الطابع الشفهي وحضور الجسد في الفكرة، وعلى حركتها اللامتناهية. إلى هذا الحد، يعتبر نشر الدروس بلبلة لأعمال المؤلف، ودارسيه، لكن بدرجة أقل من إطالة أمد تفكيره وتوسيع مفاهيمه. هذا التحول يشبه ما حدث لخطاب بارت بعدما نشرت بعد وفاته دروسه الكاملة، وقد قاد ذلك إلى تحول عميق في العلاقة بين خطابه ومنهجيته، مما ساعد على إعادة التفكير في بقية كتبه انطلاقًا من تلك الكلمات الحية التي كان يلقيها على طلابه. ربما قد تكون النتائج المكتشفة مع دريدا حاسمة في إعادة قراءة فكره من جديد.