- على سبيل التقديم:
عرف النور مؤخرًا، في يوليو 2019، عن دار النشر الفرنسية seuil، كتاب “الحياة الموت” La Vie la mort، للفيلسوف الفرنسي التفكيكي جاك دريدا Jacques Derrida (1930-2004)، وهو واحد من محاضراته الأكثر جدلًا التي لم يكتب لها النشر إلا مؤخرًا، وقد ألقاها دريدا ما بين عامي 1975 و1976. ينطلق فيها هذا الفيلسوف، مناقشًا رؤيته، من معطى أساسي يتمثل في التفكير في الحياة والموت بحكم منطق لا يشكل فيه الموت معارضة للحياة، وكما ينطلق من سؤال جوهري، ألا وهو: أليس نقاء الحياة، في أساسه، تشوبه إمكانية الموت، حيث لا يمكن أن يموت إلا شخص حي؟ بخلاف المنظور الكلاسيكي، يتعهد دريدا في محاضرته/كتابه بتعليم طلابه أن الموت، على عكس ما كان رائجًا، يجعل الحياة ممكنة.
يتعلق الأمر إذن، بأربع عشرة “حصة” مثيرة ألقاها ما بين 1974 و1976 (أربع منها سبق ونشرتها دار Galilée) قام فيها جاك دريدا بتفكيك المعارضة التقليدية بين الحياة والموت، وذلك من خلال قراءات متعددة ومتأنية في التعاطي مع مختلف التخصصات التي تعاطت مع الموضوع، مُطورًا فكرته بتواصل مع فلسفات متعددة (هيغل، نيتشه، هايدغر) وكما مع إبستيمولوجا العلوم (جورج كانغيليم Canguilhem)، وكما بتعارض مع علم الوراثة المعاصر (فرانسوا جاكوب) ومع التحليل النفسي (أي التصنيفات الفرويدية لاندفاعات الحياة والموت).
- في المشرحة التفكيكية:
يعد جاك دريدا من أهم الفلاسفة المعاصرين، الذين تأثروا بمطرقة نيتشه المفككة والهدامة، جاعلاً منها مشرطًا تفكيكيًا لأهم المفاهيم التي ظلت تستحوذ على التفكير الإنساني، كالصفح، الاختلاف، الوقت، الجوهر، الجنس، العرق، الأمة، المعرفة… وأيضا الحياة والموت، اللذان يتناولهما بتمحيص وتفكيك في كتابه الصادر قبل مدة قصيرة. كان هدف دريدا هو تقديم المفاهيم التقليدية إلى مشرحته، وإعادة قراءته وتشريحها بمساعدة منهجه التفكيكي الذي قام بإنشائه، إذ بالنسبة له هذه المنهجية لها أثر إيجابي غايته الفهم الحقيقي لمكان الإنسان في العالم. وذلك بالتعاطي من وجهة مختلفة لنفس المفاهيم التي كان يتطرق إليها “خصومه” أمثال سيرل وفوكو وهابرماس… وقد أخضع كل المفاهيم التي عالجها وشرّحها وفكّكها إلى فلسفة لغوية، حيث يعتبر أن اللغة ليست موجودة للتعبير عن أفكار فلسفية، مشيرًا إلى أن عامل اللغة أساسي في فهم الحقيقة وتـفسيرها، والذي يهمله تاريخ الميتافيزيقيَّة الغربيَّة تمامًا حتى هذه اللحظة. بهذه الطريقة يفكّك دريدا تاريخ الفلسفة الغربيَّة بأكمله، انطلاقـًا من قـناعة بأنَّه لا يمكن حصر الحقيقة في قوالب معرفيَّة فوقيَّة أو ماورائيَّة المصدر، كما ادَّعت الفلسفة، فأيّة حقيقة ذات معنى تتجسَّد “في”، ولكن أيضاً في “ما وراء” علامات اللغة التي نستخدمها في الحاضر.
لقد نقل دريدا التفكير الغربي إلى إعادة التفكير في طرق تحليله ورؤيته للعالم، وللمفاهيم التي تشكله. وبالتالي الانتقال من بُعد يهتم بالبنى المكونة له، إلى ما بعد تلك البنى، أي بتوسيع مجال دراستها. ويركز دريدا نقده على الوصول بالطرق التقليدية إلى حل لمشكلة الإحالة، أي قدرة اللفظ على إحالتنا إلى شيء ما خارجه. وتنتمي المنهجية التفكيكية التي انتهجها دريدا، إلى الفلسفات ما بعد الحداثية، التي سعت إلى تفكيك النماذج المعرفية التي افترضت وجود غائية، أو افترضت من ثم مصدرًا متعاليا للمعرفة، يقرر المعنى، الحقيقة، القيم، وبالتالي السلطة. وذلك في كل من النموذج المعرفي اللاهوتي في العصور الوسطي، والنموذج المعرفي العقلاني الذي طرحه ديكارت.
ومن هذه النقطة بالتحديد، يبدأ جاك دريدا مناقشته لموضوع الحياة والموت في كتابه هذا. بل إننا نعثر على حضور لافت للمفهومين داخل متن غير هذا المؤلف، أو في حواراته المتعددة، إذ يقول في أحدها بأن “التفلسف هو تعلم الموت”، ويضيف في موضع آخر بأن “تعلُّم العيش ينبغي أن يعني تعلُّم الموت، وأن نأخذ في الحسبان الفناء المطلق”… وغيرها من التعابير التي نجد لها حضورًا قويًا في جلّ متنه المعرفي، ما يعني أنهما ظلاّ يشغلانه منذ أولى محاضراته وكتبه إلى آخر لحظات في حياته، التي أخلص فيها إلى البحث عن الحقيقة عبر تفكيك كل ما استطاع من مفاهيم ظلت تشغل البال الإنساني منذ الفلسفة اليونانية وصولًا إلى يومنا هذا.
- الحياة الموت:
يعتبر كل من المفهومين الحياة والموت، من أهم المفاهيم التي شغلت التفكير الإنساني، منذ أن وعي بحضوره وأدرك فناءه المحتوم، لهذا كانت من أكثر المفاهيم تناولًا من قبل كل الفلاسفة على اختلاف مراحل تطور الفلسفة ومناهجها واختلاف الفلاسفة وعصورهم (أفلاطون، سقرا، هيغل، كانط، شوبنهاور، ديكارت، نيتشه، هايدغر، جاكوب، فرويد…). بل إنها شغل شاغل للبحث العلمي في جل الميادين من فيزياء وبيولوجيا وعلم الأعصاب والوراثة وكما علم النفس وغيرها… بل إنها كانت من أهم المواضيع تطرقًا من قبل فلاسفة القرن العشرين، الذين خرجوا لتوهم من أنقاض الحرب العالمية الثانية المدمرة. لهذا لم يكن من باب الصدفة أن يهتم بها فيلسوف من حجم جاك دريدا، وهو الذي يهتم بشدة بأكثر المفاهيم شغلًا للتفكير الإنساني. نجده يقول عن علاقة الحياة بالموت، بأن “تأكيد الحياة لا يخلو من فكرة الموت…”، ويضيف في موضع آخر، “إن وشيكة الموت ليست مجرد هاجس شخصي، بل إنه وسيلة للاستسلام لضرورة ما يعطى للتفكير، علما أنه لا يوجد وجود بدون أثر ولا أثر بدون اختفاء، لذلك بدون موت”… فلا تتحقق الحياة إذن حسب دريدا دونما وجود للموت، إنهما متلازمان يقودان الوجود الإنساني نحو “الحقيقة”.
- قراءة الكتاب:
وقوفًا عند أهم ما جاء به جاك دريدا في كتابه “الحياة الموت”، فقد قام هذا الفيلسوف بتقديم محاضرته تحت العنوان المشار إليه، بدون أن يضيف حرف العطف “و” بين المفهومين، في محاولة لفكّ الحد الفاصل بينهما. ولم يكن من العبث أن يقوم دريدا بهذه الخطوة، إذ إن هذا الفعل سيتحكم في النص ككل. بشكل عام، يبيّن صاحب الكتاب بأن الحياة موضّحَة بالموت، في منطق من التعارض والمجاورة والجدلية القائمة بينهما. إذ تسير الحياة إلى جانب الموت ويشكلان ازدواجية (أو ثنائية)، فالواحد منهما هو الآخر من الآخر في فكر حيث يمر الواحد في الآخر. مفضلًا عبارة “الحياة الموت” يقترح دريدا أن العلاقة بين الحياة والموت غير قابلة للاختزال، وإنها نابعة عن تقاليد مركزية عقلية logocentrique طويلة. ولا يتعلق الأمر هنا بمنطق آخر، أو صياغة جديدة للحياة والموت من شأنها أن تتنافس مع الصيغ الكلاسيكية، ولكن من باب التساؤل عن هذه الغيرية التي من شأنها أن تؤدي، حسب التعبير الدريدي، إلى “فكرة معينة عن الما-وراء، عن “ما-وراء””، عن jenseits (=الما وراء، بالألمانية) وعن نيتشه وعن فرويد وخاصة عن “خطوة ما-وراء” لبلانشو”. ماذا إذن، عن خطوة ما-وراء؟ هذا هو لغز نص الكتاب كاملًا. فكل فصول المؤلف الأربعة عشر مبنية على هذا التساؤل، لهذا يمكننا تقسيمها إلى أربعة أو خمسة أجزاء فرعية:
- الحصص من الأولى إلى الثالثة: إشكالية “الحياة الموت”. يتخللها عرض عن نيتشه (جزء منها سبق ونشره في مؤلف آخر) يُضمنها بعرض أولي عن فرانسوا جاكوب وتحليل لمقالة جورج كانغيليم “المفهوم والحياة”.
- الحصص من الرابعة إلى السادية: فرانسوا جاكوب أو منطق الكائن الحي.
- الحصص من السابعة إلى العاشر: نيتشه، هايدغر والميتافيزيقا.
- الجلسات من 11 إلى 14: فرويد أو ما وراء مبدأ اللذة.
ويمكن أن نضيف إليها جزءًا فرعيًا متعلقًا بالعلاقة بين الحياة والعمل l’œuvre، لكونه يربط بين الأجزاء الأربعة السابقة. ولربما كانت هذه العلاقة هي الشاغل الرئيسي لدريدا كمتحدث، ومخاطب (فم) متجه لمستمعين (آذان)، ومعلم وكاتب موقع على ما سيصير نصًّا. وترتبط جميع الأسئلة التي تم تناولها حول موضوع خطوة ما وراء الرغبة أو اللذة أو الحياة، عن طريق الاستعارة أو المضاربة أو التكامل، وكلها مرتبطة بهذه العلاقة.
في كتاب فرانسوا جاكوب “منطق الحياة”، يلعب مفهوم البرامج دورًا حاسماً. إذ تستند الوارثة L’hérédité إلى علم الوراثة La génétique، في إشكالية المعلومة والرسالة والسنن التي تشير، حسب دريدا، إلى بنية اللوغوس logos كما هي موروثة من أفلاطون وأرسطو. لكن الأطروحة الرئيسية للكتاب هي أن الأحياء مبنية كنص؛ إنها نصّ. هذا الوضع الذي يتردد صداه في كتابات دريدا السابقة، يشركها في البديهية التقليدية وفي تغييرها. بين الخطاب العلمي -المنظم نفسه كنص، إنه بنية المرجع (الكائن الحي)- والذاتية الخاصة بالعالِم (الباحث)، ينشئ تقارب، رنين، الذي ليس فقط ميتا-لغويًا أو ميتا-نصيًّا، لأنه يحوّل الاستعمال الذي يمكن أن نقوم به للكلمة كاستعارة أو صورة أو قياس أو نموذج. فعلم الأحياء (البيولوجيا)، بنسبة لصاحب الكتاب، ليس عِلما يشبه باقي العلوم. لأنه يفترض سلفاً مَلَكة متفردة، إنتاج ذاتي ليس مجرد تكرار ولكنه يسمح بحدوث أحداث غير مبرمجة. من بين هذه الحداث الإضافية، هناك الجنسانية أو الموت، الذي لا يدخل في أي غرض Finalité. وبفعل عدم إمكانية التنبؤ ببنيته المبعثرة، فإن هذه الحركة “بالكاد يمكن تصورها”. عندما يتعين على العلم الحديث عن الجنس أو الموت، لا تعد الأمور المتعارضة السائدة كافية، ولا يمكن فصل أيّ مفهوم عن البعد الاستعاري. لذلك فإن جاكوب قد فشل في مَفْهَمَة conceptualiser (وضع تصور لـ) البيولوجيا.
وتجاوزًا لدائرة العلوم البيولوجية، يتطلب الأمر خطوة ملحقة، تفكيرًا آخر، أن المعرفة العلمية عاجزة عن حل الإشكاليات. فيجد دريدا عند نيتشه هذا “التفكير الآخر”، وذلك على نحو من الاضطراب الهايدغري. فإذا لم تكن هناك حاجة إلى مخطط محدد مسبقًا، عدم وجود نموذج، لقراءة واستلام هذه الفكرة المتفردة عن “الحياة الموت”، سنكون معرضين للإغراء، مثلما حدث مع هايدغر، لإسقاط الفكر النيتشوي على ما هو أكثر قدمًا، الأكثر جمعًا: الميتافيزيقا. بالنسبة لهايدغر، تقع “بيولوجيا” نيتشه عند نقطة-حد، “تَوَقّفٌ” حيث تنتهي الميتافيزيقا الغربية.
ينهي دريدا محاضرته/ كتابه بلغز اندفاع الموت. إذ لم يكن فرويد متيقنًا من عِلميته كما الحال مع جاكوب، فلا يقترح فرويد أية أطروحة، لكن “أطروحة مضادة” لا تؤكد شيئًا عن الموت، ولا تنتمي إلى أي نوع ولا إلى أي مفهوم ممكن تصوره ولا أي نموذج محدد مسبقًا ولا تنتمي للعلم ولا للفلسفة. ففرويد ذهب، كما يقول دريدا، إلى تكهنات خالصة. ولربما يوجد في “الذهاب” أثر للما-وراء والذي هو الإشكال. لم يستطع فرويد التخلي عن مبدأ اللذة، تلك الرغبة في تمكن مما يبدو غير قابل للاختزال. فكان عليه أن يؤكد من جديد مبدأ القوة تجاه نسله (لعبة البكرة Fort/Da لحفيده) تجاه مؤسسته (التحليل النفسي)، لكنه لم يقدر على التخلي عن اندفاع الموت، الذي كان سيؤدي به إلى فصل نفسه عن أي مبدأ، بما في ذلك اللوغوس. فبقيت بالتالي كتاباته بلا حل، بلا حافة. وعلى خط التوتر العالي، بقيت اللذة والحياة والموت غير محددة، ومثل الحياة الموت، وهو مفهوم نتشوي-ديريدي الذي يؤدي إلى رسم بيانيّ (أنثوي) للاختلاف المرجئ différance، الذي لا ينتمي لا للعلم ولا للفلسفة.