(يحتوي المقال على حرق جزئي للأحداث)
في فيلمه الذي انتظره العالم بشغف جوكر Joker يقدم المخرج الأمريكي تود فيليبس Todd Phillips مرثية عالم مليء بالشرور والآثام، لا تتوقف فيه أصوات أبواق سيارات الشرطة عن الدوي هنا وهناك، وتتراكم فيه القمامة في كل مكان، ولا يجد معدومي الحال فيه موطأ قدم أو حياة. وعلى الرغم من أن الفيلم يقدم شخصية معروفة، لها امتدادها التاريخي في عالم الكوميك، إضافة إلى أنه سبق تقديمها سينمائيًا أكثر من مرة في سياق الصراع التقليدي الشهير بينها وبين باتمان، إلا أن فيليبس التقط الجوكر بمفرده هذه المرة واضعًا إياه تحت المجهر؛ باحثًا عن أصوله ومفتشًا عن دوافعه.
صناعة الشرير
هو فيلم عن صناعة الشرير (هل يقدمه الفيلم كشرير بالفعل؟!)، عن الشخص الذي تمنى أن يغدو موته أكثر ربحًا من حياته، لأن حياته تخلو من أي شيء له قيمة. حكاية شخص بريء يستدعي مشاعر الشفقة داخل كل من يراه، كحال قطاع عريض من البشر تشعر تجاههم بالألفة والسلام وانعدام الخطورة. وإضافة إلي إصابته بالمرض النفسي، هناك رقة حاله ورعايته لأمه، ما يضفي عليه بُعدًا إنسانيًا ملفتًا. حياة بسيطة للغاية تخلو من الطموح، اللهم حلم قديم يلازمه، عن قناعه داخليه بقدرته على انتزاع الضحك من الآخرين، بأن يغدو ممثلًا، ليس لأدوار الشر أو الدراما، بل الكوميديا. فربما كان الضحك وسيلته للتغلب على قسوة العالم وآلامه!
كيف يتحول هذا الشخص إلى القتل بلا هواده ليصل به الحال إلى قتل أقرب الناس إليه؟ هذا السؤال هو الموضوع الرئيس للمشروع الذي بدأه تود فيليبس في العام 2017 للبحث عن أصول شخصية الجوكر، التي يعرفها قراء الكوميك جيدًا. والواقع أننا إذا شئنا توصيفًا دقيقًا لهذا العمل لقلنا أن جوكر فيليبس هو في الأساس فحص للطبيعة البشرية وتشريح لها من أجل تحديد كوامن الشر داخلها ورصد أسباب تحول المرء من جانب إلى آخر نقيض له. لكن هذا الفحص جاء كلحظة تراكمية، وليست منفصلة عن تاريخ الشخصية ذاتها، أعنى أن المشاهد لابد أن يستحضر تاريخ الجوكر قبل مشاهدة عملية البحث عن أصوله. والحال إذا قرر المشاهد أن يتعامل مع الفيلم من منطلق أنه يستعرض حكاية أحد المهمشين الذين تعرضوا لنوبات متتالية من الاضطهاد المجتمعي، فكان نتاج ذلك تحوله إلى مجرم سادي يستمتع بتعذيب الآخرين، ثم إلى بطل شعبي يهتف باسمه الجماهير، سيكون الفيلم قد أخفق في معالجته وسيجد المشاهد نفسه أمام مشكلات وثغرات عديدة على مستوى الحبكة والسرد ومعقولية الأحداث. أما لو تعامل المشاهد مع الفيلم من منطلق أنه يقدم وجه من أوجه شخصية يعرفها جيدًا مستحضرًا تاريخها وفلسفتها للعالم، فسيبدو العمل متكاملًا إلى حد كبير. وربما هذا ما كان يعيه فيليبس تحديدًا، فعمله من جهة هو تكمله للأعمال السابقة، ومن جهة أخرى يمثل انفصالًا عنها. لذا ينبغي التعامل مع جوكر فيليبس خارج دائرة المقارنات السطحية والأسئلة التي تبدو بلا جدوى عن أيهم أفضل جوكر في تاريخ السينما؛ ذلك الذي قدمه جاك نيكلسون أم غاريد ليتو أم هيث ليدغر أم واكين فينيكس؟.
حتى لو كان ثمة تقاطعات قائمة بين الأعمال التي قدمت الجوكر، وهذا أمر طبيعي، إلا أن كلًا منها قد حاول في الواقع تغطية جانب من شخصيته ليقدمها بصيغة مختلفة، لكنها في كل الحالات صيغة غير متصالحة مع العالم. ورغم هذا لا يمكننا في حقيقة الأمر أن نتجاهل أن جزء مهمًا للغاية في شخصية الجوكر يتمثل في منطقها وفلسفتها للعالم. في فيلم فارس الظلام The Dark Knight قدم نولان شخصية الجوكر (قام بالدور هيث ليدغر) كمقابل لشخصية باتمان؛ الفكرة ونقيضها وفق مصطلحات هيجل. وقد اكتسب جوكر نولان سحره الخاص، ليس فقط لبراعة أداء ليدغر، بل لسبب رئيس آخر تمثل في “قوة الحوار وصلابة المنطق” الخاص بالشخصية، من هنا تفوقت الشخصية وتركت من التأثير ما يتجاوز بكثير ما تركته شخصية باتمان في الفيلم. ومن هذه الزاوية تحديدًا يخفق تود فيليبس في تقديم الشخصية على مستوى الحوار والمنطق المتماسك لها، لكنه ينجح تمامًا في بناء الشخصية نفسيًا، بحيث لم يمر مشهد واحد من الفيلم دون إضافة ملمح جديد من ملامح الجوكر، حتى تصل اللوحة إلى تمامها في نهاية العمل. لهذا لم تغادر الكاميرا وجه الجوكر إلا نادرًا. وحتى في المشاهد، القليلة جدًا، التي يغيب فيها الجوكر بشخصه يظل المشهد مرتبطًا به ودائرًا حوله.
تعاطف أم إدانة!
في أحد المشاهد الأيقونية في الفيلم، وفي خضم عملية التحول الكبرى التي سينتج عنها أفول آرثر فيلك وبزوغ الجوكر، نجد هذا الأخير يرقص رقصته التي تفصح عن قدر كبير من التحرر والانتشاء بعد جريمة قتل بشعة قام بها. هنا نجد أنفسنا قبالة رجل تحرر من ماضيه وتوصل إلى صيغته الخاصة للتواجد في العالم. هذا المريض المهمش أصبح قادرًا على إشعال المدينة وإدخالها في حالة من الفوضى ليتحول بعد ذلك إلى رمز للنضال والثورة. هذا التحول الكبير يستحضر معه مأزقًا أخلاقيًا عصيًا على الحل يدور حول طبيعة شعورنا الأخلاقي تجاه أفعال الجوكر؛ هل ينحو نحو تبريرها أم إدانتها؟
الواقع أننا نجد أنفسنا مرة أخرى (بعد جوكر نولان) أمام عمل يعطل الأحكام الأخلاقية التقليدية عن الخير والشر، ويدفعنا إلى مساحة ملتبسة من الخير الشرير التي ربما تناسب هذا الوضع أكثر من غيره. يشدنا جوكر فيليبس إلى منطقة الحياد الأخلاقي تجاه تقييم أفعاله. فلا نحن قادرون على تلمس مبررًا حقيقيا له في أفعاله (الإجرامية) ولا نحن نستطيع أيضًا أن نتعاطف مع ضحاياه. وهذا الوضع لا يمكن الوصول إليه بسهوله ولا يمكن توليده لدى المشاهد إلا عن طريق صانع أفلام حقيقي. لنأخذ مشهد قتله لموراي فرانكلين (مقدم البرامج الذي قام بدوره روبيرت دي نيرو) أثناء استضافته في برنامجه على الهواء مباشرة سنجد أنفسنا في الواقع غير متفهمين إطلاقًا لدافع القتل لدى الجوكر، حقًا أن مقدم البرامج سخر منه في إحدى الحلقات السابقة، لكن هل السخرية تستدعي القتل بمثل هذه الدرجة من العنف (بعد قتله برصاصة يطلق عليه النار مرة أخرى)؟! ومع ذلك لن يشعر المشاهد بالكثير من الشفقة تجاه مقتله مثلما لن يجد مبررًا حقيقيًا لقتله! كيف أوصلنا فيليبس لهذا الوضع. في الواقع لا يقوم الجوكر على أية مرجعية أخلاقية يمكن أن ننطلق منها أو نختلف معها. تأخذنا أفعال الجوكر بالتدريج إلى منطقة التوقف عن الحكم الإخلاقي. القتل أبغض الجرائم وأكثرها حقارة لكنك لن تطمئن كثيرًا إلى حكمك هذا وأنت تشاهد أفعال الجوكر، في الغالب ستتوقف عن الحكم. بمعنى أن الأحكام القيمية التي تنتمي لواقعنا المعيش لن تكون فاعلة في هذا العالم، أو ستتوقف عن العمل، حتى في أقسى جرائم القتل وحشية (قتله لأمه).
ضحك كالبكاء
من الأمور المهمة في عوالم الفن عمومًا، والسينما على وجه التحديد، فكرة الارتباط الشرطي بين شخصية ما وفعل يقوم به، إيماءة معينة، حركة جسدية أو ربما ضحكة. في الواقع ستظل ضحكة واكين فينيكس عالقة بالأذهان وقد احتلت موقعها في فضاء إيماءات السينما كعلامة مميزة لن تنسى، ستظل الضحكة تتردد في آذاننا وستحضر باستمرار كلما تداعت صورة الجوكر في مخيلتنا، ضحكة تضمر داخلها الكثير من آلام العالم وقسوته. ورغم تقديم مبرر درامي مقنع نوعًا ما لها (مرض عصبي لا إرادي)، إلا أن الجانب الوجودي بداخلها لا يمكن تجاهله. ستختفي ضحكة الجوكر النابضة بالألم، والتي كانت طريقته للإفصاح عن نفسه وإحدى آليات مواجهته للعالم، في الجزء الأخير من العمل بعد أن عرف كيف يواجه العالم بقناعه الحقيقي لا المزيف. اختفت ضحكته بعد أن تعرف على نفسه أخيرًا ووجد صيغته للتعامل مع العالم، لكنها صيغة صفرية تضمر بداخلها رغبة في تدمير الآخر والقضاء على كل من تسبب في إفساد عالمه وعالم من يشبهونه.
لماذا القناع؟ لأن الجوكر يظل صناعة مجتمع، ولن يصبح جوكر إلا بقناعه، لكنه صناعة عالمنا الموحش الذي يدفعنا إلى التخلي عن سلامنا النفسي وطبيعتنا السوية لينفض الغبار المتراكم فوق جانبنا الشرير مستنفزًا أياه في حده الأقصى، بحيث تفشل كل محاولات السيطرة عليه. وبالمثل لم يقدم الفيلم شخصية واحدة حقيقية فجميعنا كما قال الجوكر “مهرجون”، كلنا نرتدي الأقنعة. هذا الإعلامي الكبير مهرج يدافع عن طبقة مصالحه ويسخر بالتالي من كل أولئك الذي يشكلون تهديدًا محتملًا، هذا الثري الأنيق الذي يرشح نفسه للانتخابات هو مهرج يحتقر كل طبقات المجتمع ولا يخاطب سوى طبقته لكنه يتحدث عن برنامجه الإصلاحي بوصفه برنامجًا للمجتمع كله. حتى أمه (قامت بالدور فرانسيس كونروي) زيفت تاريخها لدرجة أودت بها إلى الموت. فقط جارته (قامت بالدور زازي بيتز) التى لم نتعرف عليها سوى في خيالاته هي التي بدت حقيقية لكنها في الوقت ذاته بعيدة المنال عنه، وظلت حتى النهاية أسيرة توهماته ورغباته. ينتهي الفيلم وقد ارتدى الجميع قناعه في صورة رمزية معبرة عن طبيعة عالمنا الموشك على الانهيار. فقط اللحظات التي ظهر فيها الجوكر بوجهه الحقيقي (بعيدًا عن قناع المهرج أو الجوكر) هي تلك التي كانت تعبر عن شخصيته الحقيقية (مع أمه وفي منزله ومع طبيبته النفسية وحبيبته وداخل المصحة وأثناء تأديته للفقرات الكوميدية…إلخ).
من جهة أخرى سعى فيليبس نحو إضفاء خط شاعري جديد على شخصية الجوكر من خلال علاقته المتوهمة بجارته، إلا أن هذا الخط لم يقدم إضافة حقيقية ولم نفهم السبب منه لأنه انتهي إلى لاشيء (لا يوجد تبرير درامي حقيقي له ويمكن عزله عن أحداث الفيلم دون أن يؤدي ذلك إلى أي خلل في البناء السردي له، بل هو في الواقع يخلق حالة من الارتباك غير المبررة). لكن ربما أراد فيليبس أن يقدم تلميحات بأننا أمام شخص يعاني من اختلاط الواقع بالخيال بحيث يترك مساحة أمام تساؤلات أوسع عن مصداقية الأحداث كلها، هل هي وليدة خياله أم عالمه الحقيقي.
إدانة للجميع
لا شك أن العمل في مجمله يقدم نوعًا من الرثاء، لا سيما في عصرنا الحالي، للمهمشين والمتجاهلين (معدومي الحال، والملونين، وحتى أولئك الذين ولدوا بعيوب خلقية كحال صديقه القزم). يقدم الفيلم بصورة واضحة حالة التفاوت الطبقي العنيفة التي تعصف بالمدينة المعاصرة ويرصد ما قد يترتب على ذلك من نتائج، بل أن تشريح شخصية الجوكر هو في الأساس تشريح لواقع الحياة المعاصرة التي تسيطر عليه الآلة الرأسمالية وما تخلفه ورائها من كوارث. لكن من جهة أخرى لا يذهب فيليبس بنا في تصوره للطبقة الكادحة إلى المنطقة الرومانسية التي تظهرهم كأبرياء خلص ، بل هو يظهر في الوقت ذاته الجانب المظلم منهم. من هنا كان عليه أن يقوم بتحويل مهم خاص بواقع غوثام التي تعاني من مختلف الأمراض الاجتماعية، فعلى العكس من كافة الأعمال التي صورتها كمدينة مقهورة تستدعي وجود المخلص (باتمان)، يصورها فيليبس كمدينة للخطايا تستحق العقاب والفوضى، لأن الظلم يضرب كافة جنباتها. بمعنى أن فيليبس لم يقدم مواطني غوثام (على العكس من نولان) بوصفهم ردود أفعال فقط على واقع رديء، فهم ملوثون أيضًا، ميالون للفوضى والعنف بطبعهم (في مشهد الصبية الذين سرقوا لافتة آرثر فليك في بداية الفيلم)، يمجدون الشخص الخطأ انتصارًا للهمجية وإعلاء للوحشية الكامنة داخلهم (المشهد المرعب في نهاية الفيلم يعتلى الجوكر فيه إحدى سيارات الشرطة وتلتف الجماهير حوله هاتفة باسمه).
باستثناء توهمات البطل في علاقته بجارته لم يقدم الفيلم نصًا ملتبسًا أو مساحات تأويلية كبيرة، بل قدم كل الوسائل والتفاصيل التي تساعدنا على فهم الشخصية وبنائها بشكل مستقيم لا التباس فيه. لكنه طرح فرضية مثيرة للاهتمام والخيال أيضًا، وإن كان حاول بعد ذلك أن ينفيها، وهي تلك الخاصة بعلاقة الجوكر بباتمان واحتمالية كونهما من أم واحدة. أما بالنسبة لإيقاع الفيلم فقد جاء متناسبًا تمامًا مع الحالة التي يقدمها ولن يشعر المشاهد ببطئ الإيقاع إلا في المشاهد المفصلية التي يحدث فيها التحول من شخصية آرثر إلى الجوكر. أداء واكين فينيكس كان مبهرًا يجعله يقتنص بسهولة كل الجوائز التي سيترشح لها في المستقبل القريب، بما في ذلك ترشيح الأوسكار في دورته القادمة (نال الفيلم بالفعل جائزة الأسد الذهبي في الدورة 76 من مهرجان فينيسيا السينمائي). كما يظهر روبيرت دي نيرو في واحد من أكثر أدواره براعة. تأتي الصورة في هيئة كادرات أرادها فيليبس لا تنسى، وهي بالفعل لن تنسى. فالصورة مبهرة في تفاصيلها، قاتمة في معظم المشاهد قتامة المدينة بكل كآبتها وخطاياها. الموسيقى التي مهدت لكل تحولات الشخصية وصاحبتها جاءت متكاملة، مثلما جاءت الأغاني المصاحبة للفيلم في كافة أحداثه.
أخيرًا، ربما يكون التوصيف الأفضل للفيلم، ما قاله الناقد السينمائي لورينزو سيوركالو بعد مشاهدته للعرض الخاص له في مهرجان فينيسيا السينمائي “إنه الجوكر الذي نستحق! حلقات من الكوميديا، وحلقات من النار! إنه أشبه بالسيرك، كارنافال مهول، عالم من الفوضى! قدم لنا (فينيكس) رقصة من الانتصارات المتعاقبة للأمراض المجتمعية”.