حرْب الصُّوَر – رشيدة التريكي . ترجمة: فريد الزاهي

مقدمة المترجم:
علماء الجماليات في البلاد العربية قليلون، وأقل منهم الباحثون في مجال الصورة. والمسارب والوشائج بين المجالين كثيرة. وإن كانت الجماليات أعم موضوعًا من مبحث الصورة الذي يعتبر تفريعًا مركّبًا منها، فإن الجماليات تمنح للبحث في الصورة الأساس الفلسفي والفكري الذي تحتاجه مقاربة الصور، في بساطتها وتعقدها، كما في ترابطاتها المتعددة. ولسوء حظ الثقافة العربية المعاصرة أنها لا تتوفر على علماء جماليات مرجعيين كثيرين ولا على وفرة من الباحثين المتخصصين في الصورة، باعتبار أن هذين المبحثين لا يزالان مهمشين في ثقافة يغلب عليها التمركز حول اللغة والأدب والنصية الدينية.
والنصّ الذي نقدمه في لغة الضاد هو لرشيدة التريكي، إحدى الوجوه التونسية الأكثر عمقًا في الفلسفة والجماليات في العالم العربي. وهي مؤسسة ورئيسة لمدة عشرين سنة للجمعية التونسية للجماليات والإنشائيات. أصدرت العديد من المؤلفات عن الجماليات والصورة باللغة الفرنسية.
حرْب الصُّوَر
الصورة إحدى المفاهيم الفلسفية الأكثر إشكالية بما تملكه من رهانات تكون غالبًا ذات طابع حاسم في الوضعية الراهنة. بإمكاننا اليوم الحديث بسهولة عن “حرب الصور”، وذلك بالنظر إليها، حسب السياقات، باعتبارها أسلحة تشرَّع أو تُمنع أو يُتَّجر فيها، أو باعتبارها أسلحة استراتيجية. بل إنها تنحو إلى أن تغدو وسائل للسيطرة في خضم اللاتكافؤ بين القوى المنتجة للتكنولوجيات الجديدة وباقي بلدان العالم. ألم نَر على سبيل المثال، منذ بداية حرب الخليج الثانية، كيف تمّ منع بث القناة التفزيونية العربية “الجزيرة” في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية؟ [1] ذلك ما نجمت عنه، في مختلف نواحي المعمور، حرب للصور، أي حرب للمبالغة الإعلامية المصورة والشخصية في الأنترنيت وبواسطة المواقع الإلكترونية… وكما يذكِّر بذلك مؤرخ الفن هانز بلتين Hans Belting، “صارت الأنثربولوجيا تعرف صدامًا للصور التي تصاحب المواجهات بين الشعوب وعمليات الغزو والاستعمار، وأيضا ردود الفعل المقاوِمة التي تتكون في متخيل المغلوبين ضدًا على صور الغالبين”.
ليس لنا سوى أن نستعيد تاريخ المجتمعات في أي عصر من العصور كي نقيس مقدار قوة الصورة في مجمل الميادين، خاصة منها المجال الديني والسياسي. فتحطيم الأصنام الجاهلية في الكعبة في القرن السابع الميلادي، وتعميم التصاوير الباروكية للمسيح في القرن السابع عشر ضدًا على حملة المصلحين في أوروبا، يدخل في الفعل الرمزي نفسه أي في ترسيخ سلطة الشعائر الدينية. إن هذا يدلّ على الموقع المهم الذي تحتله الصورة في قلب السجال المتعلق بسلطتها على التمثيلات représentations وآثارها على الرأي العام. ليس علينا أن نندهش اليوم من انتشار الصورة ومن تكثيف استعمالها وتنويعه خاصة وأننا مقتنعون منذ أمد أن كل شيء يمكن أن يغدو صورة، بدءً منا نحن باعتبارنا سَجيني تمثيلاتنا الخاصة والتمثيلات التي يكونها الآخرون عنّا. إن صورة الذات، أي صورة الإنسان عن نفسه، مرتبطة قطعًا بصورة الخُطاطة الجسدية التي تمكِّن من إدراك الجسد وتنظيمه، ومن ثم من إنجاز تناسق حركاتنا. وهي تنْضاف لذلك إلى الصورة المرآوية التي تمكّننا منذ نعومة أظفارنا حسب جاك لاكان من أن نتعرَّف على أنفسنا في المرآة […]. وهذه الأخيرة تغدو مركَّبة وتتوسع بسرعة لتشمل كل الصور التي يكونها الآخرون عنا، إلى حدّ أنها تغدو أحيانًا “سعيرًا” حسب تعبير جان بول سارتر.
يغدو الارتباط أقوى حين يتعلق الأمر بشخص عمومي. فرجال السياسة ظلوا دائمًا حريصين على صورتهم. والوزير الأول البريطاني طوني بلير، قد اعترف بأنه صرف مبالغ جمَّة في العناية الجمالية بنفسه. وثمة حاكمون آخرون كثيرون يزاحمون نجوم “الشو بيز” [فنون الاستعراض] في هذا المضمار. فهل هم مهووسون بصورتهم أكثر مما كان عليه الفراعنة؟ ليس ثمة من مجال للمقارنة، فكلما رجعنا بذاكرتنا للماضي السحيق، رأينا أن الصورة ظلت بأشكالها المختلفة تؤثر في علاقاتنا وتشكل جزءًا من حياتنا اليومية.
لكن، سواءً شكونا من حضور الصورة البالغ ومن استعمالها أم صفّقنا لذلك، فعلينا الاعتراف أننا حين نفكر في ماهيتها، نجد أنفسنا في مواجهة طابعها غير المتحدِّد. وإذا كان من اليسير تعيينها أكثر من معرفتها فربما لأنها لا تشبه إلا قليلاً ما نعنيه “بالشيء”، وأنْ ليس لها حقًا من مكان خاص بها. فما هي الصورة إذن في مختلف أشكالها، باعتبارها صورة كلامية، وذهنية ومادية وبصرية وافتراضية؟ أيّ مكان خاص يمكنها أن تحتله حين تعدِّد من مواطنها في الآن نفسه، في الحيز النفسي وفي الإدراك وفي الذاكرة وفي الخيال كما في مختلف الوسائط الفنية التي تبدأ برسوم الصخور ما قبل التاريخية حتى المجال الرقمي؟
من الأكيد أننا لا نستنفد مختلف صيغ الصورة، ليس أكثر مما قام به أولئك الذين سبقونا إلى طرْق الموضوع؛ لكن يبدو من الهام بل من المستعجل إعادة تناول قضية الصورة للإمساك بمدى وضعها الاعتباري وأنماط استعمالها في عالم مطبوع أكثر بأكثر بالصراعات والنزاعات.
[…] في اللغة العربية، تعني كلمة صورة أيضا الشكل والتأليف، كما تعني المنسوخات حسب الكلمة المشتق منها: “تصاوير”. وكلمتا “صورة” و”تصاوير” تقابلان في ترابطهما الكلمتين العبريتين: “ديموت” و”سلام”. وحسب أنسكلوبيديا الإسلام “فإن الفكرة التوراتية التي يكون الإنسان بمقتضاها قد خلق على صورة (سلام) الله (سفْر التكوين، I، 27) قد تكون انتقلت إلى الحديث المعروف. بيْد أن فعل “صوَّر”، يعني في القرآن أيضا “خلق”، “كوَّن”. من ثم فإن هذا الترادف بين “الخلق” والتصوير” والتمثيل”، سوف يثير بعض المعضلات الفقهية العويصة بخصوص ما يعود للخالق وما هو مباحٌ للإنسان.
هل نجد في اللغات كلها هذا التعقد نفسه الذي يخص كلمة “صورة”؟ على كل حال، إذا نحن اقتصرنا على التراث الدلالي للصورة، فإننا نلاحظ أن هذه الأخيرة تندرج في لعبة بين وظيفتها المرجعية التي تجعل منها نسخة ونظيرا double وبين مداها التخييلي والإبداعي، باعتباره مجالاً لكل التآويل. ونحن نتفهَّم أن هذا الازدواج الجوهري هو الطريق المفتوح لكل الالتباسات وللعديد من الاستراتيجيات. وهو يترك الغموض يتجذر بين تمثيل الواقع ومظهره، وبين الاستنساخ والإبداع. أما النقد اللاذع الذي شنّه أفلاطون على الرسوم الجدارية التي تعتبر لطخاتها الملونة استنساخًا للمناظر الطبيعية، فيبدو اليوم ساذجًا أمام الحيل الماكرة للصور الافتراضية. وقد غدا التلفزيون، الذي يصنع الحدث الراهن، المجال المفضل لهذا التلاعب: ألم يجعل سنة 1991 بطًّا ملوثًا من جراء غرق سفينة بترولية على السواحل الأطلسية الفرنسية، ضحايا “جانبية” لهجوم عراقي على آبار النفط الكويتية؟ كما أن طيور البطّ هذه تعود للظهور في مناسبات أخرى للتنديد بالمسؤولين عن الكوارث البيئية. كيف نستطيع إذن التمييز بين الاستعراضات shows السياسية والصورة الواقعية للحدث أو للحكامة، وبين المونتاجات المتكررة لابن لادن الشبحي والخطير والصورة الواقعية لشخصه؟ كل شيء يصبح قابلا للتلاعب بالصورة بفضل دقائق التقنيات وبفضل إدماننا على وسائل الإعلام. لقد وسَّع التلاعب بالصورة من حدوده إلى درجة منح الحروب الأكثر شراسة مشاهد بيضاء خليقة بالوصلات الإشهارية لأفضل مساحيق الغسيل. إن صور الحروب التي تسمى “جراحية” أصبحت رديفًا للسكوت عن المجازر التي تتعرض لها الجماهير المدنية.
صحيح أن هذه الاستراتيجية معرَّضة دومًا لخطر التفنيد بواسطة الصورة غير المتوقعة، كما هو حال تلك الصور القريبة من الإباحية للتعذيب الذي مارسه جنود أمريكيون على أسرى عراقيين في سجن أبو غريب بالعراق. ففي هذا السباق نحو الصورة ما تزال الضمائر الحية تعيش الهزات؛ وبما أن كل صورة تطارد الأخرى، فإن التساؤل لا يدوم أكثر من وقت الأثر العاطفي الذي تخلِّفه. من منا ما يزال يتذكر اليوم الصور غير المحتملة للفيلم الوثائقي الذي أنجزه الكاتب الفرنسي جان جوني Jean Genet عن مجازر مخيميْ صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982؟
[…] لكن اليوم، أمام وفرة الصور، ومن ثم الخلط بين التخييل والتمثيل الأمين، هل يمكننا بسهولة أن ننفلت من هذا الموقف المرتاب المتعلق بفعالية الصورة ومداها التوثيقي؟
تتوافر الأمثلة عن التلاعب بالصور وتثير الخلط بين التخييل والتمثيل الأمين. والمشكلة تتمثل في أن الوحدة الاسمية لكلمة “صورة”، وهي تشمل في الآن نفسه منتجات الخيال ومنتجات المحاكاة، وتعيِّن الرمز والنسخة، تفتحنا على كل أنماط اللبس والغموض. وهذا الخلط يمكٍّن من ثَمَّ من التحريض على الحلم كما على المعاناة، بل حتى على زرع الموت. يكفي أن نستحضر هنا في الأذهان كل الضحايا الذين استهدفتهم الصور الكاريكاتورية للنبي محمد (ص)، والتي سنعود إليها لاحقًا.
حين طرحت الفيلسوفة ماري جوزي موندزان Marie José Mondzain، السؤال في كتابها: “هل الصورة قادرة على القتل”؟ جاء جوابها بنعم: “طبعا إذا توحَّدنا توحُّدا كاملاً مع ما نراه، أي من دون تلك المسافة الضرورية التي تخلصنا من الاندماج التام في الصورة التي تغدو صورة وجْدانية passionnelle بالرغم عنها، ومن غير “الكلام الفعال” الذي يمنح لكل واحد حرية التمييز والتبصُّر”. والمثال الحديث للمراهق المتوحّد الذي كان يعشق منجزاته في التقتيل الافتراضي في ألعاب الفيديو، والذي انتهى إلى نقلها للواقع بقصف رفاقه في الثانوية، لهو أسوأ تشخيص للأمر. إن هذا المنحى المرضي يمتد بشكل خطير اليوم ليشمل الدمج الإعلامي لصورة الآخر حيث تخلط، في الآن نفسه، العلامة الدينية بخاتم الإرهاب مثلاً. لا شيء يكون ملائمًا لإلحاق الصورة من ذلك الشيء الذي يؤدي مباشرة إلى تغذية التمييز العنصري بإحساس جامح بالهوية.
صحيح أن “تشكيل البصر” من خلال تربية للرؤية يمكن أن يشكل صمّام أمان ضد انحراف الاندماج في الصورة. فالكلام الفعال يكون دائمًا بنّاء في مستوى من المستويات، وهو خاصية الفعل الفلسفي ونواة الفعل التربوي. وحتى بلورة صورة الذات ضمن “مرحلة المرآة” لا يمكنها أن تتم من دون كلام شخص آخر، يُبرز للطفل تلك المسافة الضرورية بين جسده الشخصي وبين صورته المنعكسة في المرآة […].
بيد أن الكلام المخلِّص لا يمكن أن يقتصر على تعيين المسافة أو اللاتشابه في الصورة بين تمثيلها وعِيانيتها visibilité. فعليها أن تقوم بالتحسيس بكافة الاستراتيجيات التي تكون الصورة موضوع رهان لها. وهذه الاستراتيجيات، كما هي الانتقادات التي تكشف عنها كي تحاربها، متنوعة ولا تعود لا للمرامي نفسها ولا لتصورات الصورة ذاتها.
إن همَّ ماري جوزي موندزان، ومعها كل أولئك الذين يسعون اليوم لتحرير البصر من الاندماج في الصورة، يتوافق ربما مع التحذير المعروف لأفلاطون الذي كان ينبّه فيه الشباب من الإسقاط العاطفي الأهوج للصورة ومن التماهي معها؛ وهو كان يقوم بذلك بالأخص بصدد الشعر الملحمي، حيث الخلط بين مأساة الشخصيات وأداء الممثلين يتمكَّن تمكُّنًا من المتفرجين. إن العاطفة التي يتم عيشها إزاء الصور التي تخترق الحكايات التراجيدية لَشبيهةٌ بالتشبع بالأحلام التي يعيشها أي واحد منا كما يقول أفلاطون، “وحتى أولئك الذي يبدون لنا أسيادا لأنفسهم”. والحقيقة أن صورة الأحلام قد استُعملت دومًا برهانًا فلسفيًا للتشكيك في الوساطة الجيدة لحواسنا […].
لو كان أفلاطون معاصرًا لنا لم يكن ليصوغ الأمر بهذه الحصافة حين الحديث عن الخلط بين الصورة والواقع حتى الحدود القصوى للخلط، حين سيعلم أن أحد شيوخ الأزهر قد أصدر في الآونة الأخيرة فتوى تقول: حين يكون أحد العدْلين في حفل عقد زواج وينطق بعقد النكاح يلزم اعتبار الممثلين زوجين وهما شرعًا يُعتبران كذلك. أما المسافة التي يلزم للممثلين أن يأخذوها مع الشخصيات التي يمثلون دورها والمسافة بين المتفرجين والأحداث الدرامية فلا مدى لها هنا أمام الأثر الذي تحدثه الصورة المتعلقة بشعيرة مقدسة.
إذا كان الاندماج في الصورة يُنظر إليه تبعًا لدرجات متفاوتة، فذلك لأن المرامي والرهانات تختلف من هذه الفئة لتلك. ففي ثقافةٍ للأسطورة والشفوي، كما هو حال ثقافة بلاد الإغريق في القرن الرابع ق.م، كان أفلاطون يسعى إلى التمييز بين التخييلات الوهمية التي تشبه حيل السفسطائيين الذين كانوا يحتلون الساحات العمومية، وبين التخييلات الحقيقية. وهو نفسه استلهم صور الأساطير في العديد من المحاورات، خاصة في كتاب الجمهورية وفي محاورة “تيمي”، كي يمرّر بيداغوجياً فكرته عن عالم المعقولات. وحتى النقد الهام الذي خص به الصورة من خلال إدانته للفنون المحاكاتية ساهمت تناظريًا في التمييز بين الفيلسوف والسفسطائي.
حين نتموْقع اليوم في ثقافة الصورة التي تنتشر حاليًا بشكل متزايد عبر العالم، فإن الرهان يغدو بالأحرى هو التحرير الكافي للبصر كي نقتلعه اقتلاعًا من السيرورة التي تنزع الطابع الواقعي عن العالم، الملازم تلازمًا جوهريًا للعيانية الشاملة. إننا بجعل الصورة تعرض كل ما يمكن أن يحدث في العالم كما لو كان الأمر يتعلق ببرامج كبرى “للتيلي ريالتي” (تلفزيون الواقع)، نفضي بها إلى فقدان تماسكها. فبتحطيم الحدود الفضائية والزمانية بهذه الطريقة يمكننا أن نكون هنا وهناك “مباشرة على الأثير”. إن الانغماس الدائم للنظرة لهو ذو طابع هلْوسي شبيه بتلك الأفلام الخيال من العلمي حيث يحجب عالم افتراضي عالمًا افتراضيًا آخر. لقد وجد فلاسفة معاصرون مثل الفيلسوف الفرنسي ألان باديو Alain Badiou في فيلم “ماتريكس” (الذي أخرجه أندي ولاري فشوفسكي سنة 1999) ما يمكِّن من التحقق من أفكار بلورها تاريخ الفلسفة عن المتخيل والواقعي والوهمي. إنه في نظرهم أمثولة (أليغوريا) تطرح مشكل الاستلاب والتحرر في عالم يختلط فيه الافتراضي بالواقعي.
لهذا فإن التفكير في الوسائل التي تمكِّن من الاحتماء من فتنة الصورة، في علاقة تكون بالأحرى بنّاءة لا مستلِبة، يحملنا بدءً على معرفة طبيعتها من خلال تعددية مظاهرها واستعمالاتها.
لنعدْ إذن إلى السؤال: “ما هي الصورة” كي نتمكن من تشخيص سلطاتها. لقد رأينا أن الأصل اللغوي يجعلنا بالأحرى نقف على ازدواجها داخل سجل ثنائي للحضور والغياب: فهي من جهة تمثيلية ومحاكاتية؛ وهي من جهة أخرى غير واقعية وتخييلية ومنتجة للامشهود. هذا الطابع المركّب والملتبس يطرح بشكل مباشر، كما قلنا سابقًا، مسألة الصدْقية وكذا مسألة الحقيقة، أي حقيقة كل تمثيل تصويري. أما مسألة جوهرها، فهل ستنتقل إذن نحو حقيقتها، أي ملاءمتها ومطابقتها الحقة لما تمثله؟
وإذا لم تكن الصورة سوى نظيرٍ وتضعيفٍ، وكانت فقط انعكاسًا شبحيًا أو بدلاً لفكرة أو شخص أو شيء غائب، سيكون إذن من المنطقي لمعرفتها، تفحُّصها على ضوء ما تمثله. وكلما كان مضمونها قابلاً للمعرفة، كلما استطعنا الحكم على دقة تمثيلها وحصافته ومدى حقيقته. بيد أن صورة الشيء القابل للمعرفة، مهما كانت درجة كمالها المحاكاتي، ليست هي الشيء نفسه، ولا يمكنها أبدًا أن تكون لها الدرجة نفسها من الواقعية. هذا الفاصل تم تعيينه للتوّ في تاريخ الفلسفة كعلامة على النقص في نظام المعرفة، وهو ما سماه الفيلسوف ومؤرخ الفن لوي مارتان Louis Martin “عيبًا أنطولوجيًا” مخصوصًا بكيان الصورة. من هذه الزاوية تكون هذه الأخيرة دومًا، باعتبارها صورة لشيء ما و”وجودًا ثانيًا”، موسومة بـ”نقص علينا معرفته”. إنها ستكون ليس فقط دون ما يتصل بالوجود، بل يمكنها أيضا وهي تضعِّفه أن تبعدنا عن معرفته. الصورة حتى ولو كانت فوتوغرافية تكون مطبوعة دائمًا بعدم المواءمة والتشابه مع ما تمثله. لهذا فإن مراقبة الهوية، لكي تحقق المراقبة القصوى، لا ترتكن اليوم إلا للتحقق من الشخص عبر بؤبؤ العين باعتباره العضو ذا الفرادة العليا.
إذا ما كنا تناولنا الصورة من المنظور الموروث عن الأفلاطونية، فلكي ندرجه ضرورة في تصور يسائلها لسبب آخر غير ما هي، أي في علاقتها بالحقيقة، وانطلاقًا من همّ التمييز بين المظهر والوجود، وبين الحقيقة وما يشابهها، وبين الوهم والواقع.
إن الطريقة الوحيدة لكي تكون الصورة حقيقة كل الحق هي أن تختزل في البصمة. وكلمة “imago” اللاتينية تعني أيضا، فيما تعنيه، الختْم وبصمته على الشمع. وإذا ما نحن أخذناها حصرًا في هذا المعنى، فإن الصورة ستجعل من وجود الواقع وجودًا إشكاليًا، وذلك في عدم التمييز بين الصورة وصورة العالم. وهكذا نصادف ملاحظة ديدي هوبرمان إزاء المندّدين بصور مخيمات التقتيل، سواء سُمّوا “ارتجاعيين” أو “نُفاة” للواقع الممثَّل أو “متصوفة” “مبجلين صامتين للواقع نفسه”، حسب عبارة الفيلسوف الإيطالي جيورجو أغامبن Giorgio Agamben : إذا ما نحن ألححنا في أن نطلب من الصورة أن تكون “صورة كلية”، أي أن تكون الحقيقة كلها، فإننا سنعود من سؤالنا بخفَّي حنين. لكن، هل يمكن أن نجعل من هذا المسعى التأويلي نمطا لمعرفة كل صورة، بل لكيان الصورة؟ إن هذا يفترض أن ندمج الصورة في كل مرة في الحدث، وفي نمط بلورتها وممارسة النظر الذي تفترض. لن يتعلق الأمر هنا بتاتا بتفحُّص الصورة في دلالتها وإنما باعتبارها في فضائلها، كما يقترح ذلك لوي مارتان، أي أن نتخلى عن فكرة “كينونة الصورة” باعتبارها “صورة للكينونة”، كي نُسائل بالأحرى “قواها الظاهرة والضمنية”. ومصطلح التمثيل لن يعني من ثم الاستنساخ والتضعيف وإنما الإلحاح. فما يلح في الصورة هو تلك العتبة من اللاعَيانية التي تنتظر أن تغدو صورة، وأن تتجسد في أثر فني، وفي صورة مشخصَّة كما في بصرنا ومتخيلنا.
إننا بنقل مسألة كينونة الصورة إلى مسألة سلطاتها “بين ممكنات استعلانها وآثار ظهورها”، لَهو أمرٌ ربما سيمكننا من أن نفكر في الآن نفسه في استراتيجيات جعل الصورة مرئية وسيرورات التعرف عليها والانخراط فيها. بهذا المعنى فإن الصور لن تكون سوى أشباح تنتظر أن يغشاها البصر الذي يعيد خلقها ويمنحها هويتها. لقد كان فنانو الحداثة أول من أدرك ذلك بتركهم لأعمالهم الفنية مفتوحة على التأويلات. أما قضية التلاعب بالصور فتعود بالضرورة إلى الاشتغال على الجسد الرائي وعلى ما يؤثر فيه. أليس ذلك ما يربط بين الصورة والمتخيل أو المتخيلات الثقافية المتنوعة؟
الإحالات المرجعية
- Agamben (Giorgio), Ce qui reste d’Auschwitz. L’archive et le témoin. Homo sacer, III, Paris, ravages, 1999.
- Badiou (Alain), During (Elle), Rabouin (David), Matrix, machine philosophique, Paris, Ellipses, 2003.
- Baudrillard (Jean), Simulacres et simulation, Paris,Galilée, 1981.
- Belting (Hans), Image et culte, une histoire de l’art avant l’époque de l’art, Paris, Serf, 2007;
Pour une anthropologie des images, Paris, Gallimard, 2004.
- Bunuel (Louis), My Last Sigh, New York, Vintage, 1984.
- Didi-Huberman (Georges), Devant l’image, Paris, Éditions de Minuit, 1990.
- Dolto (Françoise), l’Enfant du miroir, Paris, Rivages, 1987.
- Lacan (Jacques), Écrits I, Paris, Seuil, 1966.
- Le Dœuff (Michèle), l’Imaginaire philosophique, Paris, 1980.
- Legendre (Pierre), Dieu ou miroir, études sur l’institution des images, Paris, Fayard, 1994.
- Marin (Louis), Des pouvoirs de l’image, Paris, Seuil, 1993.
- Mondzain (Marie-Josée), L’image peut-elle tuer?, Paris, Bayard, 2002.
- Platon, Cratyle, Paris, Flammarion, 1999; République, Livre I-X, Paris, Flammarion, 2007;
Timée, Paris, Flammarion, 1999.
[1] لعل الكاتبة تقصد الحرب الأمريكية على العراق، ذلك أن حرب الخليج الثانية كانت في مطلع التسعينات، بينما تأسست قناة الجزيرة عام 1969. المحرر.