
لدينا كلّنا رغبات متضادّة. نودّ أن ننال ترقيةً ولكن لا نريد الإغراق في العمل. نودّ لو نُواعِدُ بِتي وڨيرونيكا معًا (أو بوب وڨرنن معًا). نتوق لأن نبقى نحيلين، ولكن نشتهي أيضًا التهام قطعة الكيك اللذيذة تلك. تتسبَّبُ هذه الأمنيات المتضادّة كلّها بمعضلات. ونحن مُقيَّدون بحقيقة أنّنا قادرون على انتقاء خَيارٍ واحدٍ فقط من الخيارين وإلا وقعنا في تناقض. ومع تقدّمنا نحو النّضج نتعلّم كيفيّة التملّص من التّعارضات وكيفيّة حلّ نزاعاتنا. يتعلّم معظمنا تحديد الخيارات، بل ويتمكّن بعضنا أحيانًا من التوصّل إلى القرارات الصّحيحة. وعمومًا، يعتمد نجاحنا على الخيار الذي ننتقيه من بين خياراتنا المتضادّة.
وكذلك فإنّ الفلاسفة، والعلماء، والرياضياتيّين يتعاملون مع التّعارضات في عملهم. ويحلّون هذه التّعارضات بطرق عديدة تبعًا لكيفيّة ورود التّعارض. ومع أنّ هذه التّعارضات تحدث في حقولٍ شديدة التنوّع والتّباين، إلا أنّ بوسعنا – ببساطةٍ متناهيةٍ – تصنيف أنماط التّعارضات التي تنشأ في هذه الحقول.
مفارقات الوجود
ثمّة قصّة لطيفةٌ تُنسَب إلى برترند رَسل Bertrand Russell (1872-1970) حيّرتْ النّاس لعقود. لدينا قرية معزولة ليس فيها إلا حلّاق واحد. يذهب بعض سكّان القرية إلى الحلّاق، ويفضّل آخرون قصّ شعرهم بأنفسهم. في القرية قانون مفروضٌ ينصّ على ما يلي: يجب على الجميع أن يقصّوا شعرهم؛ وعلاوةً على هذا، لا يُسمَح لك بالذّهاب إلى الحلّاق لو قصصت شعرك بنفسك؛ ويجب عليك الذّهاب إلى الحلّاق لو لم تقصّ شعرك بنفسك. إما هذا أو ذاك. وفيما يسري هذا القانون الذي يبدو سليمًا ظاهريًا على معظم سكّان القرية، ثمّة قرويّ يتسبّب بإشكاليّة كبيرة للسُّلطات. اطرحوا السؤال على أنفسكم: من يقصّ شعر الحلّاق؟ لو قصَّ الحلّاق شعره بنفسه، لن يكون بإمكانه – تبعًا للقانون – أن يذهب إلى الحلّاق: ولكنّه هو الحلّاق! وفي الحالة الثانية، لو ذهب الحلّاق إلى الحلّاق، فهذا يعني أنّه يقصّ شعره بنفسه، وهذا يخرق القانون. تتسبّب هاتان النّتيجتان بتعارض. يكمن التّعارض في وجوب أن يقصّ الحلّاق شعره وفي وجوب ألّا يقصّ شعره.
هذه القصّة الصّغيرة المُدوِّخة مثالٌ نموذجيٌّ عن المُفارَقة (paradox). أي، إنّها تجربةٌ فكريّةٌ تُفترَضُ فيها فكرةٌ وينشأ منها تعارضٌ منطقيّ. ما مشكلة التّعارضات؟ التّعارض طرحٌ (أي، هو تأكيد) بأنّ أمرًا ما موجودٌ وغير موجود في آن. وبوسعنا القول أيضًا إنّ التّعارض طرحٌ يكون صحيحًا وخاطئًا في آن. ما من تعارضات في العالم الفيزيقيّ. ففي الكون الفيزيقيّ، لا يمكن للشيء أن يكون ولا يكون في آن؛ أو، لا بدّ أن يكون الطّرح إما صحيحًا أو خاطئًا. ما الذي يمكن أن يعنيه الأمر في حال وجود شيءٍ صحيح وخاطئ في آن؟ لا يمكن لنا تصوُّر وجود تعارضٍ في الكون. وبما أنّ التّعارضات عصيّة على التصوّر، لا بدّ من وجود خطأ في الافتراض الذي نشأ منه التّعارض. بمعنى ما، فإنّ المفارقة وسيلةٌ لتبيان أنّ افتراضًا بعينه ليس جزءًا من العقل. ولقد استخدم الفلاسفة، والعلماء، والرياضيّاتيّون، والمناطقة المفارقات من أجل تبيان صحّة الافتراضات من عدم صحّتها، وبالتّالي تبيان تقييدات العقل. يفترضون فكرةً، وفي حال نشأ منها تعارضٌ أو خطأ، فهذا يعني أنّ الافتراض خاطئ. وإلا، فإنّ الافتراض صحيحٌ منطقيًا.
فلنعد إلى قريتنا الصغيرة ولنرَ كيف يمكن لنا حل المفارقة. ما الافتراض هنا؟
قدَّم كثيرون حلولًا بسيطةً للمفارقة: الحلّاق أصلع، أو أنّ زوجة الحلّاق تقصّ شعره، أو أنّ الحلّاق يترك عمله في الحلاقة ليقص شعره ويعود من ثمّ إلى عمله من جديد، وما إلى ذلك من حلول. تكتفي هذه «الحلول» جميعها بالالتفاف على المشكلة. ففي قريتنا يجب على الجميع أن يقص شعره؛ ولا يُسمَح لأحد – ولو حتّى زوجة الحلّاق – بقص شعر شخص آخر، ولا يمكن للحلّاق الأعزب أن يترك عمله موقتًا.
في واقع الحال، فإنّ هذه الأفكار ظلالٌ للحلّ الفعليّ لمفارقة الحلّاق، والذي يعني إدراك أنّ القرية المقصودة بقانونها الصّارم مستحيلة الوجود. لن يسمح الكون الفيزيقيّ بوجود قريةٍ كهذه، لأنّها تُضمر وجود تعارضٍ. ثمة قرى معزولة كثيرة فيها حلّاق واحد، ولكن يمكن خرق القانون فيها بطرق لا تعدّ ولا تُحصى: قد يأتي حلّاق من قرية أخرى، أو قد يكون الحلّاق أصلع، أو قد يطلب الحلّاق من زوجته أن تقصّ شعره، أو قد يقص الحلّاق شعره بنفسه (وبذا لن يصمد القانون)، إلى آخره من حلول. يمكن لهذه السيناريوهات المختلفة كلّها أن تحدث بحيث تضمن عدم وجود تعارضات في الكون. باختصار، يقوم افتراض مفارقة الحلّاق على أنّ القرية موجودة بقانونها ذاك. الافتراض خاطئ.
ثمّة مفارقة أخرى يعرفها جميع عشّاق الخيال العلميّ تمام المعرفة. تتحدّث مفارقة السفر عبر الزمن أو مفارقة الجَدّ عن مسافرٍ عبر الزمن يعود بالزّمن إلى الماضي ويقتل جدّه قبل أن يكون قد قابل جدّته. يضمن هذا الفعل أنّ والد المسافر الزمنيّ لن يولد، وبذا فإنّ المسافر نفسه لن يولد. لو لم يولد، لن يكون بإمكانه على الإطلاق أن يعود بالزّمن إلى الماضي ليقتل جدّه الأعزب؛ وبالتّالي، لو قَتل جدّه الأعزب، فإنّه لن يقتل جدّه الأعزب؛ ولو لم يقتل جدّه الأعزب، سيكون بإمكانه بالتّالي أن يعود إلى الماضي ويقتل جدّه الأعزب. هذا تعارض مرة أخرى.
في حقيقة الأمر، لا يحتاج المرء إلى أن ينغمس في القتل على هذا النّحو كي ينال نتيجةً كهذه. فكلُّ ما ينبغي على المسافر فعلُه هو العودة بالزّمن دقيقتين قبل دخوله إلى آلة الزّمن بحيث يضمن أنّ ذاته الأسبق لن تدخل الآلة. إيقاف ذاته الأسبق من الدّخول إلى آلة الزمن من أجل إيقاف ذاته من الدّخول إلى الآلة سيضمن أنّه عاجزٌ عن إيقاف ذاته من الدخول إلى الآلة. تعارض، من جديد. فمعظم الأفعال تؤثّر على أفعال أخرى. وستنشأ المفارقة لو نفَّذ المسافر الزمنيّ فعلًا يُلغي نفسه.
يمكن حلّ مفارقة السفر عبر الزمن بسهولة: افتراض إمكانيّة السّفر بالزّمن إلى الماضي افتراضٌ خاطئ؛ أو، حتّى لو كان السّفر بالزّمن إلى الماضي ممكنًا، ما يزال المسافر الزمنيّ غير قادر على العودة إلى الماضي والقيام بفعلٍ يتعارض مع نفسه. ما من طريقةٍ يمكن للكون أن يسمح فيها للمسافر الزمنيّ بقتل جدّه الأعزب.
حُلَّت هاتان المفارقتان على النّحو ذاته. ينتج لدينا تعارض حين نفترض أنّ موضوعًا فيزيقيًا موجودٌ أو أنّ سيرورةً فيزيقيّةً موجودةٌ. وحالما نتخلَّ عن هذا الافتراض، سنتحرّر من التّعارض. تُظهِر هذه المفارقات تقييدات العالم الفيزيقيّ: لا يمكن لقريةٍ بعينها أن توجد، أو أنّ أفعال المسافر الزمنيّ مُقيَّدة. ثمّة أمثلة مشابهة كثيرة من هذه المفارقات الفيزيقيّة، وتُحَلّ كلّها على النّحو ذاته.
المفارقات اللغويّة
لا توجد التّعارضات في الكون الفيزيقيّ. ومع ذلك ثمّة مواضع توجد فيها تعارضات: في أذهاننا وفي لغتنا. ويقودنا هذا إلى نمطنا الثّاني من أنماط المفارقات. بخلاف الكون، ليس الذهنُ البشريُّ آلةً مضبوطةً. إذ إنّه يعجُّ بالتّعارضات علاوةً على رغباتٍ وأمنياتٍ متضادّة. نرغب بأشياء متعارضة. نحبّ الأشياء التي نعلم أنّها مضرّة لنا، كما أنّ لدينا مُثُلًا متضادّة في حيواتنا. وبالمِثل، فإنّ لغتنا، التي تعبّر عن أفكار الذّهن، تعبّر عن التّعارضات أيضًا. بوسعنا القول «أُحبّها!» و«هي تُجنّني!» في غضون ثوانٍ. وبإمكان أيّ مراهق بسهولةٍ أنّ يُعدِّد جميع العبارات المتعارضة التي خرجت من فمَيْ أبويه. وستُشكّل هذه العيوبُ في أفكارنا ومنطوقنا نمطَنا التّالي من أنماط المفارقات.
أشهر مفارقة في اللغة هي مفارقة الكاذب (Liar Paradox). فالعبارة البسيطة «هذه العبارة كاذبة» تبدو صادقةً وكاذبةً في آن. لو كانت صادقةً، فهذا سيؤكّد كذبها؛ وبالمقابل، لو كانت كاذبةً، فستكون صادقةً بما أنّها تقول إنّها كاذبة. تكون معظم العبارات التّصريحيّة – أي، العبارات التي تُصرِّح بأمرٍ ما – إما صادقةً أو كاذبةً. ولكنّ العبارة هنا صادقةٌ وكاذبةٌ. إنّها تُشكّل تعارضًا.
ما العمل حيال مفارقة الكاذب؟ يقول بعض الفلاسفة إنّ عبارة «هذه العبارة كاذبة» ليست عبارةً تصريحيّةً جائزةً. إذ هي لا تُصرّح فعليًا بأيّ شيء عن أيّ شيء. فالعبارات التي تُنتِج أنواع المُشكلات هذه ليست إلا لغوًا. ويودّ بعض المفكّرين اختزال نمط العبارات الذي نستخدمه بحيث لا تنشأ منه مفارقات.
يرى أناس كثيرون أنْ ما من داعٍ كي تُؤرّقنا مفارقة الكاذب. إذ إنّ قدرًا كبيرًا ممّا ننطق به ليس إلا لغوًا في نهاية المطاف. فلنقل، إذن، إنّ عبارة الكاذب ليست صادقةً أو كاذبةً. وبدلًا من محاولة حلّ المفارقة عبر تجنُّب التّعارض، فلنتجاهلْ المفارقة بوصفها «محض» لغو لغويّ. إنّها ببساطة كلامٌ بشريٌّ لا معنى له.
ثمّة مفارقة لغويّةٌ أخرى اسمها مفارقة الأصلع (Bald Man Paradox). فلنتخيّل رجلًا ليس في رأسه شعرة واحدة. بوسعنا كلّنا الاتّفاق بأنّ هذا الرجل ينبغي أن يُسمّى «أصلع». ماذا لو كان لدينا رجلٌ رأسه فيها شعرة واحدة؟ سيبقى معظمنا على اتّفاقهم بأنّ إضافة هذه الشّعرة الواحدة لن تُغيّر التّوصيف، وبأنّه لا يزال أصلعًا. وانطلاقًا من هذا يمكن لنا استنباط قاعدةٍ أعمّ: لو وصّفنا رجلًا بأنّه أصلع، لن تُغيِّر إضافةُ شعرةٍ واحدةٍ توصيفَه، فهو ما يزال أصلع من حيث التّوصيف. وباستخدام هذه القاعدة مرارًا وتكرارًا، نستخلص أنّ الرجل بشعرتين أصلع، وأنّ الرجل بثلاث شعرات أصلع، وأنّ الرجل بأربع شعرات أصلع … وأنّ الرّجل بمئة ألف شعرة أصلع. ولكنّنا نعلم أنّ العبارة الأخيرة خاطئة. صار لدينا تعارض إذن. فمن جهة، بوسعنا البرهنة على أنّ الرجل يبقى أصلع بصرف النّظر عن كمّية الشّعر في رأسه؛ ونعلم، من جهة أخرى، بأنّ ثمّة رجال عديدون ليسوا صُلعًا حتمًا. ما الخطأ هنا؟

مرةً أخرى، حلُّ هذه المفارقة (تُعرَف لأسباب تاريخيّة باسم مفارقة سوريتيز (Sorites paradox) [أو مفارقة الكومة])[1] بسيطٌ. فالحلّ يكمن في الإقرار بعدم وجود تعريف دقيقٍ لكلمة «أصلع»، وبذا ما من تمييزٍ حاسمٍ بين الأصلع وغير الأصلع. فكلمة «أصلع» ابتكارٌ بشريٌّ ليس له تعريفٌ دقيقٌ. وبالمثل، ليس للكلمات المُلتَبِسة الأخرى – «طويل،» «قصير،» «ذكيّ،» إلخ – معانٍ دقيقة. (بالمقابل، ليس لعبارة «طوله أكثر من ستّة أقدام» معنًى دقيقٌ.) ويمكننا، بالتّالي، استخدام الحلّ ذاته في مفارقة الأصلع كما استخدمه البعض في مفارقة الكاذب: أن نتجاهلها. إذ لطالما استخدم البشر بنجاح كلماتٍ ملتبسةً. بوسعنا تجاهل مفارقة الأصلع لأنّها تدور حول اللغة البشريّة، واللغة مَعيبةٌ في الأصل.
المفارقات الرياضيّاتيّة
رأينا حتّى الآن أنّ بعض المفارقات تُبيّن لنا أنّ ثمّة موضوعات أو سيرورات مستحيلة الوجود، فيما ترتبط مفارقات أخرى باللغة ويمكن تجاهلها. لدينا، في واقع الحال، نوع ثالث من المفارقات التي تنشأ من اللغة ولكنّها عصيّة على التّجاهل.
الرياضيّات لغةٌ يستخدمها البشر لفهم العالم. وبما أنّ الرياضيّات لغةٌ، فإنّ فيها قابليّةً لأن تحتوي على تعارضات. وفي شتّى الأحوال، وبما أنّنا نريد استخدام الرياضيّات في العلم من أجل التحدّث عن الكون الفيزيقيّ، الذي لا يحتوي على تعارضات، لا بدّ لنا من التأكّد أنّ تنبّؤاتنا العلميّة لن تصل إلى خُلاصات متعارضة. ولو اتّفقنا على أنّ عمليّةً كيميائيّةً بعينها لن تُنتج إلا أحادي أكسيد الكربون، سيكون من الأفضل لنا التأكّد من أنّ حساباتنا لن تُفضي إلى أنّ العمليّة ستُنتج ثاني أكسيد الكربون. أو، لو كانت لدينا طريقتان لحساب الزمن الذي سيستغرقه مقذوفٌ للعودة إلى الأرض، لا بدّ لنا من التأكّد أنّ الطريقتين ستعطيان النّتيجة ذاتها. لحسن الحظ، فإنّ اكتشاف إمكانيّة تفادي التّعارضات أمرٌ سهلٌ في الرياضيّات.
نواجه التّعارضات في الرياضيّات أوّل وأسهل مرة في المدرسة الابتدائيّة، حين يُقال لنا إنّ بإمكاننا قسمة أيّ عدد على أيّ عدد باستثناء الصفر. تقسيم أيّ عدد على الصفر محظور لأنّنا سنواجه تعارضًا حين نقسم على الصفر. تأمّلوا العبارة الصحيحة 0×2=0×3. لو قسمنا الطّرفين على صفر من أجل «حذف الصفرين»، سنُترَك أمام 2=3. وبذا فإنّنا سنواجه تعارضًا حين نقسم على صفر: 2≠2. إذن، بينما بيّنتْ لنا المفارقات الفيزيقيّة استحالة وجود موضوعات وسيرورات بعينها، تُبيّن لنا المفارقات في الرياضيّات أنّ علينا تجنُّب القيام بعمليّات بعينها، برغم قدرتنا على ذلك، كيلا نواجه تعارضًا.
يمكن للرياضيّاتيّين (وللفلاسفة أيضًا) استخدام الحقيقة القائلة بعدم جواز السّماح للتّعارضات بإثبات المبرهنات. هذا ما يُسمّى برهان الخُلف (reduction to the absurd) أو البرهان بالتّعارض (proof by contradiction): لو أردنا البرهنة على أنّ عبارةً ما صحيحةٌ، فلنفترضْ أنّها خاطئة ولنستنبطْ تعارضًا. وبما أنّ التّعارضات مستحيلة، لا بدّ أنّ افتراض الخطأ سيكون غير صحيح وبذا فإنّ العبارة الأصليّة صحيحة. تلعب براهين كهذه دورًا أساسيًا في الرياضيّات الحديثة.
فلنأخذ مثالًا من عالم المجموعات. المجموعات حشود من العناصر، وتكون في أنواع مختلفة كثيرة: لدينا مجموعة التفّاح الأخضر في ثلّاجتي؛ مجموعة الخلايا في جسمي؛ مجموعة الأعداد الحقيقيّة، إلخ. ولدينا أيضًا مجموعات تحتوي مجموعات. فمثلًا، يمكن لنا تصوُّر أنّ المدرسة مجموعة صفوف. ويمكن لنا تصوُّر أنّ كلَّ صفٍّ، بدوره، مجموعة تلاميذ. وبذا يمكن للمدرسة أن تكون مجموعة مجموعات من التلاميذ.
وتغدو الحياة ممتعةً حين نفكّر بمجموعات تضمّنا نحن. ثمّة أمثلة حقيقيّة عن مجموعات كهذه. تأمّلوا مجموعة الأفكار المُحتواة في هذه المقالة. تلك المجموعة تحتوي نفسها: فمجموعة الأفكار المحتواة في هذه المقالة فكرةٌ محتواة في هذه المقالة. وكذا فإنّ مجموعة جميع المجموعات التي تحتوي أكثر من عنصر واحد تحتوي نفسها. مجموعة جميع الأشياء غير الحمراء تحتوي نفسها.
طوَّر رسل مفارقة أخرى، تتّصل بالمجموعات هذه المرة. فكّروا بـ جميع المجموعات التي لا تحتوي نفسها. ولنسمِّها المجموعة R. والآن اطرحوا السؤال: هل R تحتوي R؟ لو كانت R تحتوي R، فبالتّالي، بوصفها عنصرًا من عناصر R، التي حُدِّدت بكونها لا تحتوي إلا المجموعات التي لا تحتوي نفسها، R لن تحتوي R. وبالمقابل، لو لم تحتو R نفسها، فإنّها – من حيث التّعريف – ستنتمي إلى R. أمامنا تعارضٌ من جديد. يُسمّى مفارقة رسل (Russell’s Paradox).
باتت لدينا معرفةٌ كافيةٌ الآن بالمفارقات تُمكّننا من إدراك أنّ الطريقة البدهيّة لحلّ مفارقة رسل هي التّصريح ببساطةٍ بأنّ R غير موجودة. ولكنّ الأمور ليست بهذه السّهولة هنا على أيّة حال. لمَ لا يمكن لمجموعة العناصر التي سمّيناها R أن توجد؟ إذ إنّنا أعطينا عبارةً مُحدَّدةً عن أنماط العناصر التي تتضمّنها المجموعة: «المجموعات التي لا تحتوي نفسها». ولكنّنا صرَّحنا بأنّ هذه المجموعة مجموعةٌ غير جائزة ولا يمكن استخدامها في نقاشٍ في الرياضيّات. يُسمَح للرياضيّات بمناقشة التفّاح الأخضر في ثلّاجتي، ولكن لا يُسمَح لها باستخدام المجموعة R، لأنّ المجموعة R ستقودنا إلى تعارض.
مثالنا الأخير لاستخدام المفارقة في الرياضيّات إحدى أهم المبرهنات في رياضيّات القرن العشرين: مبرهنة اللااكتمال (Incompleteness Theorem) التي طرحها غودل. في الرياضيّات، لا بدّ من أن تكون كلُّ عبارةٍ قابلةٍ للبرهان صحيحةً من حيث التّعريف، لأنّ البرهان يعني هنا «بُرهِن على صحّتها رياضيّاتيًا». قبل مجيء كِرْت غودل Kurt Gödel (1906-1978)، كانت الرياضيّات تفترض أنّ أيّة عبارةٍ رياضيّاتيّةٍ صحيحةٍ عبارةٌ قابلةٌ للبرهان أيضًا. بيَّنَ غودل خطأ هذه الافتراض من خلال صوغ عبارةٍ رياضيّاتيّة مشابهةٍ لعبارة الكاذب، تقول عن نفسها من حيث الجوهر: «هذه العبارة الرياضيّاتيّة غير قابلةٍ للبرهان».
فنفكّر بهذا للحظة. لو كانت العبارة الرياضيّاتيّة «هذه العبارة الرياضيّاتيّة غير قابلةٍ للبرهان» غير قابلةٍ للبرهان، فهذا يعني أنّها صحيحة. وبالمقابل، لو كانت «هذه العبارة الرياضيّاتيّة غير قابلة للبرهان» قابلةً للبرهان، فهذا يعني أنّها خاطئة. ولكن كيف يمكن للبرهان عليها أن يُفضي إلى عبارةٍ خاطئة؟ هذا تعارض، بما أنّ جميع البراهين الرياضيّاتيّة عبارات صحيحةٌ من حيث التّعريف. لا بدّ من أن نستخلص إذن أنّ عبارة غودل صحيحةٌ وغير قابلة للبرهان في آن. أفضت بنا مفارقة إلى تقييدٍ لسلُطة الرياضيّات: ثمّة عبارات في الرياضيّات تكون صحيحةً، ولكن مستحيلة البرهان بالمطلق.
رأينا ثلاثة أنماط مختلفة من المفارقات وحلولها. بعض المفارقات مرتبط بالكون الفيزيقيّ، وبما أنّ التّعارضات مستحيلة الوجود في الكون الفيزيقيّ، ستبيُّن مفارقات كهذه التّقييدات حيال ما يمكن أن يوجد فيزيقيًّا. وبالمقارنة، تتعلّق بعض المفارقات باللغة البشريّة التي تعجُّ بالتّعارضات، ويمكن لنا هنا تجاهل التّعارضات. وأخيرًا، ثمّة مفارقات في الرياضيّات حيث ينبغي لنا أن نخطو بحذر كيلا نصطدم بأيّة تعارضات. ينشأ قدرٌ كبيرٌ مفاجئٌ من تقييدات العقل من تصنيفات المفارقات الثّلاثة هذه.
[1] تقوم متناقضة الكومة (paradox of the heap) على فكرة استحالة وجود تعريفٍ لمعنى «كومة». هل إنقاص حبّة رمل من الكومة يعني تغييرًا في توصيفها القديم: «كومة»؟ ومع التّناقص التدريجيّ لن يعود بوسعنا تحديد التّمييز الفعليّ الذي يمكن لنا من خلاله إبقاء التّوصيف أو إسقاطه. هل نصف الكومة كومة؟ هل ربع الكومة كومة؟ وبالمنطق ذاته: هل حبّة الرمل كومة؟ [المترجم].
نوسن س. يانوفسكي (Noson S. Yanofsky) پروفسور الكمبيوتر وعلوم المعلومات في كليّة بروكلن (Brooklyn College) وفي مركز الخرّيجين بجامعة مدينة نيويورك (City University of New York). هو مؤلّف كتاب حدود العقل الخارجيّة: ما لا يمكن للعلم والرياضيّات والمنطق أن يقوله لنا The Outer Limits of Reason: What Science, Mathematics and Logic Cannot Tell Us (MIT Press, [2013]) والذي سيصدر عن دار نشر منصة معنى مترجمًا للعربية.