مقالات

حنّة أرندت: الصّفح إنهاءٌ للشرور كلّها – عز الدين بوركة

  • ضرورة الصفح:

يبدو أنّ مفهوم “الصفح” le pardon ما زال، كما كان من ذي قَبْل، يحمل خلفية جوهرية لاهوتية، خلفية لم ينفصل عنها كليًّا؛ إلا أنه وليغدو أكثر دنيويًّا وأكثر “عَلمانية”، إن أردنا التعبير بشكل أدق، يجب فصله عن مفاهيم كالمصالحة والتسامح والعفو والغفران… حيث يكاد الصفح أن يتجاوز المحددات اللاهوتية كلها؛ ليغدو قيمة إنسانية نبيلة وسامية؛ بل إنه أسمى القيم الإنسانية كلها، وبه وعبره يمكن أن تؤسس الإنسانية المشترك، وتتجاوز عن خطاياها وأخطاء الأجداد، وتقيم سلامًا ممكنًا ودائمًا؛ وذلك لأن الصفح ليس أبدًا ردة فعل؛ بل إنه فعل لا يهتم إلا بتحقيق ذاته دون الاكتراث للفعل الذي بُنِيَ من أجله. وكما ترى الفيلسوفة والمنظرة السياسية الألمانية-الأمريكية حنة أرندت، إنْ كانت أزمة العالم الحديث، إلى جانب التقانة والأداتية، كامنةً في انتشار العنف، فبالإمكان تحقيق مقاومة حقيقية لهذا الانتشار، وذلك تحقيقًا للرقي بالوضع البشري إلى ما هو أفضل، ولن يتسنى ذلك إلا عبر مواجهة العنف والشر الناجِمَين عن صعود الأنظمة التوتاليتارية، ولا يمكن أن تتحقق المواجهة إلا عبر “إعمال الصفح”.

لا يزال مفهوم الصفح بارزًا في الساحة السياسية المعاصرة، ومَطْلَبًا لا بد من تحقيقه؛ آخذين بعين الاعتبار، نموذجًا، الإبادةَ الجماعية التي وقعت عام 1994 في رواندا، وأن فرنسا لم تعتذر –أو بالأحرى لم تطلب الصفح- عن آثارها وسلبياتها المزعومة. وأيضًا إن نظرنا إلى استياء ألبان كوسوفو من حقيقة أن الصرب لم يطالبوا بالعفو والصفح عن الانتهاكات التي ارتكبوها… وإننا لنشهد في العديد من الأماكن في هذا العالم، اختراقات كثيرة لمجال السياسة بفكرة الصفح؛ وذلك عبر إنشاء هيئات ولجان العفو والمصالحة، والاحتجاج بواجب التذكر لإلغاء النسيان؛ حيث ينهض الصفح على التذكر – كما يذهب دريدا – لا النسيان؛ بل إن الصفح عن الجلاد، كما هو عند أرندت، يصير تحقيقًا للانسجام والمشترك؛ فيغدو بالتالي من الواجب تحقيقه من حيث إنه ضرورة بشرية للانفتاح على المستقبل وعدم البقاء مرهونِي فعلٍ ماضٍ يصعب تجاوزه؛ إذ ولأنه لا إمكانية للرجوع إلى الوراء، فلا يكمن الخلاص –إذن- إلا في الوضعية التي يستحيل فيها الرجوع إلى الوراء، إلى تصحيح الفعل الأول، ولا نجد إلا الصفح بوصفه ردة فعل تصحيحًا للأخطاء وتجاوزها؛ وليس لنسيانها ودفنها نهائيًّا، حيث يبقى الصفح عبر تذكرها قائمًا وممكنًا.

وإن كان الصفح مفهومًا مطلوبًا وأساسيًّا اليوم، إلا أنه يجب الإدراك بكونه “فعلًا إنسانيًّا جديدًا” إلى حد ما، فلا القانون الدولي ولا الفلسفة السياسية الكلاسيكية، عمومًا، يفسحان المجال لظهور هذا المفهوم؛ بل إنهما يكادان لا يثقان به. ويبقى التساؤل الملح هنا: ما الذي يأتي بالصفح من حيث إنه يجد لنفسه أصلًا ومقابلًا دينيًّا – الغفران في هذه الحالة – إلى مجال الوضع البشري والشؤون البشرية؟ لم يكن ذلك من باب الصدفة، فإذا رجعنا إلى التطور الذي حدث على مستوى المفاهيم السياسية والانتقال من “الطبيعة البشرية” إلى الحديث مع حنة أرندت عن “الوضع البشري” في القرن العشرين؛ سنرى أن الصفح مرتبط بجميع الفجوات التي حدثت في ذلك القرن وحتى قرننا الحالي. وذلك أمام حدوث العديد من الجرائم، جرائم ضد الإنسانية في هذه الحالة، مثل جرائم الأنظمة التوتاليتارية (النازية والستالينية…) والحروب الأهلية والإبادات الجماعية، وكذلك أمام الانقسامات العميقة بين الأمم والشعوب؛ إذ يصبح لا بد من التغلب على ثقل الماضي والانفتاح على المستقبل، أي اللجوء إلى العفو والمصالحة؛ بل إلى الصفح كأسمى القيم البشرية الممكنة، حتى نتمكن من سد الفجوات التي تبلور عنها نسيان الماهية السياسية للإنسان، كما تذهب أرندت؛ بسبب صعود الأنظمة الشمولية، وتصرّ بالتالي هذه الفيلسوفة على “الفعل” action، من حيث إنه القدرة التي تميز الإنسان باعتباره كائنًا فاعلًا ومبدعًا وسياسيًّا في الآن ذاته.

  • الصفح والوعد:

في الوقت الذي يعد فيه جانكليفيتش بأنه “ليس من الصعب فهم لماذا أنّ واجبَ إعمال الصفح pardonner بات اليوم مشكلتنا”[1]، يرجع إلى حنة أرندت الفضل في تحديد قيمة الصفح باعتباره حقيقة أساسية في مجال الأوضاع والشؤون البشرية. فإن كانت المسيحية –التي تؤسس عليها أرندت رؤيتها لهذا المفهوم- هي من كشفت عن الصفح (المغفرة) في العلاقات البشرية، فوفقًا لهذه الفيلسوفة فإننا تجاهلنا لزمن طويل الاهتمام بدراسة هذا المفهوم وتدريسه بحجة أنه ديني بطبيعته؛ إلا أن اليسوع –كما تقول- كان يعلم أن المغفرة هي في يد الناس وهم مدعوون إلى الصفح عن بعضهم بعضًا؛ حيث – كما تخبرنا – كان المسيح الناصري وراء اكتشاف الدور الذي يلعبه الصفح في مجال الشؤون الإنسانية، ولا يجوز التذرّع بكون هذا الاكتشاف قد تم في سياق ديني وجرى التعبير عنه بلغة دينية؛ لكيلا نعامله بالجدية المطلوبة من منظور علماني صرف[2]. واستنادًا إلى التعليم الإنجيلي، تظهر أرندت المكانةَ اللازمة للصفح بسبب ما آلت إليه الشؤون البشرية من هشاشة؛ لهذا يأتي الصفح منقذًا للإنسان من صيرورة أفعاله، من حيث إنه أفق مفتوح على المستقبل، وتحرر من تبعات أفعالنا.

تمتاز الحياة المشتركة –حسب أرندت- بالتعدد الإنساني؛ لكن هذه التعددية محفوفة بالمخاطر؛ لأنها منسوجة عن الكلام المتبادل وعن الفعل، وكلاهما هش، لأنهما قائمان على استحالة الرجوع إلى الوراء في حالة وقوعهما؛ لهذا لولا صفح الآخرين عنا، الذي به نتخلص من تبعات أعمالنا، لبدَت قدرتنا على الفعل كما لو كانت حبيسة فعل واحد يلتصق بنا إلى الأبد، ولبقينا ضحايا عواقبه، وآثاره تمامًا مثل ساحر مبتدئ عاجز، في غياب الوصفة السحرية، عن إيقاف صنيعه أو التحكم به[3]. ولولا أن الأمر مرتبط أيضًا بالتزامنا بالوعد promesse وبالوفاء للوعد المبرم، وبعجزنا عن الوفاء بالوعد لكنا عاجزين عن الحفاظ على هوياتنا، ولَكُتب علينا أن نتيه بلا قوة ولا هدف، كلّ يهيم في ظلمات قلبه الوحيد، ويغرق في التباساتِ وتناقضاتِ القلب، ظلمات لا يبددها إلا النور الذي ينشره حضور الآخرين في المجال العمومي، بتأكيدهم على هُوية الإنسان الذي يَعِدُ والإنسان الذي يفي بوعده[4].

وللتغلب على تلك الهشاشة ونقط الضعف، توجد طريقتان متمثلتان في الوعد الذي يتم من خلاله تحييد عدم القدرة على التنبؤ بالقلب الإنساني، وفي الصفح الذي تُتَجاوَز من خلاله اللارجعة (استحالة الرجوع إلى الوراء) l’irréversibilité. بالوعد تجد العلاقاتُ الإنسانية الاستقرارَ، على سبيل المثال في العقود بين الفاعلين؛ وبالصفح يُهْدَم السجن القاتل للشؤون البشرية، فالصفح والوعد في حالة الوحدة أو العزلة، يكونان غير واقعيين، ولا يمكن أن يكون لهما معنى غير الدور الذي يلعبه المرء من أجل ذاته.

يعد بالتالي، الصفح بالنسبة لحنة أرندت، صانعًا للتاريخ، وبالتالي صانعًا للحياة ضد الانعزال في الماضي الذي يدمر العلاقات البشرية، ولا يجعلها مفتوحة على المستقبل. فالصفح مرتبط بالميلاد والولادة، بالتمكن من التكاثر؛ لهذا هو “معجزة” حقيقية، وليس فعلًا إلهيًّا (سماويًّا) فقط؛ بل إنه فعل إنساني أيضًا (دنيوية)، ما يجعله أنبل قيمة إنسانية ممكنة.

  • الصفح والحب والاحترام:

لا يرتبط الصفح بالوعد والوفاء به فقط ليتحقق؛ بل إنه رديف الحب، من حيث إنه يسود الاعتقاد بأن الحب وحده له القدرة على الصفح[5]؛ ولأن الحب وحده يستطيع الصفح كما تقول بذلك المسيحية (أحبوا أعداءكم) وتتفق معها حنّا أرندت، فالحب يعرف تمام المعرفة كيف يفتح ذراعيه للشخص، كائنًا ما كان. ولقد وضّح المسيح هذا بجلاء حينما قال: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً» إنجيل لوقا 7-47.

يتفق الصفح مع الحب والاحترام في مجال الشؤون الإنسانية الواسع. ويشير الاحترام، الذي يقارن بالـ”Philia politiké” عند أرسطو، إلى نوع من الصداقة بلا حميمية ولا قرب، إنه تقدير للشخص من خلال المسافة التي يضعها العالم بيننا[6]. وهذا الاحترام يكفي وزيادة ليكون ملهمًا للصفح عما اقترفه الشخص، ومراعاة وتقديرًا له؛ ولذا فالصفح يتطلب معرفة الشخص، إذ إن تقوقعنا على ذواتنا هو أكبر إعاقات إمكانية الصفح. يجب أن نعرف بعضنا لنتيح فرصة للصفح بيننا، فبتقوقعنا على ذواتنا، كما تقول، لن نستطيع الصفح لبعضنا بعضًا عن أتفه السيئات، وذلك في غياب المعرفة بالشخص الذي لأجله يكون الصفح ممكنًا.

  • الصفح بين الانتقام والعقاب:

تعلّق حنة أرندت بالصفح كأسمى القيم، جعل منها أن تعزله تمامًا عن الانتقام؛ إذ يعد الصفح بحق نقيض الانتقام، الذي يتحدد فعله بوصفه ردَّ فعل ضد عثرة أصلية[7]. والانتقام، بالنسبة إليها، هو ردة الفعل الطبيعية والميكانيكية لوقوع الشر على الفرد. أما الصفح فهو رد الفعل الوحيد الذي يعمل بطريقة غير متوقعة، وهو رد الفعل الذي لا يقتصر على إعادة إنتاج الفعل؛ ولكنه يمارس فعله بطريقة جديدة ولا متوقعة، وغير مشروطة بالفعل الذي أنتجها، وهي التي تحرر بالتالي الصافح والمصفوح عنه، في آن واحد، من الآثار الناجمة عن الفعل. إلا أنها، كما ذهب إلى ذلك جانكيليفتش، لم تفصل الصفح عن العقاب، الذي يعدّ إمكانية أخرى، غير متناقضة بأي حال من الأحوال، إنه يشترك مع الصفح في كونه وضعَ حدٍّ لشيء، قد يستمر إلى ما لا نهاية دون تدخّل ما. وكما تقول، إنه، إذن، لشديد الدلالة، إنه عنصر مُبَنْيِن لمجال الشؤون البشرية، أن يكون البشر عاجزين عن الصفح عما لا يستطيعون أن يعاقبوا عليه، وأن يكونوا غير قادرين على المعاقبة على ما يتبيّن أنه لا يقبل الصفح. وهذا ما لا يقبل به فيلسوف التفكيك جاك دريدا[8]؛ إذ يتحقق عنده هذا المفهوم في الصفح على ما لا يقبل الصفح، فما هو قابل للصفح مصفوح عنه مُقدمًا. فالصفح هو تحقيق للمستحيل ولغير الممكن. إنه نوع من الهبة (بـ العطاء) par-donner، شيء يُمنح بلا مقابل وبلا انتظار رد فعل، إنه ضد العقاب والحساب. أما نظرية أرندت فتأتي من كونها عملت على التأصيل لمشكلة الشر انطلاقًا من منظور الفكر السياسي لا من الفلسفة السياسية أو الأخلاقية فقط. وهو المنظور الذي شكّل محور اهتمامها طول مشوارها الفكري والتنظيري؛ لهذا نجد جل مؤلفاتها تتمحور حول إشكالية الشر والشر المطلق، المتمثل في الأنظمة التوتاليتارية التي تهدد الديمقراطية والسلم العام، وتعدم نهائيًّا المجال الخاص؛ حيث يجد الأفراد حريتهم الشخصية ومجالًا واسعًا لذواتهم. واهتمامها بالشر ناتج عما عرفته من اضطهاد وتعسف، اضطرها لهجرة موطنها، هروبًا من أنياب النظام النازي.

يبقى بالتالي الصفح بالنسبة لهذه المنظِّرة السياسية والفيلسوفة، حلًّا جذريًّا للتخلص من الشر القائم في العالم، والانتقال إلى حياة نشيطة، يكون فيها الإنسان العامل في أتم حريته، من حيث إن الحرية هي الفضاء السياسي الذي يتحقق في الشرط الديمقراطي، وهو الفضاء الذي تتجلى فيه كلمات الناس وأفعالهم؛ إذ تمكنهم من ربط علاقات فيما بينهم تحقيقًا للاحترام والصداقة والمحبة؛ وبالتالي الوقوف موقفًا صارمًا في وجه قيام أنظمة توتاليتارية من جديد.

 

 

 


[1] Vladimir Jankélévitch, Le pardon, édition Champs et Flammarion, essais, 2019, Paris, p. 7.

[2] حنة أرندت، استحالة الرجوع إلى الوراء والصفح كأفق مفتوح، ترجمة: حسن العمراني، عن كتاب: جاك دريدا وآخرون، المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، دار تبقال للنشر، 2005، ص 56.

[3] المرجع السابق، ص 54.

[4] المرجع نفسه، ص 55.

[5] المرجع نفسه، ص 60.

[6] المرجع نفسه، ص 61.

[7] المرجع نفسه، ص 58.

[8] راجع: جاك دريدا، الصفح، ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم، ترجمة: عبد الرحيم نور الدين ومصطفى العارف، منشورات المتوسط، 2018.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى