مشاكلةُ الناس لزمانهم وما يغلبُ عليهم في كلّ عصر – معتصم الهقاص

“أما الخلفاء وملوك الإسلام، فإن المسلمين في كل عصر تبع للخليفة، يسلكون سبيله، ويذهلون مذهبه، ويعملون على قدر ما يرونه منه، ولا يخرجون عن أخلاقه وأفعاله وأقواله”(١).
بهذه العبارة الجامعة الواضحة، يفتتح الكاتب والمؤرخ البلداني العباسيّ أحمد بن أي يعقوب بن وهب المنصوري اليعقوبي (توفي 293) كتابه الذي سمّاه “مشاكلةُ الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر”. والمشاكلةُ من مصدر شاكَلَ، بمعنى ماثَلَ وشابه، فالمشاكلة تعني المماثلة والمشابهة. وهذا ما أرداه اليعقوبي من كتابه هذا وهو القصد من وراء وضعه، أن يبيّن لنا أن أخلاق الناس وعاداتهم، على اختلاف مشاربهم وأعراقهم، تكون في الغالب مماثلة لزمانهم، وهو إذ يقول الزمان فإنّه يريد به الساسة والملوك الغالبين الذي سادوا في تلك الحِقب والأزمنة. وهذا مبحثُ ماتعٌ ظريف وكثير الفائدة، ومن الصّعب أن يغفله من اهتمّ بمسألة الأخلاق ومنبعها، والعادات وكيفية تكوّنها. وهو مبحث مهمٌ، أيضًا، لأنه يوضح كيف اختار الإنسان، في ذلك التاريخ المتقدم، هذا السلوك أو ذاك، ولِم انتخبه دون سواه، مع سابق علمنا أن نظريات الأخلاق وفلسفتها لم تتناوش الناس بعد.
اليعقوبي عاش سائحًا بين البلدان، مُكرما من قبل الملوك الذين ينزل في بلاطهم، واحتكّ بخلق غفير من أهل تلك الأمصار، فروى ما رأى، وأخبر عمّا أبصر، وكتب تاريخه المعروف في مجلدين.
يزعم مؤلف هذا الكتاب، ومن خلال معايشته للناس وملابستهم، أن أنماط السلوك والعادات التي سادت بين الناس في العهود الأولى للإسلام (العهد الراشدي ثم الخلافة الأموية فالعباسية) كانت مشابهة حدّ التطابق لما كان عليها الخلفاء والملوك. وهو، ومن أجل نصرة هذه الدعوى، يحشد الأدلة ويقيم البراهين، إما بذكر أخبار وحوادث متصلة الإسناد إلى عهد الخلفاء الراشدين، أو بذكر وقائع ومشاهدات خبَرَها المؤلف بنفسه. وهو إذ يصف ما غلب على الناس من طبائع وأخلاق، مضطر أن يبيّن خصائص هذا الذي يُؤخذ عنه ويُتبع، أعني خصائص كل خليفة من الخلفاء أو حاكم من حكامهم الذين تشبه بهم الناس واقتفوا أثرهم. يذكر كلّ هذا بلغة سلسة رشيقة لا تصيب القارئ بالضجر وتعطي صورة بانورامية لذلك العهد.
١- العهد الراشدي:
أورد المؤلف ابتداءً ما كان من أخبار أبي بكر الصّدّيق عندما قَدِم عليه ملوك اليمن وأصحاب الشوكة من العرب، فقال: “كان أبو بكر بعد رسول الله عليه السلام أزهد الناس وأشدّهم تواضعًا وتقللاً في لباسه، وكان يلبس وهو خليفة الشملة والعباءة، وقدمت عليه أشراف العرب وملوك اليمن وعليهم التيجان وبرود الوشي والحبر، فلما رأى القوم تواضعه ولباسه، نزعوا ما كان عليهم وذهبوا مذهبه واقتفوا أثره”. ثم يضيف في ذات السياق “وكان ذو الكلاع ملِك حمير فيمن قدم على أبي بكر في عشيرته وقومه وعليه التاج، وكان له عشرة ألف عبدٍ، فلمّا رأى لباس أبي بكر قال: ما ينبغي لنا أن نفعل بخلاف ما عليه خليفة رسول الله، فنزع لباسه الأول وتشبه بأبي بكر” (٢).
ثم يذكر خبرًا عن عمر بن الخطاب عندما وُلّي الخلافة، يقول: “كان عمر بن الخطاب رحمه الله مع تواضعه وخشونة ملبسه ومطعمه شديدًا في ذات الله، فكان عماله أو سائر من يحضره ويغيب عنه يتشبّهون به”. يكمل المؤلف: ” وكان العامل من عماله، وهم أمراء الأمصار، وقد فتح الله عليهم وخوّلهم ومكّن لهم وأغناهم وأكفاهم، يتحفّون ويخلعون النعال ولا يلبسون الخفاف ويلبسون غلاظ الثياب، وإذا قدموا عليه شعثًا غبرًا غلاظا ثيابهم شاحبة ألوانهم. فإن رآهم أو بلغه عنهم غير ذلك أنكر عليهم، وكان ركوبهم الإبل أكثر من ركوبهم الخيل على التشبه بعمر وسلوك فعله” (٣).
وكذلك فعل مع الخليفة عثمان بن عفان، وذكر أنه كان سمحًا في طبعه من غير ضعف، كريمًا جوادًا بالمال من غير إسراف، وأنه اتّخذ له دارًا في المدينة وأنفق عليها مالًا جليلًا، وشيدها من الحجارة، وأقام مصاريعها من الساج، مُظهرًا بذلك نعمة الله عليه وعلى المسلمين. وأن الصحابة في خلافته، واقتداءً به، اتخذوا الأموال وأقاموا الدور، فبنى الزبير بن العوام داره المشهورة بالبصرة وفيها الأسواق والتجارات قائمة. وبنى الزبير أيضًا دارًا بالكوفة ودارًا بمصر ودارًا بالإسكندرية. وما كان هذا التوسّع في البناء ليكون مع عهد خليفة سوى عثمان الذي رأى أن إظهار نعمة المال تكون في بذله، وعلى هذا كان الصحابة وسواد الناس، وهذا هو القصد الذي ذهب إليه اليعقوبي وأراد تبيانه.
٢ـ العهد الأموي:
ولما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة، يخبر اليعقوبي عن بعض أحواله، فيقول: “بنى القصور، وشيّد الدور وعلّى السّتور واتّخذ الحرس، واتّخذ الشرطة وأقام الحُجّاب، وبنى المقاصير في المساجد، وركِب الدواب الهماليج (الحسنة السير) بالسروج المصففة، ولبِس الخزّ والوشي، واتّخذ الصوافي والضياع، وعُمل له الطراز باليمن وبمصر والإسكندرية، فاتّخذ أهله وولده وعماله ما اتّخذ، وفعلوا ما فعل”(٤). ويذكر المؤلف أن هذا كان نهجًا سلكه معاوية فاتّبعوه من كان تحته، يخبر مثلًا عن عمرو بن العاص أنه كان أوّل من قلّد الخليفة، فبنى له دارًا بمصر واتّخذ لنفسه الضياع. وفعل عبدالله بن عامر بن كُريز عامل معاوية بالبصرة مثل ذلك، فحفر الأنهار وشيّد الدور وبنى القصور واتّخذ الضياع والأموال بالبصرة ومكة والطائف. وأن زياد بن أبيه، عامل معاوية على العراق، ذهب مذهبهم، فاتخذ ضياعًا وشيّد البنيان. وغيرهم ممن يذكر اليعقوبي، ولا نطيل بذكر أسمائهم، موضحًا بذلك أن الطريقة التي اتّخذها الخليفة، معاوية بن أبي سفيان، كانت هي النهج الذي سلكه أتباعه من بعده. ليس هذا وحسب، بل يرجع المؤلف سبب غلبة الشعر على سواه من الفنون الأدبيّة في الدولة الأموية وارتفاع أجور الشعراء كان بسبب حبّ الخليفة عبد الملك بن مروان له، أعني الشعر، وتفضيله على سواه من الفنون، فكان في عصره فحول الشعراء. الفرزدق وجرير والأخطل، فكثُر المدح وازداد، والهجاء والتنافس بين الشعراء. وينقل اليعقوبي أن الخليفة عبدالملك كان متساهلًا بأمر الدماء، مقبلًا عليها غير هيّاب، فكذلك كان أمراء الأمصار على مذهبه، الحجاج بالعراق وأمره معروف، المهلّب بخراسان، وهشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة، ومحمد ابن يوسف الثقفي (أخو الحجاج) باليمن، ومحمد بن مروان بالموصل، ثم يعقّب المؤلف:” وكلهم جائرُ ظالمُ غشومُ عسوف” ( ٥) ولما ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة، وهو معروف بالزهد والتواضع والتنسّك والتقلّل من الدنيا، عزل بعض أهل الجور عن مناصبهم، واستعمل الصلحاء من الناس، وقرّب أهل الفضل وسوّدهم، وغيّر في خطب الجمعة وجعل خواتيهما ذكر من آيات القرآن. فلما رأى الناس الخليفة وما كان عليه،”كان عماله يذهبون مذهبه، ارتفع عن الناس ما كانوا فيه من الجور والظلم”(٦).
٣- العهد العباسي:
كان أوّل ما فعله، الخليفة أبو العباس عبدالله بن محمد بن العباس، وقلّده الناس أنه خطب واقفًا، جاء في خبره “أنه خطب على المنبر قائمًا، وكانت بنو أمية تخطب قعودًا، فناداه الناس: يا ابن عم رسول الله أحييت سنّة رسول الله”(٧). ثم كان المعتصم، وهو محمد ابن هارون الرشيد، ومن أطرف ما رواه صاحب الكتاب عنه أنه مرّة اشتهى أن يضيق أكمام ثوبه، فضيّقها، فضيّق الناس أكمام ثيابهم تشبها به. “وكان الذي يغلب عليه -يعني المعتصم- الفروسية والتشبّه بالعجم، فلبس الثياب الضيقة الأكمام، فضيّق الناس أكمام ثيباهم”(٨). يكثر المؤلف من سَوْق الأمثلة التي تجلّي هذه الفكرة وتوضحها، من أن الناس على ما كان من أمر الخليفة، محمودًا كان أمره أم مذمومًا، ولسنا نسوق المزيد من الأمثلة وفي الكتاب منها ما يغنينك عن فضل الكلام واسترداده.
بقي أن نذكر أن نظريّة المحاكاة كانت متداولة في أوساط الفنون والأدب منذ اللحظة اليونانيّة، ومنها قول أرسطو أن “الفن محاكاة للطبيعة”، لكن من أوائل الذين انتبهوا لهذه الظاهرة الاجتماعيّة النفسيّة ونقلوها إلى الدراسات السوسولوجيّة هو العالم الفرنسي جابريال تارد (١٨٤٣ – ١٩٠٤م) في كتابه ( laws of imitation) الذي صدر في طبعته الأولى عام ١٨٩٠م. يُقرر تارد ذات المبدأ، أو قل أنه يمنهج هذه الظاهرة ويؤسس لها ويؤصلها. ويخبرنا أنها ظاهرة عاموديّة، يعني أنها تكون من الأعلى إلى الأسفل. من الأقوى حيث يكون ذا سطوة في التأثير إلى الأضعف، ومن الغني إلى الفقير، ومن الأمير إلى الإنسان العادي. والمحاكاة في نظر تارد لا تكون في غير الجماعة، وعامل تقويتها كثيرة من أفعال وأقوال، لكن اللغة هي الأهم، يقول تارد في كتابه “قوانين التقليد”: إن “الوسيلة الرئيسة للمحاكاة هي اللغة، فهي الأداة الأولى لنقل كثير من الأعراف الماضية، ولنقل أثر الخبرات على اختلاف مستويات تنظيمها عبر الأجيال وعبر العقول الأفراد، رغم أنها ليست الوسيلة الوحيدة” (٩).
(١) تحقيق: عبدالرحمن الشقير، مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر، دار جداول، السعوديّة، يناير 2019.
(2) المصدر نفسه
(3) المصدر نفسه
(4) المصدر نفسه
(5) المصدر نفسه
(6) المصدر نفسه
(7) المصدر نفسه
(8) المصدر نفسه
(٩) جمعة سيد يوسف، سيكولوجيّة اللغة والمرض العقلي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، سلسة شهرية العدد ١٤٥، يناير ١٩٩٠، ص١٤