على مرِّ التاريخِ، لم يسبقْ أنْ مرَّ زمنٌ يكون فيه الامتناعُ عن الأكلِ إحدى المسرّات؛ كالزمنِ الحاليّ. في مدينة نيويورك في الرُكن الذي أقطنُ فيه -كغالبِ المُدنِ الرئيسيةِ هذه الأيام- لديكَ خياراتٌ لا محدودة للأكل تُتيح لك تجنُّب اللحوم ومُنتجات الألبان؛ فثمّة مطاعمٌ تُقدّم طعامًا خاليًا من الجلوتين ومنتجات القمح، وطعامًا غيرَ مطبوخ، حيثُ لن تأكلَ شيئًا لم يأكله الأسلاف الذيّن عاشوا فيما قبلَ التاريخ. ثُم يمكنك هضم كل هذا بـ«قهوةٍ بالحليب» لا تحتوي على الحليبِ ولا حتى مقدارًا كافيًّا من القهوة (قهوة بحليب الصويا منزوعة الكافيين، تُعرَفُ بشكلٍ ساخرٍ بين صُنّاعِ القهوةِ باسم «لِمَ تُكلّف على نفسك؟»). إنّ هذا نوعٌ غريبُ من تدليلِ الذات؛ إذ هو استهلاكٌ لا استهلاكَ فيه.
ولكنْ معَ ذلك فإنّ هؤلاء الذيّن يأكلونَ دونَ أكلٍ في نيويورك اليوم لهم سَلفٌ تاريخيٌّ معاصِر يَعتزّ بنفسه، ومن ضمنهم إيمانويل كانط -الذي كانَ فطوره لِمامًا-؛ إذ كتبَ مرةً أنّ الرغبةَ في العشاء إنْ تناولتَ غداءً «يُمكن اعتبارها شعورًا مَرضِيًّا». يساورني خيالٌ بافتتاحِ سلسلة «مطاعم كانط الصحيّة» التي تعملُ وقتَ العشاءِ فقط، ولا تُقدّم أيّ طعام. أوه، ومع وجود قائمةٍ شهيّة باهظة الثمن خاصة لأولئك الذيّن يمكنهم السيطرة وكبحِ أنفسهم عن مجموعةٍ مُذهلةٍ من الأطباق.
يَسهُل ازدراء عبثِ واستغلال قِطاع صناعة النظام الغذائي الصحيّ: قوائم الطعام ذاتَ الخياراتِ السخيفة، وكمية الكُتب ذاتَ الأهدافِ الربحيّة عن الحمياتِ الغذائية؛ مثل باليو، دوكان، أتكنيز، وحميةِ الشاطئ الجنوبي أو نظام 5:2 للصيام المُتقطّع، وتكرارنا لكلِّ هذا مِرارًا وتكرارًا بشكلٍ يائس في مواجهةِ تجريةٍ مريرة مرة بعد أخرى، ومع ذلك ربما لا يُوجد جانبٌ آخر من الثقافةِ المُعاصِرةِ مثلَ جانبِ حِمياتِ الغذاءِ والأكل-دون-أكل هذا حيث يُمكننا أن نَعدّه البوتقة التي تنصهر فيها طرق كثيرة نحاول بها تجاوز حدودنا الإنسانية. ولذكر سبب واحد من الأسباب التي جعلتني أقول ذلك لنتأمّل حالةَ الشخصِ الذي يتّبع حمية غذائية للتخلُّص من سطوة الإغراء ومقاومتها مرةً واحدةٍ وإلى الأبد؛ أي، أن يعيش مثل يوليسيس المربوط بحبلِ السفينة مقاومًا غناء «السيرينات»*، ولكن بطريقةٍ تعتمِدُ كُليًّا على قوة الإرادة.
علاوة على ذلك، تُغري الحمية لكونها طريقًا لخلقِ الذاتِ المثالية؛ الأمل بأنْ نكون مَن نُريد، دون أن تُعيقنا القرارات الخاطِئة السابقة والظروف الخارجة عن سيطرتنا؛ إذ لا يوجد خبير تغذية صحيّة يَبحث عن الشهرة سيُخبركَ بأنّ ميلك لاكتسابِ الوزن والسمنة يرجِعُ إلى جيناتك.
هذا حتمًا ما يُفسّر إغراءَ كُلِّ نظامٍ غذائيٍّ جديد. على الرغم من أنّ الحقائقَ الأساسيةَ للنظامِ الغذائي الصحيّ واضحةٌ بشكلٍ عام ولا جدالَ فيها. صحيحٌ أن هنالك جدالاتٍ حولَ فوائد وأضرار اللحوم الحمراء والحبوب ومنتجات الألبان وغيرها، لكنْ كفردٍ غربيٍّ يحيا في القرن الحادي والعشرين وبصحةٍ غير جيّدة، فإنّ القائمة التي تحتاجها سهلة: تحتاجُ أنْ تأكل مزيدًا من الخضروات، والكثير من الفواكه، وتقُلل بشكلٍ كبير من الأطعمة المُصنعة؛ بالذات تلكَ التي تحوي الكثير من السُكَّر، لكننا لا نُحاول اكتساب المعرفة الغذائية الأساسية من خبراء التغذية وكُتب الحمية، بل نحنُ نُفتّش عن شيءٍ أعمق؛ حِكمة عِلاجية قد تُساعدنا أخيرًا -بطريقة ما- على فعل المستحيل: ألّا نشعر بالذنب مما نأكل دون أن نتخلى عن متعة الأكل («نتناول مالذَّ وطاب دون أن يزيد وزنك!»)، كما نريد أن نزيد جاذبيتنا الجسدية ونرفعُ حالتنا المزاجية.
لا يخفى، أنّ خلف كُلِّ ذلك، رغبة دفينة في تجنُّبِ الموت، أو تمديد الحياة أطول وقتٍ مُمكن دون أن يُطاردنا هاجسُ الموت. ولا عجبَ أنّ أشدّ أنواع الحميةِ الغذائيةِ تَطرُفًا تُشابه زُهدَ الصوفيين القُدامى، إذْ تَنشدُ البلوغ إلى الاستنارةِ الروحيّة من خلالِ إنكارِ الجسدِ المادي. لعلّنا بكلِ بساطةٍ نتحدّثُ فقط عن الاستعداد لموسمِ الشواطئ، لكننا أيضًا نَسعى إلى تَجاوزِ الموت. كتبَ عالم الكيمياء الحيوية جاك مونود «جميعُ الدياناتِ والفلسفاتِ تقريبًا، بل وحتى جانبٌ مِن العلمِ، ليست إلا شهاداتٍ على جهد البشريّة البطولي والدؤوب في إنكارِ وضعها الطارئ»، وفلسفاتُ الأكلِّ الصحيّ والكاربوهيدراتِ القليلة ونِظام الماتروبيوتك ليست استثناءً.
المُشكلة أنّ الحمياتَ الغذائية لا تُعبّر ببساطة عن رغبةِ الإنسانِ في تجاوز الحدود، بل تُرينا مرارًا وتكرارًا استحالة ذلك؛ إذ يوجد تفسير فيزيولوجي يُفسّر لماذا يجد الأشخاص الذين فقدوا وزنًا أنفسَهم في وضعٍ أسوأ للحفاظ على الوزن من أولئك الذين لم يفقدوا وزنًا. لكنّ المِصيدَة الأكثر إحباطًا تكمن في الجانب العقلي، كما عبّر عن ذلك عالمُ الأعصاب مايكل غراتزيانو تعبيرًا بليغًا « إنّ الحميةَ الغذائية هي ما يسببُ الصراعَ النفسيّ الذي يؤدي إلى اكتسابِ الوزن»؛ فأنت تَلتزِمُ بنظامك الغذائيّ طوالَ الأسبوع، ثم تكُافئ نفسكَ بوجبة دسمة وغير صحيّة في نهايته تقلِبُ النتائج التي كسبتها، أو لا تلتزم به بشكل مُنضبِط وتشعُرَ بالسوء بسبب ذلك؛ فتُهدئ نفسك بالبرقر والآيسكريم، مما يجعل الأمور أسوأ مما لو كُنتَ وضعتَ لنفسكَ شروطًا أيسر تتقيد بها.
تَذكُر إِحدى الدراساتِ المُحبِطة أن الأشخاص الذيّن يُعانون مِن زيادةِ الوزن والذيّن تَلقوا رسائلًا حولَ أهميةِ امتلاكِ جسدٍ رَشيق كانوا أكثر عُرضة لاستهلاك الحلويات للتخفيفِ مِن شعورهم بالقلقِ إزاءَ الأمر. النقطةُ الأوضح عمومًا والمُفارقة هي أنّ اتباع نظامٍ غذائيٍّ صارم يتطلَّب انتباهًا لا هوادةَ فيه على ما تأكله، وبالتالي تُصبح آلام الجوع أوضح، وتبرزُ خياراتُ الطعامِ –على الأخص الممنوعة منها- بشكلٍ أكثر جاذبيةٍ في الذهن. إنّ البحث عن نظامٍ غذائي مُحْكم يشبه البحث عن السعادة؛ فكلما كُنت تسعى سعيًا دؤوبًا لكي تبلغها، بَعُدَتْ ونأتْ.
قد يبدو أنّ كلّ ما سبق يشيرُ إلى حلٍ غير مُتوقّع: التركيّز على شيءٍ آخر بدلًا من ذلك. عندما ولد ابني في العام الماضي قررتُ التخلي عن جهودي المُثابِرَة وغير الناجحة للالتزامِ بنظامٍ غذائيٍّ صحيّ. ولبضعةِ أشهرٍ اكتشفتُ بأنّ لديّ ما يكفيني من الأمور التي عليّ القيام بها. فإنْ كان البرقر ورقائق البطاطس هي ما حرمني من النوم وسبّب لي الذعر من دورِ الأبوّة الجديد؛ فليكن، لا بأسَ بذلك.
وبالطبعِ لبضعةِ أسابيع، أكلتُ على نحوٍ مُريع. ولكن بعد ذلك اختلفَ شيء ما، إذ سئمتُ من الأكل الرديء، وأصبحتُ أتناولُ حبوبَ الشوفانِ على الإفطارِ، وسمك السلمون المشويّ مع الخُضار على البخار للعشاء؛ لأني أردتُ ذلك وحسب، وليس لأني أتبّع نظامًا يُلزمني بذلك. القاعدة التي اتخذتُها سابقًا –السماح بالبرقر لمرةٍ واحدةٍ كُلّ أسبوعين- جعلتني مثلَ فئرانِ التجارب في المختبرات البحثية، التي تم منحُها الطعام غير الصحيّ ثم حرمانها منه، إذ تظهرُ هذه الفئران علامات الإدمانِ فقط حين يتم سحبُ الطعام منها. على العكس، حين صار يُمكنني تناول جميع أنواع البرقر وجدتُ فيما بعد أني لا أرغب بتناول الكثير منه أصلًا.
أخالُ أنّ المشكلة في عُمق هذه المسألة، تحتَ طبقاتِ الجبنِ الذائب ورقائق البطاطس المتروكة، هي السعيّ الحثيث نحوَ الشعورِ بالسيطرةِ والاستقلالية في عالمٍ لا يَسمح لنا كثيرًا بذلك. هذا هو الدافعُ الأساسيّ الذي يدفعُنا للحمياتِ الغذائية: العزمُ على تأكيدِ قوةِ إرادتِنا على أجسادنا المُبهمَة والعصيّة. لكنّ هذا أيضًا ما يُسببُ فشلَ الحمياتِ الغذائية؛ الشعور بأنّ القواعدَ المفروضة الجديدة تسجُننا، وبالتالي نتمردُ عليها، فقط لإثباتِ أننا لنْ نخضعَ لأمرٍ بهذه الطريقة. نحن نُقاوم أن تُملى علينا الأمور، حتى حين نكون نحنُ مَن يُملي هذه الأمور على أنفسنا.
ما الذي ينبغي فِعلُه؟ لن تُفلح مُحاكاة خُطتي مع الأبوّة؛ أي ما فعلته بالتخليّ الواعي عن الانضباط الذاتي: إنْ كُنتَ تفعل ذلك بنيةِ تناول المزيد من الطعام الصحيّ فيما بعد، عندئذٍ فتخليّك عن الحمية يعني أنّكَ تستمر بممارسةِ الحمية في الخفاء، وستكونَ عُرضةً للمآزق نفسها مرةً أخرى. لكن، الإجابة الحقيقيّة غير الجذّابة -المُتعلّقة بالفلسفة الأخلاقية، والعائدة إلى أصولها- هي السعي نحو طريق الاعتدال. إنّ الجانب الأكثر سِحرًا في أسطورة بوذا هو أنّه وصل إلى التنوير أخيرًا ليسَ مِن خلالِ إنكارهِ للذات، ولكن حينَ تخلى عن هذا الإنكار وقبِل وعاءً من الأرز بالحليب من فتاةٍ قرويّة. لدينا درسٌ هُنا حولَ عدمِ فاعليةِ المبالغة في المثالية، وحِكمة الاعتراف بالواقعِ كما هو، بما في ذلك الرغباتِ الجسدية. ولكن لكي أكون واضحًا ودقيقًا: ليست العِبرة في تتناول طبق الأرز بالحليبِ إن أردتْ الوصول إلى اليقظةِ الروحيّة.
وإنْ كنت أعتقد أنّ أحدهم سيقوم بنشر كتاب عنوانه «حمِية بوذا التنويرية: الأرز بالحليب على مرّ الزمن». إنْ رأيتَ نسخةً معروضةً من هذا الكتاب بشكلٍ جذّاب على واجهة إحدى المكتبات فإنني أوصي بعدمِ الخضوعِ لإغراءِ اقتنائه.
السيرينات في الأساطير الإغريقية هنّ حوريّات البحر اللاتي يغوي صوت غنائهنّ الخلّاب البحّارة، ومن يذهب* إليهنّ لا يعود إلى الأبد حتى يلقى حتفه.
New Philosopher: Issue #16: food