خمسُ نوافذ وبابٌ خلفيّ – حسين الضو

احتفى الجميع بانضمام الأفلام السعودية القصيرة على المنصة العالمية نيتفليكس، كخطوة جديدة في صناعة الأفلام والسينما في السعودية، خصوصا وأن تلفاز ١١ تعدّ مؤسسة رائدة سعوديًا في هذا المجال منذ انطلاقتها في اليوتيوب. ولكن ينبغي ألا نُسرف في الاحتفاء، بل تسريع دفع حركة العملية الإبداعية والنقدية في آن.
شملت السلسلة ستة أفلام قصيرة: وَسَطي (على الكلثمي)، سومياتي بتدخل النار؟ (مشعل الجاسر)، ومن كآبة المنظر (فارس قدس)، الجرذي (فيصل العامر)، 27 شعبان (محمد السلمان)، وأخيرا ستارة (محمد السلمان).
ما هو إيجابي ويُثلج الصدر في هذه الأفلام هو وجود بصمة مميزة متفردة تؤكد انفصال السينما السعودية عن السينما الهولوودية بالرغم من استهلاك المشاهِد السعودي -كبقية العالم- وانخراطه في الثقافة الجماهيرية والشعبوية للسينما الأمريكية. ما أقصده هو أننا يمكننا أن نقول إن هناك سينماتوغرافيا سعودية نستطيع تمييزها حتى لو لم يكن في الفيلم الزي السعودي أو اللهجة السعودية.
من الملاحظ أيضًا في جميع إنتاج تلفاز ١١ ارتكاز الإخراج على الذاكرة، يظهر ذلك واضحًا في فيلم “وسطي” على سبيل المثال حيث ترتكز الحبكة على قصة حقيقية مشهورة يتذكرها المجتمع السعودي، ولكن تعاد كتابتها عبر زاوية شخصية هامشية تشكل الجانب الخيالي في الفيلم وبشكل كوميدي. والأمثلة كثيرة جدًا في هذه السلسلة على وجود ما يمكن تصنيفه بالذاكرة الجمعية أو الثقافة المشتركة؛ نعال “الزبيري” كملصق دعائي للفيلم، تجمع العائلة لمشاهدة برنامج “الحصن” الشهير في المشهد الأول من ” سومياتي بتدخل النار؟”، وأغاني الطفولة في سبيستون في الفيلم ذاته، والراديو القديم وأشرطة كاسيت محمد عبدو ومشروبات الصودا بأشكالها القديمة في “ومن كآبة المنظر”، وأجهزة نوكيا القديمة ونغمات رناتها البدائية في “٢٧ شعبان”.
أما الركيزة الأخرى التي تقف عليها هذه الأفلام هي النقد لظاهرة اجتماعية، وذلك يعود -في نظري- للمسلسل السعودي الشهير طاش ما طاش الذي يعتبر ظاهرة تلفزيونية سعودية صعبة التجاوز، فهي الأخرى أيضًا تعد ذاكرة وموروثًا بصريًا مُغريًا للبناء عليه، إذ لعب دورًا في تشكيل ذائقة المتلقي السعودي، وكتابة نصوص تستند وتمتد منه يجعل من العمل السينمائي عملًا أكثر مقبولية. تناولت هذه الأفلام قضايا كلاسيكية كنقد التشدد الديني وتجاوزاته في مجال الفن والمسرح، وظاهرة إساءة معاملة الخدم، التشدد في مسألة الاختلاط بين الجنسين، وأخيرًا المضايقات والتحرشات التي تتعرض لها الممرضات السعوديات من قبل كبار السن. هاتين الركيزتين تؤكد تأثر صناعة الأفلام بماهية المجتمع التي تُنتج فيه، وبما أننا مجتمعات جماعاتية collectivist، فإنه من الطبيعي أن تشكّل هذه الخصائص بنى للأعمال السعودية.
إلا أن أحد هذه الأفلام ظهر مختلفًا بالكامل عن البقية ولا يرتكز على أي مما ذكر وهو فيلم “الجرذي” للمخرج فيصل العامر.
في هذا الفيلم، لا يوجد أي شيء يمكن ربطه بالماضي/ الذاكرة بتاتاً، كل ما في الفيلم يبدو حديثًا. فيلم الجرذي -وهو أقصر أفلام السلسلة- لا يمضي وفق حبكة، بل هناك عدة ثيمات تظهر في “فريمات” الفيلم، ننظر كمشاهدين لهذه الإطارات بحثا عن هذه الثيمات ونربطها ببعضها لغرض تشكيل معانٍ متسقة على مدى الفيلم، وهو أسلوب يبدو طليعيًا أو تجريبيًا في السينما السعودية.
لنبدأ بالنظر لهذه الإطارات لمحاولة فهم الرمزيات والرسائل المبطنة في الفيلم.
يبدأ الفيلم بتنصل يحمل تناصًا أدبيًا مع إحدى كلاسيكيات الأدب الحديثة عبر الجملة الافتتاحية: “هذه قصة الرجل الذي صار جرذياً”، ذلك ينقلنا مباشرة إلى نوفيلا “التحوّل” أو “المسخ” لفرانز كافكا التي تبدأ بتحول بطل الرواية فرانز سامسا إلى حشرة كبيرة. هذ التنصل يؤطر حدود توقعاتنا من الفيلم وثيماته، وهي السُلطة الأبوية التي ارتبطت دائمًا بسيرة كافكا وكذلك نقده للبيروقراطية في رواياته.
يلعب الخوف الثيمة الكبرى في الفيلم والتي تنطوي تحتها محركات هذه الثيمة وهي الخضوع للسُلطات الاجتماعية، وهي في هذا الفيلم السُلطة الأبوية Patriarchy وسُلطة المؤسسة الوظيفية والبيروقراطية. يظهر الإطار الأول في الفيلم مؤكدًا هذا الثيمة بل ومتنبأً بنهاية الفيلم عبر التلفاز القديم بتدرجاته السوداء وعبارة “الخوف ينتصر” في زاوية الشاشة.
يظهر لنا بعد ذلك أولى إشارات السلطة الأبوية عندما نرى بطل الفيلم، فهد (زياد العمري)، ينام بوضعية آدم في لوحة “خلق آدم” الشهيرة للفنان الإيطالي مايكل آنجلو التي تصور الرب يمد يده إلى آدم، إلا أن فهد ينام وحيدًا دون وجود الرب أو الأب، ولكن آثار وجوده على السرير تظهر عبر التجعدات الموجودة على الفراش والوسادة، وذلك يعطي انطباعًا لغياب الأب -بسبب موته ربما- ولكن وجود أثره الذي قد يتمثل في ذكريات سيئة أو رواسب نفسية لدى فهد. كمية التقارب بين هذا الإطار ولوحة آنجلو كثيرة، منها طريقة نوم فهد والإشارة بسبابته وحتى الألوان، لون البطانية الخضراء ويقابلها البطانية الحمراء لدى الأب غير الموجود. نسمع بعد ذلك صوت دافق المرحاض وتشنج يد فهد النائم بشكل عصبي إشارة لوجود تأثيرات الأب السابقة على الرغم من غيابه.
في اللقطة التالية نرى فهد يصرخ بغضب تحت رشاش الماء، وهي إشارة لقاعدة سيكولوجية شهيرة: الإحباط يولد الكراهية. حتى هذه اللحظة من الفيلم نشعر بأن فهد يعاني إحباطًا شديدًا ووالده له دور كبير في ذلك، قد يكون بسبب غيابه وخذلانه له وقد يكون بسبب ذكريات معاملة سيئة كان لوالده دور كبير فيها. بعد انتهاء فهد من حمامه وإبعاد ستار البانيو، تتجلى معلومة جديدة تضيف الكثير لهذه الرمزيات، هي وجود شخصية رجل عجوز في البانيو معه بلحية كبيرة، شخصية تشبه شخصية الرب في لوحة مايكل أنجلو، أي أنه ذات الشخص الذي لم نره نائما على السرير بجوار فهد. إلا أن فهد حتى هذه اللحظة يظهر لنا بأنه لا يراه، وكأن وجود هذه الشخصية هي في عقله وذكرياته، بل حتى ما سمعناه وظننا أنه موسيقى تصويرية يظهر لنا أنها موسيقى تعزفها هذه الشخصية، موسيقى يسمعها فهد فقط. ثم نتأكد بعد ذلك أن تلك الشخصية هي والده عندما نرى صورة قديمة لفهد وهو صغير بجانب شخص يغطي وجهه ورقة اللعب Ace فتسقط عندما يصرخ فهد بإحباط شديد “ما سويت شيء!” لتكشف لنا عن وجه أبيه.
الشعور بالخوف والإحباط يولد شعورًا آخر هو الشعور بأنك إنسانٌ مسحوق، ممّا يجعل فهد يخلط بين ذاته وبين الجرذ في مشهد يظهر فيه فهد وهو ينظر عبر فتحة الباب ويسمع أناسًا يحاولون قتل جرذ وكأنه هو المستهدف، وكأنما هو والجرذ ذاتًا واحدة.
ينتقل الفيلم بعد ذلك لتناول العنصر الثاني والثيمة الأخرى للخوف والإحباط وهي العمل تحت وطأة البيروقراطية التي تجعل من الفرد ترسًا صغيرًا مشابهًا لتروسٍ كثيرة تحت وطأة الرأسمالية الجشعة، وهي ثيمة أخرى من ثيمات روايات كافكا. يشير الفيلم في مشاهده اللاحقة لضرورة تحويل الأفراد إلى ذواتٍ متشابهة لإنجاح العملية الاقتصادية الرأسمالية، ولذلك استبدل فهد شماغه الأحمر بغترته البيضاء ومن ثم حلق شنبه ليتشابه مع بقية الموظفين الذين يظهرون وهم يقومون بعمل عبثي في مشهد سريالي فني وساخر.
نرى بعد ذلك مشهدًا سينمائيًا يظهر فيه المخرج فيصل العامر براعته الإخراجية في تحوّل موظفي/تروس المؤسسة الذين يعملون فيها إلى بشر ميكانيكيين بلا حياة، يشبه كثيرًا ما تصوره قراءات النقّاد لروايات كافكا عندما يتناولون هذه الفكرة.
يعمل فهد لوقتٍ متأخر كموظفٍ مسحوق بلا قيمة، لكن في هذه اللحظة من الفيلم يدرك فهد خوفه واحتقاره لنفسه عبر رؤيته للشخص العجوز، وانتقال هذا الأخير من ذات غير مرئية في عقل فهد إلى واقع ملموس، يدخل فهد مع العجوز في شجار ينتهي بموت الأخير، ثم يخرج فهد للشارع ويسقط وسط دائرة بعد أن يعلق علك في حذاء فهد كان قد رماه العجوز في بداية الفيلم، فيموت فهد بشكلٍ مشابه لموت الجرذ في أول الفيلم، فيأتي شابٌ آخر وينظر إلى فهد الميت وبجواره الشخص العجوز الذي يمثل السلطة الأبوية للشخص الآخر. وفي هذا المشهد إشارة إلى أن انتصار فهد يبدو غير كافٍ؛ إذ لا يكفي أن ينتصر الفرد بمفرده على مخاوفه في مجتمع محكوم بهذين السلطتين، فالانتصار هو أكبر من مجرد انتصار على الخوف؛ بل هو خروج عن منظومة اجتماعية كبرى يمثل الانفصال عنها عملًا انتحاريًا.
في هذا المشهد الأخير، يقوم فيصل العامر بإغلاق هذا السرد الدائري بشكل مُبهر، حيث يثبت في الأخير ما رأيناه في بداية الفيلم في التلفاز، فمهما فعل فهد فإن الخوف دائمًا ينتصر. وفي اللقطة النهائية نرى كيف ينظر العجوز من أعلى على فهد الميت تمامًا كما نظر فهد في بداية الفيلم من أعلى على الجرذ الميت. وفي كلتا الحالتين نرى الجرذ وفهد داخل دائرة تشير أولًا إلى هذه الدورة اللامنتهية وثانيًا إلى دائرية السرد.
فيلم “الجرذي” وإن كان يراه البعض موغلًا في الرمزية إلا أنني أراها محاولة جادّة وموفقة في تقديم سينما طليعية متجاوزة للسينماتوغرافيا التقليدية واستقلال تامّ عن سلطة السينما الجماهيرية والشعبوية التي تجتاح الفن والأدب في العالم أجمع.