مراجعات

داروين عربيًا.. مراجعة كتاب”قراءة داروين في الفكر العربي” – طارق المبارك

اندهش تشارلز داروين في سيرته الذاتية التي نشرت عام١٨٨٧ من النقاشات التي دارت حول كتابه “أصل الأنواع” في أماكن أبعد ممّا كان يتخيلها كاليابان، حتى أنه رأى مقالًا مكتوبًا باللغة العبرية يوضح أن “النظرية موجودة بالتوراة!”. تورد مروة الشاكري, الباحثة المصرية، هذا المقتطف من سيرة داروين في بداية كتابها “قراءة داروين في الفكر العربي ١٨٦٠-١٩٥٠” لتشير إلي حجم الانتشار العالمي لأفكار داروين حول التطوّر، ولكن أيضًا إلي بُعد هام انشغلت بتتبعه عربيًا في كتابها، ألا وهو بحث كل ثقافةٍ عن أصولٍ لأفكار التطوّر في فكرها المحلي، فإذا كان هناك من اليهود من ادّعى وجود النظرية في التوراة، فإن هناك من علماء المسلمين ومفكريهم من نسب أفكار نظرية التطوّر للقرآن وللتراث الإسلامي.

حينما وضعت المؤلفة هذا العمل، وهو تتويجٌ لمشروعٍ بحثيٍّ طويل، امتد لما يزيد عن ١٠ سنوات، نشرت خلالها العديد من الأبحاث المتعلقة، فإنها استهدفت دراسة عدّة مناحٍ من كيفية تلقّي العرب لأفكار داروين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فحاولت استكشاف كيف قُرِأ داروين في العالم العربي عبر مستويات من التداول بالغة الاختلاف، من حيث الاطلاع على النظرية وأصولها ومن ناحية الأطُر المرجعيّة المتنوعة لهذه القراءات العديدة، وأيضًا كيف أثّرت السياقات الاجتماعية والسياسية والفكرية المختلفة في استقبال أفكار النشوء والارتقاء، والذهاب بها إلى مجالاتٍ لم يكن حتى داروين نفسه يتخيل نقل أفكاره إليها. وأيضًا استهدفت الكاتبة تعقّب شبكة المعاني التي انبثقت من قراءات داروين باعتباره جزءًا منها وليس مقياسًا لها، وملاحظة التوتر الابداعي في تداول المعنى في اللغات والمواضع المختلفة، عبر دراسة كيف ترجم العرب مصطلحات التطوّر.

طريق المؤلفة إلى هذا العمل

بدايةً، حين نتتبع سيرة الكاتبة وتشكّل اهتماماتها البحثية وصولًا إلى تأليف هذا الكتاب وصدوره في عام ٢٠١٣، نجد أن مروة الشاكري توجّهت منذ دراساتها العليا في جامعة برنستون للاهتمام بتواريخ العلوم والتقنية والطب في الشرق الأوسط الحديث، وعلاقات هذه المجالات بالدين والثقافة في السياق الإمبراطوري في القرنين التاسع عشر والعشرين. في ٢٠٠٣، كانت أطروحة الدكتوراة للشاكري بعنوان: “إرث داروين في الشرق العربي: العلم والدين والسياسة، ١٨٧٠-١٩١٤”، وترسم هذه الأطروحة كيف برزت الأفكار الداروينية كموضوعٍ شعبي مثير للجدل في العالم العربي في أواخر الإمبراطورية العثمانية وفي فترة الاستعمار الغربي والإرساليات التبشيرية. وتستكشف الطرق التي ساعدت بها أفكار التطوّر في تشكيل المناقشات حول العلاقات بين العلم والدين ونشوء توجّهاتٍ جديدة في التقدم الحضاري والتنمية الاجتماعية. لاحقًا في ٢٠٠٦، وحين كانت تعمل أستاذة مساعدة في تاريخ العلوم بجامعة هارفارد، حصلت الشاكري على منحة “كارنيجي” للعمل على مشروع بحثيّ تحت عنوان: “العلم والعلمانية في العالم العربي بعد داروين”, ويتضمن هذا المشروع إصدار كتابٍ- وهو هذا الكتاب الذي نستعرضه- ومجموعةٍ من المقالات العلمية للجماهير. وقد حاولت الشاكري خلال هذا المشروع معالجة ثلاث أسئلةٍ رئيسية: كيف أعادت ترجمة المفاهيم الحديثة للعلوم تشكيل المجالات المعرفية والاجتماعية في العالم العربي؟ وما هي الردود على أفكار داروين حول علاقة الدين بالعلم، وكيف تساعدنا على فهم مفاهيم العلمانية في هذه المنطقة؟ وأخيرًا، كيف غيّرت مناقشة العلوم والتطوّر تصورات المفكرين المسلمين عن المجتمع العربي والسياسة في الماضي القريب؟

في ٢٠٠٩، نشرت مروة الشاكري مقالًا في مجلة نيتشر، ضمن مجموعة مقالاتٍ نشرتها المجلة ذائعة الصيت عن كيف كانت الاستجابة عالميًا لأفكار داروين. كان مقال الشاكري بعنوان “داروين العالمي: الافتتان الشرقي”، شرحت فيه كيف أن الناس من مصر إلى اليابان استخدموا أفكار داروين لإعادة اختراع فلسفاتهم وأديانهم الأساسية.  وفي أثناء ذلك وبعده، نشرت مجموعة مقالاتٍ ذات صلة بفصول كتابها القادم. ففي ٢٠٠٨ نشرت مقالا بعنوان: “المعرفة في الحركة: السياسة الثقافية لترجمات العلوم الحديثة بالعربية”عن مشكلة التنقل العالمي للمعرفة العلمية الحديثة من خلال النظر في الترجمات العلمية باللغة العربية الحديثة، ومقالًا بعنوان: “تفسير العلم في التفاسير العربية للقرآن في القرن العشرين” ، ثم في ٢٠١٠ : ” تحويلات داروينية: العلم والترجمة في أواخر مصر العثمانية وسوريا الكبرى”،  وفي ٢٠١١ عالجت موضوع الارتباط بين نشر العلم بمعناه الحديث والإرساليات البروتستانتية في مقال: “إنجيل العلم والتبشير الأمريكي في أخريات بيروت العثمانية”. في كل هذه الأعمال البحثية كانت الشاكري تُطوِّر من موضوعات الكتاب الذي سيصدر في ٢٠١٣، سواء في تكون مفهوم العلم بالمعنى الحديث في القرن التاسع عشر، أو كيف تلقّى العرب النظريات العلمية ضمن جدالاتهم الخاصة. إلا أنّنا نلاحظ تراجع حضور موضوع العلمانية في الأعمال الأخيرة المتوّجة بالكتاب مقارنة بالأعمال الاستكشافية الأولى.

****

عبر فصوله السبعة، تمر الشاكري في كتابها على محطات زمنية مختلفة لكل منها شخصية بارزة مثّلت تحولًا معبرًّا في السبل التي سلكتها نظرية التطوّر وسائر النظريات العلمية الحديثة في مساقات العالم العربي ونقاشاته. نعرض هنا بعض الموضوعات الأساسية التي كانت عاملًا مشتركًا ركّزت عليها أطروحة الشاكري في مختلف المراحل التي تعرضّت لها، محاولين أثناء ذلك الإشارة السريعة إلى نقاشات جرت في الفكر العربي لنفس الموضوعات ولم تُشِر إليها المؤلفة.

الطباعة ومجتمع القراء الجدد

تشرح المؤلفة كيف كان وراء ظهور المجلات العلمية التي ساهمت في نشر الداروينية كالمقتطف والهلال وغيرها، انتشار سريع لثقافة الطباعة العربية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. فأنشأ محمد علي مطبعة بولاق في النصف الأول من القرن التاسع عشر، طبعت حينها ما يقرب من ٨١ كتابا مترجمًا في العلوم؛ فظهرت حلقاتٍ جديدة من القرّاء العرب في فترة حكم محمد علي. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر حدث توسّعٌ حقيقي في الصحافة العربية، تستطرد المؤلفة في تفاصيله، مُبرِزةً كيف أرست الصحافة في القاهرة وبيروت والمراكز الحضرية الكبرى في العالم العربي ركائز مجتمعٍ جديد من قرّاء الضاد. وترى الشاكري أن صدور المقتطف (١٨٧٦) بزغ معه اهتمام القرّاء العرب بالكتابات العلمية الشعبية، مشيرةً إلى حجم هذا المجتمع من القرّاء الذين كانوا يُتابعون المجلات العلمية بل يراسلونها بمقالاتٍ تُناقش ما تطرحه من نظريات ومكتشفات علمية جديدة. استدعى هذا الإقبال على تلقّي العلوم الحديثة ابتكارًا في المصطلحات، وإدخال كمٍّ هائل من الألفاظ العلمية الحديثة في اللغة العربية. وحين تعرض المؤلفة لمسيرة الشيخ محمد عبده، تستنتج منها كيف أن التطوّر الكبير لشيخ أزهري، انتقل للاضطلاع بقضايا عصره ومواجهة ما تطرحه العلوم الجديدة كنظرية التطوّر وغيرها من رهانات على التراث الديني، يدين بشكل كبير لظهور وسائل الإعلام والمؤسسات الجديدة، كالجرائد ودور النشر والمدارس والمكتبات الحديثة والصالونات، فتشكّلت أفكار الشيخ في جنبات هذه المنابر العلمية والأدبية، وكان لها عظيم الأثر في كتاباته. وأيضًا، كانت الزيادة الكبيرة في نسبة المتعلمين بين الطبقات المتوسطة الجديدة التي تسكن المدن سببًا في ازدياد عدد قرّاء الصحف فارتفع عدد النسخ المُباعة من كل الجرائد العربية بمصر  من ١٨٠ ألف نسخة عام ١٩٢٩ إلى ما ينيف عن نصف مليون نسخة بعد مرور عقدين، وهذا هو الجمهور الذي ترك فيه سلامة موسى بصمته. وسلامة موسى هو أحد أهم ناشري نظرية التطوّر في مصر والعالم العربي.

الذي لم تشر إليه المؤلفة عن هذه البيئة الجديدة لاحظه دارسٌ آخر لها، هو فتحي المسكيني، فالمطبعة هي”تأمين لنمط من التواصل العمومي الحرّ بين العقول لم يعرفه القدماء”، أي واقعة التنوير، من حيث هي كما يقول كانط” استعمال عمومي للعقل”١ [1]. فهذا التواصل العمومي الحرّ بين العقول التي تتعلم وتفكر أتاح الخروج من نفوذ مرجعية دينية حاكمة لعملية التثاقف وتلقي العلوم الحديثة، بل أتاح مناقشة هذه المرجعية كما حصل بين محمد عبده وفرح انطون وغيرهما.

 العلم كظاهرة عالمية

عاملٌ آخر، تشرح الشاكري، كان له دورٌ أساسي في شكل تلقّي العرب لنظرية التطوّر وسائر النظريات العلمية الجديدة، ألا وهو اكتساب العلم معنًى جديدًا، سواء في الإطار العالمي، حين ظهر العلم في القرن التاسع عشر كظاهرة عالمية، أو في السياقات العربية حين تغير مفهوم كلمة “عالم”، فانتشار وسائل الإعلام الجديدة كالمجلات والصحف وطباعة الكتب بشكل متسارع، وبروز مؤسسات مدنية جديدة، وأيضا المدارس المدنية التي تجاوزت الكتاتيب والحلقات الدينية التي يسيطر عليها المشيخة التقليدية، كل ذلك أتاح ظهور طبقةٍ جديدةٍ من المتعلمين والمثقفين والتكنوقراطيين، والكتّاب الذين، كما تقول الشاكري، “أرسوا الأساليب والمفردات  والقواعد التي تعرف الآن باسم العلم”.

هنا، أيّ فيما يخصّ نشر العلوم الجديدة وتبوأ العلم معنى جديد ومكانة مختلفة عمّا سبق، تعطي المؤلفة دورًا هامًا لمجلة المقتطف تحديدًا، ولمحرّريها يعقوب صروف وفارس نمر، وهما من معلمي الكلية السورية الإنجيلية ببيروت ، هي الجامعة الأميركية آلان. فهذه المجلة التي عمّرت طويلًا في العالم العربي، وكانت أعدادها تصل إلى كثير من البلدان العربية، كان مقدّرًا لها، بحسب الشاكري، أن تلعب دورًا مهمًا وحيويًّا في نشر أفكار داروين. تستعرض المؤلفة ظروف نشأة مجلة المقتطف والأحوال التي مرّ بها صروف ونمر، سواء في بيروت، أو في مصر بعد اضطرارهما للانتقال إليها. تصبح قصة المقتطف ودورها في نشر أفكار التطوّر، والنقاشات التي أثارتها، محورية في مجموعة من الفصول الكتاب السبعة، وربما كان هناك مبالغة نسبيًا في هذه المساحة المخصصة للمقتطف. وقد كثّف هذا الاستطراد في قصة المجلة ومحرّريها النمط السردي الذي يسم كثيرًا من فصول كتاب الشاكري.

تشرح المؤلفة كيف شكّل صروف ونمر بنهاية سبعينات القرن التاسع عشر مجتمعًا قرائيًا جديدًا في بعض البلدان العربية، مجتمعًا متمسكًا بالعلم باعتباره ميدانًا يحفل بإمكانات التغيير الجذرية؛ فأضحى العلم لهم هو الحلّ لمشكلة التقدم. ونُشير نحن هنا، إلى أن هذا النمط من المجتمعات المؤمنة بالعلم كجسرٍ أساسي للتقدم، هو ما عالجه عبد الله العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” ممثلًا في شخصية سلامة موسى، الذي تعود إليه المؤلفة لتخصّص له جزءًا من الفصل السادس في كتابها.

تكييف التطوّر

ضمن حوار مع مروة الشاكري في بودكاست مجلة نيتشر في ٢٠٠٩، تحدّثت فيه عن مشروعها الذي يدور حول كيفية تلقي داروين عربيًا، نبّهت الشاكري إلى أن كثيرًا من الناس اليوم ينظر للداروينية كنوع من العقيدة المناهضة للديانة أو اللاهوت، بينما ما هو مثيرٌ للاهتمام أنه لم يكن هذا الشعور سائدًا في نهاية القرن التاسع عشر، بل كيّفت كثيرٌ من الثقافات أفكار التطوّر مع عقائدهم الخاصة عن نشأة الكون والخلق. هذه الفكرة حول تكييف الثقافات المختلفة للداروينية مع تقاليدها وفلسفاتها الخاصة فكرة تتمفصل مع كثير من جوانب التلقي العربي لنظرية التطوّر التي عالجتها في كتابها، سواءً عند نقاشها موقف روّاد نشر النظرية ،كالمقتطف وشبلي شميل من الدين، أو كيف استصلحت الإصلاحية الإسلامية، كالأفغاني محمد عبده ورشيد رضا، نظرية التطوّر في توافق مع النصوص الإسلامية، أو حتى الطريقة التي اعتمدها اسماعيل مظهر-المترجم الأهم لكتاب أصل الأنواع- في ترجمة أفكار ومصطلحات التطوّر. ترى الشاكري أن من الأسباب الأساسية لشهرة أفكار داروين عالميًا سهولة محاكاتها في أصول الفكر المحلي” سواءً كان فكرًا لاهوتيًّا أو أخلاقيًّا أو كونيًّا”.

تسرد المؤلفة كيف انطلقت شرارة النقاش في العالم العربي حول نظرية التولد الذاتي (أي أن الحياة تتولد من نفسها) وعلاقتها بالدين. فعندما نشرت المقتطف في١٨٧٨ نقدًا لهذه النظرية وللعلماء الذين يتبنونها بدأ النقاش حولها في العالم العربي وارتبط هذا النقاش بالسجالات العلمية التي دارت رحاها في أوروبا. فمحرّري المقتطف صروف ونمر، وهما من البروتستانت ومعلِّمَين سابِقَين بالكلية السورية الإنجيلية، بالرغم من دورهما الأساسي في نشر أفكار داروين، كانا من أشد الكارهين والمنتقدين في العالم العربي وعلى مدى عقود لنظرية التولد الذاتي، وطفقا يقدّمان مختلف الأدلة على أن الخلق حدث بإرادة الخالق، وكما تقول الشاكري” عَمِلا على تقديم روايات النشوء والارتقاء والنتائج العلمية الأخرى بالأسلوب الذي يؤيّد رؤاهما الدينية ورؤى من ناصرهم من المبشرين الأمريكيين”. كان هذا النقد من صروف ونمر لنظرية التولد الذاتي سببًا لدخول زميل سابق لهما في الكلية السورية في غِمار هذه المناظرات العلمية، وكانت بداية لمسيرة طويلة له في الذود عن العلم، ألا وهو شبلي شميل، وهو أحد أهم الشخصيات التي يدور حولها كتاب الشاكري.  هنا يقدم الكتاب مسيرة شميل ورؤاه وكيف تعرف القراء العرب -من خلال ذَوْد شميل عن العلم والمادية- على “رؤية مادية جديدة لنظرية النشوء والارتقاء”.

لكن ليس صروف ونمر هما الطرف الوحيد الذي تقدّمه الشاكري كمحاولة تكييف لأفكار التطوّر مع الدين، بل تقدّم محاولةً لطرفٍ أهم شأنًا ذلك الوقت، هو الإصلاحية الإسلامية وبالذات شيخها الأكثر نشاطًا في هذا السجال ألا وهو الشيخ محمد عبده.

الإصلاحية الإسلامية والداروينية

تضع الشاكري من خلال مجمل كتابها عاملين أساسيين لدخول الإصلاحية الإسلامية على خط النقاش حول الداروينية، الأول، هو نشاط الإرساليات المسيحية التي كانت تنشأ المدارس والكليات وتصاحب بين نشر العلوم الحديثة وتدريس العقائد المسيحية، ومن بين نشاطها العلمي المحموم خرج روّاد نشر نظرية التطوّر في العالم العربي، فمحرّري المقتطف وشبلي شميل كلهم من خريجي الكلية السورية الإنجيلية أولًا ومعلميها تاليًا. هذا ما استفزّ كثيرًا من المصلحين الإسلاميين في ذلك الوقت، للوقوف في وجه النشاط التبشيري الذي يستعين بالعلم للترويج لنفسه بين أبناء المسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء، فباشروا إنشاء مدارس لأبناء المسلمين، وإلى العمل بالأساليب الجديدة والموضوعات الدراسية الحديثة في المناهج التربوية، وكان ذلك دافعًا لمواءمة النصوص الدينية مع العلم الحديث-الذي بدأ يكتسب في حينه نفوذًا طاغيًا على عقول المتعلمين- ومواءمتها مع النظريات العلمية، وفي طليعتها نظرية التطوّر.

العامل الثاني لهذا الاقتحام للجدل حول أفكار داروين، كان هو الردّ على الأفكار المادية التي وشمت نظرية التطوّر، وبدأت تنتشر على يد شميل وآخرين. هنا تُوسع المؤلفة الحديث عن ردين أساسيين على ماديّة شميل، أحدهما نشر عام ١٨٨٨ من شيخ صوفي، كان حينها مغمورًا، هو الشيخ حسين الجسر،  كانت رسالته منافحة عن الإسلام ضد الحجج المادية المعاصرة، واكتسبت هذه الرسالة أهميتها من انتشار قرّائها في أرجاء البلدان العربية، الردّ الآخر، وهو الأهم، كان ترجمة محمد عبده لكتاب جمال الدين الأفغاني بعنوان “الرد على الدهريين”، هنا تشرح الشاكري سياق كتابة الأفغاني لهذا الرد، الذي لم يكن يستهدف بكتابته شميل بشكل رئيسي بل المفكر الهندي”سيد أحمد خان”، إلا أن محمد عبده وغيره من النقّاد العرب لشميل وجدوا في ردود الأفغاني حججًا دامغة للتصدّي لتلك المادية المتفشيّة في العالم العربي.

في الفصل الخاص بالشيخ محمد عبده والإصلاحية الإسلامية، قبل أن تتعرّض المؤلفة للمساجلة الكلامية مع المادية النشوئية، تُشير إلى العلاقة البلاغية للشيخ بالفكر النشوئي الحديث، فهو نادى إلى إدخال العلوم الحديثة في مناهج العلماء وكانت حديثه عن داروين ونظرية التطوّر مفعمًا بالإيجابية إجمالًا، ولم يُلقِ بالًا مطلع القرن العشرين لمن رشقوا داروين بالكفر وبنشر الأفكار المادية الهدامة، مثلما فعل الأفغاني قبله. لكن عبده لم يستفض في الحديث عن نظرية التطوّر في إشاراته المتكررة عنها، بل تقول المؤلفة أنه من المحتمل أن عبده-وكذلك الأفغاني- لم يقرأ أعمال داروين نفسه مطلقًا. هذا الجانب هو من أهمّ ما يلقي هذا الكتاب الضوء عليه، فكيفية تفسير عبده لأفكار داروين بهذا النهج يوضح السبل التي سلكتها أفكار التطوّر الحديثة وصولًا للنقاشات اللاهوتية الأوسع في البلدان العربية، وهو ما استهدف الكتاب تعقبّه. ومن ناحية أخرى، تشير المؤلفة إلى أن بيت القصيد بالنسبة للشيخ محمد عبده في المعاني الاجتماعية التي بإمكان المرء استنباطها من نظرية التطوّر لداروين، فالنشوء في المقام الأول هو عملية من “الارتقاء الجماعي”، وهذا الانتقال بنظرية التطوّر إلى “سنن المجتمعات” وتطورها، ينسجم بسهولة مع التقاليد المتوارثة في الفكر الإسلامي، بالذات مع ابن خلدون، وأيضا هذا الانتقال يشير إلى جانبٍ في نمط تلقي العرب لأفكار داروين، جانبٌ ركز عليه هذا العمل كثيرًا، هو الانتقال بنظريته إلى جوانب اجتماعية وسياسية وتربوية. في هذا الإطار يشير عزيز العظمة إلى أن استصلاح الاصلاحية الإسلامية للداروينية الاجتماعية جاء مشروطًا بمفاهيم الداروينية الاجتماعية ولو اتخذ الخطاب شكل التعليق على الآيات القرآنية، فلم تكن تلك الآيات إلا مناسباتٍ لربط مرجعيةٍ فكريّة غربيّة أكيدة بمرجعية رمزية هي الإسلام ممثلا بالقرآن [2] . وهذا ما كان يجدر بالمؤلفة نقاشه، حول ذلك الربط للإصلاحية الإسلامية بين النصوص الدينية وأفكار داروين.

لاحقًا، كما تشرح المؤلفة، أدّى اصطباغ الفكر النشوئي في البدان العربية بالمادية الراديكالية إلى استنهاض الإصلاحية الإسلامية للدفاع عن الدين، عبر التركيز على توافق العلم والعقل مع الإسلام، وأمسى لا محيص من استنهاض علم كلام جديد، يُدافع عن وجود الله وعن العقيدة الإسلامية بالبراهين العقلية التي تحاول أن تستوعب النظريات والمكتشفات الحديثة. هذا الأمر نتيجةٌ أساسية في هذه الأطروحة، ألا وهو نشوء علم الكلام الجديد، نتيجةً لمواجهة المصلحين الإسلاميين للنظريات العلمية الجديدة، وإن كنّا لا نُضفي على هذه النتيجة صبغة الجدّة، فسبق لبعض دارسي فترة النهضة العربية أن أشاروا إليها. إلا أن هناك نتيجة أخرى أهم لهذا التحول تشير إليها المؤلفة، ألا وهي إعادة الاصطلاح على مفهوم الإسلام نفسه. فالمتكلمون المسلمون راحوا للمرة الأولى يتكلمون عن الإسلام باعتباره نوعًا من أنواع الحضارة، ردًّا على من حطّ من شأن الإسلام في دعمه للعلم والحضارة، وهذا هو “السياق الذي أتت فيه جهود انتساب الأفكار العلمية إلى الحضارة الإسلامية بقوة بلاغية مندوحة” كما تقول الشاكري.

خاتمة

في النظرة الإجمالية لهذا العمل، فإننا نجد أنفسنا أمام جهد بحثي واسع النطاق وثري المصادر، استطاع أن يضيف بعض النتائج الهامة حول طرق تلقي العلوم الحديثة في البلدان العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وإن كان يجدر بعملٍ من هذا النوع أن يكون تراكميًا، بمعنى أن يناقش الأهم من الأعمال السابقة التي ناقشت موضوعاته في تلك الفترة، وأن يتجنّب الكثير من السرد الذي ربما يخلّ بإعطاء كل عاملٍ تاريخي قدره المناسب.

وبخصوص الطبعة العربية، فإن الدار الناشرة تستحق الثناء على اختيارها لهذا العمل الرصين، مع ملاحظة أن حذف الببليوغرافيا والفهارس المثبتة في الأصل من الطبعة العربية أمر قلّل من حجم الاستفادة من العمل كثيرًا في هذه الطبعة، والأمل في تعديل ذلك في الطبعات القادمة.

 

 


[1] الهوية والزمان، ص٤٦

[2] العلمانية من منظور مختلف، ص١٤٩

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى