مقالات

دوّامة النقد العربي – حسين الضو

تكمُن إشكالية الناقد الصحافي في تسليطه الضوء على ما لم يتناوله النص، وهذه المساحة أكبر بكثير من مساحة النص نفسه، فالتقاطع بينها وبين التراكم المعرفي للناقد أكبر من تقاطع هذا الأخير مع النص. هذا يدل على أن الناقد أو القارئ حتى الآن لا يسلم نفسه للنص ولا يتقاسم حتى سلطة المعنى معه بل يشتغل على نقيض النص الذي لا يقوله النص ذاته. فالمنتِج للعمل الفني روائيًا كان أو مخرجًا سينمائيًا أو مسرحيًا أو دون ذلك، غير مسؤول عن تراكم القارئ المعرفي ولا تجاربه الفنية والجمالية السابقة، أضف إلى ذلك أيضًا حبّ الناقد الصحافي لصورة الناقد الصلب، الحازم، الذي لا يُمرر نصًّا دون مهاجمة؛ كي لا يتهم بالناقد المجامل والرخو، وهي سمات يحب أن يتحلى بها هكذا ناقد.

لا ينبغي على القارئ مطالعة النص من بعيد، أو الوقوف على بابه والتلصص عليه؛ بل على القارئ أن يشعر بالارتياح لاقتحام النص والولوج داخل النص لاستنطاقه، ولكتابة نص موازي يسد فيه ثغراته، ليثريه لا ليحاكمه أو يسقطه. كما ينبغي أن يرتكز النقد على منهج فلسفي، ليس بالضرورة معقدًا، ولكنه منهج يضفي شرعية على قراءة الناقد للعمل الفني، كما هو الحال في الرواية تمامًا، فكثير من الروائيين كتبوا كتبًا نقدية أو تأملية فيما يتعلق بمفهومهم لأدب الرواية، وهذه الكتب تعتبر مداخل ذات قيمة للرواية ونقدها أكثر مما قدمه بعض النقاد في قراءاتهم الانطباعية. هذه المناهج قد تكون محل اختلاف ونقاش، ولا ضير في ذلك فنحن ندور في فلك معرفي مطاط وغاية في السيولة على عكس المنهج العلمي التجريبي. بل عند حديثنا عن النقد الأدبي -أو الثقافي- نحن نسبح في مجال معرفي إمبريالي يتطفل على علوم الاجتماع والإنسانيات تارة وعلى التاريخ واللسانيات والفلسفة تارة أخرى.

تتجلّى مشكلة عدم اقتحام الناقد للنص أحيانًا في اكتفائه بالتعليق إما على بعض التقنيات الروائية كتحديد الراوي ودوره وموقعه في الرواية من الأحداث والشخصيات، أو التعليق على تغير الشخصية تمامًا كما صورتها الرواية دون إضافة طبقة جديدة للمعنى، والأسوأ من هذا هو عندما يتحول إلى ناقد اجتماعي على ضوء أحداث الرواية الاجتماعية والسياسية بطريقة تُقصي خصوصية الرواية الفنية من حيث الحبكة والشخصيات. خُذ على سبيل المثال رواية الطلياني لشكري المبخوت، وألقِ نظرة على ما كتب عنها؛ ستجد تحليلات سياسية لتونس ما بعد الثورة، وقد ينسحب الحديث أيضًا لمقارنات بين ثورات الربيع العربي بشكل مستقل عن الرواية.

قد تكون المشكلة هنا في الرواية والقارئ معًا، فرواياتنا عادة تغوص في النقد الاجتماعي والسياسي، مجبرةً القارئ على الانحراف في هذا التيار أيضًا. فالخلل بيني، مراوح بين الرواية وقارئها في إنتاج مكرور لكليهما.

يمكننا اختزال المشكلة بشكل مبسط في نقطتين: إشكاليات متعلقة بالناقد الأكاديمي، وأخرى متعلقة بالناقد الصحافي. كلاهما يشتركان في إشكالية واحدة – وإن كانت بصورة مختلفة- ويختلفان في إشكاليات أخرى. الإشكالية التي يتفقان فيها الناقدان الأكاديمي والصحافي هي استنادهما على سلطة غير معرفية في تقديم قراءاتهم النقدية، حتى لو كانا يرفضان هذه السلطة إلا أنها موجودة كفاعل اجتماعي- فني في الوسط الثقافي، كفاعل سلبي يمنع تجاذب النقاش ويبتُره منذ الحلقة الأولى، فكل القراءات تنتهي بتلك المقالة المكتوبة من أحدهما دون تعليق من الآخرين.

سلطة الناقد الأول نابعة من ثقله الأكاديمي في معرفة تاريخ حركة النقد الغربي ومدارسه وأفكار هذه المدارس النظرية المستندة على منتج نشأ في سياق ثقافي مختلف عن الوطن العربي، سياق يتناسب مع تاريخ أوروبا السياسي والاجتماعي والفلسفي كما شرحه ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية” لإثبات أوروبية الرواية في أصلها وروحها. أو علمه -الناقد الأكاديمي- بنشوء وتطور أفكار أخرى في ذات السياق الثقافي كالسيميائية وعلاقتها بالبنيوية وعلاقة هذا الأخير باللسانيات كما طورها ساسيور وصولًا إلى كل من إسهامات أمبرتو إكو في فهم الرموز ورولان بارت في فهم سيميائيات الدرجة الثانية وربطها بالخطابات كقوى فاعلة في المجتمع. إلا أن هذا الناقد الأكاديمي لا يزال غير قادر على التعامل مع هذا الفن الجنيني المسمى بالرواية العربية في تأصيل نظرية أو منهج توفيقي بين هذه النظريات الغربية تتماشى مع ثقافة الوطن العربي وسياقاته السياسية والاجتماعية و”الفلسفية”، أو على الأقل استخدامها كما هي فبعضها موضوعي ويعتمد على مشتركات كاللغة -بالمعنى اللساني- ولكنها تحتاج إلى تبيئة. أما المشكلة الأخيرة وهي مرتبطة بالسابقة أو نتيجة لها، هي انتهاء هذا الناقد في مكتبه لكتابة بحوث لا تمتّ للمشهد الثقافي وبعيدة عنه، وتوصم بأنها صعبة ونخبوية كتبت في برج عاجي.

أما الناقد الصحافي فهو ناقد مهلهل، يكتسب سلطته عبر إثبات أنه يقرأ ويطّلع كثيرًا وبالتالي يكون ذلك كافيًا لإصدار أحكام قيمية على النص -وهذا في حدّ ذاته مغالطة معروفة تسمى بالاحتكام للسلطة-. الناقد الصحافي في أفضل حالاته يعتمد على كثرة الاطلاع والموسوعية في كتابة ما لا يتجاوز الانطباعات، وعادة ما يتم تصنيف جودة هذه الانطباعات على معيار القسوة بلغة بلاغية لا تقنية فنية تساعد على جر النقاش نحو اتجاه أكثر موضوعية. ولذلك فإن هذا الناقد أقرب ما يكون لما يعرف بالهبستر hipster وهي شخصية أمريكية إحدى سماتها مخالفة الشائع والمشهور لإعطاء تفوق للذات وشرعية لقوله.

إذن ما هي تبعات هذه العملية الثقافية المشلولة؟

أهم نتيجة سلبية لهذه العملية هي تحول المثاقفة الصحية في مجال الفن والأدب إلى عملية تكريس يشارك فيها الجميع من مؤلف وناقد ودور نشر ومراكز إعلامية، يتحول الأدب في هذه العملية من تجارب فنية للمتلقي، يتفاعل معها بشكل إستطيقي جمالي أو حتى فكري متعلق بموضوعات هذه الأعمال، إلى صراع اجتماعي.

هناك ثالوث معروف يطلق عليه ثالوث المعنى وأركانه هي: المؤلف والنصّ والقارئ، حيث تتباين نظريات المعرفة الأدبية في إعطاء سلطة المعنى لأحد هذه الأركان ومن ثم تتباين أيضًا هذه المناهج النقدية في قراءة واستقبال النصوص الأدبية. إلا أن هذا الثالوث معني بالجانب الفني المحض دون الالتفات إلى أن الفن وإنتاجه مشتبك أيضًا بالممارسة الاجتماعية. وبما أننا أشرنا إلى وجود “سلطة” اجتماعية لدى الناقدان الأكاديمي والصحافي، يجدر بنا الإشارة إلى أن هناك أيضا ثالوث آخر نستطيع أن ننسبه للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يتعلق بإنتاج المعرفة وعلاقة هذا الإنتاج بمفاعيل السلطة والخطاب، والمقصود بالخطاب هنا هو استخدام لغة أو أدبيات معينة للحديث حول موضوع ما، ومن شأن ذلك إنتاج معرفة حول ذلك الموضوع في مرحلة زمنية وتاريخية محددة.

في هذه الحالة، نحن نتحدث عن معرفة ناتجة عن هذين الناقدين باستخدام لغة وأدبيات محددة، هذه الأدبيات اكتسبت موثوقية لأنها صادرة من أشخاص ذوو سلطة معرفية، وإن كانت سلطة وهمية. هذه العملية تحوّل الخطاب إلى مؤسسة يتشارك فيها كل من يستخدم هذه اللغة والأدبيات، للانتماء إلى نادي السلطة المساهم في إنتاج تلك المعرفة المتعلقة بالحقل المعرفي ذاك. أي أن هناك سلطة/قوة -بحسب تعابير فوكو- تنشأ من خلال قبول قوالب معرفية تشكل خطابًا مسبقًا وثابتًا في هذا الحقل المعرفي الثقافي.

فَلَو أخذنا السيناريو البسيط لعملية قراءة عمل أدبي ابتداء من ذهاب شخص ما لاقتناء رواية، وقراءتها، ومن ثم نقدها أو تقديم قراءة لها، نجد أن هذا الفرد تتجاذبه قوى أو سلطات متقاسمة بين مفاعيل المشهد الثقافي كالناشر والعارض أو المكتبة والناقد، فالناشر قرّر نشر رواية ما لأن مؤلفها صاحب سمعة ثقافية -سواء كانت أكاديمية أو حائز على جائزة أو غيرهما- أو أنها مترجمة ومؤلفها صاحب سمعة أيضًا، وكل ذلك في سبيل ترويجها وبيعها. وهذا ينسحب على العارض والبائع أيضًا، أما الناقد فأحيانًا يحاول أن يموضع نفسه بين هذه القوى/السلطات كي لا يخرج خاسرًا في هذا الموازنة. أما بقية القرّاء فهم مسلوبو القوى/السلطات هذه عند المشاركة في هذه العملية المعرفية.

وهناك تجليات أخرى تعزّز من فكرة تحول هذا الخطاب إلى مؤسسة تكرّس أسماء وموضوعات محددة، فعند مشاهدة بضع برامج متعلقة بالمنتج الأدبي والفني، تكون قادرًا على إكمال الكثير من الجمل وتوقع الكثير من الأفكار إذ أن هناك تكريس للشخصيات والأقوال والآراء. فعلى سبيل المثال، عندما يقول المقدم: “الروائي الجزائري الكبير..” فأنت تكمل “واسيني الأعرج” أو ربما “رشيد بو جدرة”، أما إن قال: “الروائي السوداني..”، فالتكملة هي “الطيب صالح” أو “أمير تاج السر”، أما إن قال: “الروائي المصري..”، فـ… كلكم تعرفونه. القدرة العالية على التوقع هذه تشير قطعًا إلى إشكالية كبيرة، فلا أظن من المعقول أن يعتقد أحد بأن الجزائر بكل من فيها من الروائيين هم غير جديرين بالالتفات باستثناء واسيني، أو لبنان باستثناء اسم او اسمين من هنا وهناك. بل هذا يشير إلى الكم الهائل من الأعمال الجيدة الضائعة والتي خسرناها بسبب هذا التكريس، وأن هذه المثاقفة غير الصحية هي سبب رئيس في انهمار الروايات لشغف الكتّاب في الانضمام لهذا النادي القابض على القوة/السلطة.

وهذا أيضًا ينطبق على مؤسسات سوق الكتاب في الغرب حتى وإن اختلفت تشكلات السلطة/القوة فهي لدينا اجتماعية سياسية، بينما في الغرب تكون حيث تتكدس رؤوس الأموال، وفِي كل ما يساهم في العرض والطلب والثقافة الشعبوية والجماهيرية.

إذن ما الحل؟

مواجهة هذه المشكلة لابد أن يكون ثقافيًا أي أن يكون مبنيًا على نشر الوعي، وتسليط الضوء حول توازن هذه القوى في العملية الثقافية أولا قبل تفكيكها ونقدها، فلابد من بلورة وتوضيح هذه المشكلة قبل الشروع في حلّها، ومن ثم العمل على تطوير أدوات القارئ وتحسين فن القراءة والتلقي عبر التركيز على نظريات المعرفة الأدبية التي تجعل القارئ مساهمًا في خلق المعنى في النصّ بدل الاكتفاء بتقييمه، كل هذا لغرض هدم الأصنام النقدية الذين أصبحوا حراسًا على المعنى في الروايات وتقييمها، دون إتاحة فرصة لعموم القرّاء للإسهام في نقد الأعمال الأدبية خارج عباءتهم. ذلك من شأنه موازنة القوى/السلطات ومعادلة الكفّة بين “النقاد” وبين عموم القرّاء من جهة، وبينهم وبين الأدباء من جهة أخرى، وبالنتيجة خلق فضاء ثقافي أكثر صحية وإنتاج تجربة قرائية أكثر إثراء.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى