في عام 1895، حاول المحلل النفسي الشاب أن يعالج امرأة شابة من آلام معدتها بحشو أنفها بالكوكائين. وقد أدى به فشله غير المتوقع إلى فترة إدمان غيرت مسار تاريخ علم الطب النفسي.
«أحتاج إلى الكثير من الكوكائين» كتب سݠموند فرويْد Sigmund Freud إلى صديقه وزميله ڥلهلم فلايْس Wilhelm Fleiss «إنني أتدفق أفكارًا جديدة وأفكارًا نظرية كذلك».
كان فرويْد ذلك العام يمر بأزمة مهنية، وبحسب عدد ممن كتبوا سيرته، فإن إحدى مريضاته؛ إيما أيكشتاين Ema Eckstein، أتته تشكو من آلام في المعدة واكتئاب متعلقة بدورتها الشهرية. شخَّص فرويْد حالتها بأنها «هستيريا» و«إفراط في الاستمناء»، وهو ما اعتقد أنه علة عقلية وسبب لكل إدمان في آن واحد، كما دوَّن ذلك في ملخص بحثه المعنون:« الاستمناء، إدمان وعُصاب وسواسي» “Masturbation, addiction and obsessional neurosis” (1897).
استدعى فرويْد، فلايْس، وهو طبيب أنف وأذن وحنجرة، لعلاجها بكي أنفها. وكان فلايْس يعتقد أن الأنف متعلّق بالأعضاء التناسلية، و أن العمل عليه قد يحل مشاكل جنسية كتلك التي تعاني منها إيما. فقام هو وفرويْد بكي أنفها بالكوكائين، الذي كان آنذاك مباحًا، وكان أحيانًا يستخدم كمخدِّر «طبّي» موضعيّ، وكذلك كان يستخدم للكيّ. قام الإثنان بحشو أنفها بالكوكائين ݠرامًا تلو الآخر، فاشتعلت الكيماويات في نسيج أنفها وجيوبها الأنفية، مخرجة في آن تدفقًا صديديًّا و رائحة لحم محترق عفنة. وبعد العملية، ضمداها، وطلبا منها المغادرة.
بعد أسبوعين، عادت إلى فرويْد وقد اعتراها رُعاف عصيّ. وفي هذه المرة، استدعى فرويْد طبيبًا آخر ليفحص أنفها؛ فأخرج ذلك الطبيب من أنفها عشرين إنشًا [حوالي نصف متر] من الشاش الذي نسيه فرويْد وفلايْس في أنفها!. وبحسب كلا الرجلين الحاضرين، فإن الدم تدفّق من أنفها تدفّق الماء من الصنبور؛ وجحظت عيناها، وشحب لونها، وغاب نبضها مدة ثلاثين ثانية.
وبعد أيام قلائل تالية، عادت إلى فرويْد مصابة بنزيف خطير جدًّا. وكان نصف وجهها قد غار. تابع فرويْد علاجها، بإعطائها المورفين وتضميدها، رغم شعوره بعظم ذنبه جراء سوء ممارسته الطبية. وبحثًا عمّا يخفف توتره، توجّه إلى رذيلتيه المفضّلتين: السيݠار والكوكائين.
كتب فرويْد إلى فلايْس: «اليوم أستطيع أن أكتب فعندي أمل أكثر من ذي قبل … خلصت نفسي من هجوم بائس باستخدام الكوكائين». وبُعَيْد وقت قصير، كتب إلى فلايْس كرة أخرى: «منذ آخر جرعة كوكائين، لازمتني ثلاث ملابسات: 1. أشعر أنني على ما يرام، 2. تخرج مني كميات وافرة من الصديد، 3. أشعر أنني على ما يرام».
كان الكوكائين بالنسبة لفرويْد الشاب، عُقارًا عجائبيًا. وقبل أن يطور نظرية التحليل النفسي والنظريات الأخرى التي اشتهر بها الآن – العقل الباطن، التطور النفسي الجنسي، وعقدة أوديپوس، وتفسير الأحلام – كان فرويْد مدمن كوكائين.
وكما تثبت رسائله الغرامية غير المحتشمة إلى خطيبته مارتا برنيس Marta Bernays؛ فقد استخدم الكوكائين للمتعة والتهدئة، وللاسترخاء والتركيز؛ وأخذه معه إلى حفلات متألقة في باريس؛ واستخدمه لعلاج علله وتهيجات أنفه؛ ووصفه لمرضاه، وأصدقائه ولـمارتا ذاتها. وكتب عنه على نطاق واسع،حتى أنه حاول استخدامه كمنصة ينطلق منها إلى عالم الشهرة الطبية. وبعد أن بدأ الجانب المظلم لهاذا العقار يظهر، بعد أكثر من عقد على استخدامه له، تخلّص فرويْد من عادته، وبذل قصارى جهده ليمحو من ذاكرة العامة أنه سبق ومس الكوكائين.
على الرغم من أن البشر قد مارسوا مضغ أوراق نبتة الكوكا لآلاف السنين، إلا أن هيدروكسيد الكوكائين الصناعي لم يظهر إلا قبيل معرفة فرويْد له بحوالي 25 سنة. ففي عام 1884، قرأ فرويْد مقالًا عن جندي ألماني سقط جراء الإعياء، ثم بُعَيْد بلعه للكوكائين، قام واقفًا ومشى «بيسر وحبور وجعبته على ظهره». وبحثًا عن فتح طبي يخلّده، قرّر فرويْد أن يختبر العقار بنفسه وأن يكتب تقريرًا عن نتائجه. فطلب ݠرامًا واحدًا من الكوكائين الخالص شديد النقاء -مفعوله أقوى بكثير من المواد المرققة (المقطوعة) التي تباع في الشارع هذه الأيام- وابتلع فقط جزءًا من عشرين جزء منه.
وبعد تجربته الأولى، كتب فرويْد في تقريره :«تُنفذ الأعمال الذهنية المركزة والجسدية الطويلة دون أية إرهاق. ويُستمتع بهذه النتيجة دون أي من الأعراض الجانبية البغيضة التي تتبع الانتشاء الذي يجلبه الغَول»، ثم وصف جمال مرحلة الإثارة الناتجة عن تعاطي الكوكائين coke rush قائلًا: «يشعر المرء بأن تحكمه في نفسه يزداد، وأنه أكثر حيوية وقدرة على العمل؛ ومن ناحية أخرى، إذا عمل المرء، فإنه يفتقد ذلك التصاعد للقدرات العقلية الذي تستحثه الخمر، أو الشاي، أو القهوة. يكون المرء ببساطة على طبيعته، ثم ما يلبث أن يجد صعوبة في تصديق أنه تحت تأثير أي نوع من العُقارات أصلًا».
وصف فرويْد الذي كان غافلًا عن خواص الكوكائين الإدمانية،الكوكائين [كعلاج] لصديقه ومعلمه أرنست فون فلايشل-ماركسوڤ Ernst von Fleischl-Marxow. وكان صديقه مدمنًا على المورفين، وظن فرويْد أن الكوكائين يمكنه معالجة إدمانه. واستبدل فلايشل-ماركسوڤ إدمان الكوكائين بإدمان المورفين، ولم تبد عليه أي من أعراض إدمان المورفين الانسحابية.
كتب فرويْد «انتصرت! .. ابتهجوا لي. لقد أحرزنا من خلال الكوكائين شيئًا جميلًا».
وجراء نشوة الكوكائين والنجاح، صرف الكوكائين كعلاج لمريض آخر، حتى أفنى ما تبقى من ݠرامه النقي. وبعد خمسة أسابيع من ابتلاع الكوكائين النقي، كتب ورقة بعنوان «حول الكوكا» Über Coca، وهي أول أربع ورقات سينشرها عن هذا العقار. والمقالة تؤرخ لنبتة الكوكا والكوكائين، وتوضح تأثيراته، وتمتدح استخداماته الممكنة في علم النفس والطب. وتعكس نغمة كتابته [لهذه الورقة] افتتانه بالعقار؛ فهو يسمى ورقته «أنشودة مديح» في «العقار السحري»، ويشير إلى حالة النشوة الحاصلة بـ«الإثارة الفاتنة».
وبينما كان فرويْد يدرس الكوكائين، كان صديقه كارل كولر Carl Koller، يجري أبحاثه حول العقار. واكتشف كولر الخواص التخديرية للكوكائين حينما جربه على عين ضفدع، فوجد أنه لم يرجف ولم يرتعش أثناء جراحة عينه، فنشر النتائج التي توصل إليها، فحقّق لنفسه وللكوكائين شهرة منقطعة النظير.
فات ذلك الفتح العلمي فرويْد الذي كان على قاب قوسين منه، إلا أنه لم يهجر دراسة العقار لذلك. فقد كتب عنه ثلاث ورقات أُخَر: «إضافة حول الكوكا» Nachtrage Über Coca، و «حول عمل الكوكائين» Über die Allgemeinwirking des Cocaïnes، و«مساهمات حول تطبيق الكوكائين»، Beiträge über die Anwendung des Cocaïns، وكل هذه الأوراق ترفض بضراوة النقد الذي بدأ الكوكائين يحشده بعد ملاحظة الأطباء لخواصه الخطيرة. وكان فرويْد يلقي المحاضرات عن استخدامات الكوكائين، وواصل وصفه كعلاج لمرضاه.
في عام1899م، أكمل فرويْد إنجازه الأعظم magnum opus «تفسير الأحلام». ورغم أنه لم يحقق نجاحًا مباشرًا، فإن الكتاب لاحقًا أصبح النص الموثوق والمعتمد في الدراسات الفرويدية. ولو أننا فكرنا كفرويْد عن نصه -أي أن كل أحلامنا ما هي إلا «تحقيق رغبات»، أو محاولات غير واعية لحل نزاعاتنا- فإن [كتابه] «تفسير الأحلام» ما هو إلا مفكرة أحلام مدمن. الكتاب تعج جنباته بالكوكائين؛ ومن 39 حلم شخصي يناقشها في كتابه، فإن المكتمل منها فقط 17 حلمًا، ثمانية منها تتضمن ما له علاقة بالكوكائين.
بعد فترة قصيرة من مشارفته على قتل إيما أيكشتاين حينما حشى أنفها بالكوكائين والشاش، حَلُم فرويْد بها. وقد كان لهذا الحلم القدح المعلى إسهامًا في كتابه، وهو المعروف حاليًّا بـحلم «حقن إيما». وفي هذ الحلم، يقف فرويْد أمام قاعة ضخمة، يرحب بضيوف حفلة ما. فتدخل إيما، التي سماها في الكتاب إيرما، فيتنحى بها جانبًا. تشكي إليه أن عمليتها كانت مؤلمة جدًّا، وأنها ما تزال تشعر وكأنها تختنق. فيلحظ تغيّرًا في وجهها؛ وأنه قد شحب لونه وتورّم، وبدا له وكأن سوءًا ما يحتدم داخلها. وقرب النافذة وأمام مدعوي الحفلة، يتفحص فمها ليجد بقعة بيضاء كبيرة تغطي حنجرتها كالطلاء. وجوار تلك الطبقة، يجد عظام محارتها الأنفية – العظام الموجودة داخل الانف- وقد غطتها جُلَب [الجلبة هي القشرة الخشنة التي تتشكل على الجروح عادة] بيضاء. كتب فرويْد : «إن الجُلَب التي غطت عظام محارة أنفها، ما هي إلا استدعاء لقلق كنت أشعر بها حيال حالتي الصحية. فقد كنت أُكثر استخدام الكوكائين آنذاك، لتخفيف تورمات أنفية مزعجة، حين سمعت قبيل أيام، أن إحدى مريضاتي أصيبت بنخر -[النخر هو موت الانسجة بسبب المرض]- واسع في غشائها المخاطي»، ثم يخلص فرويْد إلى أن مرضها سببه تصرف خاطئ من طبيب آخر حقنها بحقنة فاسدة، قبل أن ينتهي الحلم دون حل [لمشكلتها]. وكما كتب جَي ݠرينبرݠ Jay Greeberg : فحتى دون اعتراف فرويْد بأن «استخدامه المتكرر للكوكائين» كان يشكل قلقًا له، فإن أي فرويدي يمكنه أن يرى الأثر المريع لإدمانه على « أشهر حلم في التحليل النفسي». إذ إن كل الرموز موجود هنالك: انكشاف ممارساته السيئة أمام ذوي المكانة العالية من أعضاء المجتمع، الطبقة البيضاء الخشنة في حنجرة إيما وعلى عظام أنفها، الحقنة التي تنهي الحلم؛ ورغم كل هذا، حقن فرويْد عددًا من مرضاه بالكوكائين – بعضهم حقنه بݠرام يوميًّـا، بحسب ما ذكره هاورد ماركل Howard Markel، مؤلف كتاب:« تشريح إدمان: سيݠموند فرويْد، وليام هالستد William Halsted، و عقار الكوكائين المعجزة».
An Anatomy of Addiction: Sigmund Freud, William Halsted, and the Miracle Drug Cocaine.
وحالما أضحى الدليل ضد الكوكائين دامغًا، وذاع أمره، أقلع فرويْد عن الكوكائين، ودمّر الرسائل والوثائق التي تتناول علاقته به. ولم يذكر عما حرضه على الإقلاع عن الإدمان إلا النزر اليسير.
يرى ديڤيد كوهين David Cohen، مؤلف «فرويد عن الكوكائين» أنه ربما لم يعد بحاجة للعقار، بعد أن وطّد سمعته عقب نشر «تفسير الأحلام». فقد اعترف بمساوئ الكوكائين، ولم يعد يحتاجه شخصيًّا. كتب فرويْد إلى صديقه وكاتب سيرته فريتز ڤيتلس Fritz Wittels في محاولة لإزالة كل النقاشات السيرية حول استخدامه الكوكائين: «أعلم جيدًا كيف حدث لي [فصل الكوكائين] دراسة الكوكائين كانت سعيًا عبثيًا مشتتًا allotrion لطالما تُقت إلى طوي صحيفته».
بحسب تعليق فرويْد الشهر (رغم أنه ملفّق)، «أحيانًا لفافة التبغ مجرد لفافة تبغ.» ولكن هل شريط الكوكائين مجرد شريط كوكائين، أم أن كل شريط منه يطيل الدرب ويقود المستخدم في مسار معين؟
يعتقد ماركل أن «فصل الكوكائين» في حياة فرويْد قد كان له أثره على نظرياته، وتأسيسه للتحليل النفسي. ويتحدث حول كون الكوكائين ألهمه جزئيًّا في ابتداعه لطريقته الشهيرة «التداعي الحر»، التي يطلب فيها من مرضاه أن يبوحوا بـ(تيار وعيهم) أفكارهم غير المشروط. أحب فرويْد الأثر التحرري الذي يحدثه الكوكائين وكيف أنه كان يجعله ومرضاه أكثر تفاعلًا، وطلاق لسان، وانفتاحًا؛ وحتى بعد أن توقف عن وصف العقار، كان ما يزال يود من مرضاه أن يستجيبوا له كما لو أنهم تحت تأثير نشوة الكوكائين.
كتاب سير آخرون، كـ (إي. إم. ثورتون) E. M. Thornton، مؤلفة كتاب «فرويْد والكوكائين» تشير إلى أنه بما أن نظريات فرويْد كانت في آن تفتقر إلى الأساس العلمي، ووضعها شخص طالما كان يقع تحت تأثير مادة تؤثر على العقل [سلبًا]، فإن هذه النظريات غير جديرة بالثقة، وتتحتم دراستها في ضوء إدمانه. وفي مقدمتها، تزعم أن «فرضية فرويْد المركزية (العقل الباطن) غير موجود [أصلًا]، وأن نظرياته كانت واهية ومنحرفة، وترى أن باقعة البواقع، أن فرويْد ذاته، عندما صاغ تلك النظريات، كان تحت تأثير عقار مسمِّم ذي تأثير معيَن على الدماغ».
لاحظ كوهين أن أول تجارب فرويْد الكوكائينية كانت على نفسه، حيث عالج نفسه كأحد عملائه. لقد استخدم نفسه كفأر تجارب، فأدى الاستبطان (الـتفكَر الذاتي) إلى اكتشافاته. وشكل هذا اتجاهًا وتقليدًا اتبعه في مسيرته المهنية؛ فكثير من أفكاره كانت نتاج وعيه بذاته، وتأمله في نفسيته. في ورقته المعنونة «حول الكوكا» كان أول ظهور له كشخصية character في منشوراته ومؤلفاته literature . وثمة احتمال أنه لولا تأثير الكوكائين المرير على مرضاه وحالاتهم العقلية، لما كانت أحلامه مثيرة لاهتمامه أصلًا.
وما هو الهم الأعظم بالنسبة لفرويْد الشاب من إدمان مخدِّر كريه يتسبب بوقوع العديد من الضحايا، والذي قد يتسبب في استبعاده من عمله؟
لقد كان تأثيرًا مدمِّرًا، نعم، لكن رغم ذلك فقد كان تأثيرًا مكَّن فرويْد من خلال الكوكائين أن «ينجز شيئًا جميلًا».