رسالة ٌمن أعماقِ الكون – أمل عبدالعزيز

في يومٍ ما من عام ١٩٦٩م قرّرَ طاقمُ سفينةٍ سوفيتيّةٍ في أثناء الحربِ الباردةِ كسرَ مللهم بكتابةِ رسالةٍ ووضْعِها في زجاجة ثم قذفها في المحيط. ورغم العداءِ بينَ الاتّحادِ السوفيتيِّ وأميركا آنذاك إلا أن الرسالة لم تحمل أي تهديد، بلْ حملت تحيّةً طيّبةً وأمنياتٍ بريئة. مرّتْ خمسون سنةً ليلتقطَ أحَدُهم هذه الزجاجةَ بالصدفةِ من شَواطئ ألاسَكا؛ ليحملَ لنا دليلًا على وجودِ تلكَ السفينةِ وبحّارها كاتبِ الرسالةِ أناتولي بوتسانينكو، والذي شرحَ لنا الهدفَ من هذا العبث: “تساءلَ أصدِقائي في مساءٍ رتيب، سيأتي زمنًا نكونُ به في طيّ النسيان، ولن يعلمَ أحدٌ عن وجودِ هذه السفينةِ وطاقمِها”[1].
على عكسِ أناتولي ورفاقِه الذين قذَفوا برسالةٍ إلى أعماقِ المحيط وعلى غيرِ أملٍ بالعثورِ عليها، في ذلك العقد وقفَت مجموعةٌ من العلماءِ منتظرينَ رسالةً من أعماقِ الكونِ لم يملكوا حينَها إلا يقينًا عِلميًّا بأنَّها ستَأتي وحَظًّا عظيمًا لالتقاطِها وجُهدًا كَبيرًا كلّفهم عمرًا كاملًا. ويا لسعادة البَشريّة..! فـقدْ وَصلتْ هذه الرسالة في الرابعِ عشر من شهرِ سبتمبر لعام ٢٠١٥م، ليلتقطها أحد أعظمِ إنجازاتِ البشريّةِ في القرنِ العشرين ” LIGO”.
هذهِ الرِّسَالةُ حَملت عِـنوان: “موجاتُ الجَاذبيّة”.
عازفُ الكمانِ وأوتاره

لفهمِ الجاذبيةِ يجبْ أنْ تُرحّبَ عُقولنا كُليًّا بأنّها لم تعدْ تلكَ القُّوةَ الخفيّةَ التي تَجذبُ الأجسامَ تحتَ تأثيرِ الكتلةِ والتسارعِ والمسافةِ كما شرحها العالم إسحاق نيوتن. ما قامَ به نيوتن مشكورًا هو شرحُ وتفسير آثارَ الجاذبيةِ على حركتنا وفي حياتنا اليوميّة بقوانينَ غاية في الجمالِ والبساطة. لكنّنا أبناءُ ما بعدَ النّسبية، نُدركُ أن الجاذبيةَ هي الانحناء أو التغيّر في نسيجِ الزمكان، فالمكان والزمان اللذان يشكّلان معًا نسيجًا فضائيًّا للكونٍ، تُؤثرُ فيهما الكتلةُ؛ فتلوي هذا النسيج المثاليّ لتسببَ انحناءً أو تشوّهًا وهذه هي الجاذبية[2].
يبدو أن أول ذكرٍ لموجات الجاذبية كان في مقالٍ كتبهُ هنري بوانكاريه عام ١٩٠٥م، لخّصَ فيه نظريّتهُ النسبيّة الرياضيّة مُقترحًا أن الجَاذبية تنتقلُ من خلالِ موجةٍ أطلق عليها اسم “موجة الجاذبية”[3]. تنبأ أينشتاين بعد نشره لنظريته النسبية العامة عام ١٩١٥م بموجاتٍ ثـقاليّة كنتيجةٍ لحركة المادة أو اصطدام كتلتين عظيمتين في نسيجِ الزمكان، وهذا ما حدث فعلًا، فقد وصلتنا موجاتُ الجاذبيةِ بعد قرنٍ من ذلك. وقد تبدو أكثر المصادرِ البصريّة التي تُقرّب فكرة عمل موجاتِ الجاذبية تُوهمنا بأنّها نتيجةٌ منطقيّة لمبدأ الجاذبيةِ في النسبيّةِ العامة؛ لكن هذه الموجات راوغتْ أينشتاين كثيرًا؛ فتعاملَ معها كفكرةِ الموجاتِ الكهرومغناطيسية. ففي الحالةِ الكهرومغناطيسية، ينتج الإشعاع من اهتزاز ثنائي القطب الكهربائي المكوّن من شحنتين مختلفتين إحداهما مُوجبة والأخرى سَالبة. وتذبذبات ثنائي القطبِ الكهربائي ضِمنَ حَيزٍ ما يولّد موجة كهرومغناطيسيّة؛ لكن في حالةِ الجاذبية ينهارُ القياسُ لعدم وجود الكتلة السالبة؛ ممّا أدى إلى عدولِ أينشتاين عن فكرةِ موجاتِ الجاذبية.[4]
ومع ذلك لم يكنْ أينشتاين مقتنعًا بغيابِ هذه الموجات، وظلَّ يُصارع رياضياتٍ معقّدةً لإيجادِ حلولٍ تُشبه جهود العالم ماكسويل في معادلاتِ الموجةِ الكهروديناميكيّة؛ فطرحَ أينشتاين – على غيرِ رضا تام – ثلاثةَ أنواعٍ مختلفةٍ من موجاتِ الجاذبية، وتُركت فترةً طويلةً نسبيًّا لعالمٍ في مكانتهِ متخصصٍ في الفيزياءِ النظرية ومؤسّس النسبيةِ العامة، ولعلّ سببَ انشغالِه عن موجاتِ الجاذبية يعودُ لنظريّةٍ جديدةٍ هَزّت مجتمعَ الفيزياءِ وهي ميكانيكا الكم، وانشغالهِ كذلكَ بالثابتِ الكونيِّ الذي أضَافهُ لكونهِ الساكن بعدَ بلوغِ بعضَ الفيزيائيين تحليلًا منطقيًّا بأنّ النسبيّةَ العامة تتنبأُ بكونٍ يتمدد. ومعَ ذلك فإنّ مسألةَ الموجاتِ الثّقالية طاردتْ شخصياتٍ بارزةً في مجالِ الفيزياء. ففي عام ١٩٢٢م نشرَ السِّير آرثر ادينجتون الفيزيائي والفلكيّ الذي أثبتَ النسبيّة العامّة في كسوفِ عام ١٩١٩م ورقةً علميّة أوضحَ فيها أنّ نوعينِ من موجاتِ الجاذبيةِ التي عَثرَ عليها أينشتاين تنتقلُ بسرعاتٍ مختلفةٍ في مساحاتٍ مسطحةٍ في نظامِ إحداثياتٍ تموّجي “Wavy” ولمْ تكنْ موجاتٍ في نسيجِ الزمكان. وأجرَى مُعادلاتهِ على الموجةِ الثالثةِ وأثبتَ أنّها تنتقلُ بسرعةِ الضوءِ في الاتجاهات جميعها؛ لذلك لم يستبعدْ وجُود موجات الجاذبية.[5]
وبعدَ مرورِ عشرينَ عامًا على نشرِ النسبيّةِ العامة كتبَ أينشتاين لصديقهِ الفيزيائي الشهير ماكس بورن: “توصلتُ مع مساعدي الشاب روزين إلى نتيجةٍ مثيرةٍ للاهتمامِ وهي أنَّ موجاتِ الجاذبيةِ لا وجودَ لها”. وفي الأولِ من يونيو عام ١٩٣٦م أرسلَ أينشتاين وروزين مقالةً بعنوانِ “هلْ هناكَ موجات جاذبية؟” إلى المجلةِ المرموقة Physical Review التي كان مُحرّرها في ذلك الوقتِ جون تيت الذي عرضَ بدورهِ المقالةَ على هوارد روبرتسون؛ حيثُ درسَها الأخير بعنايةِ وقدّمَ تعليقات سلبية. بعثَ جون الرسالةَ إلى أينشتاين في ٢٣ من يوليو طالبًا منه الردَّ على تعليقاتِ المراجِعِ دونَ ذكرِ اسم واضعها؛ مما أزعجَ هذا التصرّفُ أينشتاين الذي ردَّ غاضبًا في رسالته:
“عزيزي السيّد/
أرسلنا (أنا والسيد/روزين) مخطوطنا للنشر ولم نأذنْ لكَ بعرضِه على مُتخصصّينَ قبلَ طِباعَته. لا أرى أيّ داعٍ لمراجعةِ “التعليقاتِ السلبية” من خبيركَ المَجهول. بناءً على هذا الحادثِ أفضّلُ نشرَ الورقةِ في مكانٍ آخر”. أينشتاين
أزعجَ أينشتاين مراجعةُ ورقتهِ دونَ إذنهِ؛ ولكنْ لاحقًا جمعت الصداقة روبرتسون “محكّمُ ورقةِ أينشتاين” بفيزيائي شاب يُدعَى ليوبولد انفيلد الذي يَحلّ محل روزن بوصفه مساعدًا جديدًا لأينشتاين. وخلالَ أحد اللقاءات أبدى روبرتسون شكوكَه حولَ وجودِ موجاتِ الجاذبيةِ فاستعرضوا ورقةَ روزن/أينشتاين مُؤكّدينَ بعضَ الأخطاء. ونقلَ انفيلد لأينشتاين ملاحظاتهِ مع روبرتسون لكنه ذكرَ في سيرتهِ الذاتيّةِ أنَّ العبقريّ قدْ أدركَ أخطاءَ ورقتهِ العلميّة وصححها في حينِ أنّ ناثان روزين كانَ يعتقدُ دائمًا بأنَّ موجاتِ الجاذبيةِ مُجرّد بُنية رياضيّةِ بدونِ معنى ماديٍّ حقيقي.
إنَّ مشكلةَ الموجات الثقاليّة كما أدركَ أينشتاين منذُ استنتاجهِ لأوّلِ مرّةٍ في وجودها، هي أنَّ تأثيرها على المادةِ يكادُ لا يذكر، فقيمةُ ثابتِ الجاذبيةِ صغيرةٌ جدًّا؛ ممّا يجعلُ الملاحظة التجريبيّةَ المحتملة مهمةً مستحيلة. علاوةً على ذلك، ليست الأمواجِ كلها متساويةً؛ لأنَّ هذا يعتمدُ على الظاهرةِ التي تُولّدُها؛ وعلى تأثيرِ الموجةِ على المادةِ في أثناءِ انتقالها، فالأمرُ يشبهُ ما يحدث مع موجاتِ الماءِ، فكلَّما كانَ الحجرُ الذي تقذفهُ في بحيرةٍ راكدةٍ كبيرًا كَبُرت الموجات المتكونة. لكنّ هذا المثال مجرّدُ صورةٍ تبسيطيّةٍ للواقعِ، فموجاتُ الجاذبيةِ مختلفةٌ تمامًا عنْ أيِّ نوعٍ من الموجاتِ المعروفةِ كالصوتيّةِ أو الكهرومغناطيسيّة، وهذا هو محورُ النّقاشِ التالي في المجتمعِ العلمي.
مؤتمرُ تشابل هيل
بحلولِ منتصفِ القرنِ العشرينِ كانتْ مَوجاتُ الجاذبيةِ حقيقةً علميّةً؛ لكنَّ السُّؤال كانَ: “هل كَانت هذهِ الموجاتُ تحملُ الطاقةَ أمْ لا؟”. وبعدَ التَّطوّرِ الكبيرِ الذي شَهدتْه النَّظرية النّسبية وما نتجَ عنْ هذا الحقلِ المعرفيِّ من مفاهيمَ جديدةٍ في بنيةِ الزمكانِ وتَمدد الكونِ، ومن جهةٍ أُخرى تَطوّر ميكانيكا الكم والرؤيّة المستقبليةِ لإمكانياتِ توحيدها مع الجاذبية، عُقِد مؤتمر تشابل هيل عام ١٩٥٧م لتناولِ مجموعةٍ من المواضيعِ العلميّةِ المختلفة والتركيز على الجاذبيةِ وموجاتِها. التقى في المؤتمرِ حوالي ٤٠ متحدثًا من إحدى عشرَة دولةَ لمدةِ ستةِ أيامٍ في مقرِّ جامعةِ نورث كارولينا في تشابل هيل. كانَ أغلبُ المشاركينِ من الجيلِ الجديدِ منَ الفيزيائيين، ومنْ بين الحضورِ الفيزيائيّ الشاب ريتشارد فاينمان الذي تميّزَ بما يتميّزُ به أينشتاين وشرودنجر من تفكيرٍ ذهنيٍّ للتجاربِ الصُّوريّة. فطرحَ في المؤتمرِ حُجَّةً تُعرف باسم “حُجَّة الخرزاتِ اللّزجة”، يمكنُ وصفها بإيجازٍ على النّحو الآتي: إذا افترضْنا وجودَ حلقتينِ (لزجتين) غيرَ مثبتتينِ على قضيب (كما في الشّكلِ أدْناه، الجزءُ العلوي). إذا كانت هناك موجات جاذبية؛ فإنها ستولّدُ قوى مدٍّ وجزرٍ والتي بدورها ستنتجُ ضغطًا طوليًّا على القضيبِ، ولأنَّ حلقاتِ الخرزِ حُرَّةُ الحركةِ ستستجيبُ لهذهِ القوى وتنزلقُ إلى أطرافِ القضيبِ مبتعدةً عن الوسط (الجزءُ السفليُّ منَ الشّكلِ أدناه). وستسخِّنُ هذه الحركةُ الخرزتينِ والقضيَبَ كذلكَ نتيجة الاحتكاك، يشيرُ هذا التسخينُ إلى أنَّ الطاقةَ نُقِلت إلى القضيبِ بوساطةِ موجةِ الجاذبية؛ ممَّا يَدلُّ على أنَّ موجاتِ الجاذبيةِ تَحمل الطَّاقة.

أقنعَت النقاشاتُ في مؤتمرِ تشابل هيل حولَ آثارِ موجات الجاذبيّةِ مجُموعةً كبيرةً منَ الحاضِرين بمنْ فيهم هيرمان بوندي الذي كانَ منَ المشكّكينَ في وُجُودِها بالأصل[6]. وبينما انشغلَ الفيزيائيون النظريون في السنواتِ اللاحقةِ بالنقاشِ حولَ طبيعةِ هذه الموجات، ذهبَ فيزيائيّ تطبيقيّ كانَ منْ بينِ الحضورٍ في المؤتمرِ إلى أبعد من ذلك. جوزيف ويبر الذي فتنَتهُ فكرةُ موجاتِ الجاذبيّة فقرّرَ تصميمَ جهازٍ يمكنُه الكشف عنها. وبنى أفكارَه بشكلٍ أساسٍ عنْ طريقِ قياسِ الاهتزازاتِ التي تحدثُ في نظامٍ ميكانيكي. وصمَّمَ لهذا الغرض أسطوانةً معدنيةً كنوعٍ منَ الهوائيّاتِ لرصدِ الاهتزازاتِ الرنّانةِ القادمةِ مع موجاتِ الجاذبية، ويمكنُ تشبيه فكرةِ ويبر بأنَّ أسطوانتَه المعدنيّةَ كالأذنِ البشريّةِ التي تلتقطُ موجات الصوتِ الصَّادرةَ منْ جرسٍ طُرِق بمطرقة، وهذا هوَ القصدُ بالنظامِ الميكانيكيّ على اعتبارِ أن موجاتِ الجاذبيةِ يمكنُ أنَ تعملَ كالموجاتِ الصوتيّة. وطوّرَ ويبر وفريقُ عملهِ جهازَهُ عدّةَ مرّاتٍ خلالَ عشرِ سنواتٍ؛ لكن اختلفت المصداقيّةُ على نتائجِ ويبر في ذلك الوقت. ويمكنُ القولُ إن موجاتِ الجاذبيّةِ لا يمكنُ أن تعملَ كالموجاتِ الصوتيّةِ لأنَّ الأخيرةَ تضغطُ وتُخلخلُ جزيئاتِ الهواءِ، في حين أنَّ موجاتِ الجاذبيةِ تُمدِّدُ الزمكان وتضغطُهُ.

مشروع LIGO
لا يُعرفُ على وجهِ التّحديدِ منْ هو صاحبُ فكرةِ رصدِ موجاتِ الجاذبيّةِ باستخدامِ خصائصِ الضوء؛ لكن الفكرةُ واردةٌ جدًّا لأيّ فيزيائي خاصةً بعدَ التطوّرِ الكبيرِ في علمِ البصريّاتِ وتقنياتِ الليزر، أمّا التحدي الكبير فكانَ كيفَ يمكنُ إنشاءُ مرصد يتجاوزُ الضجيجَ الخارجي كلَّه، كعبورِ الشّاحناتِ على الطريق، والزلازل والاهتزازاتِ الأرضيّة الطفيفة، والاهتزازاتِ الكهروديناميكيةِ للموادِّ، والأبعدِ من ذلكَ اهتزازات الجسيماتِ الذريّة. فموجاتُ الجاذبيةِ ضعيفةٌ جدًّا لدرجةِ أنَّ تأثيرها على الموادِّ لا يتجاوزُ الجزء من ألفِ جزءٍ من قُطرِ النّواة؛ لذلكَ حتى ضوضاء العالمِ الكمّي يمكنُ أن تُخلّ بعمليةِ القيّاس.
وكالصُّدفةِ التي جمعتْ روبرتسون بانفيلد لمراجعةِ ورقةِ أينشتاين وإثباتِ موجاتِ الجاذبيّةِ تجمعُ الصدفةُ أيضًا راينر فايس بعالمِ الفيزياءِ النظري كيب ثورن الذي أقلّهُ من المطارِ لحضورِ اجتماعِ لناسا حولَ استخداماتِ أبحاثِ الفضاءِ في مجالِ النسبيّةِ وعلمِ الكونيّاتِ في صيف عام ١٩٧٥م. فقدّمَ فايس عرضًا عنْ بناءِ “مصفوفةِ التداخلِ بالليزرِ في الفضاء” لاكتشافِ موجاتِ الجاذبية. يصفُ أحدُ طلبةِ الدكتوراة -الذين حضَروا الاجتماع – العرضَ بأنّه طموحٌ وساذجٌ لمشروعِ فضاء بحلولِ عام ٢٠٣٥م.
كانتْ واشنطن حارةً وممتلئةً بالسيّاحِ، ولم يكنْ لثورن حجزٌ في الفندقِ فتشاركَ الغرفةَ مع فايس وناقشا موضوعَ البحثِ عن موجاتِ الجاذبيّة طوال ليلتهم تلك. كان فايس قدْ فُتن بفكرةِ البحثِ عن موجاتِ الجاذبيّة منذُ بدايةِ السبعينيات، وعلى العكسِ منه ثورن الذي ألّفَ كتابًا بعنوان “Gravitation” وضعَ فيه شكُوكَه حولَ إمكانيةِ رصدِها. ولم يكنْ ثورن مقتنعًا في بادئِ الأمرِ لكنَّهُ غيّرَ رأيهُ بعدَ سماعهِ لفكرةِ فايس البسيطة والعبقريّة، وهي ذاتهَا الفكرةُ التي يقومُ عليها مرصد LIGO.
LIGO هو اختصارٌ لـ Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory)) والتي تعني “مرصد موجاتِ الجاذبيةِ باستخدامِ مقياسِ تداخلِ الليزر”. تنهضُ فكرةُ عملهِ باختصار على إرسالِ شعاعِ ليزر عبر قاطعِ يقسمُ الشعاع لنصفين، أحدهما يستمرُ بشكلٍ مستقيمٍ، بينما الآخر يتعامدُ على الأوّلِ لينعكسا على مرآةٍ ثم يعودَ الشعاعان منعكسيْنِ كليًّا على كاشفٍ ضوئي؛ فإذا تطابقَ الشعاعان فهذا يعني أنه لا توجد إشارة لمرورِ موجاتِ الجاذبية؛ لكن أيّ اختلالٍ ضئيلٍ في الأطوالِ الموجيّةِ يعني عبور موجةِ جاذبيةٍ مدّدت الزمكان وضغطته، وبالتالي غيّرت تطابق شعاعِ الليزر وأخلّت بالتداخل.

تبنّى المشروع معهدُ كاليفورنيا للتكنولوجيا(Caltech) ومعهدُ ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) بتمويلٍ من مؤسسةِ العلومِ الوطنية (NSF). عانى المشروعُ في بدايته في أوائل الثمانينيات من تأخيراتٍ كثيرةٍ بسببِ نقاشاتٍ تقنيةٍ وضعفِ التمويل حتى استقرَّ تأسيسُهُ كليًّا على مؤسسةِ العلومِ الوطنيّةِ التي استبدلت عام ١٩٩٤م بمديره السابق Rochus E.Vogt – حيثُ تأخر تطوير المشروع تحت إدارته كثيرًا- الفيزيائي باري كلارك باريش، وهو عالمُ فيزياء تجريبي في فيزياءِ الطاقاتِ العالية، وله خبرة مكثفة في إدارةِ المشاريعِ الكبيرةِ في الفيزياء. ومع قيادته الإداريةِ الجديدة تلقّى المشروعُ دعمًا ماليًّا جيدًا. وفي أواخرِ عام ١٩٩٤م وبداية ١٩٩٥م بُني مرصدان أحدهما في هانفورد في ولاية واشنطن والآخر في ليفينغستون، لويزيانا ويبعدان عن بعضهما ١٩٠٠كم، اكتملَ المرصدان بنهاية عام ١٩٩٧م. عكست اقتراحاتُ باريش رؤيتَهُ الثاقبةَ في الإدارةِ العلميّة عن طريقِ تمويلِ مختبرين؛ أحدهما مسؤول عن التفاصيلِ التقنيةِ والهندسيّةِ للمراصدِ، والآخر مسؤول عن البحثِ العلمي برئاسة فايس. استهدفت فلسفةُ باريش تطوير أجزاءِ المرصدِ التقنية باستمرار، مثل: جودة المرايا، وتركيز العدساتِ، والبحث عن موادٍ جديدةٍ ذات تكلفةٍ أقل وقدرةٍ أكبر، وكذلك فتح المجالِ لمؤسساتٍ علميةٍ أخرى ربحيةٍ لتستفيدَ من البحثِ العلمي وفي الوقتِ ذاتِه تموّلُ المشروع.
اشتغل المشروعُ لأولِ مرةٍ عام ٢٠٠٢م، وحتى عام ٢٠١٠م لم تُرصَدْ موجاتُ الجاذبية؛ لذلك أْغلقَ المشروعُ عام ٢٠١٠م لمدةِ خمسِ سنوات من أجلِ ترقيته. وحقيقةً لا يمكنُ وصفُ الجهودِ الضخمة التي قامَ بها فريقٌ كبيرٌ من الباحثين والمهندسين والمبرمجين الذين عملوا من أجلِ هدفٍ واحدٍ وهو رفعُ حساسيّة الأجهزةِ ودقتها؛ لضمانِ تقليلِ الضوضاءِ الأرضيةِ والماديةِ من أجلِ رسالةٍ كونية.

رقصةُ التانغو

على بُعدِ مليار و٣٠٠ مليون سنةٍ ضوئيةٍ حينمَا لمْ تكنْ هناكَ حياةٌ على الأرضِ وفي زاويّةٍ منَ الكونِ لمْ تنتبِهْ لوجودِنَا، التقى في مسرحِ الكونِ ثقبانِ أسودانِ؛ كتلةُ أحدِهما أكبرُ منْ ٣٦ كتلةً شمسيةً، وكتلةُ الآخرِ أكبرُ منْ ٢٩ كتلةً شمسيّةً، وكراقصَيْ تانغو التفَّا حولَ بعضهِمَا بسرعةٍ هائلةٍ في رقصةٍ كونيةٍ ساحرةٍ حتى اندمَجَا معًا ليكوِّنا ثقبًا أسودَ بكتلةٍ أكبرَ من ٦٢ كتلة شمسية، وما تبقَّىَ منْ كتلتيهِمَا تركّزَ في ثلاثِ كتلٍ شمسيّةٍ شكَّلتْ موجاتِ الجاذبيةِ، وانتقلتْ في الزمكانِ لتَعبُرَ منْ خِلالِنا ونعْبُرَ منْ خِلالِها في الرابعِ عشر من سبتمبر لعام ٢٠١٥م. لقدْ أثَّرتْ موجاتُ الجاذبيةِ في ذراتي وذراتِك وذراتِ كلِّ عنصرٍ في الكونِ فتمدَّدتْ وانضغطتْ بمقدارِ )أي أنَّنا سنضعُ على يمينِ الفاصلةِ العشريّةِ عشرينَ صفرًا ثمَّ نضعُ الواحد)، ويكاد هذا المقدار يكون لانهائيًّا من الصِّغرِ. وهذا الاهتزازُ البسيطُ الذي تُحدثهُ موجاتُ الجاذبيّةِ هو ما قامتْ عليه فكرة LIGO. وبسبب المفهوم المثالي لقياسِ اضطرابِ شعاعِ ِاللّيزرِ منْ خلالِ واحدةٍ منْ أجملِ وأروعِ خصائصِ الضوءِ “خصِّيصة التَدَاخُل”، يمكنُ الاتفاقُ بأنَّ مشروع LIGO تأسّسَ على فكرةٍ مجنونةٍ وعبقريةٍ وأقرب للخيال.


“كانت أجمل من أن تكون حقيقيّة”
تعود هذهِ العبارةُ لكيب ثورن الذي وصفَ شُعورَه بالسعادةِ عندَ سماعِهِ لموجاتِ الجاذبيّةِ ورؤيتهِ لإشارتها التي استمرتْ لأقلِّ من ثانية. التقطَ المرصدانِ في هانفورد وفي لويزيانا الموجةَ نفسَها؛ لكنَّ الفريقَ العلمي استغرقَ وقتًا طويلًا لتحليلِ الموجةِ؛ لأنَّ في مرصدِ LIGO يوجدُ فريقٌ سريٌّ متخصص لإرسالِ إشاراتٍ أو نبضاتٍ زائفةٍ من أجلِ اختبارِ العاملينَ في المختبرِ، وبعدَ التأكيدِ منَ الإدارةِ بعدم إرسالِ إشاراتٍ اختباريّة. لم يُعلن المرصد عن الخبرِ واحتفظَ بسريّةٍ تامةٍ لمحاولةِ التأكدِ من رصدِ موجاتٍ جاذبيةٍ أخرى، وقد رُصِدت الموجة الثانية فعلًا في شهرِ ديسمبر من العام ٢٠١٥م. فتقدّمَ LIGO في الحادي عشر من فبراير عام ٢٠١٦م للإعلانِ عن هذا الإنجازِ العظيمِ والذي تبعتهُ بهجةٌ كبيرةٌ في المجتمعِ العلميّ وتغطيةٌ إعلاميّةٌ واسعة. وتكريمًا لكلٍّ منْ راينر فايس صاحب فكرةِ رصدِ موجاتِ الجاذبيةِ بمقياسِ اللّيزرِ وباري باريش مدير مشروعِ لايغو وعالم الفيزياءِ النظريّةِ كيب ثورن الذي له إسهاماتٌ كبيرةٌ في الحساباتِ العلميّةِ لمعادلاتِ موجاتِ الجاذبيةِ والإسهاماتِ التقنيّةِ للمرصدِ؛ فقد مُنِحوا جميعُهم جائزةَ نوبل في الفيزياءِ عام ٢٠١٧م.

مستقبل موجاتِ الجاذبيّة
نعم .. بالطبعِ تسَاءلت عن فكرةِ بناءِ مرصدٍ مثل LIGO ولكن ليسَ على الأرضِ بلْ في الفضاءِ، وهي ذاتها الفكرة التي طرحَها راينر فايس عام ١٩٧٥م ويرغب في تحقيقها. وقدْ تبنتْ وكالةُ الفضاءِ الأوروبيّة (ESA) هذا المشروع الذي يحمل اسم LISA اختصارًا لـ (Laser Interferometer Space Antenna)؛ حيثُ تنهضُ الفكرةُ على إرسالِ ثلاثةِ أقمارٍ صناعيةٍ على شكلِ مثلّثٍ متساوي الأضلاعِ؛ بحيثُ يرسلُ كلُّ قمرٍ – مزوّدٍ بمرايا وكواشفَ للضوء- شعاعَ ليزر ويستقبلهُ في الوقت ذاته. وستُوازَنُ مدارُ الأقمارِ الثلاثةِ مع مدارِ الأرض. وسببُ اختيارِ الفضاء هو التخلّصُ من الضوضاء ِالأرضيّةِ جميعِها الناتجةِ من الظواهرِ الطبيعيّةِ كالزلازلِ والبراكينِ أو الاهتزازاتِ الناتجةِ من عملياتِ البناء. بالإضافةِ إلى أنّ رصدَ موجاتِ جاذبيةٍ كبيرةٍ فيزيائيًّا يحتاجُ إلى مسافاتٍ مستقيمةٍ طويلةٍ لأذرعِ الكواشفِ، ولا يمكن أن يحدث هذا الهدف على الأرضِ، وبالفعلِ تُقدَّر أطوالُ الأذرعِ في مرصد LISA 2.5 مليون كم. كما يُتوقَّع الانتهاءُ من المشروعِ بحلولِ عام ٢٠٣٤م.

رُسُـــلُ الكونِ
لعلَّ السُّؤال الذي طُرحَ بكثرةٍ وما زال هو: ما الذي ستـقدّمه موجات الجاذبية للبشريّة؟
أولًا- رصدُ موجاتِ الجاذبيّة هو آخرُ دليلٍ تجريبيّ على إحدى نتائجِ النسبيّةِ العامّة، فاليوم تقفُ النسبيةُ العامةُ في المجتمعِ العلمي على أسسٍ قويّةٍ ومثبّتةٍ من الموثوقيّةِ العلميّةِ بتنبؤاتِها الخمسة:
١- أُثبِتَ انحرافُ الضَّوءِ وتشوّهُ الزمكانِ في كسوفِ عام ١٩١٩م.
٢- أُثبِتَ تمددُ الكونِ في عامِ ١٩٢٩م.
٣- أُثبِتَت الثقوبُ السوداءِ في عام ١٩٧٠م.
٤- رُصِد خاتم أينشتاين (عدسة الجاذبية) عام ١٩٩٨م.
٥- رُصِدت موجاتُ الجاذبيّةِ عام ٢٠١٥م.
ثانيًا- بعدَ مُرورِ أربع سنواتٍ من رصدِنا لأولِ موجةِ جاذبية رُصِدت ٢٣ موجة جاذبيّة مؤكدة، ٢٠ منها نتجتْ من اندماجِ الثقوبِ السوداءِ واثنتان من اندماجِ نجومٍ نيوترونية، وواحدة كانت من دورانِ ثقبٍ أسودَ ونجمٍ نيوتروني، وهذه الظاهرة الأخيرة حديثة كليًّا في فيزياءِ الكونيات. وتصف العالمة مافالفلا من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا اندهاشها بالتحسينات الهائلة للأدوات في المرصدِ خلال عاميّ ٢٠١٨-٢٠١٩م بقولها: “لقدِ انفجرَ حقلُ موجاتِ الجاذبية”[7]. بحيث يُتوقع بحلولِ عام ٢٠٢٣م أن تُرصَدَ موجاتٌ ثقاليّة كل ساعة. وهذا ما سيأخذُ الفيزياءَ النظريّةَ وعلمَ الكونيّاتِ لطريقِ الملاحظةِ والرصدِ والنسبيّةِ العددية.
ثالثًا- التطوّرُ الذي يشهدهُ مجالُ الحوسبةِ الكميّةِ سيساعدُ على دراسةِ وتحليلِ الكثيرِ من المعادلاتِ المعقدةِ عن مواضعِ الثقوبِ السوداءِ وكتلتها وسرعتها في تطبيقها على معادلاتِ النسبيّةِ العامة، وهذه علاقةٌ منفعيّةٌ تبادليّة بين موجاتِ الجاذبيةِ وعملياتِ الرصدِ الدقيقِ والتطبيقاتِ التكنولوجيّة.
رابعًا- أكبرُ الألغازِ التي تواجه علمَ الكونيّاتِ هو كيفيّةُ تكوّنِ الثقوبِ السوداءِ الهائلةِ في وسطِ المجرّاتِ، وسيؤدي حلُ هذا اللغزِ بدورهِ لفَهمنا كيفَ تكوّنت المجرّات، كما أنَّ قُـدرتَنا على رصدِ موجةِ جاذبية سافرتْ مليار و٣٠٠ مليون سنةٍ ضوئية، وهذا يعني أنّنا اقتربنا من رصدِ أهمِّ موجةٍ جاذبيّة في الكونِ وأكبرها، وهي الموجةُ التي حدثتْ بعدَ الانفجارِ الكبيرِ مباشرةً.
خامسًا- يُخفّف هذا الإنجازُ العظيمُ للبشريّةِ من وطأةِ الشُّكوكِ في سوءِ استخدامِ الأموالِ التي تُقدّم للمُؤسَّساتِ العِلميّةِ، ويبني ثقةً أكبر لتمويلهَا ودعمها، وهذا بالفعلِ ما اتخذتْه إدارةُ مرصدِ لايغو بتطويرِ معاملِ حساسيّةِ الأجهزةِ ورفعِها من ضعفينِ إلى أربعةِ أو ستةِ أضعاف. ومن جهةٍ أخرى تنافستِ الدولُ لبناءِ مراصدِها، فاليومُ هناكَ خمسةُ مراصدَ جديدةٍ في أماكنَ مختلفةٍ في العالم، وهي: فرنسا، إيطاليا، هولندا، اليابان، الهند. والفائدةُ من تعدِّد المراصدِ واختلافِ أماكنِها يمنحُنا دقّـةً أكبرَ في تحديدِ مصادرِ موجاتِ الجاذبيةِ والكتلِ المسببّة لها.
سادسًا- موجاتُ الجاذبيةِ هي رسلُ الكونِ لفكِّ شفراتِ كثيرةٍ من الظواهرِ الكونيّةِ، مثل: الثُّقوب السوداء، الأقزام البيضاء، السوبرنوفا. وكذلك تختبرُ نظريات في حقلِ علمِ الكونيّاتِ، مثل: الطّاقة المظلمة، المادة المظلمة، الجاذبية الكميّة، والكثير من السّحاباتِ الداكنةِ في سماءِ معرفتِنا المتواضعةِ عن الكونِ، بلْ ومنَ الممكنِ أنْ تكونَ موجاتُ الجاذبيّةِ طريقَنا لاكتشافِ ظواهرَ جديدةٍ لمْ نعلمْ عن وجودِها من قبل كسفينةِ البحّارِ الرُّوسي أناتولي.
[1] هذه قصة حقيقيّة تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا وعن طريق هذه المواقع استطاع مدرس أمريكي التقط الزجاجة من معرفة صاحب الرسالة.
[2] أنصح بالاطلاع على مقالي: نظريّتا النسبية الخاصة والعامة : https://mana.net/archives/1758
[3] في 5 يوليو 1905، نشر كومبتس رندوس من الأكاديمية الفرنسية للعلوم مقالًا كتبه هنري بوانكاريه بعنوان
“Sur la dynamique d ‘l’électron”
[4] نعلمُ عن ذلك من رسالةٍ كتبَها إلى زميلهِ كارل شوارزشيلد في التاسعِ عشر من فبراير عام ١٩١٦م أكّدَ فيها عدم وجود موجات الجاذبية.
[5] ورقة العالم آرثر ادنجتون في موجات الجاذبية:
https://royalsocietypublishing.org/doi/pdf/10.1098/rspa.1922.0085
[6] Hermann Bondi : رياضي وعالم كونيات نمساوي من المسهمين في تطوير النظرية النسبية العامة.
[7] Nergis Mavalvala : فيزيائية فلكيّة تعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ولها دور كبير مع الفريق الذي رصد أول موجة جاذبية.
REFERENCES:
- A Brief history of gravitational waves. Jorge Cota; Salvador Galindo;Georg Smoot. September 2016.
- The Gravitational-Wave “Reveolution” is underway. September 2019, https://www.scientificamerican.com/article/the-gravitational-wave-revolution-is-underway/
- https://www.ligo.caltech.edu/page/press-release-gw170104
- Gravitational Waves: A New Era of Astronomy Begins; 22/06/2016, https://www.youtube.com/watch?v=xj6vV3T4ok8
- The Future of Gravitational Wave Astronomy; 9/08/2019, https://www.youtube.com/watch?v=jKrOy4mC4wg
- The Future of Gravitational Wave Astronomy; 25/06/2017, https://www.youtube.com/watch?v=eEaaGTV0V2Y