“سؤال المعنى” من الفلسفة الى الأنثروبولوجيا – د. علاء جواد كاظم
البشر هم الكائنات الوحيدة التي تعي أن وجودها محدودٌ ومنتهٍ، لهذا تساءلت عن المعنى. وهذا السؤال الذي انتقل من الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا يمكن أن يفتح آفاقًا واسعة للمعرفة التي تفكر في فهم الإنسان المعاصر والكشف عن طبيعته وموقفه من العالم.

إن التفكير في وجودنا في العالم هو جزء من طريقتنا في الوجود به، كذلك إيضاح معنى الوجود في ذاته يتضمن معانٍ أخرى ينبغي إدراكها وتحديدها ([1])، وبناءً على ذلك يفترض بنا أن نخمن مقدمًا وجود علاقة من نوعٍ ما بين البحث عن المعنى وفعالية الإدراك لدى البشر، فتضخم الإدراك يكشف لهم حقيقة وجودهم العاري في هذا العالم، وينسف معنى كل شيء، ويدفع بهم لإعادة تشكيل أسئلة المعنى من جديد أو الهروب ..!
ذهب فتغنشتاين إلى اعتبار أن العالم ليس المجموع الكلي للأشياء بل للحقائق (الوقائع). وفي الجو الفكري الراهن فإن المرء ليشعر أن العالم ليس سوى المجموع الكلي للمعاني. كل شيء هو معنى والمعنى هو كل شيء. وأي شيء يكون إنما يكون عبر المعنى الذي يعطى له ([2]). ما يجعل من عملية فهم الإنسان وعوالمه المختلفة تبدو مهمة مستحيلة مالم يتحقق على الأقل فهمًا أوليًا أو نهائيًا لقضايا (المعنى).
إن توجه الفعل الإنساني باتجاه المعنى في الحياة هو ليس احتمالاً قائمًا بالنسبة لنا نحن البشر فحسب، بل هو جزء أساسي وجوهري من وجودنا ومما نحن عليه. وفي تصوري في هذا المقال أن هذا النوع من “البحث عن المعنى” هو فعلٌ أصيل، ويمكن أن يفتح آفاقًا واسعة للمعرفة التي تفكر في فهم الإنسان المعاصر والكشف عن طبيعته وموقفه من العالم، فالبشر همُ تلك المخلوقات التي ترى أن الوجود ككل وليس في مناحٍ معينة منه يعاني من (مشكلة معنى)، ولذا يتعاطى- هؤلاء البشر- مع وضعهم الخاص على أنه سؤال أو ورطة أو مصدر للقلق أو منبع للأمل أو عبء أو هبة أو خوف أو سخف وليس هذا في أقله لأنهم كائنات مدركة؛ بل لأنهم الكائنات الوحيدة التي تحيا أبدًا في ظل الموت ([3]).
البشر هم الكائنات الوحيدة التي تعي أن وجودها محدودٌ ومنتهٍ. ( ويجب أن نلاحظ هنا أن مقولة هيدجر الأخيرة هي بالأصل مقولة نيتشويه) وهذا مصدر الألم: تنجم “إشكالية المعنى” في الفلسفة الألمانية وبالتحديد عند فريدريك نيتشه، من أن البشر مدركين لوجودهم الفاني، وهم مدركين هذه الحقيقة؛ لأنهم يمتلكون اللغة ، ولأن قدرتهم على الترميز تمنحهم قدرة من نوع خاص على تشييئ وجودهم الذاتي، وبعبارة أخرى: إن اللغة والرموز تمكننا ليس من التحكم بأنفسنا فحسب، وإنما من فهم وضعنا ككل، إننا نعيش بالإشارات والرموز التي تجلب معها المقدرة على التجريد، بهذا التجريد أصبح بوسعنا أن نفصل أنفسنا عن سياقاتنا، ونحررها من سجن حواسنا ونتأمل الشرط والظرف الإنسانيين كما هما .
بعد نيتشه ومنه ربما وصلت إشكاليه (المعنى) والأفكار الكبرى عنه الى الفلسفة الفرنسية، وتحديداً الى (سارتر: الذي تعمق بدراسة العقل الألماني) في تأكيده المفرط على أن حالة القلق الأنطولوجي الذي يصاحب الوجود البشري ويرتهن إليه، يتشكل من (الأنا) الذي بواسطته تأتي المعاني إلى الأشياء، فيقول: ” أجد نفسي في عالم ذي معنى يعكس عليّ معانٍ لم أضعها”([4]). يعتبر سارتر “القلق الوجودي” الذي ينبثق عن فوضى المعاني سمة تميز الشرط الإنساني، إنه نوع من ذلك الإحساس بأن واحدنا مخلوق عديم الجدوى وفائض. هذه الفكرة تتماهى مع المشاعر التي تخبرنا بين الفينة والأخرى أن الوجود الإنساني هو وجودٌ طارئٌ يفتقر إلى أساس أو هدف أو توجه أو ضرورة أو (معنى) في التعبير الأخير.
هكذا كانت الأمور تظهر واضحة بالنسبة للفلسفة الألمانية والفرنسية أيضًا، وفي تصوري أن مصدرهما واحد هو الفيلسوف العظيم إيمانويل كانط، الذي كتب قبل 250 عام سنة (1770): العالم ليس شيئًا حقيقيًا أو موضوعيًا، بل هو شيء ذاتي ومثالي، وإن العقل موجه إلى التنسيق بين مجموع ما يأتي من الخارج عن طريق الحواس، أو لنقبل إذًا بفكرته: إن إدراكنا (مصفاة) للحقيقة وإن رؤيتنا هي في أحسن حالاتها مشوهة”([5]). الإدراك هنا يعني التصفية، والإدراك على حد تعبير هوسرل هو إعطاء دلالة للأشياء، إعطاءها معنى، شكلًا خاصًا. والحق أقول: يتيح لنا هذا الأمر أن نقتفي أثر كانط في أعمال هوسرل في استنتاجه التالي: ” لن يكون للعالم أي معنى بدون (هذا التشكيل) إنه اللقاء بين التفكير والعالم الذي يعطي معاني للأشياء، الإنسان منفتح على العالم وضمن هذه العلاقة يتشكّل المعنى “([6]).
بعد اللقاء العاصف بين سارتر والأنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس انتقلت عدوى أسئلة المعنى إلى الأنثروبولوجيا، حتى كتب الأنثروبولوجي الأميركي كيلفورد غيرتر – وهو بالطبع من أبرز المعجبين بشتراوس- قائلًا: إن سؤال المعنى هو بالضبط السؤال الانثروبولوجي العميق الذي يمكن أن يفتح آفاقا جديدة من المعرفة الأنثروبولوجية لفهم الإنسان المعاصر: وهو ما تمثل بشكل دقيق في تأويل غيرتز للثقافة.
ماذا يفعل الإنسان ذو الحساسية العالية ([7]) مع المجتمع حينما تتغير التقاليد؟ ماذا يفعل حينما تبدأ قوة التدين بالضعف وتتزعزع القناعات التقليدية، وتفقد الإجابات الميتافيزيقية الكبرى قدرتها على الإقناع والتوجيه والتأثير؟ ماذا يفعل ذلك الإنسان؟
دعنا نطلّع على الاجابة التي قدمها لنا غيرتز في تأويله الأنثروبولوجي للثقافة:
يفعل كل شيء، قد يفقد حساسيته تلك، أو يوجهها إلى غليان أيديولوجي، أو يتبنى معتقدًا مستوردًا، أو يتقوقع على نفسه، بل ربما يتعلق بشدة أقوى بالتقاليد البالية، محاولًا أن يعيد صياغة تلك التقاليد صياغة أكثر فعالية، أو يقسم نفسه إلى نصفين نصف روحاني يعيش في الماضي ونصف مادي يعيش في الحاضر أو يعبر عن تدينه في شكل نشاطات علمانية ([8]).
ولأن هذه الإجابات (افتراضية) وذات صيغة عامة، فهي ليست مفيدة لنا. الشيء الأساس الذي يجب أن نفكر في تحقيقه هو معرفة الوسائل والعمليات الاجتماعية والثقافية التي أدت الى اختيارٍ ما بعينه. وفي الغالب نتوجه، محاولين الإجابة على مثل هذه الأسئلة الكبرى إلى العالم العياني والخصوصي. ويجد الأنثروبولوجي نفسه – على العكس من الفيلسوف الذي انشغل في تحليل ذلك النوع من الأسئلة بدلًا من الإجابة عليها ([9]) – متجهًا في محاولته للإجابة على مثل هذه الأسئلة الكبرى إلى تفكيك أو ربما تأويل الأنساق الثقافية في علاقتها مع التفاصيل الصغيرة للذهن البشري بحثًا عن المعنى، انطلاقاً من ثلاثة مبادئ رئيسة:
المبدأ الأول : يبدأ الرصد الأنثروبولوجي للمعنى بافتراض أن كل أفعال البشر وأفكارهم مهما بلغ حجم بساطتها أو تعقيدها متجهة بقوة نحوه هدفاً أساسيًا([10])، لكن هذا ليس أبديًا أو دائمًا، فالبشر كائنات تنشد المعنى عندما تقف عاريةً أمام الفوضى العارمة والعناء، بحثًا عن المغزى الذي يتلبد وراء كل هذا التهاوي لكل شيء في أذهانهم عن الواقع، ولا يكفي أن يتهاوى الواقع أمامهم بلا تمثل عقلي له، فتمدنا الأنثروبولوجيا بالقدرة على فهم (المعاني) والطرق التي تؤثر بها على أفعال البشر ومقدراتهم، ولنقل إن واحدة من مهامنا الأساسية هي أن نفسر لأنفسنا وللأخرين: كيف يبني البشر رؤيتهم للعالم من خلال تلك المعاني، أو كيف توظف تلك المعاني في توجيه رؤيتهم للعالم، وتأويلها لنا في البنى الوظيفية ونظام العلاقات التي تستند إليها المعاني، لكن يترتب علينا أن نتعامل بحذرٍ شديد لنطال تلك الإمكانية البشرية على إنتاج المعنى وتوظيفه وتوزيعه وتقديسه؛ من هنا يترتب على علماء الإنسان تعلم قراءة المعاني المَخفِيةَ واستخراجها، كما يترتب علينا دائماً أن ننظر إلى ما هو تحت السطح، فالفرد ربما يغير الطريقة التي حدد بها هدفه تماماً مثلما يغير أحد المظاهر الخارجية لهدفه المعلن، ولهذا علينا فحص الوعي الكامن لهذا الفرد – اللاواعي – وما يحاول إخفاءه ([11]) .
المبدأ الثاني: إن الوصول إلى معنىً ما من شأنه أن يسهم في إعادة بناء مفهوم الإنسان، ومع أنه ليس بالمهمة السهلة أبدًا، لكن العلوم الإنسانية تتحمل تنفيذ حاجتها إلى تفكيك هذا المفهوم، ولا يمكن أن تنجح في مسعاها هذا ما لم يقع على المعنى بوصفه العنصر الأساس في تشكيل الماهية والوجود الإنساني اللذان تلتف حولهما أغلب العناصر المُشكلة للكُلية البشرية. ولعلنا نعلم أن موضوع المعنى قد أعطى تلك العلوم ميزةً واستقلالًا عن العلوم الطبيعية.
المبدأ الثالث: المحاولات الأنثروبولوجية سواء تلك الرامية للكشف عن المعنى الكامن خلف أفعال وأقوال الأشخاص الذين نتابعهم ونرصد خطابهم الاجتماعي- على حد تعبير غيرتز- أو تلك التي تحاول بناء نظام لتحليل نمط الخطابات البشرية التي تخلد المعنى، وتبرز في إطارها البحثي المميزات الكامنة في هذه البنى التخيلية والرمزية، تؤكد لنا القوة العلمية وصلابة الملاحظات التي قدمها شتراوس والتي ترى أن خطابات البشر برمتها تُعرف بوصفها ترميمًا أو ترقيعًا من أجل بناء معنىً جديد ([12]).
لكن هذه المبادئ الثلاثة لا يمكن تحقيقها أنثروبولوجيًا إلا من خلال مهماتٍ ثلاثة أساسية:
المهمة الأولى: مراقبة أو رصد أنظمة المعنى (Meaning System) بوصفها فعاليات ذهنية تتداخل متعالقةً في صميم البنى الثقافية وآليات عملها في السياقات الاجتماعية لمجتمعٍ ما.
المهمة الثانية: اقتراح تحليل نقدي لأنماط التعبير الثقافي في السياق الذي من شأنه أن يمدها بمعناها النهائي، وذلك من خلال فهم طبيعة البعد الرمزي في حياة انسان تلك المجتمعات، وتحولات المعنى، وتحديات بقائه وفقًا الى طبيعة علاقته بالمجموعات الإنسانية التي ينتمي إليها في مجتمع ما، والتفاعلات بين ما هو محلي يمكن معاينته حقلياً وبشكل تجريبي وما هو شامل وعالمي.
– المهمة الثالثة: التفكير في الديناميات الثقافية التي تعتري المجتمعات المختلفة في بحثها عن الدلالات وقابلية التفسير. مع التأكيد على ظاهرة تآكل الثقافات التقاليدية في تلك المجتمعات وأثرها في تشتت أنظمة المعاني السائدة.
المراجع:
[1] – سارتر، جان بول : الوجود والعدم ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ، ( بيروت- دار الآداب )، 1966، ص 41– –
[2] – فتجنشتين، لودفيج: بحوث فلسفية، ت: د. عزمي إسلام، (الكويت)، 1990 ، ص 42
[3] – هيدجر ، مارتن : الكينونة والزمان ، ترجمة د. فتحي المسكيني ، ( بيروت- دار الكتاب الجديد المتحدة ) ، 2012.
[4] – سارتر، جان بول: الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، (بيروت- دار الاداب )، 1966، ص808
[5] – كانط، عمانويل: نقد العقل المحض، ص788– –
[6] – ادموند هوسرل، ينظر في غراندان، جان: المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة عمر مهيبل، (الجزائر –منشورات الاختلاف)، 2007 ، ص66-72.
[7] – يتفق الفلاسفة بشكل عام تقريبا (مع كانط) على ان هنالك مصدرين اساسيين للمعرفة: هما 1- الحساسية و2- الفهم، او التجربة وقدرتنا على التفكير في هذه التجربة ، فاذا كنا عن طريق الحساسية ، وهي قابليتنا للتأثر بموضوعات المعرفة نتلقى مادة المعرفة ، فاننا عن طريق الفهم الذي يمثل قدرتنا على التفكير في المعطى نقدم صورة للمعرفة . والحقيقة اننا نميل الى اعتبار هذين العنصرين الابستمولوجيين في بنية المعرفة وتشكيلها في الذهنية البشرية هما الاسس العقلية للمعنى.
[8] – غيرتز، كيلفورد : الاسلام من وجهة نظر الاناسة ، ت- ابو بكر احمد باقادر ( بيروت – دار المنتخب) ، 1993، ص16.
[9] – مهمة الفيلسوف مثلما رآها فتغنشتاين ليست حل هذه الاسئلة بقدر ما هي تحليلها وتبيان أنها تنتج من خلط لعبة اللغة. وهو الشيء الذي دفع بالفيلسوف إيغلتون أن يقول في كتابه ( معنى الحياة )ً : تتملك الفلاسفة عادة مثيرة للحنق من تحليل الأسئلة بدلًا عن الاجابة عليها .
[10] – يقول ماسلو: إن محاولات الانسان لفهم الحياة من حوله، وللوصول الى المعنى تبدأ في اللحظة التي يلبي فيها حاجاته البيولوجية والذاتية متمثلة بالشعور بالأمان.
[11] – آدلر ، الفريد : معنى الحياة ، ترجمة عادل نجيب ،( القاهرة- المركز القومي للترجمة ) ، ط/ 2، 2009، ص90.
[12]– أركون، محمد: نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة: هاشم صالح (بيروت – دار الساقي).1997،ص 606.