ثمة لحظات يكشف فيها الواقع عن نفسه بفجاجةٍ؛ فنحن نعيش حياتنا من دون التفكير بالأشياء حولنا. ووعينا ليس وعيًا مُتأمِّلًا، وتفاعلاتنا ليست إلًّا تحقيقًا لغاية من الغايات في مجرى الحياة اليوميَّة.
وأحيانًا نستفيق للحظات على غرابة وجودنا، وينقطع مجرى الوعي اليومي. وهذا ما حدث لبطل رواية جان بول سارتر الغثيان (صدرت في عام ١٩٣٩). ففي أحد المشاهد، وعندما كان روكنتان في عربة ترام، فقد سياقَ وضعه بغتةً، وبدا له أن المباني خارج النافذة هي التي تتحرَّك لا عربة الترام. ووضع يدًا على مقعده ليُثبِّت نفسه لكنه لم يشعر بالمقعد بل شعر بكينونته، فسحب يده وحاول طمأنة نفسه بأنه جالس على مقعد. وبقت كلمة «مَقْعَد» على شفتيه لا تنطبق على الشيء، ويُفكِّر أنَّ المقعد يمكن أن يكون بطن حمار ميِّت منتفخ؛ فلقد فشلت اللغة. يقول: «إنني وسط أشياء غير قابلة للتسمية. وحيدٌ، بلا كلمات، مغلوب على أمره، تُحيط بي من تحتي وخلفي وفوقي».
انهار عالم اللغة والعادة والموجودات الإنسانية والافتراضات بالنسبة لروكنتان على حين غِرَّة، فلقد صُعِقَ بطل رواية الغثيان بحقيقة أنَّ «الكينونة كشفت عن نفسها… وكانت عجينة الأشياء». والمؤسسات البشريَّة، كاللغة، تموِّه «الحقيقي» بالتوسُّط بينها وبين الشيء. وجميع الأشياء توجد كشيء بالنسبة لنا في حياتنا اليوميَّة.
ولكن اللغة لا يُمكن لها أن تصف الوجود بحد ذاته، والأشياء التي تُكوِّن العالم، على نحو سابق للفهم البشري. وحين نتواجه للحظات مع الحقيقي كما هو، قبل التوسُّط البشري، فنحن نتواجه مع لغز. فالأشياء حين لا توجد كشيء، تصبح غريبة علينا.
ماغريت السريالي
ماغريت هو فنانٌ لا يشبهه أحد في استحضار هذا اللغز. ولوحات صاحب الألغاز هذا الذي بيده فرشاة، قد لاحقتنا واستهزأت بنا وعذبتنا منذ مطلع عشرينات القرن العشرين. يُصنَّف ماغريت رسَّامًا سرياليًّا، وأعماله في ظاهرها تشبه الأحلام وتتسبب بالحيرة. ولكن هل هذا التصنيف له ما يبرره أم أنَّ ماغريت أكثر من مجرد رسَّام أحلام؟ إذ تستحضر أعمالهُ لغزًا يُسْتَقطع بعمق من وجودنا الفعلي في العالم لا من داخل النفس.
لقد وُلِدت الحركة السريالية من تَبِعات الحرب العالمية الأولى، فالحركة الدادية العبثية التي تشكلت ردَ فعلٍ على الحرب قد أخفقت بمطلع العشرينات، وبحث أتباعها عن برنامج جديد وبنَّاء لإنعاش الثقافة الأوروبية. ولم تكن السريالية حركة فنية فحسب كالتكعيبية، بل لقد ورثت الطموحات الدادية بتغيير المجتمع.
وهدف الحركة كما صرح به زعيمها أندريه برتون « كان حل الظروف المتناقضة سابقًا بين الحلم والحقيقة في حقيقة مطلقة؛ «فوق–الحقيقة» أو «السريالية»». أما غايات هذا المشروع فكانت تحرير نفوس الجماهير من قيود الخضوع الاجتماعي الرأسمالي.
وقد وضع السرياليين أساليبًا تسمح للاوعي بالتعبير عن نفسه بالتخلِّي عن سيطرة الوعي. وهذه الأساليب تشتمل على استخدام الصدفة، والتجاور المُفاجئ، والصور الحالمة، والتنويم المغناطيسي، والتحليل النفسي.
ومن المؤكد أنَّ ماغريت كان سرياليًّا بنمرة واستمارة، وقد انخرط طوعًا في عدد من العروض السريالية. وقد كان صديقًا لأندريه برتون، زعيم جماعة السرياليين الذي لا تتزعزع قناعاته قيد أنملة. وكان منتفعًا من مُشجِّع الحركة الثري إدوارد جيمس، ونزيلًا عنده أحيانًا.
ولكن التطورات التي طرأت على الطريقة التي يفكِّر بها الفلاسفة حيال الواقع ألقت بظلالها على ماغريت وغيرت منه. والانطباع الشعبي عنه أنه «رسَّامُ أحلام» خاطئ إذا اعتبرنا أن كل تمثيل للواقع لا يمكن أن يكون «صحيحًا».
مناشير نظر ماغريت قد تخبرنا أكثر عن الواقع –وحقائقه الأساسية– أكثر مما قدرناه في فنّ الفنان. ومن النادر –ربما من المستحيل– أن نختبر الواقع اختبارًا ليس فيه توسُّط على النحو الذي اختبره روكنتان في رواية سارتر، لكنَّ لوحات ماغريت –على الأقل– تُشير إلى الواقع الماثل خلف المظاهر.
ويمكن لصور ماغريت أن تُعدَّ مماثلةً –أو مُوضِّحِةً– لفهمٍ جديد للواقع له أصوله في معاصره الفيلسوف مارتن هيدغر. ويمكن القول إن ماغريت هو رسَّام «الواقع» أكثر من أي رسام واقعي. وفلسفة هيدغر هي المفتاح لفهم لماذا مجموع أعماله –بدرجات مختلفة من الشِدَّة– تستخرج من صميم الواقع كما نفهمه، فلقد كان ماغريت رسَّامًا–فيلسوفًا للواقع أكثر منه سرياليًّا.
الأسلوب
لننظر بادئ ذي بدء في أسلوب ماغريت. ثمة تياران أساسيان في الرسم السريالي، وكل أسلوب منهما كان وسيلة لتحقيق الهدف السريالي بواسطة إظهار صورة اللاوعي.
التيار الأكثر شهرة هو السريالية الحُلْميَّة (Oneiric)، وهذا الأسلوب هو تصوير واقعي للصور الحُلْميَّة كما عُهِدَ عند سلفادور دالي وماكس أرنست ودورثيا تانينغ. ومثل الأحلام التي تجد نفسك فيها، إذ يُصوِّر هؤلاء الفنانون العالم بغرابة، لكنه عالم يمكن التعرُّف عليه.
وهذا التيار من السريالية يجد نموذجه الأولي في أعمال جورجيو دي شيريكو، وهو رسام يوناني عمل في إيطالي في العقد الأول من القرن العشرين. المناظر الطبيعة ومناظر المدينة التي رسمها شيريكو كانت غامضة وغير مسكونة ولها صفة الحُلْم، وهي مشاهد مصورة بواقعيَّة وعليها ندوب من الظلال الطويلة التي يُحدثها بُزوغ الفجر أو الغسق، وكل منها تُصوِّر بشكل درامي تجاورات غريبة وسط صفٍ من الأعمدة الكلاسيكية والميادين.
الأسلوب السريالي الآخر هو «التلقائيَّة»، وهو كبت طائش لسيطرة الوعي وأحيانًا معتمد على الصدفة؛ لإطلاق العنان لصورة اللاوعي. وهذا الأسلوب يجد مثاله في أندريه ماسون وخوان ميرو، وهو مُمَاثِل لأسلوب الكُتَّاب السرياليين –المسمى بنفس الاسم– الذي يتركون فيه الكلمات تجري دون تفكير واعٍ.
وبادئ الأمر يبدو ماغريت واقعًا في عِدَاد الصنف الحُلْمي من الأسلوب السريالي، فأسلوبه مدين أساسًا للقالب التصويري الذي وضعه جورجيو دي شيريكو.
ولكن منذ أوساط العشرينات فارق ماغريت أسلوبَ شيريكو، واتَّبعَ رسَّامين حُلْميين من شاكلة دالي وأرنست. ولقد عمل ماغريت حينها رسَّامًا إعلانيًّا، فدخل الأسلوب الإعلاني المُباشر في جملة أعماله، وغدى رسمه عاديًّا ومُمْتَهنًا على عكس الدراميَّة والحُلْميَّة.
وبدأت الأشياء اليوميَّة تستعمر لوحاته: رجال أعمال يرتدون القبعات، والتُفاح، والترومبونات، والأجراس، وأرغفة الخبز، والسُحُب الزَغِبة، والسماوات شديدة الصفاء شديدة الزُرْقة. ولقد امتازت هذه الرسوم بلغتها البصريَّة الفاترة: فزواياها أماميَّة ومُتوسِّطة دائمًا، وغير مُنمَّقة، وعلى بُعْدٍ متوسط، وفراغاتها ضحلة، ومُنَارَة إما بشكل جيد أو على نحو خافت. والزمان فيها واقفٌ أبدًا، حتى لهيب النار الخارج من التُّوبا يبدو مُتجمِّدًا.
أمَّا لوحاته التي انتجها في أواخر العشرينات فلم يكن فيها مناظرٌ أو خيال ولم تكُ دراميَّة قطُ على الخصوص، وعوضًا عن الدراما –أو بالأصح اللُّغز– نجد صرامةً في منطقها الترابُطي. كلُّ هذا يعززه اللغة البصريَّة المبتذلة: فالليل نهار، وصورة البيضة هي الطير، والصخرة تطفو والسحابة تغور إلى الأرض.
وأصبح ماغريت أقلَّ اهتمامًا بالعبثيَّة والتداعي الحرُّ الذي تمتاز به السريالية، والجمال الذي وجدهُ الشاعر الكونت لوتريامون في «لقاء بالمصادفة مع مكينة خياطة ومظلَّة على طاولة عمليات» العبارة التي غالبَّا ما عدَّها السيرياليون بيانًا نموذجيًا جعل من لوتريامون «المُؤسِّس الفعلي للعجائبيَّة الحديثة».
ولقد عبَدَ السرياليون الفرصة لكنها لم تُقنِع ماغريت ولم تكن كافيّة في إشباع فهمه للفن، فمجموع أعماله تُنقِّب في تجربتنا الواعية للواقع لا في مُستحدثات اللاوعي الخياليَّة. وتعامل ماغريت ليس مع غير المعقول فحسب بل مع المُفارقي والتناقضي والمغلوط به أيضًا. وليس من الإنصاف أن نضعه في عداد رسَّامي الأحلام أو العوالم الأخرى أو اللاوعي كسلفادور دالي وماكس أرنست، فالأشياء والمناظر [في لوحاته] هي أشياء ومناظر من عالمنا المُشْترك.
بدأ ماغريت يتلمَّس «القَرَابات» العميقة بين بعض الأشياء، ووجد أنَّ تركيبها مع بعضها –بينما هو مفاجئ (أو مُرْبِك)– له حتميَّةٌ ما؛ إذ قال:
«نألفُ شكل الطيور في الأقفاص، ويُسْتلفت الاهتمام بسهولة لو وُضِعت سمكة أو حذاء مكان الطير؛ ولكن على الرغم من أن هذه الصور غريبة، إلا أنها عَرَضيَّة واعتباطيَّة لسوء الحظ».
أما عندما نضع بيضةً مكان الطائر، وهو شيء له قرابة واضحة بالطير، يبدو لماغريت أن «شيئًا صحيحًا حصل».
ولقد انصرف ماغريت عن التحقيق في الجمال الاختلاجي والعجائبية اللذين كانا شاغلا السرياليَّة منذ بيان عام ١٩٢٤، وانغمس في البحث عن منطق ترابطي أكثر عمقًا وأوثقَ صلةً بشعورنا بالواقع.
يقول ماغريت في مجاورة الأضداد المُتقاربة:
«إنها وِحْدَةٌ توحي بلغز العالم الجوهري، فالفن عندي ليس غاية بحد ذاته ولكن وسيلة لاستحضار هذا اللغز».
هذا ما جعل ديفيد سيلفستر يُشبِّه تأمُّل لوحة لماغريت «بنوع من الرهبة التي تُستَشعر أمام خسوفٍ أو كسوف». ويبدو أن كيفيات عمل الكون الجوهريَّة هي الموضوع الحقيقي لوحات ماغريت: لُغز الأشياء قبل أن تتوسَّط اللُّغة.
قبل سنة فقط من تحوُّل ماغريت إلى الكلمات والأشياء وبالنهاية إلى القَرَابات، نشر مارتن هيدغر «الكينونة والزمان». كان الكتاب محاولة جريئة للتصدِّي لما كانت الفلسفة تتجنبه لمئات السنين: الوجود بحدِّ ذاته.
يرى هيدغر أن ثمَّةَ في جوهرِ فهمنا للأشياء عناية (الكلمة الألمانية التي يستخدمها هيدغر هي «Sorge» التي تعني شيئًا بين العناية والاهتمام) تُنظِّم تفاعلنا مع العالم وأشيائه: تتوسط بيننا والأشياء في التجربة.
تتوزع خبرتنا بالواقع في مجالات مختلفة، حيثُ تكون عنايتنا أو اهتمامنا بالأشياء. وما دام لا يوجد صعوبة بالغة في هذه النشاطات، تكون الأشياء المُحيطة بنا والتي تقع تحت استخدمنا شفافةً إزاء وعينا. والكينونة مقسومة إلى نوعين: كينونة «ما–تحت–اليد» (Zuhandenheit)، وكينونة «القائم–في–الأعيان» (Vorhandenheit). بوضع هذا التفريق، وجَّه هيدغر الانتباه إلى الطريقة التي يستكنُّ بها الواقع في أذهاننا حتى يكشف عن نفسه كشفًا فجًّا مُباغتًا.
على سبيل المثال؛ المطرقة، التي تكون شفافة في وعي النجَّار وهو يطرق بها؛ هي «ما–تحت–اليد». فالعناية التي يضعها النجَّار في المهمة تجعل الأشياء التي يستخدمها كأدوات شفافة؛ لأنها تُؤخذ أمرًا مُسلَّمًا به وجزءًا من المجرى اليومي في تجربة النجَّار. وعندما تنعطب المطرقة فقط تُصبح «كينونتها» ظاهرة للنجار، وتصير «قائمًا–في–الأعيان» وأداةً تُدرَس لذاتها.
ولإعطاء تأويل أبسط لبنية العناية في خبرتنا، ثمة «حيثيَّة» (as) لكيف يُقدِّم كل شيء نفسه إلينا في كلِّ لحظة بالاعتماد على كيف يتلاءم هذا الشيء مع عنايتنا. وقبل عقود قريبة عمم الفيلسوف غراهام هرمان أفكارَ هيدغر عن الواقع وظهوره واستتاره باستخدام الأدوات.
في تأويل غراهام، تمنح العناية الشيء «حيثية» كينونته، لكن ليس كينونته بكليتها. فعلى سبيل المثال، القبعة المُكوَّرة (bowler hat) يمكنها أن تكون: غطاءً للرأس، أو شيئًا له قيمة جمالية، أو رمزًا دالًّا على الفكر المحافظ في فترة ما بين الحربين أو على الصناعة المصرفية، أو وعاءً لحمل سائل، وهكذا.
كل شيء يوجد بحيثيَّة ما في وقت ما، لكنه لا يوجد وجودًا كُليًّا.
هذه «الحيثية» بِنيويَّة، لأن هناك ظهور للشيء واستتار له مستمرين في مظاهر ومقاصد متعددة بحسب إدراك عنايتنا له.
أن تُعرَّف أشياء – مثل أقواس قزح، وموجات الصوت، والأشجار، والقبعات المكورة- بالسلب هي الطريقة المُثلى: فهي أشياء تنحسر، بواسطة «بنية–الحيثيَّة»، من كل تماسٍّ نظري وعملي مع الكُل، أشياء أدْوَم من كل شيءٍ يمكن أن تُشْرَحَ أو يُشْعَرَ به.
ولكن، بضرورة «بنية–الحيثيَّة»، نعرف أن هذه الأشياء كائنة. وكما يُوضِّح غراهام هرمان: «الكينونة هي ما ينحسر عن كل وصول، أما ’الحيثيَّة‘ فهي ما يتجلَّى للوصول». وما يصفه هرمان هو غموض الكينونة قبل أن يتوسطها القصد (وهو ما يصفه بـ«الوصول»).
أما ما يخصُّ شخصية رواية سارتر، روكنتان، فإن الكينونة كشفت عن نفسها بغتة: كان يمكن الوصول إلى المقعد كشيء (حيثية أنه مقعد)، أما عندما نزل على روكنتان الإلهام صار يمكن للمقعد أن يكون أيَّ شيء على الإطلاق.
ومثل مطرقة النجار المعطوبة أو مقعد روكنتان في عربة الترام، يقطع ماغريت بنية–الحيثيَّة للأشياء من خلال «كسر» قوانين الطبيعة باستخدام المُفارقات والمُغالطات الصوريَّة؛ هذه القوانين المسؤولة عن العِليَّة (السبب والنتيجة)؛ هذا الغِراء الكوني الذي يُمسك بوجودنا.
وبفعل هذا يُعبِّر الرسام على نحو غير مباشر عن الكينونة الماثلة خلف الحيثيَّة (إذ يستحيل فعل ذلك مُباشرةً)، فيأخذ بنية العناية التي قال بها هيدغر إلى محاكاة تهكمية عبثية، وبفعله هذا تظهر الأشياء التي يُصور لنا كينونتها بأقصى حسيَّة لا توسُّط فيها.
لا توجد صورة في أعمال ماغريت أكثر تهكميةً من «خيانة الصور» من عام ١٩٢٩. يُقرأ هذا العمل عادة على أنه تعليق على اللغة والتصوير. لكن مُضمَّن في سياق رسومه اللاحقة الصورية والكتابية في سلسلة «مفتاح الأحلام»، ما تحمله من عدم تطابق بين الأسماء والصور، ويتضح أننا في حلقة تكراريَّة (mise en abyme) من الطريقة التي نُدْمِج بها الأشياء في بنية–الحيثيَّة التوسُّطيَّة.
عودةُ ماغريت إلى غليونه الشهير بعد مرور ثمان وثلاثين سنة في لوحة «اللغزين»، تُرينا نسخة من اللوحة الصغيرة على حامل إلى جانب غليون ضخم يطفو في الهواء في غرفة من دون أن يكون له ظل. إنها لوحة صُممت بشكلٍ شرير لوضع لغز فوق لغز.
وبمقارنة هذه الصور مع لوحة أقدم هي «الشبح (١٩٢٨)»، تتضح لنا فكرة أن ماغريت كان يحاول الإبلاغ عن لغز الوجود. فهذه اللوحة التي رُسِمَت بعد قليل من «خيانة الصور» تُظهر الرجل الذي يرتدي قبعة مكورةً في عموم لوحات ماغريت معطيًا ظهره للمشاهد، يُفاوض أُفقًا مُظلمًا مُبقعًا ببقع من المادة؛ إما تطفو في الهواء أو ملتصقة بالأرض وتلقي ظِلالًا.
ثمة كلمات منقوشة على البُقع، ربما تصف ما يفترض أنها تعني للرجل. وبينما البقعة الطافية في السماء المكتوب عليها «غُبار» (nuage) ذات شكل يشبه السحابة، نجد البقعة المُعلَّمة «حصان» (cheval) تكاد تكون دائرةً كاملة، والبقعة البعيدة مكتوب عليها «أُفُق» (horizon) تجلس على الأفق المرسوم نفسه وترمي ظلها في الظلام خلفها.
ما نراه هنا هو ترجمةٌ لما شعرت به شخصية سارتر «روكنتان» إلى الرسم، لكن هذا الشعور عصي على أن يترجم إلى لوحة. ويبدو أنها تحاول أن تُصوِّر الشعور الذي تقتضيه لوحاته الأكثر نجاحًا تجاه المُشاهد الحقيقي؛ أنَّ الرجل يرى الواقع كما هو.
إنها لوحة مثيرة على اعتبار أنها مرحلة بين أساليب ماغريت في المراحل الأولى من مسيرته، ومع ذلك أقل إرضاءً على اعتبار انصرافها عن شكل ماغريت في الإِلْغَاز.
البساطة هي أفضل طريقة لتوصيل أفكار ماغريت العميقة. تُظْهِر لوحة «السادس عشر من سبتمبر» شجرة منفردة عند الغسق، تتوسط اللوحة وتتصدَّر أجَمَةً من الأشجار خلفها. وخلال ظُلَّة الشجرة، أو مُركَّبًا عليها، يُشع الهلال.
هذا التراص الأنيق في بساطته يُهدِّئ الناظر ليَشْهَدَ «الحدثَ» الكوني الذي في اللوحة.
إنها لحظة فارقة، حين يذوب «الغراء الكوني» للعليَّة ويتيح لنا أن نتأمل الكون الذي نقطنه من منظوره الخاص اللاإنساني.