فلنتخيَّل أنّ شخصًا أخبرك أنّ كلَّ شيءٍ مُكوَّنٌ من الشيء الواحد نفسه، أنّ كلّ الاختلاف والتغيُّر الذي تراه في العالم ليس إلا محض وهم. ولا يقتصر الأمر على أنّ كلّ شيءٍ مُكوَّن من شيءٍ واحد، بل أنّ ذلك الشيء الواحد هو الله. الله موجود في كلِّ ما يمكن أن يخطر لك.
هكذا كان باروخ (بندكت، لاحقًا) سپينوزا يرى الكون. إنّها فكرةٌ غريبةٌ بالنّسبة إلى كثيرين، وصادمةٌ للبعض، على الأخص لمن يتصوّرون الله بطريركًا هائلًا يرعانا من السّماء. ولكنّها فكرةٌ تصوَّرَ سپينوزا أنّها الوسيلة الوحيدة لتفسير الله.

سپينوزا أحد «العقلانيّين» الأوروبيّين الثّلاثة الكبار في القرن السّابع عشر، إلى جانب غوتفرد ڨلهلم لايبنتس (Leibniz) ورينيه ديكارت (Descartes). كان ديكارت أوّل الثّلاثة. وكان لعمل الفيلسوف الأقدم تأثيرٌ ثوريٌّ على التاريخ الفكريّ الأوروبيّ. وقد كان تأثيره على سپينوزا كبيرًا جدًا إلى درجة أنّ كثيرين لم يعدّوا سپينوزا أكثر من مريدٍ لديكارت. درَّس سپينوزا الفلسفة الديكارتيّة، واستعار قدرًا كبيرًا من مصطلحاتها، ونشر دليلًا لأفكار ديكارت.
ولكنّ سپينوزا بنى على ابتكارات ديكارت ليؤسّس منظومته [سستمه] الفلسفيّة الشّاملة التي تُركِّبُ صورةً عن الواقع المحيط بنا، وكيفيّة العيش فيه. كانت المنظومة مختلفةً جذريًا عن فكرة ديكارت عن الواقع ولكنّها قُدِّمت على النّحو العقلانيّ ذاته.
تؤكّد العقلانيّة أنّ حقائقَ كثيرةً بدهيّةٌ ولا يُشترَط اعتمادُها على الحواس كي نعرفها. وفي واقع الأمر، يمكن للإنسان معرفة أمور كثيرة بمعزل عن التّجربة، أو قبل التّجربة.
هذا ما يُعرَف في الفلسفة بالمعرفة «البدهيّة» [القَبْليّة] (a priori)، التي تعني «من وقت أسبق» (أو «قبل») في اللاتينيّة. كمثالٍ على الحقيقة البدهيّة، نعرف أنّ زوايا المثلّث تشكّل 180 درجةً بما أنّ هذه الحقيقة بدهيّة من حيث جوهر تعريف المثلّث. ويمكن لك فَهْمُ هذا نظريًا قبل إخضاع المثلّث لتجربةٍ بوصفه موضوعًا حقيقيًا.
ولكن لم يقتصر انشغال العقلانيّين على المنطق والهندسة. إذ كان سپينوزا متعمّقًا في الفكر الدينيّ. ويمكن لنا القول إنّ مشروعه الفلسفيّ العظيم، الذي أنهاه في أواخر حياته – الإتيقا [علم الأخلاق] The Ethics – كان محاولةً لفهم طبيعة الله من أجل بلوغ السَّكينة.
تنشأ الحريّة والسّعادة من الفهم، تبعًا لسپينوزا. وقد أخذ فكرة العقلانيّة إلى أقصى ما كان بوسعه أخذها كي يحاجج أنّ بالإمكان تحصيل معرفةٍ كافيةٍ عن الله من خلال التفكُّر المحض. فهمُ الله يعني بلوغ هناء البال.
يضمّ الإتيقا خمسة أقسام. وقد أُلِّف كلُّ قسمٍ بحيث يُحاكي كتاب إقليدس العناصر Elements، دليل الهندسة القديم. تبدأ الأقسام بتعريفات للمصطلحات، تليها المُسلَّمات (أي، الحقائق البدهيّة)، ومن ثمّ ينتقل سپينوزا إلى المبرهنات. ونجد في كتاب الإتيقا تعليل سپينوزا الشّامل لوجود الله: الوجود وعيش حياة فاضلة.
كان يُراد من التّوازي القصديّ بين طرحه المتعلّق بالواقع وبالله وبين كتاب إقليدس العناصر تبيانُ أنّ فهم عالمنا وموقعنا فيه مسألةُ تفكّرٍ لا تجربة. آمن سپينوزا بإمكانيّة فهم الله عبر التفكّر بالوسيلة البدهيّة ذاتها التي يُعرَف فيها أنّ زوايا المثلّث تُشكّل 180 درجة.
وما التّعريفات، والمُسلّمات، والمبرهنات إلا أحجارٌ مرصوفةٌ لتبيان الحقائق. وتبعًا لسپينوزا، وبالتّماشي مع الإيثوس [المزاج] العقلانيّ، فإنّ هذه الحقائق صحيحةٌ بالضّرورة بفضل التفكُّر لا بفضل الملاحظة.
عصرٌ ذهبيٌّ
طريفٌ أنّ سپينوزا أكَّد على أنّ فلسفته بدهيّة ومستقلّة عن المسائل البشريّة، مع أنّ المؤرّخين قد يرونها نتاجًا من نتاجات عصره. إذ بزغت أفكار سپينوزا ورأت ضوء النّهار – بقدر كبير – بفضل إقامته في الجمهوريّة الهولنديّة في القرن السابع عشر.
كانت الجمهوريّة تشكّل قسمًا من الإمبراطوريّة الإسبانيّة، وتحرّرت منها عام 1581 بعد نضالٍ طويلٍ من أجل حريّة تقرير المصير. وباتت الجمهوريّة الهولنديّة شديدة الثّراء والقوّة، وشديدة التحرّر بخلاف ما كانت عليه حال أوروبا بعد عصر الإصلاح الدينيّ. ومن ثمّ نشأ «العصر الذهبيّ الهولنديّ» في القرن السابع عشر مع ازدهار الفنون والعلوم في مدنها الكوزموبوليتيّة الثريّة.




[box type=”note” align=”” class=”” width=””]كانت التكليفات الدينيّة بشأن الفن شحيحةً ومتباعدة في الجمهوريّة الهولنديّة البروتستانتيّة. وبدلًا من هذا، كان الفنّانون يتمتّعون برعاية طبقةٍ وسطى ثريّةٍ خلقتها المعجزة الاقتصاديّة التي أعقبت الاستقلال عن الإمبراطوريّة الإسبانيّة. ازدهرت أشكال علمانيّة من الفنون البصريّة، وقد اشتُهر العصر الذهبيّ الهولنديّ بلوحات الطّبيعة الصّامتة التي تُصوِّر زهورًا، وطعامًا، وأشياء نفيسة. ومع أنّ هذه اللوحات تبدو لغرض الزينة المحضة، إلا أنّ مضمونها مُفعَمٌ بالرمزيّة في الغالب. فسُلطة الجمهوريّة الهائلة بوصفها مركزًا للتّجارة تنعكس في الأصناف الغرائبيّة [الإكزوتيكيّة] للزهور، والأصداف، والأواني. تُضمِر هذه التّشكيلات عالمًا شاسعًا بتنوُّعٍ هائلٍ في الأجناس والثّقافات. [/box]
كان سپينوزا فردًا من أفراد الجماعة اليهوديّة التي وجدت ملاذًا لها في الجمهوريّة الهولنديّة بعد فرارها من محاكم التفتيش الإسبانيّة والبرتغاليّة. كان هؤلاء اليهود يُعرَفون بالاسم التحقيريّ «مارانو» (Marranos) في شبه جزيرة إيبريا.
كان أسلاف سپينوزا اليهود قد ازدهروا في ظلّ الحُكم الإسلاميّ المتسامح في شبه الجزيرة الإيبريّة (الأندلس)، ولكنّهم أُرغموا على اعتناق المسيحيّة حينما استعاد الإسبان مقاليد السُّلطة. ومع تزايد الاضطهاد في المناخ الدينيّ في إيبريا، فرَّ قسمٌ كبيرٌ من المارانو إلى الجمهوريّة الهولنديّة حيث بات بمقدورهم معاودة ممارسة معتقداتهم الأصليّة بسلام.
ولكنّ السّلام كان هشًا، لليهود على الأخص. صحيحٌ أنّ جماعة [اليهود] الصّغيرة ولكن البارزة لاقتْ تسامحًا في أمستردام، ولكنّها لم تلق حفاوةً من البروتستانتيّين ذوي النّزعات الأكثر محافَظةً المناصرين للحزب الأورنجيّ (الذي سُمّي تيمّنًا ببيت أورنج House of Orange الأرستقراطيّ)، والمعارضين للجمهوريّين الأكثر تحرّرًا الذين كانت بيدهم السُّلطة السياسيّة في كومنولث الدّول الصغير.
سعى هؤلاء البروتستانتيّون الأشدّاء المناصرون للمَلَكيّة إلى فرض تقييدات دينيّة تُعيق مسيرة العلم والثّقافة اللذين كانا يزدهران في ظلّ حُكمٍ متحرّر. وقد كانت أفكار سپينوزا إشكاليّة جدًا إلى درجة أنّ كتاب الإتيقا نُشر ووُزِّع سرًا بعد وفاته.
أثارت تنقيبات سپينوزا في المجال الإلهيّ إشكاليّةً طاردته طوال حياته النّاضجة، حتّى ضمن الجمهوريّة الهولنديّة المتحرّرة. فحين كان شابًا، أقحم الفيلسوف الشاب نفسه في مأزق بمواجهة جماعته الدينيّة حينما شكَّك في أصالة التوراة.
نُبذ الفيلسوف من جماعته الدينيّة، ولُوحق من المسيحيّين المحافظين، ويردُ في إحدى السّير عنه أنّه نجا من محاولة اغتيال عند باب كنيس. وقد كان هذا كلُّه لأنّ كشوفات سپينوزا قدّمت فكرةً عن الله تختلف عن تلك الراسخة في الأعراف.
عمد الحاخامات، ربّما بفعل خشيتهم من وضعهم الهشّ في بلدٍ مسيحيّ – عمدوا إلى لعن سپينوزا على الملأ – وهو إجراء بالغ القسوة – بسبب آرائه الدينيّة الصّريحة غير التّقليديّة.

المحايثة
بغيةَ تطوير أفكاره، تناول سپينوزا مفارقة حدود الله. لو كان الله لامتناهيًا وكاملًا، كيف له أن ينفصل عن خلقه؟ بالنّسبة إلى سپينوزا، إله التوراة إلهٌ مُقيَّدٌ بحدود طالما أنّه يُرى بكونه إلهًا ناقصًا. وضمن سعيه إلى الله، أعاد سپينوزا اكتشاف الفكرة القديمة التي أحدثت ثورةً في الفلسفة الحديثة: المحايثة (Immanence).
تقوم فكرة المحايثة على أنّ الإلهيّ يتجلّى في العالم الماديّ. وهذا يعني أمورًا كثيرةً في واقع الحال: السُّحب، الحشرات، النّباتات، الناس، والأرض التي تحت أقدامنا. وكذا كانت عقائدُ أوروبيّةٌ وآسيويّةٌ قديمةٌ عديدةٌ مستندةً إلى مفهوم المحايثة. فالمنظومة الرواقيّة، على سبيل المثال، تقوم على فكرة وجود لوغوس إلهيّ في العالم بكلّيّته. ولكنّ فكرة المحايثة الإلهيّة تضاءلت مع صعود المسيحيّة في أوروبا.
يقوم الفهم اليهو-مسيحيّ لله على أنّه كائن مُتعالٍ [ترانسدنتاليّ] (transcendent). يُقصَد بـ «متعالٍ» أنّ الله منفصل، وأنّه فوق الكون والخلق وخارجهما. تُصرِّح النّصوص اليهو-مسيحيّة بوضوح بأنّ الله قرَّر خلق الكون من العدم، وبأنّ الله هو العِلّة الأولى لعلل الكون كلّها [علّة العِلل].
تعني كلمة «متعالي»، في الاستخدام الفلسفيّ: «خارج نطاق فهمنا»، وغالبًا ما يُعدّ الله المثال المطلق لما يكون خارج نطاق فهمنا.
سعى فلاسفة كثيرون في العصور الوسطى إلى البرهنة على وجود الله. يُعرَف أحد هذه البراهين باسم «المحاجّة الأنطولوجيّة» (Ontological Argument)؛ كلمة «أنطولوجيّ» مشتقّة من المفردتين الإغريقيّتين «أونتوس» ontos (حقيقيّ) و«لوغيا» logia (دراسة)، وترتبط بدراسة ما يكون حقيقيًا وما لا يكون.
بصيغةٍ شديدة التّبسيط، تعمل المحاجّة كما يلي: لا بدّ للكينونة الكاملة أن توجد، وفي حال عدم وجودها لن تكون كاملةً. الله كامل وبالتّالي لا بدّ من وجوده.
ولكنّ سپينوزا وسَّع حدود المحاجّة الأنطولوجيّة أكثر، إلى ما هو أكثر من البرهنة على وجود الله، بحيث يتفكّر فعليًا في طبيعة الله. تساءل سپينوزا: لو كان الله حكيمًا بالمطلق، لمَ ينبغي له اتّخاذ قرار؟ لو كان الله لامنتهيًا، كيف يُعقَل أنّه ليس موجودًا في كلّ شيء؟ وبكل تأكيد، لو لم يكن الله موجودًا في العالم، فلا بدّ من أنّه محدود. فكَّر سپينوزا بأنّه لو كان الله كاملًا، فلا بدّ من عدم امتلاكه أيّة حدود. ولو أنّ الله بلا حدود، فلا بدّ أن يكون الله محايثًا.
لم تكن هذه فكرةً جديدةً حينما كتبها سپينوزا، ولكنّها كانت مُتجاهَلةً لقرون وتُعَدّ كفرًا عند المسيحيّن واليهود. بدأ سپينوزا تشديده على أنّ الله مُحايث، في مواجهة مجازفةٍ شخصيّة كبيرة.
الجوهر
حين يُقال لطفلٍ إنّ الله خلق الكون فإنّ أوّل سؤال سيخطر له هو «ولكن مَنْ خلق الله؟» ولن تُحلَّ مشكلة «العلَّة غير المُحدَثة» من دون وجود أزليّةٍ. لا بدّ أن يكون الله أزليًّا، وبالتّالي فهو علَّة لذاته.
كتب سپينوزا:
«الله، أو الجوهر المُكوَّن من خصائص لامتناهية تُعبِّر كلٌّ منها عن ماهيّةٍ أزليّةٍ ولامتناهية، موجودٌ بالضّرورة. لو لم يكن الله موجودًا، فلا بدّ أنّ ماهيّة الله لن تتضمّن الوجود؛ وهذا عبث. ولذا فإنّ الله موجودٌ لا محالة.»
هذه العبارة هي نقطة تقاطع فكرة المحايثة عند سپينوزا. فتبعًا له، أن يكون الله علّةً لذاته يعني بالضّرورة أنّ الله لامتناهٍ وأزليّ لامحالة. وحين يكون لامتناهيًا وأزليًا، لا يمكن لله أن يكون متعاليًا، ولذا لا بدّ من أنّه مُحايِث. عدَّ سپينوزا الله والجوهر أمرًا واحدًا.
طوَّر سپينوزا فكرة «الجوهر» من ديكارت، الذي اقتباس المصطلح بدوره من أرسطو. مفردة «الجوهر» [سبستانس] substance مُشتقَّة من الجذر اللاتينيّ «سوبستانتيا» substantia المتعلّق بما يقع تحت الأشياء.
الجوهر هو الأمر الذي يمكن له الصّمود أمام التغيّر. كان المثال الذي طرحه ديكارت هو الشّمع. فحين نُقرّب الشّمع من النار يمكن أن يتغيّر شكله، وقوامه، وحجمه، ولونه ورائحته، بل يمكن أن يستحيل إلى سائل حين يلتصق بالنّار، ولكنّ ماهيّته تبقى على ما هي عليه برغم هذه التغيّرات.
لم يصبح الشّمع شيئًا آخر حين تحوَّل إلى سائل بسبب الحرارة، بل بقي على حاله في نواحٍ محدودة: الامتداد، قابليّة الحركة، وقابليّة التغيُّر.
فكَّر فلاسفة كثيرون بما يوجد تحت السّطح الظاهريّ للأشياء الحقيقيّة، ولكنْ لم يُفرِد أيٌّ منهم أهميّة للجوهر بقدر ما فعل سپينوزا. فتبعًا له، يمكن للجوهر أن يصمد أمام أيّ تغيُّر وبذا لا يمكن أن يطاله الكون أو الفساد.
يُعرِّف سپينوزا الجوهر كما يلي: «ما يكون في ذاته وما يُدرَك من خلال ذاته، أي الأمر الذي لا يُشترَط لمفهومه أن يُصاغ انطلاقًا من مفهوم أيّ شيءٍ آخر.»
بتعريف مشابه، طوَّر ديكارت فكرة وجود جوهرين: الامتداد (أي، الأشياء الملموسة القابلة لأن تُحسّ) والفكر (أي، العالم اللاملموس الخاص بالذّهن). وتبعًا لديكارت، فإنّ الله (المتعالي) خلق نظامَيْ كينونةٍ منفصلَيْن، ولكنّ الفيلسوف انهمك في تبرير كيفيّة ارتباط هذين المجالين.
عجز ديكارت عن تقديم أيّ تبرير بشأن ما يوحّد جسدنا وعقلنا. تُعرَف هذه المشكلة في الفلسفة باسم «مشكلة العقل-الجسد»: رؤيتان مرتبطتان وإنْ بدتا متعارضتين ظاهريًا عن الواقع والشّخصيّة في آن.
اعتقد سپينوزا بأنّه حلَّ المشكلة التي استعصى حلُّها على ديكارت. كان أكثر جذريّةً في تأويله للجوهر، من حيث وجوب أن يكون الجوهر موجودًا بالضّرورة بمعزل عن الاختلاف بالمطلق. تبعًا لسپينوزا، يمكن استخلاص أيّ شيء إلى نقطةٍ نعجز فيها عن مواصلة الاستخلاص، إذ نصل إلى أساسِ كينونةٍ، إلى «واحدٍ» جوهريّ يُكوِّن الأشياء كلّها.
الخصائص
بغية تبرير الفكر والامتداد أو العقل والجسد، طرح سپينوزا فكرة «الخصائص». الخصائص هي الطّرق المختلفة التي يُدرَك فيها الجوهر الواحد (كيف يُعايَش الجوهر). اعتقد سپينوزا بأنّ هناك عددًا لامنتهيًا من خصائص الجوهر، ولكن لا يُتاح للاستيعاب البشريّ منها إلا اثنتان: الفكر والامتداد.
بادئ ذي بدء، لجميع الأفكار امتداداتٌ متناغمةٌ معها، والعكس وبالعكس. بالنّسبة إلى سپينوزا، عقلنا وجسدنا مظهران للأمر ذاته.
فلنتأمّل قطعةً موسيقيّة. يمكن للفيزيائيّ أن يصف الأمواج الصوتيّة ذات التردّدات المختلفة الناشئة من ذبذبات الآلات الموسيقيّة. ويمكن للنّاقد أن يصف العلامات الموسيقيّة الجميلة في اللحن. يمكن أن تُوصَف القطعة الموسيقيّة بألفاظ فيزيقيّة وعقليّة ولكنّ الموسيقا ستبقى الأمر ذاته.
كلاهما توصيفان للأمر ذاته ولكنّهما متباينان برغم هذا. لو مزجنا هذين التّوصيفين في توصيف واحد، لن نجد إلا لغوًا. ويعود هذا إلى عدم وجود علاقات سببيّة بين الفكر والامتداد أو بين العقل والجسد. ما يمكن وصفه في الفكر يمكن وصفه – بالتّناظر – بوصفه ظاهرةً فيزيقيّة.
اعتقد سپينوزا بأنّ العقل والدّماغ أمران منفصلان كانا متناظرين برغم هذا. هل تُحدِث أفكار العقل تغيّرات فيزيقيّة في الدّماغ، أم إنّ التغيّرات الفيزيقيّة في الدّماغ هي التي تُحدِث أفكارًا في العقل؟
إجابة سپينوزا عن هذا السؤال: «لا هذا ولا ذاك». فهذه الخصائص تُعبّر عن الأمر ذاته ولكن لا يمكن وصفهما إلا على نحو منفصل، كما حين يُكوِّن اللحنُ وسلسلةُ الذّبذبات الأمرَ ذاته.
تتّحد الخصائص في الجوهر الواحد، وما فَهْمُنا للفكر وللأشياء إلا محض مظاهر لـ وحدانيّة الكينونة (oneness of being) هذه. وهذا يجعل من سپينوزا «واحديًا» (monist)، أي فيلسوفًا يعتقد بوجود واحديّة موحَّدة ومستقلّة خلف [ستار] الاختلاف الذي ندركه.
هذه الواحديّة هي، وفقًا لسپينوزا، ما أشار إليها بأنّها «الله أو الطّبيعة». بما أنّ الله كلّ شيء، والطّبيعة كلّ شيء، دمج سپينوزا الاثنين. يكتب:
«سواء قلنا […] إنّ الأشياء كلّها تحدث تبعًا لقوانين الطّبيعة، أو تُنظَّم وفقًا لأمر الله وتوجيهه، فإنّنا نعني الأمر ذاته.»
الحتميّة
تضمينات هذه الخُلاصة هائلة. ولو اقتصرنا على أمر واحد، فإنّها تعني عدم امتلاكنا تحكُّمًا بقَدَرنا. فوفقًا لمنظومة سپينوزا، كلّ شيءٍ محتوم لأنّ الله كامل.
إنْ كان الله كلَّ شيءٍ وإن كان كاملًا، فليس لشيءٍ أن يكون على غير ما هو عليه، ولا بدّ أن يكون على ما هو عليه بالضّرورة. ليس لدى الله خطط أو قصد حيال العالم. ولو كان لديه، فلن يعود كاملًا لأنّ الأسباب مُحدَثة واللهُ ليس مُحدَثًا في أيّة لحظة من اللحظات لأنّ الله كامل. النّظام الطبيعيّ هو انكشاف طبيعة الله بالتّوافق مع القوانين الأزليّة التي تُكوِّن الله.
قارنَ سپينوزا الطّبيعة المتغيّرة للكون بوجهٍ. يمكن للوجه أن يتّخذ عددًا لامنتهيًا من التّعبيرات ولكنّه سيبقى الوجه ذاته على الدّوام. تبعًا لسپينوزا، كلُّ ما يحدث في الكون، بما فيها حيواتنا، تعبيراتٌ عن الجوهر الواحد: الله أو الطّبيعة.
تُقوِّض حتميّةُ سپينوزا الأخلاقيّات التقليديّة للمسيحيّة التي تشدّد على امتلاك الإنسان إرادةً حرّة. لو لم نمتلك الإرادة الحرة، لن نُثابَ أو نُعاقَب في الحياة الآخرة وفقًا للنّصوص في المسيحيّة. رفض سپينوزا هذه الفكرة معتقدًا بدلًا من هذا بعدم امتلاكنا سُلطةً على قَدَرنا.
لا تكمن «حريّتنا» في حريّة الإرادة الخاصة بجسدنا من أجل السّعي إلى مصيرنا، بل في فهمنا للحال التي يكون عليها الكون حقًا. وإنّ فهم أعمال الطّبيعة يعني التّناغم معها.
هل كان سپينوزا ملحدًا؟
إلهُ الفيلسوف مختلفٌ جذريًا عن الإله الإبراهيميّ الذي يصعب تمييزه بالمطلق عن أيّ شيءٍ إلهيّ من حيث الكينونة. تبعًا لرؤية سپينوزا عن الكون، ما من تعالٍ – ما من مجالٍ آخر يسكنه الله، ما من يقين أخلاقيّ، ما من إرادة حرّة، وبالطّبع ما من حياة آخرة.
لا يبدو أنّ سپينوزا كان مقتنعًا بمحاجّته، إذا لمَ نستخدم الكلمات «الله أو الطّبيعة» أصلًا؟ لو كان الله مُعمَّمًا إلى درجة يكون فيها كلَّ شيء، ما المغزى من كلمة «الله»؟ سيفرغ الله من المعنى لو كان الله كلَّ شيء. أنكرَ سپينوزا كونه ملحدًا، ولكن غالبًا ما كان يُتَّهم بهذا.
بدلًا من كشف الله لنا، هل اكتفى سپينوزا بإعادة طرح الربّ بوصفه «طبيعة»؟ لو نزعنا «الله» من عبارة سپينوزا «الله أو الطّبيعة» وأبقينا «الطبيعة» فقط، من أين سيتأتّى الكمال إليها؟ الله كامل من حيث التّعريف، ولكنّ الطّبيعة ليست كذلك.
في واقع الحال، تصف عبارة «الله أو الطبيعة» اللهَ من خلال الخصيصتين اللتين يمكن للإنسان إدراكهما: الامتداد والفكر. وقد كانت إضافة كلمة «الطّبيعة» إلى الله وسيلةَ [سپينوزا] لتبيان أنّ الله موجودٌ في كلّ شيء بالمطلق، فيزيقيًا وعقليًا. ولكنّ الأكيد، تبعًا لسپينوزا، هو أنّ الله ليس شاملًا.
الله أزليّ ولامتناهٍ. وبالتّالي، يمكن للكون أن يكون جزءًا متناهي الصّغر من الله الذي يمتلك عددًا لامتناهيًا من الخصائص، لا مجرّد الخصيصتين اللتين يمكن للإنسان إدراكهما. في أفضل الأحوال، يمكن وصف سپينوزا بأنّه «مؤمن بوحدة الوجود» (pantheist) يعتنق فكرة أنّ العالم مُحتوًى في الله، ولكنّ الله ليس مقتصرًا على العالم.
بصرف النّظر عن رأينا بأفكار سپينوزا، إنّها مبنيّةٌ حُكمًا على وضوح منطقيّ وتتّسم بمدى لم يبلغه إلا فلاسفة قلائل. وحتّى لو كان سپينوزا مخطئًا بشأن الجوهر والله، إلا أنّ نظريّاته عن الأخلاق والحريّة مبادئ يمكن للنّاس أن يعيشوا وفقها.
التأثير المعاصر
كان لمحايثة سپينوزا تأثير هائل على علماء وفلاسفة كثيرين، من غوتفرد لايبنتس في القرن السابع عشر إلى آلبرت آينستاين في القرن العشرين. ولكنّ أفكار الفيلسوف اختفت من التّداول إثر وفاته. اعتقد فلاسفة كثيرون لاحقون لسپينوزا، مثل إمانويل كَنْت وغيورغ هيغل، بأنّ سبينوزا كان مُغرقًا في النظريّ في مقاربته. وعاودَ التّعالي ظهوره في قناعٍ علمانيّ يتّصل بـ «المثاليّ» أو الوعي.
بالنّسبة إلى هؤلاء الفلاسفة «المثاليّين»، نستوعب العالم من خلال توفيقٍ متعالٍ بين العقل والعالم (الفكر والواقع) والذي لا نملك قدرةً على فهمه كليًا.
في وقتٍ متأخر أُعيد تثمين الأفكار السپينوزيّة على يد الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز. وفقًا لدولوز، لطالما كان التّعالي تسويةً مُغويةً للفلاسفة، طريقًا سهلةً لتجنُّب تقديم تفسير أنطولوجيّ كليّ للكون. وقد علمنَ مشروعُ دولوز المحايثةَ عبر استبدال «الله أو الطّبيعة» بفكرته المرتبطة بـ «الكينونة».
اعتقد الفيلسوف الفرنسيّ بأنّ النظريّات المتعالية كلّها – ابتداءً بالله المتعالي الدينيّ وصولًا إلى المثاليّة المتعالية العلمانيّة – كانت دوغمات. إذ إنّ تركيز سپينوزا المتساوي والمتوازي على الامتداد والفكر – الجسد والعقل – يقدّم تفسيرًا لكلّ شيء من دون النّكوص إلى أيّ شيء عصيٍّ على التّفسير أو خارج نطاق التّجربة.
كانت نظريّة سپينوزا عن الكينونة «أحاديّةَ المعنى»، أو وحدانيّةً. فالجوهر الواحد الذي لا يكون كلُّ شيءٍ عبرَه إلا محض تحوير، والذي يُدرَك عبر الخصائص، هو كلُّ ما هو موجود، إنّه معيش وقابل للاستيعاب بالنّسبة إلينا.
تبعًا لدولوز، هذا طرحٌ ثوريّ، إذ بالاستعانة بطريقة سپينوزا في التّفكير حيال العالم لن نعود بحاجةٍ إلى الاستعانة بأيّ شيء عصيّ على المعرفة.
النّتائج شاسعةٌ في الأخلاق، والمجتمع، والسّياسة. وحتّى لو انتقصنا من منظومة سپينوزا الفلسفيّة أو قلّلنا من شأنها، إلا أنّ طريقة التّفكير هذه فتحت مدى جديدًا في الفكر الفلسفيّ.