شفّاف وأزرق، وشقائق النعمان.. رحلة مع كتاب (عبقرية اللغة) – د. سامي العجلان

شفّاف وأزرق، وشقا
” اللغة هي بيت الوجود “.
مارتن هايدجر
“يا إلهي، أريد أن أكون أحد هؤلاء”.. هكذا عبّر أحد الشعراء حين شرحتْ له محررة الكتاب: ويندي ليسير فكرة هذا الإصدار، وهي: أن يروي عدد من الكُتّاب من شتى البلدان انطباعاتهم الذاتية عن تجربتهم مع الثنائية اللغوية، وكيف يلمسون تأثير لغتهم الأم في طريقة تلقيهم للّغة الإنجليزية وأسلوب تعبيرهم فيها.
أشرفتْ الكاتبة الأمريكية: ويندي ليسير على تحرير هذا الكتاب (عبقرية اللغة)، كما كتبتْ مقدمة ضافيةً له، وقد جعلتني هذه المقدمة المثيرة أردِّد مع المحررة قول شكسبير: “إنّ في استطاعتي أن أدعو الأرواح من أعماقها السحيقة”.. وهكذا فقد أدركتُ مبكِّراً أني أمام كتابٍ يعِد بالكثير من الخطرات الإنسانية والتجارب الذاتية، كتابٍ أقرب ما يكون إلى (السيرة اللغوية) لأصحابه، من هنا لم أكن حريصاً على إنهائه بسرعة، كان في الواقع يمثّل بالنسبة لي الجائزة التي أحصل عليها في نهاية اليوم، ولهذا فقد غدا سميري في الليل على مدى أسبوعين كاملين مليئين بالترقب والتأمل العميق، وأعلم الآن أن قلم المترجم الرشيق الأستاذ: حمد الشمري مسؤول عن قدر كبير من هذا التشويق؛ ولهذا لا يفوتني أن أشكره على هذه التحفة السنية التي أهداها إلينا وإلى لغته الأمّ: اللغة العربية .
إلى جانب صديقة المحررة: أليس فان سترالن؛ فإن الروائي البولندي/البريطاني: جوزيف كونراد كان الملهِم الأكبر لويندي ليسير في أثناء تحريرها لهذا العمل، وقد استلهمتْ عنوان الكتاب من نص لكونراد يصِف فيه عبقرية اللغة الانجليزية التي تبنّتْه وأخذتْ بيده نحو عالمها المثير؛ لكنّ ليسير وسّعتْ دلالة العبقرية بحيث لا تقتصر على عبقرية اللغة الثانية، بل تشمل أيضاً: عبقرية اللغة الأمّ التي تظلّ تمارس تأثيرها الخفيّ فينا، ونحن في أوج انفصالنا المتوهَّم عنها، وهذه العبقرية المتبادلة بين اللغتين هي ما سيشير إليها بعد ذلك الكاتب: جوزيف سكوفوريكي في أحد فصول الكتاب، حين يكتشف مندهشاً أثر اكتسابه للّغة الثانية في تعميق فهمه للغته الأولى، فيقول: ” لقد أدركتُ شيئاً من خصائص لغتي الأمّ لم أكنْ لأدركه من قبل، أي حين كنتُ أتكلّمها بشكل ميكانيكي ودون وعي ” .
وأساس مشروعية هذا الكتاب يتلخص –كما أوضحتْه المحررة- في أننا يمكن أن نستقي من كتّاب الرواية والمسرحية والنقد والصحافة الذين عايشوا تجربة الازدواج اللغوي الكثير من الأفكار الملهِمة حول طبيعة الثنائية اللغة، والاكتساب اللغوي، والفُروق بين اللغات، وهي الأفكار التي ربما لن نعثر عليها في البحوث المتخصصة عند علماء اللغة واللسانيات؛ وبخاصة تلك الأفكار المرتبطة بالعلاقة بين الأنا واللغة، والدلالات الاجتماعية والثقافية التي يمكن استنباطها من الخصوصيات اللغوية في المفردات والتراكيب وأساليب التعبير.
بالإضافة إلى المقدمة يتضمن الكتاب خمسة عشر فصلاً بعدد الكُتّاب الذين شاركوا في تحرير فصوله، وينتمي هؤلاء الكُتّاب والكاتبات لشتى بقاع العالم، أو بالأحرى لشتى لغاته؛ كالهندية، والصينية، والكورية؛ مع تركيز واضح على اللغات الأوروبية.
أجمل فصول الكتاب، وأبلغها شعريةً في التعبير والتصوير هو فصل: (شفّاف وأزرق وشقائق النعمان)، وكذلك فصل: (هوامش لحياة مزدوجة) الذي أقدِّر أنه كان أكثر الفصول صعوبة في الترجمة؛ بسبب هذا الازدواج العجيب في الكتابة بين المتن والحاشية؛ وكأنّ صاحبه أراد أن يكتب نصّين متوازيين، لا نصاً واحداً، ولعله كان يهدف عبر هذا الازواج النصي أن يعكس ازدواجيته اللغوية المربِكة والمرتبِكة، ومن نافلة القول: أن تفضيل هذين الفصلين يظل تفضيلا ذاتياً ربما لا يوافقني عليه قرّاء آخرون.
أمَّا فصل (نعم، ولا) للكاتبة أيمي تان فهو درس بليغ عن سذاجة المقارنات الاستعلائية المتهورة التي ترصد التفاوت بين اللغات في أساليب التعبير؛ لتأكيد التحيزات الثقافية المسبقة والتمايزات الاجتماعية المفترضة بين الشعوب. وقريباً من هذا المنحى؛ لكنْ بمرارة أشد ينسج الكاتب الأفريقي: نغوغي وا ثيونغو مقاله المؤثر عن (إحياء الأصل)، كاشفاً عن فصل مثير من فصول الاستعمار اللغوي والحروب بين اللغات.
وحسناً فعلتْ ويندي ليسير حين جعلتْ فصل ليونارد مايكلز آخر فصول الكتاب، فهو -في تقديري- أثقل الفصول على القارئ؛ بسبب نَفَسه اليهودي الاغترابي الممتلئ برثاء الذات، والنرجسية الاستعلائية البغيضة، والمفاصلة التمييزية مع غير اليهود (الأمميين)، ولعله استعمل في مقاله هذا كلمة (اليهود، واليهودية) عشرات المرات، ومع هذا فلم يخلُ هذا الفصل من أفكار وعبارات ملهِمة. أقول هذا وأنا أعلم مكانة هذا الكاتب الساخر في الأدب الأمريكي المعاصر، وهي المكانة التي دفعتْ المحررة إلى إهداء الكتاب لذكراه؛ بسبب وفاته قبيل صدوره.
في رحلة القارئ الممتعة مع هذا الكتاب ربما يقف طويلاً عند هذا الوصف الملوّن لتجارب العبور اللغوي؛ بكل ما تشتمل عليه مِن مفارقات، ومقارنات، وذكريات تُلامس كثيراً أوتار الشجن، وسيلحظ أيضاً توافق معظم الكتّاب على التعبير عن إحساسهم العميق بتشظّي الهوية داخل النفس؛ نتيجة هذا الازواج اللغوي، وأنّ هذه الثنائية اللغوية تُشعرهم في أحيان كثيرة أن نفوسهم تنطوي على شخصيتين، لا شخصية واحدة، وكأنّ اللغة بكلّ حمولاتها الثقافية والاجتماعية والفكرية هي الصانع الحقيقي للشخصية الإنسانية، أو كما عبّرتْ الكاتبة م. ج. فيتزجيرالد: “إنّ الوطن هو الكلمات” .
وعلى نفس هذا الوتر تعزف الكاتبة بهارتي موكْرِجي حين تقول في الفصل الأول من فصول الكتاب: ” أعتقد دوماً أن وحدة اللسان أقوى من الخلافات الدينية “، وكان الفيلسوف التحليلي لودفيغ فتغنشتاين قد سبق الكاتبتين إلى ما يقارب هذا المعنى حين قال: “إنَّ حدود لغتي هي حدود عالمي”.
أُشير أخيراً إلى ثراء الحواشي التي وضعها المترجم للكتاب، وقد وصلتْ فراهتها إلى حد تدليل القارئ بتفسير أيّ مصطلح يرِد، وترجمة أيّ علم يُذكر، وتقريب أيّ إشارة تاريخية أو جغرافية أو اجتماعية أو فنية أو أدبية، بل حتى التنبيه على التلميحات والألعاب اللفظية، وتتْمياً لهذا النهج الدقيق فقد يكون من الملائم أن يضيء المترجم في طبعة لاحقة للكتاب إشارة نيكولاس باباندريو إلى “الرهبان الذين أحرقهم الترك أحياءً ” (ص 135) بمزيد من التوضيح؛ عبر حاشية تكشف عن هذه الإشارة التاريخية، وعن مدى قُربها من الواقع، أو بُعدها عنه، وقد تكون هذه الطبعة الجديدة فرصة أيضاً لتصويب بعض الأخطاء اللغوية والطباعية اليسيرة والمتفرقة في الكتاب .
أختم هذا المقال مُستلهِماً وصية الكاتب: لويس بيغلي حين قال: ” يجب أن تُعلَّق لوحة على الجدار المواجِه للمكتب، حيث يجلس الكاتب للكتابة؛ على هذه اللوحة أمرٌ يقول: تجنَّب الاستنتاجات النهائية “. سأقول إذن: إنّ هذا الكتاب أكثر ثراءً من أن يُلخّص في مقال، وإنَّ للقراءة أفراحها الروحية التي تعجز الكتابة عن التعبير عنها، وغاية ما يمكن أن يصنعه السالك أحياناً أن يُشير بهدوء واطمئنان إلى الدرب الطموح لكي يُسلك.