مقالات

عبء الترجمة – مات ريك

ترجمة: سلوى العتيبي

يمكن وصف الكتاب بأنَّه أقرب ما يكون إلى وعاءٍ غريبٍ من التوقعات. وقد يتصوَّر القرَّاء بأنَّ كتابًا منشورًا بلا قارئ، هو حتمًا إهدار لمالِ أحدهم. على حينِ أنَّ كتابًا تدور موضوعاته حول الترجمة، يبدو لنا بأنَّه يمتلك ذلك العبء الإضافي، الذي ينشأ عن كونه قادرًا على مخاطبةِ مجتمع القرَّاء المُتباعد والانتقائي، والذي يمكن أنْ يكون ملتحمًا فقط عن طريق وعيه المُشترَك بالكليشيهات التي تُعيق التفكير في الترجمة، كالقول على سبيل المثال، بأنَّ هناك علاقة واضحة بين الأساس ” الأصل ” وبين المُشتق ” الترجمة “. ففي مقابل تراكم مثل هذا التفكير السَّاذج، كيف يمكننا أنْ نُعيد النظر في الترجمة؟ وهل يمكن لمثلِ عمليَّة إعادة التقييم هذه أنْ تُساعدنا على إظهار إلى أي مدى بلغ الهوس الغربي بالأشكال الأدبيَّة والفنيَّة الأصليَّة، وبالأصل الذي يمكن اعتماده لهذه الأشكال، بحيث أصبح قادرًا على تحديد فِهمنا وتقديرِنا للفن؟ وإذا كان الأمر يسير على هذا النحو، فإلى أي درجةٍ من الإلحاح ينبغي لنا أنْ ندنو من هذه المهمَّة؟

هذه هي الأسئلة التي وجدتُ نفسي أفكِّر بشأنها حين كنتُ أقرأ ثلاثة كتبٍ صادرة حديثًا عن الترجمة وهي:

” الترجمة الأدبيَّة وبناء الأصل ” لـ كارين إمِّيرش، و” مُترجمي أدب الخيال ” لـ روزماري أروجو، و” ضِدَّ الأداتيَّة ” لـ لورانس ڤينتي.

وتتصدَّى هذه الكتب الثلاثة من خلالِ عدَّة طرقٍ مختلفة، لأسلوب التفكير المتسرِّع، وتمدَّنا بأساليب جديدة ورؤى نافذة البصيرة، بحيث تعمل على أنْ تبدو الطريقة التي يتحدَّث بها الأكاديميين عن الترجمة أكثر دقَّة وعمليَّة، على الرغم من أنَّها تساهم بدورها في تعقيد بعض الأفكار التي تدور حول ” الأصل ” و” المؤلِّف “. كما أنَّها تدعونا أيضًا إلى فِهم الترجمة كعمليَّة تحويليَّة، تتَّسم بالإبداع والقدرة على الخَلْق، وإلى اعتبارها فِعل تأويلي، أو بالأحرى، فِعل تقديري [١]، يُوحي لنا بأنَّ كل أشكال القراءة هي الأخرى أفعال تحويليَّة وخلَّاقة، وتأويليَّة أيضًا.

وعن التصدِّي لكليشيهات الترجمة؛ فإنَّ كتاب ڤينتي ” ضِدَّ الأداتيَّة ” يمكن اعتباره الأكثر قابليَّة للتطبيق على نطاقٍ واسع؛ ذلك أنَّه يبحثُ في وجهتي نظر متعارضتين في الترجمة _ والتي سوف أدعوها من الآن بـ ” المقولة الأداتيَّة ” [٢] و ” الحقيقة التأويليَّة ” _ والتي سوف تُحدِّد جنبًا إلى جنب، حديثنا عن الترجمة. لقد كتبتْ إمِّيرش هي وأروجو عن سياقاتٍ محدَّدة في الترجمة، وعلى غرار ڤينتي؛ عمِلا هما أيضًا على وضعِ كافَّةِ حُجَجِهما في مُقابلِ ” المقولة الأداتيَّة “. وفي عدَّة نقاطٍ رئيسيَّة؛ قمتُ بإيجاز المنطق الذي ترتكز عليه وجهتي النظر هذه، مستخدمًا المفردات  الأساسيَّة التي وردت في كتاب ” ضِدَّ الأداتيَّة ” لڤينتي، كمرشدٍ لي، وهي كالتالي:

‫تفترض ” المقولة الأداتيَّة ” ما يلي:

  • أنَّ هناك أصل.
  • أنَّ الأصل أكثر قيمة من الترجمة.
  • أنَّ التقليل من قيمة الترجمة يعود إلى الأخطاء التي لا سبيل إلى اجتنابها من قِبل المترجِم.
  • أنَّ كون المترجمين خبراء في مجال اللغة، فهم في عملهم هذا؛ أشبه ما يكونون بآلةٍ مصمَّمة لتقوم بعمليَّاتٍ محدَّدة.

وتفترض ” الحقيقة التأويليَّة ” ما يلي:

  • لا وجود للأصل.
  • أنَّ الترجمات تمتلك القدرة على الخَلْق والإبداع، وتُعتبر أعمالًا تأويليَّة.
  • أنَّ قيمة الترجمات تكمن في تلقِّيها الخاص للثقافة.
  • أنَّ المترجمين مفكِّرين خلَّاقين.

كيف بإمكاننا أنْ نوفِّق بين وجهتي النظر هذه، التي تدور حول الترجمة؟ إذْ أنَّ كلَّ كتابٍ من هذه الكتب الثلاثة راح يتعامل مع أحدِ الأجزاء المُلحَّة من هذه المهمَّة _مما يعني أنَّه اختارَ أنْ يعملَ على جزءٍ منفصل عن إجمالي المشكلة _ ولكن عند الأخذِ بها جميعًا، بالإضافة إلى ڤينتي في مقدِّمتها، فسوف نتمكَّن حينئذٍ من البدء برؤيةِ ذلك المظهر والاتِّجاه الجديد الذي يمكن _ أو بالأحرى يجب _ أنْ تتَّخذه نظريَّات الترجمة.

إنَّ ڤينتي وإمِّيرش يشجبان في استنتاجاتهما، سيطرة الكليشيهات التي تُمليها افتراضات معظم الناس عن الترجمة، والتي على نحوٍ جوهري تصطف هي أيضًا إلى جانب الرأي القائل بالأداتيَّة. فالتصدِّي للكليشيهات ليس بالمهمَّة الهيِّنة، لا سِيَّما حين نلجأ إلى تعريفها الذي يقتضي بكونها واسعة الانتشار للغاية، إلى درجةِ أنَّه يتعذَّر علينا تحديد مصدرها بدقَّة -مما يعني أيضًا أنَّه بإمكاننا التصدِّي لها من خلال هذه النقطة، لو فقط تمكَّنا من إدخال بعض التعديلات المناسبة عليها-.

الَّا أنَّه وعلى الرغم من ذلك؛ قد نتساءل لماذا علينا اليوم أنْ نقاوم الكليشيه الأداتي. ألم تكن فكرة ” المؤلِّف الصِرْف ” و ” الأصل الصِرْف ” _ بشأن النصوص المقتطعة من السياق أو تلك التي خالطها بعض الالتباس _ قد اندثرت على نحوٍ قاطع منذ عقود، من خلال ما يُسمَّى بـ ” ما بعد البِنْيويَّة Poststructuralist ” ؟ إنَّ سيموطيقا چوليا كريستيڤا: أبحاث في علم التحليل الدلالي ١٩٦٩م، على سبيل المثال، تُعرِّف النَّص باعتباره “حالة من التغيُّر المستمر للنصوص والتعالق النَّصي”، والتي بحسْبِها ” تُؤخَذ تعبيرات متعدِّدة من نصوصٍ أخرى، بحيث تتداخل هذه التعبيرات ببعضها البعض، وتشلّ بعضها الآخر “. ولكن نظرًا لأنَّ الكليشيهات التي تدور حول ” المؤلِّف ” و ” الأصل ” لا تزال قائمة، فإنَّ الحاجة إلى التصدِّي لها لا تزال قائمة أيضًا.

إنَّ الاعتقاد الأداتي في القيمة الموثوقة والمحصَّنة لـ ” الأصل ” و ” المؤلِّف ” والمُحتفى بها – كما أراه – يمكن تحديده من خلال ثلاثة أوجهٍ رئيسيَّة. ويقوم الوجه الأوَّل منها على فكرة ” الحُضور المَحْض “، التي تحكم التقليد الميتافيزيقي الغربي؛ ذلك أنَّ الغرب مهووس بفكرة أنَّ شيئًا ما بإمكانه أنْ يكون على نحوٍ كاملٍ وجليّ شيئًا واحدًا فقط، ولا يُداخله أي شيءٍ آخر. إنَّ جاك دريدا، وعلى الأخص في كتابه ” علم الكتابة ” أو الغراماتولوجيا ١٩٦٧م، كان قد تناول هذا الاعتقاد الذي تتخلَّله بعض الأفكار التي تدور حول طبيعة الكينونة، مُشيرًا إلى أنَّه يُؤثِّر أيضًا على مفاهيم السمو والألوهيَّة. ويمكن القول بأنَّ هذا الهوس قد ضلَّل الكثير من الأشخاص، حتى أبرز المفكِّرين المهتمِّين بالترجمة. وبسبب البحث عن ” الأصل ” باعتباره الموضع الذي تكمن فيه ” الأصالة المَحضة”؛ فقد اختلق الغرب مسألة ” الأصل ” كحجَّة لا يمكن دحضها أو تفنيدها.

ثانيًا، إنَّ فكرة الرومانتيكيين القائلة بأنَّ عبقريَّة المؤلِّف أشبه ما تكون برسولٍ إلهي، لا تزال قائمة حتى الآن. ويمكننا أنْ نرى اليوم هذا المعتقد في الإصرار البيداغوجي على الأعمال الأصليَّة للمؤلِّف، كما هو الحال أيضًا بالنسبة إلى فتشية المؤلِّف الرأسماليَّة.

ثالثًا، هناك إجحافٌ شائع، ووفقًا له فإنَّ ” أي لغة يُنظر إليها كنظام مجرَّد من الدلالة؛ فإنَّ ذلك سوف يُقلِّل بدوره من حقيقة اللغة كنظام معيشي، يساهم السياق من خلاله في المعنى “. ومن أجل توضيح كيف أنَّ السياق لا يمكنُ أنْ يكون منفصلًا عن المعنى؛ فإنَّ الِّلسانيّ ” إمِيل بنڤينست ” ذكر بأنَّه قد لاحظ ذات مرة بأنَّ كل “صباح الخير ” هي منقطعة النظير. وعندما كتب الفرنسي المغربي ” عبد الكبير الخطيبي “، المهتم بالكتابة في مجال اللغة، عن الأمثال العربيَّة الشائعة في المغرب، أخذ يؤكِّد على أهميَّة ” الوقت الخاص بالشَّعائر ” في فهم كيف أنَّ الأمثال يمكنُ أنْ تشير إلى عدَّةِ معانٍ مختلفة، وترد في عدَّةِ سياقاتٍ مختلفة. وقد يُعقِّب البعض على ذلك بأنَّ الكلمات التي تُشير إلى مفردة ” حياة “، على سبيل المثال، كثيرًا ما ترد بنفس المعنى. غير أنَّ السياق يبقى مختلفًا إلى الأبد. وتبعًا لهذه السياقات المختلفة؛ تنشأ في كل مرة، ظِلال مختلفة من المعنى.

إنَّ الهوس الغربي بمسألة ” الحُضور المَحْض “، وفكرة جماعة الرومانتيكيين عن المؤلِّف، ونقص التأكيد على اللغة باعتبارها نظام معيشي  من خلال السياق الذي يتشكَّل فيه المعنى .. جميعها تشكَّل الداعم الأساسي الذي يسمح للتفكير الأداتي بأنْ يستمرَّ في النمو.

إنَّ كل كتاب من هذه الكتب الثلاثة يلجأ إلى استخدامِ نهجٍ متفرِّد في تناول هذه الكليشيهات الأداتيَّة. فڤينتي مثلًا لا يتورَّع عن تسمية الأشياء بأسمائها، مُدينًا الباحثين المعاصرين، والمترجمين والشَّارحين، والفلاسفة الذين يستخدمون مثل هذه الطرق البالية في التفكير حتى انتهى بهم الأمر إلى إلحاق الضرر بالترجمة.

لقد كنت مترددًا في البداية، إزاء هذه الرغبة في مواجهة أصحاب التفكير الأداتي الذي يفتقر إلى الإلهام، بشكلٍ مباشرٍ للغاية، ولكن سرعان ما أدركتُ أهميَّتها. فمن أجل التصدِّي للكليشيه؛ يبدو أنَّ ڤينتي يقترح علينا بأنْ نعود إلى مصدر الضرر قدر الإمكان.

أما كتاب إمِّيرش، فإنَّه يلجأ إلى استخدامِ أسلوبٍ سردي، تروي لنا من خلاله إمِّيرش قصص النصوص، واضعةً نصب عينيها كيف أنَّ المحررِّين والباحثين، والأطراف الأخرى ذات الصِّلة، في الواقع، يختلقون بعض أجزاء ” الأصل ” بحسب ما يقتضيه تتبُّع الحقيقة، وفي مسعاهم هذا، تقودهم عدَّة دوافعٍ شخصيَّة وسياسيَّة مختلفة. إنَّ مقالات إمِّيرش الأخَّاذة تبيِّن لنا كيف أنَّ اختيارات المحرِّر تساعد في بناء النصوص، لتبدو مشيَّدة مثل صرحٍ مُحكم، مُشيرةً إلى أنَّه من المفترض للتحف الفنيَّة أن تكون بحاجة إلى الصون والتقدير، لا التأويل والنقاش حول تاريخها المشحون كنصوص شفويَّة أو مستندات مكتوبة.

وخلافًا لڤينتي؛ فإنَّ إمِّيرش لا تُدين هذه الدوافع المحدَّدة، والتي غالبًا ما تخص أشخاصًا بعينهم. بل تسعى إلى أنْ توضِّح بأنَّ العمليَّات التاريخيَّة والأدبيَّة المختلفة، هي التي تُحوِّل النسخ المنقَّحة للنصوص _ تلك التي تبدو متشظيَّة ومتعارضة في كثيرٍ من الأحيان _ إلى صروحٍ محكمة البناء، ومبطَّنة بأهداف ومعتقدات محدَّدة. وتودّ لو كان بإمكانها زعزعة مفهوم الأساس غير المحصَّن لنسخةٍ منقَّحةٍ واحدة. ولكنها تبدو متردِّدة _على الرغم من أنَّ هذا التردد يبدو في محله _ في تعيين الكيفيَّة التي ينبغي للتحرير أنْ يتمَّ وفقها، أو بالأحرى، تأمل أنْ يكون بإمكان القارئ أنْ يعي ذلك المحيط من الخيارات، الذي يُبحر عبره المحرِّرين. إنَّ الهدف الضِّمني الذي تسعى وراءه إمِّيرش، هو أنْ تُظهر للقرَّاء كيف يتم إنتاج النصوص عبر الزمن، والذي غالبًا ما يحدث نتيجة قراراتٍ متعدِّدة من جانب الباحثين والمؤرِّخين والمحرِّرين. إنَّ النصوص بعيدة كل البعد عن الكشف عن الكمال في شكله المتَّحد والبسيط، إذ أنَّ النصوص بالأحرى _ كما توضِّح إمِّيرش _ مُقيَّدة ببنيتها.

وعلى نحوٍ مماثل؛ يبدو أروجو متحفظًا أيضًا، في تسليط الضَّوء على أولئك الذين ساهموا في نشوء الكليشيهات التي تُعيق الخطاب النقدي الموجَّه إلى الترجمة. _ ربما ما عدا الشَّاعر الفرنسي ” جواكيم دو بيليه ” الذي اختصَّ بالدفاع عن اللغة الفرنسيَّة في عصره، حيث عاش في القرن السادس عشر _. ولكن من الممكن تفهُّم هذا التحفُّظ، نظرًا للمعايير التي يستند عليها كتاب أروجو، والتي تُركِّز بشكلٍ محدَّدٍ للغاية على كيف يمكن للقراءة المتبصِّرة لأدب الخيال أنْ تُنتج تصوُّرات جديدة حول الترجمة. كما أنَّ إمِّيرش تركِّز هي الأخرى على أدب الخيال بسبب طبيعته البوليڤونية [٣]، وعرضه لحالاتٍ غير مألوفة، والتي من خلالها يمكنُ أنْ تُتاح إمكانيَّة إجراء حوارات خلَّاقة، ونقديَّة جديدة.

إنَّ أدب الخيال الذي يتعاطى مع الترجمة بوضوح أو على نحوٍ ضِّمني، يؤدي إلى خلقِ إمكانياتٍ إبداعيَّة جديدة، تتعلَّق بطرق التفكير في الترجمة. وتبعًا لذلك، فإنَّ الخيال يمكن أنْ يُستخدم في إعادة النظر في الترجمة كـ ” عمليَّة “. وقد خلص أروجو في هذا الشأن، إلى تأليف كُتيبٍ عمليّ وفلسفيّ، للباحثين في مجال الأدب والتلاميذ المهتمِّين بتطوير بعض الأفكار الجديدة حول الترجمة.

ويمكن اعتبار كتاب” الترجمة الأدبيَّة وبناء الأصل ” لإمِّيرش، وكتاب ” مُترجمي أدب الخيال ” لأروجو، بمثابةِ دراساتٍ رائعة في هذا المجال. فهي تعد دقيقة من الناحية الفكريَّة، وتُضيء الطريق أمام المزيد من العمل. ولكن بالنسبةِ إلي، فإنَّ ” جدليَّة ” ڤينتي الصريحة، تتعامل بشكلٍ أساسي مع المشكلات الفكريَّة التي تدور حول الترجمة _ أي تلك العوائق التي يجب أنْ تتم معالجتها حتَّى يتسنَّى للخطاب الموجَّه إلى الترجمة أنْ يصبح متقدِّمًا ودقيقًا على نحوٍ متزايد. فڤينتي يُلقي الضَّوء على التفكير المتصلِّب للكليشيهات الأداتيَّة، عبر استخدامه مصطلح ” لامتغيِّر invariant “. إذْ أنَّه غالبًا ما يتم توجيه التفكير الأداتي من خلال قائمة ” ما لا يمكن (وما لا ينبغي) أنْ يتم تغييره في نص اللغة المصدر “. فاللَّامتغيِّر هو العنصر غير القابل للترجمة.

وفي كتابه “ضِدَّ الأداتيَّة “؛ يسعى ڤينتي إلى التعامل مع الجوانب العمليَّة للترجمة، من خلال تمييزه للكيفيَّة التي قد تمَّ من خلالها إنتاج فكرة ” اللَّامتغيِّر “، وكيف أنَّه قد أُعيد إنتاجها عبر الزمن، وإلى أي حدٍ كان نطاقها، وما هي عيوبها، وكيف يمكن للمترجمين والمفكِّرين تجاوز كليشيهاتها، وما سوف يترتَّب على ذلك من إعادةٍ للتفكير في الترجمة ذاتها.

إنَّ الاعتقاد بـ ” اللَّاتغيُّر السيمانطيقي ” _ مهما كانت الحريَّات الأخرى التي من الممكن أنْ يمتلكها المترجِم _ يعني أنَّ المترجِم لا يمكنه أنْ يُؤوِّل المعنى. فالمعنى الأساسي يظل ثابتًا، وأنَّه على الرغم من إحكام المعنى الذي قد يقع عليه اختيار المترجِم، والتعزيز الذي يحيط به، الا أنَّه يتداعى حالما تتم معاينته بدقَّة. وحتَّى يمكن أنْ يكون للغةِ معنى؛ فعلى الإنسان أنْ يُفعِّل دورها أولًا، إذ أنَّ كل سياق يحمل سِّمة ” التواصل ” [٤]؛ هو سياق تأويلي بطبيعته. ويناقش ڤينتي هذه المسألة، مُشيرًا إلى أنَّه عندما يقرأ أحدهم أي شيء، فإنِّه تلقائيًا يُعمِل ما يسمَّى بـ ” المؤوِّلات interprétants ” [٥] أو العدسات المُعالِجة، الواعية وغير الواعية، التي من خلالها يتم إنتاج المعنى. إنَّ ” اللَّاتغيُّر السيمانطيقي ” يستند على الاعتقاد بشفافيَّة اللغة [٦] وثباتها المستقل عن السياق.

على حينِ أنَّ الترجمات التي ترسِّخ من فكرة ” اللَّاتغيُّر الشَّكلي “، تستلزم أنْ يكون هناك التحامٌ تام في ترتيب الكلمات. فبناء الترجمة على أساس ” اللَّاتغيُّر الشَّكلي ” يعني أنَّ صياغة نص ” اللغة المصدر ” نحويًا لا بُدَّ أنْ يتم المحافظة عليها أثناء عمليَّة الترجمة، بغض النظر عن الكيفيَّة التي قد تتَّخذ فيها الجملة الظرفية، على سبيل المثال، موقعًا مختلفًا في اللغة الفرنسيَّة أو في اللغة الأورديَّة عنه في اللغة الإنجليزيَّة.

إنَّ ترجمة ” اللَّاتغيُّر الشَّكلي” المُتطلِّبة قد تكون أكثر صعوبة عند ترجمة شِّعر ما قبل القرن العشرين، مما يجعلنا نتساءل ما إذا كان الشِّعر الفرنسي لبودلير يتطلَّب ترجمة إنجليزيَّة لكي يمتلك ذات الأبعاد الشكليَّة قبل الترجمة، كالقافية والقالب الشِّعري وغيرها، لا سِيَّما في سياق القراءة _ كما هو الحال بالنسبة إلى الشِّعر الأمريكي _ حيث يكون الشِّعر المقفَّى والموزون أي شيء عدا كونه مجرَّد محاولة لاستعادةِ وضعٍ يتعذَّر استرداده.

لقد تطرَّق ڤينتي أيضًا إلى مسألة تأثير الثَّوابت، وأشار إلى أنَّ المترجِم، كمحاولة لتفسير إفتقار الترجمة إلى “اللَّاتغيُّر السيمانطيقي”، يرى بأنَّ الغاية من الثَّوابت هي الحفاظ على تأثير النَّص الأصلي، حتَّى يتسنَّى نقله إلى النَّص المترجَم. غير أنَّه ما هو تأثير النَّص الأصلي ؟ إذ أنَّه ليس هناك نصٌ أدبي يؤثِّر على جميع القرَّاء بنفس الطريقة. وبمناسبة الحديث عن التأثير؛ فإنَّ المترجِم لا يمكنه أنْ يفترض بأنَّه يعرف أي شيء يتجاوز تأثير النَّص على نفسه. كما أنَّه ليست هناك فكرة محدَّدة عن التأثير يمكننا اعتبارها مضمونة على المستوى النصيّ، فالتأثير، بالأحرى، هو ما يُمكن أنْ يُوجَد بصورةٍ متراكِمة داخل النَّص، من خلال التحيُّزات التي تحكم قراءة الشخص، وتختلف من شخصٍ إلى آخر.

إنَّ المترجمين علاوةً على سعيهم إلى النأي بأنفسهم عن ” اللَّاتغيُّر السيمانطيقي”؛ فإنَّهم لا يعملون على تنمية سُلطتهم على النَّص من خلال محاولة تزويد تأويلاتهم الذاتيَّة بقدرة أكبر على التأثير، بحيث يكون ذلك التأثير ذا نطاقٍ شامل، وتنبؤي إلى حدٍ ما.

إنَّ هذه الكتب الثلاثة كمجموعة تعمل ببراعة، ليأتي دورها كمساعد في تفكيك فكرة ” المؤلِّف ” و” الأصل “، وبنفس القدر من البراعة، تعمل أيضًا على إعادة بناء فكرة الترجمة باعتبارها هذه المرة مهمَّة نقديَّة تتطلَّبُ تأويلًا ذاتيًّا. ومع ذلك؛ فإذا ما ظلَّت الأشكال الأدبيَّة والفنيَّة الغربيَّة مقيَّدة بشدَّة بفكرة ” الأصل الصِرْف “؛ فسوف يتساءل القارئ حينئذٍ عن عدد المرات التي ينبغي أنْ تُجرى فيها مثل هذه النقاشات حتى يمكن إعادة تقويم التفكير.

هل يمكن للترجمة أنْ تمتلك القدرة على التحليل؟ وأنْ لا تكشف فقط عن الهوس الغربي بالأشكال الأدبيَّة والفنيَّة الأصليَّة، بل وأنْ تُعيد صياغته _ ذلك الهوس الذي يُعيق أيضًا الخطاب النقدي الموجَّه إلى الترجمة؟

إنَّ خطابيَّة ڤينتي تُطالبنا كقرَّاء _ ذلك أنَّه ذهب بعيدًا جدًا إلى درجةِ أنَّه أخذ يخاطب القارئ مباشرةً باستخدامه لضمير المخاطَب ” أنت” في الخاتمة _ أنْ نُزيح السِّتار عن بقيَّة الشكوك الأخرى. فمسألة البنية الأساسيَّة من حيث قدرتها على بناء خطاب جديد ومقاوم للمعايير التقليديَّة حول الترجمة، تبدو ذات أهميَّةٍ قصوى. إذ يكتب ڤينتي مُعلِّقًا: ” طالما أنَّ المجتمع الأكاديمي بطيئًا في التغيير، إذن أين هو المكان الذي يمكن أنْ يستوعب الباحثين والمترجمين والمفكِّرين الجدد، ويسمح لهم بالتفكير والترجمة ؟ هل سوف يسمح المجتمع الأكاديمي بالابتكار والتجديد على مستوى البنية الأساسيَّة _ ذلك المستوى الذي يتمنَّى هؤلاء الكُتَّاب الجدد أنْ يحدث فيه التغيير ؟ “.

إنَّ مواجهة التفكير غير النقدي الذي يدور حول الترجمة _ باستخدام الإبستيمولوجيا، وأساليب التحليل التاريخي، والقراءة الأدبيَّة المتقدِّمة _ يعد بؤرة اهتمام هذه الكتب الثلاثة. وعلى الرغم من ذلك؛ فإنَّني أتساءل أنا أيضًا، إلى أين يمكن أنْ يقود هذا التحوُّل العكسي الترجمة والمترجمين ؟ هل نحن مستعدِّين لمناقشة فكرة أنَّ الترجمة ليست مجرد مهمَّة تأويليَّة، ولكنَّها مهمَّة فنيَّة أيضًا، وأنَّ المترجمين فنَّانين بطريقتهم الخاصَّة؟

وبقدر ما يبدو هذا الارتقاء في المنزلة مثيرًا للاهتمام؛ أودّ أيضًا أنْ أناقش شيئًا آخر. إنَّ فكرة الفن تحتمل العديد من التحيُّزات الثقافيَّة التي قد تدعم ضِّمنيًا فتشية ” الأصل ” و ” المؤلِّف “، والتي تُطالب بأنْ يتم تقييم المترجمين كالفنَّانين، وهذا ما يجعلنا نفقد النقطة الجوهريَّة في الأمر. لذا فمن المرجَّح أنْ نقصر مطالبنا على أنْ نقول ببساطة بأنَّه على غرار الفنَّانين؛ فإنَّ المترجمين يمتلكون القدرة على الخَلْق والإبداع من خلال اختياراتهم التي تنطوي على أبعاد عقلانيَّة وجماليَّة. ولكن هل يمكن لمثلِ هذا العرض الحصيف أنْ يمتلك القوَّة إلى الحد الذي يُمكنه أنْ يحرِّك أي شخص ليحرَّض بدوره على إجراءِ أي تغيير؟

 

 


الهوامش:

[١]  أي القدرة على رؤية الأشياء وفقًا لعلاقاتها الصحيحة أو أهميتها النسبيَّة، بحيث تُوضع الأمور في نِصابها الصحيح.

[٢]  أي الرأي القائل بأنَّ الترجمة مجرَّد أداة.

[٣]  الرواية المتعدِّدة الأصوات أو الرواية البوليڤونية ” Novela Polifónica “، وهي سِّمة من سِّمات السَّرد في الأدب الحديث، وكان أوَّل من أدخلها إلى الأدب هو الفيلسوف واللغوي الروسي ” ميخائيل باختين ” الذي استمدَّها من مفهوم تعدُّد الأصوات في الموسيقى. ويمكن إدراجها ضمن ما يُعرف بـ ” الكتابة اللَّامشروطة “، التي ترمي إلى تقليص حضور الكاتب وهيمنته على قوانين اللعبة الروائيَّة، بحيث يُتاح للشخصيَّات المشارَكة في هذه القوانين، بحسب تطورها الخاص ضمن الأحداث. فقد كان باختين يرى بأنَّ دور الكاتب يجب أن يكون محايدًا.

[٤]  أي من خلال تبادل الأفكار أو الآراء أو المعلومات عن طريق الكلام أو الكتابة أو الإشارات.

[٥]  من الهام عدم الخلط بين ” المُؤوِّلة interprètant ” و ” المؤوِّل interprète “، أي الشخص الشَّارح، فالمؤوِّلة ليست هي من يُؤوِّل، وإنما هي علاقة تضيئُها ” المُمثِّلة representamen ” _ أي تلك التي تحمل العلامة ” véhicule du signe ” _ في ذهن الشخص المُؤَوِّل.

[٦]  كافتراض.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى